surah_name
stringclasses
113 values
revelation_type
stringclasses
2 values
ayah
stringlengths
2
1.15k
tafsir_book
stringclasses
84 values
tafsir_content
stringlengths
0
644k
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ)
تفسير سورة (البقرة). وهي مدنية كلها { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }. قوله: { الۤمۤ }. كان الحسن يقول: ما أدري ما تفسير { الۤمۤ وَ الۤر وَالۤمۤصۤ } وأشباه ذلك [من حروف المعجم]. غير أن قوماً من المسلمين كانوا يقولون: أسماء السور ومفاتحها. ذكروا عن علي بن أبي طالب أنه قال: { الۤر، حـمۤ، نۤ } هو الرَّحْمَنُ. يقول: إنه يجعلها اسماً من أسماء الله حروفاً مقطعة في سور شتى، فإذا جمعها صار اسماً من أسماء الله، وهو مبتدأ الاسم. وكان الكلبي يقول: هي الأُخَر المتشابهات. قال: **" بلغنا أن رهطاً من اليهود، منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن { الۤمۤ ذَلِكَ الْكِتَابُ } [البقرة:1-2] فقال حيي: إنه بلغني أنك قرأت { الۤمۤ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ }. أناشدك الله، إنها أتتك من السماء؟ فقال رسول الله: نعم، والله لكذلك نزلت. قال حيي: إن كنت صادقا أنها أتتك من السماء إني لأعلم أُكُل هذه الأمة. ثم نظر حيي إلى أصحابه فقال: كيف ندخل في دين رجل إنما ينتهي أُكُل أمته إلى إحدى وسبعين سنة. فقال له عمر: وما يدريك أنها إحدى وسبعون سنة؟ فقال لهم حيي: أما الألف فهي في الحساب واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له حيي: هل غير هذا؟ فقال: نعم. قال: ما هو؟ قال: { الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 1-2]. فقال: هذا أكثر من الأول: هذا إحدى وثلاثون ومائة سنة؛ نأخذه من حساب الجُمَّل. قال: هل غير هذا؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال: { الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير } [هود:1]. قال حيي: هذه أكثر من الأولى والثانية. فنحن نشهد لئن كنتَ صادقاً ما ملك أُمتِك إلا إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فاتَّق الله ولا تقل إلا حقاً. فهل غير هذا؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الرعد:1]. قال حيي: فأنا أشهد أنا من الذين لا يؤمنون بهذا القول، لأن هذه الآية أكثر؛ هذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. فلا أدري بأيِّ قولك نأخذ، وبأي ما أنزل عليك نتِّبع. قال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أن ما أنزل الله على أنبيائنا أنه الحق، وأنهم قد بَيَّنوا على ملك هذه الأمة ولم يوقِّتوا كم يكون أُكلهم حتى كان محمد، فإن كان محمد صادقاً كما يقول، إني لأراه سيجمع لأمته هذا كله: إحدى وسبعين، وإحدى وثلاثين ومائة، وإحدى وثلاثين ومائتين، وإحدى وسبعين ومائتين [فهذه] سبعمائة وأربع سنين. فقال القوم كلهم: قد اشتبه علينا أمرك، فلا ندري بالقليل نأخذ أم بالكثير "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | فذلك قوله:**{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ }** [سورة آل عمران: 7] هن ثلاث آيات من آخر سورة الأنعام؛ أولاهن:**{ قُلْ تَعَالُوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }** [الأنعام:151-153]. هذا في تفسير الكلبي. وفي تفسير غيره من السلف، فإنه يجعل الأَنعام مكيةً كلَّها. وكان هذا الأمرُ بالمدينة. قال الكلبي: وأمَّا المتشابه [فـ] { الۤمۤ } وَ { الۤمۤصۤ } وَ { الۤر }. قال الله: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } لهؤلاء النفر من اليهود، مما كانوا يحسبون من ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كم يكون أُكل هذه الأمة؛ ولا يعلم ما كتب الله لهذه الأمة من الأُكل، أي: المدة، إلا الله. وغير الكلبي يفسِّر المتشابهات على وجه آخر. وسنفسِّر ذلك في سورة آلِ عِمْرَانَ إن شاء الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم { الم } كان الحسن يقول ما أدرى ما تفسير الم والر والمص وما أشبه ذلك، غير أن قوماً من المسلمين يقولون أسماء السورة ومفاتحها، ونقله الماوردى وغيره عن زيد بن أسلم، ونسبه فى الكشاف إلى الأكثر، سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب، فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لن تتساقط مقدرتهم عن معارضتها، واختاره الخليل وسيبويه، ونسبه بعض إلى أكثر المتكلمين، ورده الفخر بأنها لو كانت أسماء السور لوجب اشتهارها بها، وقد اشتهرت بغيرها، كسورة البقرة وآل عمران، وعن على الر وحم ونون اسم الله الرحمن قيل ذلك ونحوه أسماء الله مقطعة، لو علم الناس تأليفها كلها لعلموا اسم الله الأعظم، وكذا نقله ابن عطية وهو مروى عن على وابن عباس، فإنهم ولو علموا جمع الرحمن لكنهم لا يعلمون سائر الأسماء، وقيل كل حرف مقطوع من أول اسم من أسماء الله، فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسم لطيف، والميم مفتاح اسم مجيد، واختاره الزجاج، وقيل الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه أو مجده، والعرب تشير إلى الكلمة أو الكلام، أى الحروف بذكر بعض، كما يقال تعلمت ا ب ت ث، وتريد حروف التهجى كلها، وكما قال الراجز | **قلت لها قفى فقالت لى قاف لا تسحبى إنا نسينا الإيجاف** | | | | --- | --- | --- | أى الإسراع، والأصل فقالت لى وقفت فاقتصر على ذكر القاف ولك كتبه هكذا، فقالـ لى ق ويقرأ قاف، كما نكتب { ق والقرآن } ونقرؤه قاف والقرآن، وكقوله | **بالخير خيرات وإن شرافا ولا ما أريد الشر إلا أن تا** | | | | --- | --- | --- | أراد وإن شرا فشر وإلا أن تشا، فاقتصر على التاء والفاء وأشبعهما، وكقوله | **ناداهم ألا الجموا إلاتا قالوا جميعاً كلهم ألافا** | | | | --- | --- | --- | أراد ألا فاركبوا، كذلك وعن ابن عباس الم أنا الله أعلم، وقيل أسماء السور، وبه قال جماعة من المحققين، وعن ابن عباس أقسام أقسم الله بها، وخص تلك الحروف لشرفها وفضلها، لأنها مبانى كتبه المنزلة، وأسماؤه الحسنى، والمراد كل الحروف وإن اقتصر على بعضها، وجواب القسم ما بعدهن، قلت يعترض ذلك بأن منها ما لا يصلح ما بعده جواباً لقسم فلا يكون قسما، كقوله تعالى**{ الم أحسب الناس }** كما قال الكرمانى فى غرائبه الاستفهام هنا يدل على انقطاع الحروف عما بعدها فى هذه السورة وغيرها، إلا أن يقال إنه يقدر الجواب حيث لا يصلح أن يكون ما بعدهن جواباً، ويرد قول القسم أن القسم فى لغة العرب إنما هو بحرف من حروف القسم، أو بنحو حلفت أو لعمرك أو نحو ذلك، وإن قدر حرف القسم هكذا أو الألف كان فيه إضمار حرف القسم، وهو لا يجوز إلا مع لفظ الجلالة، ولو ادعى بعضهم جوازه هنا وجعل المقسم به منصوباً على نزع حرف القسم، أو مجروراً كما جاز فى لفظ الجلالة مع احتياج تقدير العاطف فى قوله لام وقوله راء وتقدير الجواب فى بعضها، وأخرج ابن جرير الطبرى عن ابن مسعود أن ذلك اسم الله الأعظم، وأخرج بن أبى حاتم من طريق السدى أنه بلغه عن ابن عباس أنه قال الم الاسم الأعظم من أسماء الله، وهكذا أمثاله، وأخرج ابن جرير وغيره من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس الم وطسم وص وأشباهها قسم، أقسم الله به، وهو من أسماء الله، وأخرج ابن ماجه فى تفسيره من طريق نافع بن أبى نعيم القارئ، عن فاطمة بنت على بن أبى طالب، أنها سمعت من على يقول يا كهيعص اغفر لى، ويقول يا حم عسق، ويبحث بأن المراد يا منزل كهيعص يا منزل حم عسق، وأخرج ابن أبى حاتم عن الربيع بن أنس فى قوله كهيعص يا من يجير ولا يجار عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج عن أشهب سألت ابن مالك بن أنس أينبغى لأحد أن يتشكى بيس؟ قال ما أراه ينبغى لقول الله**{ يس والقرآن الحكيم }** يقول هذا اسمى تسميت به، وقيل أهى أسماء للقرآن كالفرقان والذكر، أخرجه عبد الرزاق عن قتادة، وأخرجه ابن أبى حاتم بلفظ كل هجاء فى القرآن فهو اسم من أسماء القرآن، وإن قلت كيف تجعل أسماء من أسماء السور أو من أسماء القرآن، والاسم لا يتركب من ثلاثة أشياء؟ قلت إنما يمتنع إذا ركبت أما إذا أسردت كأسماء العدد فلا امتناع، والمسمى هو مجموع السورة أو القرآن، والاسم جزء ذلك فلا اتحاد، والاسم مقدم من حيث ذاته، ومؤخر باعتبار كونه اسماً فلا دور، وإنما قلت لا اتحاد، لأن الجزء ليس عين الكل ولا جزءه. وأخرج ابن جرير من طريق الثورى عن ابن أبى نجيح عن مجاهد الم وحم والمص وص ونحوها، فواتح افتتح الله تبارك وتعالى بها القرآن. وأخرج أبو الشيخ من طريق ابن جريج عن مجاهد الم الر المر فواتح يفتتح الله بها القرآن، قلت ألم يكن يقول هى أسماء؟ قال لا. وأخرج ابن أبى حاتم وغيره من طريق أبى الضحاك عن ابن عباس فى قوله تعالى { الم } قال أنا الله أعلم، وفى قوله { المص } أنا الله أفصل، وفى قوله تعالى { الر } أنا الله أرى، وقيل المص معانه المصور، وقيل المر معناه الله أعلم وأرى، حكاهما الكرمانى فى غرائبه. وأخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله الم وحم ون اسم مقطع، وأخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال الر وحم ون حروف الرحمن معرفة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظى الر من الرحمن، وأخرج عنه أيضاً المص الألف من الله، والميم من الرحمن، والصاد من الصمد، وأخرج أيضاً عن الضحاك فى قوله عز وعلا فى { المص } أنا الله الصادق، وأخرج الحاكم وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى { كهيعص } قال الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق. وأخرج الحاكم أيضاً من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله جل وعلا { كهيعص } قال كاف هاد أمين عزيز صادق، وأخرج عن ابن أبى حاتم من طريق السدى عن أبى مالك، وعن أبى صالح عن ابن عباس، وعن عروة عن ابن مسعود وناس من الصحابة فى { كهيعص } قاله مجاهد مقطع الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور، وأخرج عن محمد بن كعب مثله إلا أنه قال والصاد من الصمد. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه وجهاً آخر عن سعيد عن ابن عباس فى قوله { كهيعص } قال كبير هاد أمين عزيز صادق، وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال الكاف الكافى، والهاء الهادى، والعين العالم، والصاد الصادق. وأخرج من طريق يوسف قال سئل الكلبى عن { كهيعص } فحدث عن أبى صالح عن أم هانئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" كاف هاد أمين عليم صادق "** وأخرج ابن أبى حاتم عن عكرمة فى قوله { كهيعص } قال يقول أنا الكبير أنا الهادى العلى الأمين الصادق، وأخرج محمد بن كعب فى قوله { طه } الطاء من ذى الطول. وأخرج عنه أيضاً فى قوله { طسم } الطاء من ذى الطول، والسين من قدوس، والميم من الرحمن، وأخرج عن سعيد بن جبير فى قوله { حم } قال الحاء اشتقت من الرحمن وميم اشتقت من الرحيم، وأخرج عن محمد بن كعب فى قوله { حم عسق } قال الحاء والميم من الرحمن، والعين من عليم، والسين من القدوس، والقاف من القاهر، وأخرج عن مجاهد قال فواتح السور كلها هجاء مقطوع، وأخرج عن سالم بن عبد الله قال الم وحم ون اسم الله مقطعة، وأخرج عن السدى قال فواتح السور أسماء من أسماء الرب، فرقت فى القرآن وحكى الكرمانى فى قوله قاف إنه حرف من اسمه قادر وقاهر، وحكى غيره فى قوله { ن } مفاتح اسمه تعالى نور وناصر. وهذه الأقوال راجعة إلى قول واحد هو أنها حروف مأخوذة من أسمائه تعالى، وقيل فى طه ويس يا رجل أو يا محمد أو يا إنسان، وقيل هما اسمان من أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله الكرمانى فى غرائبه ويقويه فى يس قراءة يس بفتح النون، وقوله آل يس، وقيل طه طا الأرض أو اطمئن، فيكون فعل أمر، وها مفعول أو للسكت أو بدل من الهمزة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله { طه } قال هو قولك افعل، وقيل { طه } يا بدر، لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة، فذلك أربعة عشر، أشار إلى البدر لأنه يتم فيها، ذكره الكرمانى فى غرائبه، وقال فى قوله { يس } يا سيد المرسلين، وفى قوله { ص } معناه صدق الله، وقيل أقسم بالصمد الصانع الصادق، وقيل معناه صاد يا محمد علمك بالقرآن، أى عارضه به فهو أمر من المصادات، أخرج ابن أبى حاتم فى قوله { ص } قال صاد القرآن بعملك واتبعه علمك، وأخرج عن الحسن { ص } حادث فى القرآن يعنى انظر فيه، يقال صاداه يصاديه، أى حادثه يحادثه، وكان يقرؤها { صاد والقرآن } أى عارض القرآن**{ والقرآن ذى الذكر }** وقيل صاد اسم بحر عليه عرش الرحمن، وقيل اسم بحر تحيى به الموتى، وهو الماء الذى يمطر على الموتى كالمنى فيحيون ويبعثون، وقيل معناه صاد محمد قلوب العباد، حكاها الكرمانى فى قوله { المص } ، وقال معناه ألم نشرح لك صدرك، وفى { حم } أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل معناه أنه { حم } ما هو كائن، وقيل { ق } جبل محيط بالأرض، أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد، وقيل أقسم بقوة قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل القاف من قوله { قضى الأمر } دلت عليه بقية الكلمة، وقيل قف يا محمد على أداء الرسالة والعمل بما أمرت به، حكاهما الكرمانى، وقيل نون هو الحوت، أخرج الطبرانى عن ابن عباس مرفوعاً أول ما خلق الله القلم والحوت، قال اكتب، قال ما أكتب؟ قال كل شىء كائن إلى يوم القيامة، ثم قرأ { ن والقلم } فالنون الحوت، والقلم القلم، وقيل اللوح المحفوظ، أخرجه ابن أبى جرير عن ابن برقرة مرفوعاً. وقيل القلم حكاه الكرمانى عن الجاحظ، وقيل اسم من أسماء النبى صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن عساكر فى مبهماته، وفى المحتسب لابن جنى، فى هذه القراءة دليل على أن الفواتح فواصل بين السور، ولو كانت أسماء الله لم يجز تحريف شىء منها، لأنها تكون حينئذ أعلاماً، والأعلام تؤدى بأعيانها، ولا يحرف شىء منها، وعن ابن عباس الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد، أى القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام، واستدل بعض للقول بأنها أسماء للسور، بأنها لو لم تكن مفهومة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل، والتكلم بالزنجى مع العربى، ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدى، ولم يكن التحدى به ممكناً لخروج بعضه حينئذ من مقام التحدى، حاشاه، وإن كانت مفهمة فإما أن يراد بها السور التى هى أولها على أنها أسماؤها أو غير ذلك، وكون المراد بها غير ذلك باطل، لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له فى لغة العرب أو غيره، ولا يخفى أن ليس المراد ما وضعت له فى لغة العرب، ولا يخفى أيضا أنه ليس المراد بها غير ما وضعت له فى لغة العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، فلا يحمل على ما ليس فيها، فتعين أنها أسماء للسور، وذلك الاستدلال يجرى أيضاً فى الرد على القائل إنها مبهمة، قال أبو بكر بن العربى فى فوائد رحلته، الذى أقوله لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا عندهم لكانوا أول من أنكرها على النبى - صلى الله عليه وسلم - بلا تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما، فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له فى البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى غيره وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمرا معروفاً بينهم لا إنكار فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | انتهى. والمختار عندهم أنها من الأسرار التى لا يعلمها إلا الله جل وعلا، أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال إن لكل كتاب سرا، وإن سر القرآن فواتح السور، ومثله عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، وعثمان بن عفان وعلى، قلت ويحتمل أن يريدوا بالسور الأمر الكريم العزيز، فإنه يسمى سرا تشبيهاً له بالكنز العظيم المصون المسرور به ونحوه، وإنها سر بين الله ورسوله، ورموز إذا لم يقصد بها إفهام غيره، وذكر بعض إنها من المتشابه فيكون فيها الخلاف، هل يعرفها الراسخون فى العلم أم لا يعرفها أحد على اختلافهم فى المتشابه، فتراهم خاضوا فيها بأقوال وأخبار. وإن قلت إذا كانت سرا لا يعلمه غير الله عز وعلا فما فائدة ذكرها؟ قلت فائدة ذكرها الإيمان بها، وقال قطرب تلميذ سيبويه هى حروف مزيدة للتنبيه والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر، واعترض القاضى، بأن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع، ولا يخفى ان الاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضى ذلك ألا يكون لها معنى فى حيزها، وعندى أن قول قطرب حسن، وكنت أشبه المقام بمقام من أراد أن يتكلم لمن استغرق قله فى شىء، فيقدم إليه ما يصغى به إلى الكلام كأن يجيده أو يغمز بدنه أو يقرعه بالحصى، ومن ذلك الوادى أن تشير إلى من كان فى كلام دنيوى بالبسملة تنبيهاً على أن يقر، ثم رأيت عن الجوينى ما يناسبه إذ قال القول بأنها تنبيه جيد، لأن القرآن كلام عزيز، وفوائدة عزيزة، فينبغى أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم فى بعض الأوقات كون النبى صلى الله عليه وسلم فى عالم البشر مشغولا فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله آلم آلم حم، ليسمع النبى صلى الله عليه وسلم صوت جبريل فيقبل عليه ويصغى إليه، وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة فى التنبيه كألا وأما، لأنها من الألفاظ التى تعارفها الناس فى كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ فى قرع سمعه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | انتهى. وقيل إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن ألغوا فيه، فأنزل تبارك وتعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم سبباً لاستماعهم، واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده، فترق القلوب، وتلين الأفئدة، عد هذا جماعة قولا مسقلا، والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال لا قولا فى معناها، إذ ليس فيه بيان معنى، واعترض القاضى قول بعضهم إنها حروف متقطعة من كلمات، بأنها لم تستعمل للاختصاص، ومن كلمات معينة فى كلامهم، وأما الأشعار الوارد فيها الاقتطاع فشاذة، لا يخرج القرآن عليها، وإن قلت قد ثبت هذا عن ابن عباس ونحوه، فلم يبق بحث، قلت إنما لا يبقى بحث لو كان حديثا صحيحا عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا كان من كلام ابن عباس فيقبل البحث، مع أن تفسيره بذلك محتمل لأن يكون تمثيلا بأمثلة حسنه، وتنبيهاً على أن الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينات، فلم يرد تفسيراً حتماً معيناً مخصوصا بهذه المعانى الذى ذكرها دون غيرها، إذ لا مخصص لفظاً ومعنى، وقيل إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التى هى أ ب ت ث، فجاء بعضها مقطعاً، وجاء تماماً مؤلفاً ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم التى يعرفونها ويبنون كلامهم منها، وقيل فرقت تلك الحروف على السور ولم تعد بأجمعها فى أول القرآن، لإعادة التحدى وتكرير التنبيه والمبالغة فيه، والمعنى هذا التحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف، والمؤلف منها وللإيقاظ لمن تحدى بالقرآن، وللتنبيه على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون إليه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما جرءوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز، فان النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما من الأمى الذى لم يخالط الكتاب، فمستبعد مستغرب، خارق للعادة كالكتابة والتلاوة، ولا سيما وقد راعى فى ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق فى فنه، وهو أنه أورد فى هذه الفواتح أربعة عشر اسماً هى نصف أسامى حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفاً برأسه فى تسع وعشرين سورة بعددها، إذا عد فيها الألف مشتملة على أنصاف أنواعها، قال القاضى هذا القول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل، وأسلم من لزوم النقل إلى العلمية ووقوع الاشتراك فى الأعلام من واضع واحد من حيث إن { الم } علم لسور و { الر } علم لسور و { طسم } علم لسورتين و { حم } لسور، فإن الاشتراك يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية من تعيين المسمى بلا قيد، ووجه كونه أقرب إلى التحقيق أن فيه بقاء للألفاظ على أصل وضعها، فإن الحروف المكتوبة مثلا هكذى { آلم } تقرأ هكذا ألف لام ميم وقولك اسم للحرف المكتوب، هكذى، أو قولك لام اسم للحرف المكتوب هكذى، وقولك ميم اسم للحرف المكتوب هكذى م كما صرح به الخليل وأبو على لاعتوار خواص الاسم كالإضافة والجر والتنوين وأل والجمع، تقول الألف ورأت، وعن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف، بل الألف حرف ولام حرف وميم حرف "** وأراد بقوله ألف حرف.. إلخ غير المعنى المصطلح عليه، فإن تخصيص الحرف بالمعنى المصطلح عليه عرف متجدد، بل المراد المعنى اللغوى، ولعله سماه باسم مدلوله كما قال الفخر سماه حرفاً مجازاً تسمية للاسم باسم المسمى لتلازمهما، ووجه كون ذلك القول أوفق للطائف التنزيل، أن الحمل على التحدى معنى لطيف دون التسمية فإنها أمر واضح ظاهر، وقيل حكمة الجمع بين الألف واللام والميم على كل الأقوال أن الألف أعنى الهمزة من أقصى الحلق، وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفه وهو آخرها، فجمع بينهن إيماء إلى أنه ينبغى أن يكون أول كلام العبد وأوسطه وآخره، ذكر الله تعالى، قويل هى حساب أبى جاد لتدل على مدة هذه الأمة، أخرجه ابن إسحاق عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد بن زيات. **" مر أبو ياسر بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فأتى أخاه حيى بن أخطب فى رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فى ما أنزل عليه { الم ذلك الكتاب } فقال أنت سمعت؟ قال نعم، فمشى حيى فى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب } ، فقال بلى، فقالوا لقد بعث الله أنبياء ما نعلم لنبى منهم مدة ملكه ولا أجل أمته، غير أن الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، ثم قال يا محمد وهل مع هذا غيره؟.. قال نعم { المص } قال هذه أطول وأثقل، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، هل مع هذا غيره؟. قال نعم { الر } قال الألف واحدة واللام ثلاثون، والراء مائتان، هل مع هذا غيره؟ قال نعم { الم } قال هذه أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان لقد لبس علينا أمرك حتى لا ندرى أقليلا أعطيت أم كثيراً؟ ثم قال قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه ما يدريك لعله قد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ، وفى رواية حساب الصاد بتسعين، وفى رواية الشيخ هود قال الكلبى **" بلغنا أن رهطاً من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب وأبو ياسر دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن { الم ذلك الكتاب } قال حيى بلغنى أنك قرأت { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } نناشدك الله إنها أتتك من السماء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نعم والله لكذلك نزلت " وقال حيى إن كنت صادقاً فإنى أعلم مدة هذه الأمة، ثم نظر إلى أصحابه فقال كيف ندخل فى دين رجل إنما ينتهى ملك أمته إلى إحدى وسبعين سنة، فقال له عمر وما يدريك إنها إحدى وسبعون؟ فقال هى فى الحساب الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حيى هل غير هذا؟ فقال نعم.. قال ما هو؟ قال { المص. كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين }. فقال هذا أكثر من الأول، هذه واحد وثلاثون ومائة سنة نأخذه من حساب الجمل، قال هل غيره؟ قال نعم قال ما هو؟ قال { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } قال حيى هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد لأن كنت صادقاً ما ملك أمتك إلا واحدة وثلاثون ومائتا سنة، فاتق الله ولا تقل إلا حقا فهل غير هذا؟ قال نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الر. تلك آيات الكتاب والذى أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ، قال حى فأنا أشهد أنى من الذين لا يؤمنون بهذا القول، لأن هذه الآية أكثر، هذه واحد وسبعون ومائتا سنة، فلا أدرى بأى قولك نأخذ وأى ما أنزل الله عليك نتبع؟ قال أبو ياسر أما أنا فأشهد أنه ما أنزل الله على أنبيائه إلا الحق، وأنهم قد بينوا على ملك هذه الأمة ولم يوقنوا كم يكون ملكهم، فإن كان محمد صادقاً فأراه سيجمع لأمته واحد وسبعون، وواحد وثلاثون ومائة، وواحد وثلاثون ومائتان، وواحد وسبعون ومائتان، وذلك سبعمائة وأربع سنين، فقالوا كلهم قد اشتبه علينا أمرك، فلا ندرى أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى { هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ، قال الكلبى فواتح السر من المتشابه، وإن قلت كيف يعتبر كلام اليهود، ويجعل تفسيراً للقرآن الكريم؟ قلت زعم بعضهم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - تبسم، وفى رواية ضحك حين حسبوا { الم } بحساب الجمل، وأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم، وتلى عليهم الفواتح على ذلك الترتيب جواباً لغيرهم، هل غير ذلك، فدل ذلك منه على صحة حسابهم، ويبحث بجواز كون تبسمه وضحكه تعجباً من جهلهم وعدموا إنكاره عليهم لظهور بطلان ما قالوا، ولا سيما قد خلطوه بالكفر، مثل قولهم كيف ندخل فى دين من مدته كذا؟ وقولهم لا نؤمن به، وقولهم هذا تخبط، وقولهم لا ندرى بأى أمرك نأخذ. وأما زيادته التلاوة حين استزاده فطمع فى إيمانهم، لعلهم إن لم يهتدوا بهذه اهتدوا بأختها. قال الجوينى وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى**{ الم غلبت الروم }** أن البيت المقدس يفتحه المسلمون سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، ووقع كما قال، وقال السهولى لعل عدد الحروف التى فى أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. قال ابن حجر وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن أبى جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له فى الشريعة. انتهى. وقي فواتح السورة أمارة جعلها الله عز وجل لأهل الكتاب، بأنه سينزل على محمد كتاباً فى أول سورة منه حروف مقطعة، وقد مر أن فواتح السور اشتملت على أربعة عشر حرفاً نصف حروف المعجم، أعنى حروف التهجى، والتقدير حروف الخط المعجم، أو المعجم مصدر ميمى، أى حروف الإعجام، والفعل على الوجهين أعجم كأكرم وهمزته للسلب، أى لإزالة أعجميته أى إبهامه بالنقط، فإنك إذا نقطت حرفاً تبين بالنقط وتبين ما يشابهه ويلتبس به بعدم النقط كالطاء والظاء والصاد والضاد، وإذا نقطت المتشابهين جميعاً تبين كل بتخالف النقط كالتاء والثاء، والقاف والفاء، وإنما سميت حروف التهجى لأنها تهجى، أى تعد شيئاً فشيئا، ومنه هجاه يهجوه إذا عد ما فيه من المعايب، وتلك الأربعة عشر منها خمسة من حروف الهمس الحاء المهملة، والهاء والصاد المهملة، والسين والكاف، وهن نصف حروف الهمس، ويجمع حروف الهمس حث شخصه فسكت، والحرف المهموس ما يضعف الاعتماد على مخرجه، وباقى الأربعة عشر حروف جهر، ويقال لحروف الجهر المجهورة، وهى ما عدا المهموسة من حروف التهجى، وهى ضد المهموسة، والذى شمل فواتح السور من المجهورة نصف المجهورة، ويجمع هذا النصف قولك لن يقطع امرء ويجمع المجهورة كلها، قولك ظل قوريض إذ عزى حند مطيع، وهى ما ينحصر جرى النفس مع تحريكه، ومن تلك الأربعة عشر أربعة من الحروف الشديدة يجمعها قولك اقطك، ويجمع كل الحروف الشديدة قولك أجدت قطبك، وإن شئت فقل أجدت طبقك، والأقط ما يعمل من لبن الغنم، وإن شئت فقل أقطك أى أحسبك، يقال قطك هذا الشىء أى حسبك أى كافيك، والقطب ما يدور عليه الشىء، والطبق معروف وهو ما يصنع من سعف أو غيره واسعاً قصير الأطراف المستديرة، وهى للطعام وغيره، والحرف الشديد ما ينحصر جرى الصوت عند إسكانه فى مخرجه فلا يجرى، ولا مانع من وصف الحرف بصفتين وأكثر إذا لم يتنافيا كالحروف المجهورة ككون الحرف همسياً شديداً وجهرياً شديدا، ومن تلك الأربعة عشر عشرة حروف رخوة يجمعها قولك حمس على نصره بضم الحاء وإسكان الميم جمع أحمس وهو الشديد الصلب فى دينه وفى القتال، وكذلك باقى الحروف رخوة كذا قيل، والمعروف أن العين والميم والراء والنون واللام بين شدة ورخوة، ويجمعها قولك نل عمر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واختلف فى حروف المد واللين هل هن من الرخوة؟ ومن تلك الأربعة عشر حرفان من حروف الإطباق الصاد والطاء، وبقى من حروفه الظاء والضاد، وحرف الإطباق هو ما ينطبق ما يحاذى اللسان من الحنك عليه عند خروجه، ومن تلك الأربعة عشر نصف الحروف المنفتحة الألف واللام والميم والراء، والكاف والهاء، والعين والسين، والحاء والقاف، والباء والنون، وقيل لا تعد الألف من الحروف، ومن تلك الأربعة عشر حرفان من حروف القلقلة القاف والطاء، وحروفها أربعة القاف والطاء والدال والباء الموحدة والجيم، يجمعهن قد طبج بالكسر أى فرج، وهى حروف تضطرب عند خروجها، لأنها مجهورة شديدة، فالجهر يمنع النفس عن الجريان معها، والشدة يمنع جريان صوتها، فلاجتماع الوصفين فيها اضطربت واحتاجت إلى التكلف فى بيانها، ومن تلك الأربعة عشر حرفان من حروف اللين الثلاثية الياء والألف، إذا عددنا الألف حرفاً، من لم يذكره هنا فلأنه عنده غير حرف، أو لأنه ولو كان حرفاً لكنه إما عن باء أو عن واو هنا، والثلاثة من حروف اللين الواو، وسمين بذلك لأنهن يخرجن فى لين بلا تكلف على اللسان لاتساع مخرجها الموجب لانتشار الصوت وامتداده، وإنما لم يذكر فى الأربعة عشر إلا الياء والألف، لأن الياء أقل ثقلا من الواو، وأما الألف فخفيفة، ولم يذكر من القلقلة إلا القاف والطاء. لأن القلقلة قليلة بالنسبة إلى ما يتركب منها لقلتها فى نفسها، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأقل من حروف الاستعلاء، وذلك النصف القاف والصاد والطاء ومجموعها سبعة، الثلاثة الخاء والغين والظاء المعجمات بالنقض، وسمين بذلك، وبالحروف المستعلية لتصعد الصوت بها فى الحنك الأعلى، ومن تلك الأربعة عشر نصف البواقى المنخفضة، وهى التى يتسفل الصوت بها فى الحنك الأسفل، ومجموعها اثنان وعشرون، ومن تلك الأربعة عشر ستة من حروف الإبدال الألف والهاء والطاء والميم والياء والنون، يجمعهن اهطعين، وهما جبلان من الهضم وهو الكسر كالهضم، ويجمع حروف الإبدال اجد طويت، منها وهدات موطيا عند سيبوية، واختاره ابن جنى، وزاد بعضهم حروف الإبدال اللام نحو أصيلال، فلامه الأخيره بدل من نون أصيلان تصغير أصلان جمع أصيل، والصاد والزاى نحو صراط وزراط، فإنها بدل من السين، والفاء نحو جدف فإنها عن ثاء مثلثه، والجدث التبر ونحو فم أصله ثم، وهى حرف عطف والعين نحو أعجبنى عن نفعل، وأشهد عن محمداً رسول الله، الأصل أن تفعل وأن محمداً، أبدلت الهمزة عيناً وتسمى عنعنة تميم، والثاء نحو ثروغ الدلو، والأصل فروغ أبدلت الفاء ثاء مثلثه، والفروغ جمع فرغ وهو مخرج الماء من الدلو من بين العراقى، والباء نحو بكة أى مكة، ونحو بااسمك بفتح الباء وضم الميم، الأصل ما اسمك وهى لغة مازن، فيكون حروف الإبدال ثمانية عشر فى الأربعة عشر منها تسعة الستة المجموعة فى اهطمين، وثلاثة أخرى اللام والصاد والعين، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأقل مما يدغم فى مثله ولا يدغم فى المقارب، ومجموع ذلك الهاء والهمزة، والعين والصاد، والطاء والميم، والباء والخاء، والعين والضاد، والظاء، والشين، والزاى والواو، والفاء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كذا قال القاضى واعترضه زكرياء بأن فى عده الضاد مما لا يدغم فى مقاربه نظر، أو أن فى القراءات السبع ما يخالفه، وكذا فى الميم والشين والفاء واعترض قوله النصف الأقل بأنه مبنى على عد الطاء والميم والشين والفاء مما يدغم فى مثله، ولا يدغم فى مقاربه وأن فيه نظراً، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأكثر مما يدغم فى مثله ومقاربه ومجموعه الثلاثة عشر الباقية، وذلك الأكثر هو الحاء والقاف، والكاف والراء، والسين واللام، والنون، لما فى الإدغام من الخفة والفصاحة قاله القاصى، واعترض زكرياء قوله الثلاثة عشر الباقية، بأنه مبنى على عد الأربعة السابقة مما يدغم فى مثله ولا يدغم فى المقارب، قال وهو إن قرأ به فى السبع مخالف لزعمه فى آخر السورة إدغام الراء فى اللام لحن، وعليه فيقال نصفها الأقل ولا تعد الراء مما ذكر ولا يناسبه قوله لما فى الإدغام من الخفة والفصاحة. انتهى. وكتب على قوله والراء أنه الموافق لزعمه قال فى نسخة والزاى قال وهو وهم على قوله، واعترض قوله والفاء والسين بأنهما يدغمان فى مقاربهما كما يدغمان فى مثلهما، ومن تلك الأربعة عشر حرفان مما يدغم فيه مقاربه ولا يدغم فى مقاربه وهما الميم والراء، ومجموع ذلك أربعة هما والشين والفاء، من تلك الأربعة عشر ثلثا الحروف الحلقية والذلقية بإسكان اللام نسبة إلى ذلق اللسان، وهو طرفه ولم أقل ذلق اللسان والشفة، لأن اللسان هو العمدة فى خروج هذه الأحرف وإلا فالذلقية مخرجها طرف الشفتين، فإن ثلاثة منها شفهيتان الباء والفاء، والميم، والثلاثة الأخرى يقال لها ذلقية لا شفوية، وهى اللام والراء والنون، وذلك ستة يجمعها قولك رب منفل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والحلقية الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، وثلثا الحلقية والذلقية الراء واللام، والميم والنون، والهمزة والعين، والحاء، وإنما كان منها ثلثاهما الكثرة. وحرف الحلق والذلق فى الكلام، ومن الأربعة عشر سبعة حروف من الحروف التى تجوز زيادتها التى يجمعها قولك سألتمونيها، أو قولك أمان وتسهيل، أو قولك اليوم ننساه، والموجود منها فى الأربعة عشر الهمزة واللام، والميم والهاء، والياء والسين والنون، وفى ذلك تنبيه على أن أبنية الاسم المزيد فيه المركبة فى كلامهم لا تجاوز سبعة، وتلك الأربعة عشر أكثر ذكراً فى القرآن، وأيضاً هى أن أنصاف أجناس الحروف وثلثاها، وباقى الحروف أنصاف وثلث فقط، على ما رأيت، وبعض تلك الأربعة عشر فى الفواتح مفردة وهى ص، ق، ن وبعضها ثنائية وهى طه، طس، يس، حم وبعضها ثلاثية وهى الم والر وطسم ورباعية وهى المص والمر وبعضها خماسية وهى كهيعص وحمعسق وفى ذلك تنبيه على أن منتهى الاسم المجرد عن الزوائد فى كلامهم خمسة أحرف، وأقله حرف، وأن المتحدى به مركب من كلماتهم التى أصولها كلمات مفردة ومركبة من حرفين فصاعداً إلى الخمسة، وذكر الثلاثة المفردة فى ثلاث صور، لأنها توجد فى الأقسام الثلاثة الاسم والفعل والحرف، وذكر أربع ثنائيات فى تسع سور، وذلك لأن الثنائى يكون حرفاً بلا حذف كبل، وفى الفعل بحذف كقل، وفى الاسم بلا حذف كمن بفتح الميم، وبالحذف كأخ، وأول الثنائى مفتوح أو مكسور أو مضموم، وكل منهن فعل أو حرف أو اسم، فذلك تسعة من ضرب ثلاثة فى ثلاثة، فالاسم كمن وإذ وذو، والفعل كخف وبع وقل، والحرف كبل، ومن بكسر الميم، وهذا إذا جرت ما بعدها، وذكر ثلاث ثلاثيات، وهى الم والر وطسم لمجيئها فى الأقسام الثلاثة، الاسم والفعل والحرف فى ثلاث عشر سورة { الم } البقرة، و { الم } آل عمران، و { الم } العنكبوت، و { الم } الروم، و { الم } لقمان، و { الم } السجدة، و { الر } يونس، و { الر } هود، و { الر } يوسف، و { الر } إبراهيم، و { الر } الحجر، و { طسم } الشعراء، و { طسم } القصص، وفى ذلك تنبيه على أن أصول الأوزان المستعملة ثلاثة عشر، للأسماء عشرة وللأفعال ثلاثة، وذكر رباعيين وخماسيين تنبيهاً على أن لكل منها أصلا كجعفر وسفرجل، وملحقاً كقردد وهو المكان الغليظ المرتفع، وجحنفل بجيم فحاء مهملة فنون ففاء فلام، وهو الغليظ الشفة، وتقدمت علة تفريقها فى السور وعدم جمعها فى أول القرآن، ويجوز أن تكون قد فرقت للفائدة المذكورة فى كل قسم من المفردة والثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية، ولا يقال ما ذكر من أوصاف الحروف وأقسام الأبنية، والكلمات وأحوالها اصطلاحات مستحدثة، فكيف يقال إنها مقصودة بالقرآن، لأنا نقول الاصطلاحات الأسامى لا المعانى المرادة بها وهى المقصودة، ولأن ما ذكرناه مناسبات يمكن أن تقصد بالقرآن والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ثم إن جعلت تلك الفواتح أبعاض كلمات أو أصواتاً منزلة منزلة حرف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب، كالجمل المبدأة، والمفردات المعددة، وكذا قيل لامحل لها إذا قلنا لا يعلم معانيها إلا الله، وهو مشكل، لأنه يحتمل أن يكون معناها بحيث يكون لها محل، ولأنه يحتمل أن يكون المعنى أقل { الم } أو هذه { الم } مع تسليم عدم المعرفة بمعناه، فتكون معرفة، وإن جعلتها أسماء الله تعالى أو القرآن أو السورة فهى خبر أو مبتدأ أو مجرورة بحرف قسم مقدر أو منصوبة على نزعة، وجملة قولك ألف لام المشار إليها هذا المكتوب { الم } اسم واحد، إذا جعلناها اسماً لله تعالى أو القرآن أو السورة. قال القاضى ويتأتى الإعراب لفظاً والحكاية فيما إذا كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنه يقرأ بوزن هابيل، وتجب الحكاية فيما عدا ذلك، وأن بقيتها مع معانيها، فإن قدرت بالمؤلف من هذه احروف كانت مبتدأ أو خبرا، والمراد بالحكاية الإسكان، لأن السكون هو حال الكلمة قبل إدخال العامل عليها، ولا يعد فى جواز الحكاية والإظهار إذا وردا جميعاً عن السلف فى ذلك، أو لم يتقين الوارد، أو لم يعلم، وإلا فالقرآن لا يغير عن وضعه والوقف على الفواتح وقف تام، إذا قدرت بحيث لا يحتاج إلى ما بعدها وليس شىء منها آية عند غير الكوفيين، وأما الكوفيون فالم عندهم آية وكذا { المص } و { كهيعص } و { طه } و { طسم } و { يس } و { حم } وفى { حمعيسق } آيتان { حم } آية و { عيسق } آية، والبواقى ليست بآيات، وظاهر كلام المرشد وهو اسم كتاب أن الفواتح كلها آيات عندهم، وذلك توقيف لا قياس، فلا يحتاج إلى توجيه أو حجة أخرى غير التوفيق، ومن كتب { الم } إلى**{ وأولئك هم المفلحون }** يوم الخميس أول النهار فى إناء جديد بزعفران، ومحاها بماء بير عذب، وشربها وأمسك عن الطعام ذلك اليوم، يفعل ذلك ثلاثة مرات، حمد الله تعالى على عاقبته وزاد حفظه، وثبت العلم فى قلبه وكان له يقين، وكان عوناً. على الطاعة والمعرفة. والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
سُورة البَقَرَة بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الله هو العالم بمعناه، وبمعنى، المص، و، المر، الر، و، كهيعص، و، طه، و، طسم، و، طس، و، يس، و، ص، و، حم عسق، و، ق، و، ن، وأذكر ما قيل، الهمزة الله، واللام لطيف، قال الخليل: نحو به، وكه، بالحركة وهاء السكت، مسميات، ونحو الباء والكاف اسم، قلت، فمسمى الهمزة، أه بالحركة بعدها هاء السكت، والاسم ءاء بهمزتين بينهما ألف، ولم ينطق غيرى بهذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
كلمات تسرد سردا غير مركبة تركيب الجمل، افتتحت بها هذه السورة، وشقيقتها ثانية الزهراوين من السور المدنية، كما افتتحت بها وبنظائرها من قبل سبع وعشرون سورة مكية، وهي كلمات ذات غرابة طبعا، إذ لم يكن مألوفا أن تسرد هذا السرد في غير التهجي، ومع ذلك لم تكن العرب على معرفة بالقراءة والكتابة إلا قليلا منهم فلا غرو إذا لم يكن جمهورهم بحاجة إلى معرفة هذه المصطلحات في تسمية الحروف التي تتكون منها كلماتهم، لأن السليقة كانت هي الينبوع لبيانهم. مقاصد هذه الكلمات المقطعة: وبدهي أن تختلف الآراء وتتعدد الأقوال في تحديد مقاصد هذه الكلمات، واستظهار معانيها. ومهما يكن فإن هذه الفواتح وأمثالها هي أسماء ومسمياتها الحروف الهجائية التي تتركب منها المفردات، وهذا واضح لانطباق حد الاسم عليها، ولأنها تعتورها علاماته كالتعريف والاسناد، والجمع والاضافة والجر، ووصفها بالحرفية لا يعدو أن يكون مجازا، لأن مدلولاتها - وهي أحرف الهجاء - حروف. وإيضاح ذلك أن الباء - مثلا - اسم، ومسماه أول حرف من بان وباع، وأوسط حرف من جبن وقبع، وآخر حرف من ضرب وجرّب. فإذا أردت النطق بالمسمى وحده وهو الحرف، قلت (بَه) بإدخال هاء السكت، وقس على ذلك سائرها، ولا يرد على ذلك ما أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححاه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول { ألم } حرف، بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف "** وفي رواية عند الترمذي والدارمي: **" لا أقول { ألم } حرف وذلك الكتاب حرف، ولكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف، والذال حرف، والكاف حرف "** لأن الاصطلاح على تقسيم أنواع الكلام إلى اسم وفعل وحرف إصطلاح طارىء لا يحمل عليه الكلام النبوي الشريف، وقد كانوا قبل حدوث هذا الاصطلاح يطلقون الحرف على الحروف البسيطة، التي يتركب منها الكلام، وهي مسميات هذه الكلمات كما قلنا، وربما أطلقوه تجوزا على نفس الكلمات، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: " لا أقول الم حرف.. " الخ، دفع ظن التجوز، والظاهر ما حرره بعض المفسرين أن المراد من الحديث بيان أن الحسنات على تلاوة القرآن تكون بحسب حروفه المكتوبة إذ لو كانت بحسب النطق لعدت (ألف) ثلاثة أحرف، ويؤيده ما في رواية الترمذي والدارمي من زيادة: **" والذال حرف والكاف حرف "** فإن الذال بمدها تتولد من فتحتها ألف، فلو اعتبر التلفظ لكان الجدير باعتبارها مع مَدتها حرفين، ويومئ إلى ذلك التعبير بكتاب الله المفهم للكتابة دون كلام الله أو القرآن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إعراب هذه الكلمات: وإذا عرفت أنها أسماء فاعلم أنها غير مبنية، لأن الاعراب هو الأصل فيها، ولكنها سكنت أعجازها هنا لأجل معاملتها معاملة الاسم الموقوف عليه، لأنها سردت سردا من غير أن تلحقها عوامل تقتضي حالة من حالات الاعراب. معانيها: أما معانيها في طلائع السور فقد اختلف فيها المفسرون سلفا وخلفا، ونستطيع أن نرد آراءهم إلى موقفين؛ موقف الذين تهيبوا من الخوض في معانيها حذرا من الانزلاق، لأنهم عدوه من التقول على الله بغير علم، وليس الموقف بالهيّن، فالكلام كلام الله، ونسبة ما لم يرده تعالى إليه كنسبة ما لم يقله. وموقف الذين تجاسروا على القول فيها بحسب ما توحي به القرائن، وترشد إليه الدلائل، ولم نعثر في هذه الفواتح على شيء يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تفسيرها ولو من وجه ضعيف، ولو حصل وثبت لتبخر النزاع، وزال الشقاق لوجوب التسليم له عليه أفضل الصلاة والسلام، فهو أعلم بالتنزيل ومقاصده، والتأويل وطرائقه، ولكلا الفريقين حجة يستندون إليها. استدلال من لا يرى الخوض في معانيها: أما الأولون فقد احتجوا بالمعقول والمنقول: أما المعقول؛ فهو أن الله سبحانه تعبدنا بأعمال منها ما نعرف حكمته، ومنها ما لا نعرف، فالصلاة والزكاة والصوم كلها عبادات ذات أثر واضح، ومنفعة بينة في حياة العابد الشخصية والاجتماعية، فإن الصلاة بما فيها من تذكير بالله وقدرته وسلطانه ومنته وإحسانه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تسد بها حاجات الفقراء، وتنتزع من قلوبهم كراهة الأغنياء مع أثرها الطيب في نفس المزكي، عندما تطهرها من رجس شهوة المال، فمنفعتها عائدة على الجانبين، والصوم وسيلة للحد من طغيان الشهوة، وكسر شوكتها، ورد جماحها، مع ما فيه من تذكير الأغنياء بآلام البؤساء الجائعين. وبجانب هذه العبادات ذات المنافع المعقولة، والحِكَم الواضحة، ثَمّ عبادات أخرى لا سبيل لنا إلى استظهار حكمتها، كرمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة، والرَّمَل والاضطباع، وكما كان لائقا بحكمة الله أن يأمر عباده بالنوع الأول يليق بحكمته كذلك الأمر بالنوع الثاني من غير خلاف، وقد يكون الامتثال في هذا النوع أدل على الاذعان والطاعة، لأن فاعله لا يدرك له حكمة، ولا يلمس منه منفعة عاجلة، بخلاف النوع الأول، إذ ليس من المستحيل أن يكون إتيانه لمعرفته بمنفعته، وإذا جاز ذلك في التعبد العملي، فلم لا يجوز في التعبد القولي؟ وهو أن يأمرنا الله أن نعبده تارة بما نفهم معناه من الكلام، وتارة بما لا نفهم، ليتجلى الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، هذا بجانب كون غموض المعنى من اللفظ داعيا إلى الالتفات إليه، والتعلق به، والتفكر فيه خصوصا عند ما يعلم أنه صادر من أحكم الحاكمين، وهذا التعلق باللفظ هو في حقيقته تعلق بالله عز وجل، الذي أنزله بعلمه، وذلك هو عين الذكر وروح العبادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما المنقول؛ فهو دلالة القرآن نفسه على انقسامه إلى محكم ومتشابه، وجاء فيه عن المتشابه**{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 7] والوقف هنا ضروري لأسباب؛ أحدها: أنه لو عطف الراسخون في العلم على اسم الجلالة للزم إما انقطاع { آمنا به } عما قبله، وهو غير جائز لعدم إفادته، وإما رجوعه إلى المعطوف والمعطوف عليه، فيترتب عليه أن يكون الحق تعالى قائلا: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } واعتقاد ذلك عين الكفر ورأس الضلال. ثانيها: ان مدح الراسخين في العلم بإيمانهم به دليل على أنه يختلف عن المحكم الذي فهموه، ولو كانا سواء في فهمهم لما كان لهذا التخصيص معنى. ثالثها: نسبة الزيغ إلى الذين يريدون تأويله ولو كان كالمحكم لكان طلب معرفته موجبا للمدح لا للذم. وعزّز هؤلاء رأيهم بأنه مروي عن أجلّة الصحابة - رضوان الله عليهم - منهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود وابن عباس، وهو قول جماعة من أعلام الأمة كالشعبي، وسفيان الثوري، والربيع بن خيثم، وكثير من المحدثين. حجة الفريق الثاني: وأما الآخرون فاحتجوا أيضا بالمعقول والمنقول، أما المعقول فمن وجوه: أحدها: أنه لو تعذرت معرفة شيء من القرآن على أفهام الأمة ما كانت لإِنزاله فائدة، وكانت مخاطبة الناس به كمخاطبة العربي بالأعجمية، أو الأعجمي بالعربية. ثانيها: أن الخطاب إنما يوجه إلى المخاطبين لأجل الافهام، فإن تعذر فهمه عليهم جميعا فهو عبث وسفه لا يليق بمقام الربوبية. ثالثها: أن القرآن متحدًى به ولا يتحدى إلا بالمعلوم. وأما المنقول فبعضه من القرآن وبعضه من السنّة، فمن القرآن قوله تعالى:**{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }** [محمد: 24]، فإن التوبيخ على عدم تدبره لا يكون إلا لأن تدبره مطلوب، وهو دليل إمكان فهمه، إذ لو كان متعذر الفهم ما كانت في تدبره فائدة. وفي معنى ذلك قوله:**{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً }** [النساء: 82]، ومن البدهي أن معرفة سلامته من التناقض تتوقف على فهم جميع معانيه. وقوله:**{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }** [الشعراء: 192 - 195]، فإن الانذار يتوقف على فهم المنذرين بما أنذروا به، وهذه الآيات دالة على أن الانذار بجميع التنزيل، فليس من المعقول أن يكون منه ما لا يفهم معناه، ويزيد ذلك تأكيدا ووضوحا قوله:**{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }** [الشعراء: 195]. ومن المعلوم أن العرب أول من خوطبوا به، وهو بلسانهم المبين، ولو لم تصل أفهامهم إلى شيء منه لكان في ذلك ما يدعوهم إلى رفضه، والطعن في وصفه بالإِبانة، فإن هذا الوصف يتنافى مع بقاء شيء منه غامض المعنى. وقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }** [النساء: 83]، فإن الاستنباط يتوقف على الإِحاطة بالمعنى. وقوله:**{ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ }** [النحل: 89]. وقوله:**{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }** [المائدة: 15]. وقوله:**{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }** [العنكبوت: 51]. وقوله:**{ هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ }** [ابراهيم: 52]. وقوله:**{ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }** [النساء: 174] وغير هذه من الآيات الدالة على أن القرآن ميسر فهمه، واضح معناه، مبشر ومنذر، وهاد إلى طريق مستقيم. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: **" إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا؛ كتاب الله وسنتي ".** وحديث علي في وصفه: **" فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم "** الخ. في المسألة مجال للاجتهاد: وأنت تدري أن أمثال هذه الحجج التي استند إليها كلا الفريقين، ليس فيها ما يقطع به صحة أحد الرأيين، فتبقى المسألة مجالا للاجتهاد. ومن تجاسر على الخوض في تفسير هذه الفواتح ليس له أن يقطع بأن ما قاله هو عين المراد بها، فإن غاية ما في أقوال الخائضين في تفسيرها، الاستناد إلى قرائن قد تكون صحيحة أو غير صحيحة، وإنما يستأنس بجواز فهم معانيها بعدم وجود ما يدل على استنكار العرب الجاهليين لها مع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن عليهم، بل أثر ما يدل على تأثر بعضهم مع سماع سورة مفتتحة بها، وهو عتبة بن ربيعة، الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليه عروضا في مقابل تنازله عن دعوته، فأسمعه النبي صلى الله عليه وسلم سورة (فصلت)، فلما وصل إلى قوله عز وجل:**{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ }** [فصلت: 13]، وضع يده على في رسول الله صلى الله عليه وسلم إشفاقا من نزول العذاب، وانصرف إلى قومه طالبا منهم أن يكفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أنه استنكر شيئا مما سمعه. وكان سبب إسلام عمر - رضي الله عنه - ما قرأه عند أخته من سورة (طه)، ولو كان شيء مما سمعاه لا تستسيغه فهوم العرب لما كان منهما هذا التأثر، بل لأدى ذلك إلى سخريتهما واستخفافهما به، كما يستأنس للجواز بما روي عن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - من تفسير هذه الكلمات، فإن معظم من روى عنهم التوقف عن القول فيها، رويت عنهم كذلك أقوال في بيان معانيها. الأقوال الواردة في معانيها: ونسب ابن عطية وأبو حيان والزمخشري جواز تفسيرها إلى الجمهور ونسبه الفخر إلى المتكلمين، وهؤلاء اختلفوا في المراد بها على نحو مائة قول أكثرها ليس له قسط من الدليل، بل مسحة كذب أهل الكتاب ظاهرة على كثير منها، ورد العلامة ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) هذه الأقوال بعد حذف متداخلها وتوحيد متشاكلها، إلى عشرين قولا، وقد رأيت أن أقتصر عليها مع الافاضة فيها بتفصيل أدلتها وعزوها إلى أصحابها، وتبيان ما قيل فيها قبولا وردا، وإليكموها على الترتيب: أولها: أنها حروف اقتضبت من أسماء وصفات لله عز وجل افتتحت بحروف مماثلة لها، فـ { ألم } مثلا؛ الألف تشير إلى أحد أو أول أو آخر، واللام إلى لطيف، والميم إلى ملك أو مجيد أو نحو ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهو المفهوم مما أخرجه ابن جرير في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: أما { ألم } فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه. وأخرج ابن جرير أيضا عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: { الم } و { حم } و { ن } ، قال: اسم مقطع. وروي مثل ذلك عن محمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، واعترض عليه بأن صحة ما قالوه يتوقف على التوقيف وأنى لهم به. ثانيها: أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة، فـ { الم } مثلا، الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد. قاله الضحاك، وهو كالذي قبله في توقف صحته على التوقيف. ثالثها: أنها أسماء للملائكة، وأنها إذا تليت كانت للنداء لملائكتها وتصغي الملائكة إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها، فيقولون: صدقت؛ إن كان ما بعدها خبر، ويقولون: هذا مؤمن حقا، نطق حقا، وأخبر بحق، فيستغفرون له، وهو قول محيي الدين بن عربي صاحب الشطحات الصوفية المتطرفة في كتابه (الفتوحات المكية) وما هو إلا خبط بلا هاد ولا نظر، فإنه قول بعيد عن أسلوب القرآن ومقاصده. رابعها: أنها رموز لأسماء النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه خاصة، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف، كأحمد وأبي القاسم، واللام مكنى به عن صفاته مثل لب الوجود، والميم مكنى به عن محمد، وما ماثله كمبشر ومنذر، ونسب ابن عاشور هذا القول إلى الشيخ محمد بن صالح التونسي المعروف بابن ملوكة في رسالة له، ثم قال: وعلق على هذه الرسالة تلميذه شيخ الاسلام محمد معاوية تعليقة أكثر فيها من التعداد وليست مما ينثلج بمباحثه الفؤاد، ويرد هذا القول إلتزام حذف حرف النداء، وما قاله من ظهوره في { يس } مبني على قول من قال إن { يس } بمعنى يا سيِّد، وهو ضعيف لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء، ولأن الشيخ نفسه عدّ { يس } بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولا لنحو الياء من { كهيعص }. خامسها: أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمل، قاله أبو العالية استنادا إلى ما رواه البخاري في تأريخه وابن اسحاق وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبدالله بن رئاب، قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" مر أبو ياسر ابن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، فأتى أخاه حيي ابن أخطب في رجال من يهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ.. } فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد؛ ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ.. } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فقالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما بيّن لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقال حيي بن أخطب - وأقبل على من كان معه -: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، قال: فقال لهم: أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد؛ هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: { المص } قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: { الر } قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مئتان، فهذه إحدى وثلاثون ومئتا سنة. قال: هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: نعم؛ { المر } قال: فهذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مئتان، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا، ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون مائة، ومئتان وإحدى وثلاثون، ومئتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره "** قال ابن جرير: ويزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم:**{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }** [آل عمران: 7]. وليس في هذه القصة دليل على صحة هذا القول، ولو قدرنا صحتها - فما بالكم وسندها ضعيف بالاتفاق - فإن القرآن لا يعول في تفسيره على خرافات أهل الكتاب التي لا تستند إلا على الأوهام، وليس في إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لما ذهبوا إليه من أنها ترمز إلى مدة بقاء هذه الأمة، وإنما يحمل ذلك - لو صح وما هو بصحيح - على قصده عليه أفضل الصلاة والسلام إبطال مزاعمهم وتفنيد فهومهم على الطريقة المعروفة عند أهل الجدل بالنقض، ومرجعها إلى المنع، وقد قيل إن المانع لا مذهب له، ولا يستفاد من ضحكه صلى الله عليه وسلم إلا الاستغراب من جهلهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أفاد ذلك الإِمام ابن عاشور. وإن تعجب فعجب كيف يستند أئمة التفسير في بيان مراد الله من كتابه بدعاوى أهل الكتاب الذين لا يتورعون عن تحريف الكلم عن مواضعه في الكتاب الذي أوتوه، فما بالك بتحريف التأويل فيما هم بصدد اللدد والكيد له، وتكذيب الرسول الذي أنزل عليه ومثل هذه الأقوال جديرة بنفيها عن ساحة التفسير، وعدم شغل دواوينه بذكرها، لولا بغية التحذير منها والتنبيه على زيفها حذر اغترار العامة بها أثناء اطلاعهم عليها في أمهات التفسير القديمة. سادسها: أنها رموز؛ كل حرف منها رمز إلى كلمة، فنحو { الم } أنا الله أعلم، و { المر } أنا الله أرى، و { المص } أنا الله أعلم وأفصل. رواه ابن جرير من طريق أبي الضحى عن ابن عباس، وروى مثله عن سعيد بن جبير، وهو كالقول الثاني مبني على ما عرف عن العرب أنهم يتكلمون بالحروف المقطعة أحيانا بدلا من الكلمات التي تتألف منها، وهو معروف عنهم نظما ونثرا، ومنه قول زهير: | **بالخير خيرات وإن شر فا..** | | **ولا أريد الشر إلا أن تا..** | | --- | --- | --- | أراد: وإن شر فشر، وأراد: إلا أن تشا، فاكتفى من كل كلمة بحرف، وقول آخر: | **ناداهم أن الجموا الا تا..** | | **قالوا جميعا كلهم ألا فا..** | | --- | --- | --- | أراد بالأول: ألا تركبون، وبالثاني: ألا فاركبوا. وقول الوليد بن المغيرة: | **قلت لها قفي لنا قالت: قاف.** | | | | --- | --- | --- | أراد: قد وقفت. وفي الحديث: **" من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة "** هو أن يقول كلمة: أقـ.. مكان أقتل. وفي حديث سعد بن عبادة عند ابن ماجة: **" كفى بالسيف شا.. "** أي شاهدا. وقال لبيد: | **درس المنا.. فمتالع فابان** | | **فتقادمت بالحبس فالسوبان** | | --- | --- | --- | أراد المنازل. وقال علقمة الفحل: | **كان إبريقهم ظبي على شرف** | | **مقدم بسبا.. الكتّان ملثوم** | | --- | --- | --- | أراد بسبائب الكتان. وهو - كما قال العلامة ابن عاشور - يوهنه أنه لا ضابط له، لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة، وما ذكر من الشواهد لا يصح حمل فواتح السور عليه لاختلاف المقام، وانعدام النسبة التي تسوغ تخريج القرآن على مثل ذلك. سابعها: أنها ترمز إلى أحوال نفسية تترتب على تزكية القلب، وتحلية النفس بالحقائق الايمانية، وهو مبني على اعتبار عدد الحروف المفتتح بها بتكرارها فهي ثمانية وسبعون حرفا، ويشار بها إلى شعب الايمان في حديث أبي هريرة: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" الايمان بضع وسبعون شعبة "** ، فهذه الحروف هي شعب الايمان، ولا تكمل لأحد أسراره حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها، والبضع يصدق على الثمانية فهي المرادة به، وقد أطال صاحب الفتوحات في الانتصار لهذا القول بما أورده من الرموز الصوفية التي لا يكاد يفهم لها معنى، وتابعه الألوسي في " روح المعاني " ، وليس ذلك لعمري إلا من شطحات الغلاة التي يجب تنزيه القرآن وتفسيره عنها، وما كان ذكري لهذا القول إلا للتحذير من الاغترار به كما تقدم في نظيره. وهذه الأقوال السبعة تخرج من باب واحد وهو اعتبار الحروف رموزا إما إلى كلمات اقتطعت منها، أو إلى حقائق تشير إليها. ثامنها: أنها أسماء للسور التي افتتحت بها، وهو قول زيد بن أسلم، ونسب إلى الخليل وسيبويه، وقال به جم غفير من السلف والخلف، واختاره الفخر الرازي، وعزاه إلى أكثر المحققين، كما عزاه الزمخشري إلى الأكثر، واقتصر عليه الامام محمد عبده، وأقره تلميذه السيد محمد رشيد رضا في تفسير سورة البقرة من " المنار " ، ونظروه بالتسمية لما أشبه أسماء الحروف كـ (لام) اسما لوالد حارثه بن لام الطائي، و(عين) اسما للذهب والشمس ومنبع الماء وحاسة البصر، و(غين) اسما للسحاب، و(نون) اسما للحوت، و(ق) اسما لجبل موهوم، و(حا) اسما لقبيلة من مذحج. وأيدوه بقول شريح بن أوفى: | **يذكرني حاميم والرمح شاجر** | | **فهلا تلا حاميم قبل التقدم** | | --- | --- | --- | واعترض بأمور: الأول: أن الاشتراك بين مجموعة من السور في فاتحة من هذه الفواتح بعينها كـ { الم } و { حم } يفقد فائدة التسمية لها. الثاني: أن التسمية تقتضي الاشتهار ولم تشتهر هذه السور بها، وإنما اشتهرت بأسماء أخرى، كالبقرة وآل عمران ويونس وهود ويوسف. الثالث: أن العرب لم تتجاوز فيما سمت به مجموع اسمين كمعدي كرب، وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء أو أربعة أو خمسة، فالقول بأنها أسماء لسورها خروج عن لغتهم. الرابع: وجوب التغاير بين الإِسم والمسمى والقول بإسميتها يقتضي اتحادهما. الخامس: أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على جميعه رتبة، واسمه متأخر عنه، فيلزم أن يكون متقدما متأخرا معا، وهو محال. وأجيب عن الأول بأن الأعلام كثيرا ما تكون مشتركة بين الناس أو البلدان أو غيرهما، وإنما صح الاشتراك لأن العلم يوضع لكل واحد وضعا مستقلا، وما يتبع هذه التسميات من الإِضافات وغيرها كاف لتعيين المراد بها. وعن الثاني بأنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم: **" يس قلب القرآن "** ، و **" من قرأ حم حفظ إلى أن يصبح "** وفي السنن وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وإذا ثبت في البعض ثبت في الجميع إذ لا فارق، واشتهار أحد العَلَمين لا يضير عَلَمية الآخر، فكثير من الأسماء مجهولة لا يتوصل إلى معرفتها إلا بعد التفتيش لغلبة الكنى أو الألقاب عليها، كأبي هريرة وذي اليدين، وقد يكون عدم الإِشتهار لنفس الاشتراك فيترك لاحتياجه إلى ضميمة، كـ { الم } هنا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء فما فوق إنما تمتنع إذا ركبت تركيبا مزجيا، وجعلت إسما واحدا، أما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا تمتنع لأنها من باب التسمية بما حقه الحكاية، وقد وردت التسمية بجملة تركبت من أكثر من كلمتين: كشاب قرناها، وسر من رأى، وناهيك أن سيبويه سوى بين التسمية بالجملة، والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم. وعن الرابع بأن التغاير الحاصل بين الكل والجزء كاف لتسويغ تسمية أحدهما بالآخر، ولذلك كان الحرف الهجائي المسمى جزءا من إسمه في الغالب، فلا مانع من العكس، على أن تسميات سور القرآن غالبا تكون كلمة مأخوذة من السورة المسماة. وعن الخامس: بأن التقدم والتأخر إنما هما بحسب الاعتبارات، فالجزء مقدم على الكل من حيث ذاته، ومؤخر عنه من حيث الوصف وهو الإِسمية إن اعتبر اسما له، وقد سبق في الجواب الذي قبله أن غالب التسميات المشهورة لسور القرآن تكون بانتزاع كلمات منها كالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة، والأنعام وهلم جرا. تاسعها: أنها أسماء للقرآن ذكره ابن جرير ونسبه إلى قتادة ومجاهد وابن جريج، ونسبه غيره إلى الكلبي والسدي، ورده ابن عاشور لأنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها أن لو كانت أسماء للقرآن، نحو { الۤـمۤ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } و { الۤـمۤ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ.. }. عاشرها: أن كل مجموعة مركبة منها هي اسم من أسماء الله، واستؤنس له بما روي عن علي أنه كان يقول: يا كهيعص، يا حم عسق. وعليه فالحروف المفردة يرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال، وأبطله ابن عاشور لعدم الإِرتباط بين بعضها وما بعده بحيث يسوغ أن يكون خبرا أو نحوه عن اسم الله، مثل { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ.. } و**{ الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ.. }** [إبراهيم: 1 - 2]. الحادي عشر: أنها أفعال، فإن حروف { ألم كتاب } هي نفس الحروف التي في { ألم } بمعنى نزل، فالمراد من { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ.. } نزل عليكم قاله الماوردي، ورد بأنه لا تقرأ بصيغ الأفعال مع عدم إمكان حمل جميعها على هذا التأويل نحو { كهيعص، والر } وهو كما قيل لولا غرابته لكان حريا بالإِعراض عنه. وهذه الأقوال الأربعة ترجع إلى اعتبار أن هذه الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا. الثاني عشر: أن هذه الحروف أقسام أقسم الله بها كما أقسم بالقلم تنويها بشأنها، لأن أسماء الله تألفت من مسمياتها، وهي كذلك أساس التخاطب، ومصدر العلوم، وهذا القول نسبه ابن جرير إلى ابن عباس وعكرمة، ونسبه غيره إلى الأخفش، وضعف بحذف حرف القسم مع أنه لا يحذف عند البصريين إلا مع اسم الجلالة، وورود أقسام بعدها في بعض المواضع نحو { نۤ وَٱلْقَلَمِ } و { حمۤ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } مع استكراههم الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد، وفي كلا الأمرين بحوث متسعة آثرنا ضرب الصفح عن ذكرها رغبة في تجريد هذا التفسير من التعقيدات الناشئة عن البحوث العربية وغيرها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثالث عشر: أنها سيقت على طريقة التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية، لإِيقاظ شعور السامعين، وإثارة فكرهم، ليدركوا أن هذا الكتاب - الذي تحدوا ببلاغته، وحاروا عندما طولبوا بأن يأتوا بأقصر سورة من مثله وهم فرسان البلاغة القابضون على نواصيها والرائضون لعاتيها ومستعصيها - إنما هو من جنس كلامهم الذي ألفوه، وحروفه هي نفس الحروف التي يصوغون منها كلامهم، فلو كان صادرا عن ملكات البشر لكان بإمكانهم أن يعارضوه فيقابلوا الكلمة بكلمات، والسورة بسور، ولكن عجزهم دل على أنه فوق مدارك الأفهام، وأسمى من أن تناله ملكات الأنام، فهو من عند الله الذي لا يكتنه عظمه، ولا يقدر قدره. وهذا القول منسوب إلى المبرد وقطرب والفراء، وعليه ابن تيمية والحافظ المزي شيخ ابن كثير المفسر، وانتصر له الزمخشري في كشافه أتم الانتصار واختاره الامام ابن عاشور، وذكر أن المناسبة لوقوعها في فواتح السور ان كل سورة مقصودة بالإِعجاز لقوله تعالى:**{ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ.. }** [البقرة: 23]، فناسب افتتاح ما به الإِعجاز بالتمهيد لمحاولته، وأيده بأن التهجي ظاهر في هذا المقصد، فلذلك سكتت عنها العرب لظهور أمره، لأن التهجي معروف عندهم، فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية التي عهدت في التعليم في غير مقامه أدرك السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لتشابه الحالين في العجز عن الإِتيان بكلام بليغ، وفي هذا تعريض بهم بمعاملتهم معاملة الصبيان أول تعليمهم القراءة والكتابة، وفي ذلك ما لا يخفى من الإِغراء والإِثارة على التحدي والمعارضة، كما أيده أيضا بأن معظم هذه الحروف نزلت في أوائل السور المكية، وإنما شاركتها من المدنية البقرة وآل عمران، ولعل ذلك لنزولهما بُعَيْدَ الهجرة من مكة، وقصد التحدي في القرآن المكي قصد أولي وعضده أيضا بأن الحروف المختتمة أسماؤها بألف ممدودة كالياء والهاء والراء والطاء والحاء، قرئت في هذه الفواتح مخففة على طريقة تهجي الصبيان. وللسيد محمد رشيد رضا في تفسير فاتحة الأعراف بحث نفيس بيّن فيه تناسب هذه الفواتح مع ما بعدها، ومن الممكن أن يستنتج من هذا البحث تأييد هذا الرأي، وإن كان هو نفسه أميل إلى القول بأنها أسماء للسور في بعض ترجيحاته، وخلاصة بحثه أن الغرض من افتتاح هذه السور بهذه الفواتح تنبيه السامع بهذا الصوت إلى ما سيلقى إليه بعده من الكلام حتى لا يفوته منه شيء، فهي شبيهة بألا الافتتاحية، وها التنبيهية، وإنما خصت بها سور معينة من الطوال والمئين والمثاني والمفصل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الاسلام، وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية ما عدا الزهراوين، والدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب، وفي كلها يلي هذه الفواتح ذكر الكتاب ما عدا مريم والعنكبوت والروم و(ن)، وفي كل منها معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب، فأما سورة مريم فقد ثني فيها بتفصيل قصتها بعد افتتاحها بقصة زكريا ويحيى المشابهة لها، وتليت القصتان بذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءا كل منها بقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ.. }** [مريم: 16، 41، 56،51]. والمراد بالكتاب القرآن، فكأنه قال في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى واذكر في الكتاب، وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم ذلك، ولم يكن قومه على علم به كما صرح به في سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله:**{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }** [هود: 49]، وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته:**{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }** [يوسف: 102]. وختمت هذه السورة - أي سورة مريم - بإبطال الشرك وإثبات التوحيد، ونفي اتخاذ الله تعالى للولد، وتقرير عقيدة البعث والجزاء، فهي بمعنى سائر السور التي كانت تتلى للدعوة، ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم النبيين، وصدق كتابه الحكيم. وأما سورة العنكبوت وسورة الروم فقد افتتحت كل منهما بعد { الم } بذكر أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة، فالأول الفتنة في الدين، وهي إيذاء الأقوياء للضعفاء، واضطهادهم لأجل صرفهم عن دينهم بالقوة القاهرة. كان مشركو قريش يظنون أنهم يطفئون الإِسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه لا سيما الضعفاء الذين لم يكن لهم ناصر من الأقوياء بحمية نسب ولا رابطة ولاء، وكان المضطهدون من المؤمنين لا يدركون حكمة الله في ظهور أعدائه عليهم، فبين الله في فاتحة هذه السورة أن الفتنة في الدين من سننه تعالى في نظام الاجتماع، يمتاز بها الصادقون من الكاذبين، ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وتكون العاقبة للمتقين الصابرين، فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها. والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإِنباء بأمر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل وصول خبره إلى قومه، والإِنباء بما سيعقبه مما هو في طوايا الغيب، ذلك أن دولة فارس غلبت الروم في القتال الذي كان قد طال أمره بينهما، فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم الفرس في مدى بضع سنين، وقد صدق الخبر ونجز الوعد، فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات القرآن، والآيات المثبتة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو فات مَن تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم مِن أولها لما فهموا مما بعدها شيئا، فكانت جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع، المنبهة للأذهان، وكان هذا بعد انتشار الاسلام بعض الانتشار وتصدي رؤساء قريش لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس، ولا سيما في موسم الحج، وكان السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون، كما أخبر عنهم سبحانه في قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }** [فصلت: 26]. وأما سورة (ن) ففاتحتها وخاتمتها في بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، ودفع شبهة الجنون عنه، وهي أول ما نزل بعد سورة العلق وكانت شبهة رميه - حماه الله وكرمه - بتهمة الجنون مما يتبادر إلى الأذهان من غير عداوة ولا مكابرة، فإن رجلا أمينا فقيرا وادعا سَلَماً ليس برئيس قوم ولا قائد جند، ولم يكن ذا تأثير في الشعب بخطابة ولا شعر، يدعي أن جميع البشر على ضلال الكفر والفسق، وأنه مرسل من الله لهداية الخلق، وأن دينه سيهدي العرب والعجم، وإصلاح شرعه سيعم جميع الأمم، لا يستغرب من مدارك أولئك المشركين الجاهلين بسنن الله في الأمم، وآياته في تأييد المرسلين، أن يكون أول ما يصفون به صاحب هذه الدعوة قبل ظهور الآيات والعلوم بقولهم: إنه لمجنون، وبعد ظهورها بقولهم: ساحر أو كاهن أو مجنون، وبعد ظهور العلم والعرفان بقولهم: معلم مجنون:**{ كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }** [الذاريات: 52 - 53]. نعم؛ قد قيل إن (ن) هنا بمعنى الدواة، ولذلك قرن بالقلم لبيان أن هذا الدين يقوم بالعلم والكتابة، كما قال في أول ما نزل عليه قبلها:**{ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ }** [العلق: 3 - 4]. وقيل إنه بمعنى الحوت، لأن في السورة ذكرا لصاحب الحوت - يونس عليه السلام -، ولو صح هذا أو ذاك لما كتبت النون مفردة ونطقت ساكنة، بل كانت تذكر مركبة ومعربة، كقوله:**{ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً.. }** [الأنبياء: 87] وإنما يصح أن يكون فيها إشارة إلى ما ذكر كما يصح في سائر تلك الحروف أن تكون فيها إشارات إلى معاني معينة تظهر لبعض الناس دون بعض، أو غير معينة تذهب فيها الأفهام مذاهب تفيد أصحابها علما أو عبرة، بشرط أن تتفق مع هداية القرآن، وإن لم يصح أن يقال إنها مرادة لله تعالى بحسب دلالة الألفاظ العربية على معانيها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأتبع ذلك ذكر أمثلة، منها ما أوردناه في القول السادس عن بعض السلف أن هذه الحروف ترمز إلى أسماء وصفات وأفعال لله عز وجل. ثم ذكر عقب هذا أن ما أورده من هذه المناسبات اللطيفة لا يتنافى مع ما اختاره في تفسير سورتي البقرة وآل عمران أن هذه الحروف أسماء للسور المصدرة بها. والخلاصة أنه يستفاد من كلامه أن هذه الفواتح أريد بها التنبيه على ما سيعقبها كسائر أدوات الافتتاح - وهو رأي لعله لم يسبق إليه - غير أن كون القرآن لا يخرج وضعه في حروفه وكلماته عما تعورف عليه بين العرب يمنع ذلك، إذ لم يعهد من العرب التنبيه بمثل هذه الكلمات بل للتنبيه عندهم كلمات معهودة، والأقرب - حسبما أرى - أن تكون هذه المناسبات اللطيفة التي وفق هذا العلامة العَيْلم لاستظهارها مؤيدة لرأي من يرى أن سرد هذه الفواتح لتنبيه الغافلين بأن القرآن لم يأت بجديد من الحروف والكلمات عما هو معهود عند العرب وإنما سرت في حروفه وكلماته نفخة من روح الله عز وجل الذي أنزله بعلمه فتجاوز بلاغات جميع بلغاء الدنيا حتى أن الثقلين لو تظاهروا على الإِتيان بشيء من مثله لارتدوا خاسئين. وما أروع التذييل الذي أتبعه شهيد الإِسلام سيد قطب في ظلاله، هذا الرأي الذي اختاره وعول عليه حيث قال: والشأن في هذا الاعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا، وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس، إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرَّة أو آنية أو أسطوانة أو هيكل أو جهاز كائن في دقته ما يكون، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة، حياة نابضة خافقة تنطوي على ذلك السر الالهي المُعْجِز سر الحياة، ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر، وهكذا القرآن، حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل الله منها قرآنا وفرقانا، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة. الرابع عشرة: أنها أريد بها تعليم العرب الأميين للحروف المقطعة، كما يعلم الصبيان، فإذا وردت عليهم بعد ذلك مركبة كانت أسهل عليهم، وهو قول عبدالعزيز بن يحيى، وهذا لأن العرب ندر فيهم من قرأ وكتب لأن عنايتهم كانت موجهة إلى فنون الفروسية وطرائق القتال وكان جهلهم أهل بادية لا يدعوهم داع إلى تعلم الكتابة والقراءة، وإذا وجد بينهم من تعلمها فلا يكون إلا في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز، ومع ذلك كانوا قلة نادرة مغمورة بالسواد الأعظم من الأميين ومن حيث أن القرآن نزل قاضيا على الأمية كانت مجموعة من سوره مفتتحة بهذه الفواتح المقتضبة للتهجي الذي هو مفتاح القراءة والكتابة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واعترض بأن الحروف المصدرة بها في السور ليست جميع حروف المعجم وإنما هي نصفها كما بينه صاحب الكشاف وسيأتي إن شاء الله. الخامس عشر: أنها حروف أريد بها التنبيه كأدوات النداء، نحو يا فلان التي يراد بها إيقاظ ذهن السامع وهو محكي عن ثعلب والأخفش وأبي عبيدة. قال ابن عطية: كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل: وفي معناه قول الفخر الرازي في تفسير فاتحة العنكبوت: إن الحكيم إذا خاطب من يكون في محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال، يقدم على الكلام المقصود شيئا غيره ليلتفت المخاطب لسببه إليه، ويقبل بفكره عليه، ثم يشرع في المقصود، وذلك المقدم قد يكون كلاما ذا معنى مفهوم كقول القائل: اسمع واجعل بالك إلي وكن لي، وقد يكون شيئا هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل: أزيد ويا زيد وألا يا زيد، وقد يكون صوتا غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الانسان بيديه ليقبل السامع عليه، ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والمقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر، ولهذا ينادى القريب بالهمزة فيقال: أزيد، والبعيد بيا، فيقال: يا زيد، والعاقل ينبه أولا فيقال: ألا يا زيد. ثم قال: إذا ثبت هذا فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان ولكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم أن يقدم في خطابه حروفا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إن كانت لا يفهم معناها كانت أتم فائدة لأن المقصود بها إقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعدها، فلو كانت كلاما منظوما وقولا مفهوما لربما ظن سامعها أنها غاية المقصود، وليس شيء وراءها فيقطع التفاته عن المتكلم، أما إن كانت صوتا بلا معنى كانت أدعى إلى إقبال السامع واستدامة إصغائه للمتكلم لعلمه أن وراءها غاية لم يصل إليها. وهذا القول يتفق مع ما تقدم نقله عن السيد رشيد رضا مما فصله في تفسير سورة الأعراف من المنار، وقد تقدم ما فيه ثم فلا داعي إلى تكراره، غير أني أضيف إلى ما هناك أن مجيء هذه الفواتح على غير وتيرة واحدة مما يضعف هذا القول، فاختلافها بحيث تأتي تارة على حرف وتارة على حرفين إلى خمسة أحرف، يدل على أن هذا التفاوت لحكمة مقصودة، فلا تحمل على قصد إيقاظ السامع وحده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | السادس عشر: أن تصدير بعض السور بهذه الفواتح أريد به شد انتباه السامعين إلى معجزة القرآن المنزل على النبي الأمي، وذلك أن النطق بهذه الحروف مركبة في الكلمات أمر تساوى فيه العرب، فلا فرق بين الأميين وأهل الكتاب منهم بخلاف النطق بأسمائها، فإنه كان نادرا لا يتجاوز القرّاء والكتّاب الذين خالطوا أهل الكتاب فاقتبسوا منهم معرفة الكتابة والقراءة، ويستبعد جدا النطق بها من أمي لم تسبق له قراءة ولا كتابة استبعاد القراءة والكتابة نفسها، كما قال سبحانه:**{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ }** [العنكبوت: 48]، فكان نطقه صلى الله عليه وسلم بها مع اشتهار عدم اقتباس شيء منها من الكتّاب والقرّاء معجزا إعجاز ما احتواه القرآن من أخبار لم يكن هو ولا قومه يعلمونها، ففي كلا الأمرين شهادة على عدم تلقيهما إلا من وحي الله، إذ مثلهما كمثل التكلم بلغة أجنبية لمن لم يسمعها من قبل. وتعقبه الامام ابن عاشور بأن الأمي لا تعسر عليه التهجية. السابع عشر: أنها أوردت هكذا ليصغي إليها المشركون لما فيها من الغرابة، فينصب في آذانهم ما يليها من المعاني التي يتدفق بها بيان الفرقان، وذلك أنهم كانوا يتصاممون عنه خشية تأثيره عليهم ببيانه البليغ، ومعناه الساطع، كما حكى الله عنهم قولهم:**{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }** [فصلت: 26]، فكانت هذه الفواتح وسيلة لإِنصاتهم. قاله قطرب، وهو قريب من بعض ما تقدم. الثامن عشر: أنها علامة لأهل الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم في سور الكتاب الذي ينزل على النبي المنتظر عليه أفضل الصلاة والسلام. التاسع عشر: أنها أوردت هكذا تنبيها على تركب كلمات القرآن من الحروف الحادثة التي يتركب منها سائر الكلام، ليكون في ذلك هدم لدعوى من يقول بقِدم القرآن من هذه الأمة، وذلك أن الله سبحانه علم أن قوما سيقولون ذلك، فأنزل هذه الحروف لتكون دليلا على بطلان معتقداتهم. وتعقبه ابن عاشور بأن هذا وهم، لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها. العشرون: أنها ثناء أثنى الله به على نفسه، روي عن ابن عباس وهو يرجع أيضا إلى بعض ما سبق. وأكثر هذه الأقوال ليس بحاجة إلى دليل على ضعفه، ومن ورائها أقوال أكثر منها، فإن ما قيل في هذه الفواتح يناهز مائة قول أو يتجاوزها، فما من اسم من أسماء الله أو صفة من صفاته فيه حرف من هذه الحروف إلا قيل إنه المراد بذلك الحرف، سواء كان في أوله أو وسطه أو آخره، ومما لا يمارى فيه أن الأقوال - وان جلت منزلة قائلها - إذا لم تعضدها الأدلة لا تعدو أن تكون دعاوى أعوزتها البينات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا كان العلماء المتقدمون تباروا حسب فهومهم في تبيان المراد بهذه الفواتح، فإن المتأخرين من فرسان علم التفسير المعاصرين لم يكونوا أقل منهم عناية بها، وقد مرّ بكم ما استظهره العلاّمة صاحب المنار من نكت لطيفة، وبدائع ظريفة تتعلق بها. وممن جرى في هذا المضمار شيخنا العلاّمة أبو إسحاق إبراهيم اطفيش - رحمه الله تعالى -، فقد سمعت منه في دروسه التفسيرية التي كان يلقيها بجزيرة زنجبار أيام زيارته لها عام 1380 هـ، ما رأيته من بعد منقولا عنه في كتاب (إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق) للدكتور حفني محمد شرف، وإليكم نص ما نقله عنه: إن فواتح السور من كتاب الله العزيز فيها من المعاني ما تحار فيه ألباب أساطين العلماء، فمع جمعها لعلوم شتى، فإن الفواتح المعجمة منها إذا نظرنا إلى كل سورة ابتدئت بحرف أو حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فإننا نستطيع إدراك معنى تلك الحروف المفردة في أول السورة بالمعاني التي مضت في السورة التي قبلها، وبالتأمل في هذه الحروف نرى أنها أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا رأي قال به السيوطي، فنجد قوله تعالى: { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } أن معنى الحرف (ن): نور، وأنه نداء مرخم، ونور من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول الله تعالى:**{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }** [المائدة: 15] وإن ذهب بعض المفسرين إلى معان أخرى في لفظ النون، ولكن القسم والآية بعده يدلان على أن المخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا رجعنا إلى سورة الملك قبلها فإننا نرى في أثناء تلك السورة ما يشعر بتهديد المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له، وفيها من الآيات المقرعة لهم المهددة بالعذاب في الدنيا والآخرة، فما يجتمع من كل هذه المعاني العظيمة يؤكد أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بالنور ليشعره الله بالأنس وارتفاع المكانة، وكذلك فاتحة سورة (ص) ومعناها يا صادق، و { طه } ومعناها يا طاهر، و { الم } ومعناها يا أيها المرسل، و { المر } ومعناها يا أيها الرسول، و { المص } ومعناها يا أيها المرسل الصادق، وأما { حم عسق } فمعناها يتضح بعد قراءة سورة فصلت، وما فيها من تهديدات متعددة لمشركي العرب، ولمشركي قريش، ثم ختم السورة بقوله تعالى:**{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ.. }** [فصلت: 53] الآية، ولو علمنا أن السورة نزلت في مكة وكان بعدها غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما كسر شوكة المشركين، فإننا نجد معنى حروف { حم عسق } يتضح ويدل على المعنى الآتي: يا أحمد - وهو من أسمائه - عذاب الله سيأتيهم قريبا. فتكون الحاء والميم إشارة إلى اسم الرسول، والعين إشارة إلى عذاب الله، والسين إلى إتيان العذاب مستقبلا، والقاف للدلالة على إتيانه قريبا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومعنى { كهيعص } - بعد ما في سورة الكهف من اشتداد الأمر على رسول الله وكثرة همومه من أمر المشركين - الاشارة إلى كمال هذا الأمر وهو النصر اليقيني فعليك بالصبر. فتكون الكاف إشارة إلى كماله، والهاء إشارة إلى هذا الأمر، والياء إلى يقيني بدليل قوله تعالى:**{ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ }** [الحجرات: 99] وهو النصر قطعا، والعين إشارة إلى الصبر، والمعنى لزم الصبر، كما لزمه زكريا - عليه السلام - ا هـ. والظاهر أن في هذا النقل سقطا لا تتم الفائدة بدون اعتباره، وتمام العبارة: فالعين إشارة إلى عليك، والصاد إشارة إلى الصبر. وقد لاحظ الناقل الدكتور حفني محمد شرف أن هذا الرأي ليس بجديد، وإنما الجديد فيه ربط السور القرآنية برباط الوحدة الفنية التي توجد في القرآن، كما أن هذا الرأي قائم على أن ترتيب السور القرآنية ترتيب إلهي، بدليل قوله تعالى:**{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }** [القيامة: 17]. كما لاحظ على هذا الرأي الاختلاف في معنى هذه الحروف، فمرة يجعلها الشيخ إشارة إلى أشياء، ومرة يجعل الحرف الواحد إسما للرسول ينادى مرخما أو غير مرخم، كما أنه فسر العين بتفسيرين مختلفين. وأضيف إلى ما قاله الدكتور حفني أن رأي الشيخ في هذه الفواتح لا يختلف عن رأي أغلب الذين حاولوا فك رموزها في عدم استناده إلى دليل، والقرائن التي استأنس بها لا تكفي لأن تكون سندا يُعتمد عليه في بيان ما غمض من معاني القرآن، ومما يوهن رأيه أنه يؤدي إلى الخروج ببعض كلمات القرآن عن مألوف أساليب العرب في الكلام، كقوله إن (ن) ترخيم لنور، فالمعروف في الترخيم أن لا يحذف فيه أكثر من حرف، وحكمته اختصار الكلام، ومن البديهي أن هذه الحكمة تتلاشى عند ما يحذف من نور حرفان، وينطق باسم الحرف الباقي بدلا من المسمى، فإن وزن (ن) هو وزن نور نفسه، فضلا عما في ذلك من مخالفة الأسلوب العربي في الترخيم، على أن استدلاله بقوله تعالى:**{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }** [المائدة: 15] لكون النور من أسمائه صلى الله عليه وسلم لا يتم لجواز عطف اسم على اسم، أو صفة على صفة مع اتحاد حقيقة المعطوف والمعطوف عليه لأجل ملاحظة بعض الاعتبارات، كما في قوله تعالى:**{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ }** [البقرة: 53] فإن الفرقان هو نفس الكتاب عند كثير من المفسرين، فلا يمنع أن يكون النور هو نفس الكتاب، وقد جاء صريحا تسميته بالنور في قوله عز وجل:**{ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }** [النساء: 174]، وقوله:**{ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا }** [الشورى: 52]، وقوله:**{ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا }** [التغابن: 8] كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نور الله في قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" هو حبل الله المتين ونوره المبين.. "** ويمكن الاستئناس لكون النور هو نفس الكتاب بإفراد الضمير المذكور بعدهما في الآية التالية وهي قوله تعالى:**{ يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ }** [المائدة: 16]. وقد أدلى المستشرقون من جانبهم بدلوهم في تفسير هذه الفواتح، وقد آثرت تنزيه هذا التفسير عن ذكر شيء مما قالوه، فإن آراءهم من السفسطة والسخف بحيث لا ينبغي لعاقل أن يشتغل بها، ولا عجب فإنهم ينطلقون في كل ما يكتبون أو يقولون عن الاسلام من مبدأ كراهيتهم له وحقدهم عليه. هذا وقد أتبع الزمخشري تفسيره لهذه الفواتح بذكر نُكَتٍ لطيفة ينبغي أن لا نغفل إيرادها لما فيها من الفوائد، وإليكم نص كلامه: " واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء، وهي: الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون. في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك ان فيها من المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المهجورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة نصفها: اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء. ثم إذا استقريت الكلمة وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة من المذكورة منها فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم، وإلزام الحجة إياهم، ومما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر. وقد كنت أظن ما يظنه الكثير أن الزمخشري هو رائد المفسرين في التنقيب عن لطائف هذه الأسرار، وممن كان يظن ذلك السيد الجرجاني، فبعد تحليله كلام الزمخشري في حواشيه على الكشاف قال: - مشيرا إلى هذه اللطائف - ربما لم يفطن لها قبل المصنف أحد من حذّاق العلماء المتبحرين. ولكني أثناء مطالعاتي لكتاب إعجاز القرآن للامام الباقلاني رأيت بعض ما أورده الزمخشري وهو دليل على أن الزمخشري مسبوق من قبل غيره من علماء القرآن، فإن الباقلاني سابق عليه زمنا، وذكر الدكتور حفني محمد شرف في كتابه إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق أن الباقلاني هو أيضا مسبوق إلى ذلك، غير أنه لم يذكر هذا السابق وإنما جُل المفسرين الذين عنوا ببحث هذه اللطائف قد اغترفوا من منهل الكشاف ونجد لهم في ذلك موقفين؛ موقف المؤيد وموقف المعارض. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أما المؤيدون فهم الغالبية العظمى، ونذكر من بينهم السيد الجرجاني، وأبا السعود، وناصر الدين بن المنير الاسكندري، وابن كثير، والبيضاوي، وقطب الأئمة، والمحقق الخليلي، ومن هؤلاء من أضاف لطائف أخرى إلى ما أورده الزمخشري، من شاء الوقوف عليها فليرجع إليها في مراجعها كتفسير البيضاوي، وهميان الزاد، وجوابات المحقق الخليلي. وأما المعارض فهو الشوكاني حيث قال في تفسيره فتح القدير: هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتد بها وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة والتبكيت كما قال فهذا متيسر بأن يقال لهم هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها، ليس هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتا وإلزاما يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح، هو أيضا مما لا يفهمه أحد من السامعين، ولا يتعقل شيئا منه فضلا عن أن يكون تبكيتا له وإلزاما للحجة أيّا كان، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه ولم يفهم السامع هذا ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله، ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا تتعلق به فائدة لجاهلي ولا إسلامي، ولا مقر ولا منكر، ولا مسلم ولا معارض، ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الرب سبحانه الذي أنزل كتابه للإِرشاد إلى شرائعه والهداية به. وهب أن هذه صناعة عجيبة، ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة، حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم، ولا مدخل لذلك فيما ذكر، وأيضا فلو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا أن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر، بل من عكسهما وضد رسمهما. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . إلى آخر ما قاله. والذي يستخلص من كلامه أن إعجاز القرآن الكريم كان ينبغي أن يكون مفهوما عند العرب الأميين الذين كان يجتاح ضلالاتهم بسبب بيانه، ويبدد شبهاتهم بشمس فرقانه، ولعمري إن القرآن حافل بالآيات البينات التي لم تقف في وجهها ضلالة من ضلالات الجاهلية، غير أن تألق حجته وإشراق معجزته ليسا محصورين إبان نزوله، فهو نداء الحق الذي لا يسكته مرور الزمن وتعاقب الأجيال، فما من زمن إلا وتتجلى فيه منه آيات باهرات تقف بالناس على صدق قوله وعدل حكمه، وأنه يستحيل أن يكون من عند غير الله. وإذا كان أئمة الضلال وقادة الجاهلية كانوا يتصاممون عن قوارع نذره، ويتعامون عن بوارق آياته، ويتواصون بذلك، فإن تلامذتهم في كل عصر لا ينفكون عن هذا المسلك، وكل رجائهم أن يكدروا صفوه ويطمسوا نوره بما يقذفونه في خضمه النوراني من الأكاذيب والشبه، وهو يغرق في أعماقه قذائفهم من غير أن يكون لها أي أثر على صفوه ونوره، وفي العصر الحديث طائفة من الملاحدة الأفاكين الذين منوا أنفسهم بالنجاح في هذه المحاولة، من بينهم من خلع عليه - من قبل أساتذته الذين اختاروه لهذا الغرض - لقب عميد الأدب العربي، فقد بلغ به جهله ووقاحته أن صرح بمحاولته اختصار القرآن لتجريده من الحشو الذي يدعيه فيه، وقد حفظ الله كتابه من كيد المتآمرين، وصانه عن أيدي العابثين، واستأصل بحجته شُبَهَ دعاوى المبطلين. وإذا كان هذا ديدن المتنطعين المحرومين من هدايته، في عصر نزوله، فما المانع أن يكون في طوايا آياته ما لم تنكشف أسراره للجيل الذي نزل فيه؟ وأن يكون مخبأ لمن يأتي من بعدهم ممن يكونون على شاكلتهم في الانطواء على عداوة الحق، ومحاربة الحقيقة، فلعل بعض المتنطعين حال تفتيشه عن الثغرات التي يتخيلها في القرآن يواجه بمثل هذه الآيات الدالة على عجز البشر عن الاتيان بمثله فيكون من نتيجة ذلك إما انصرافه عن الغي إلى الرشد، وإما افتضاحه وتحطم كيده، ومما لا يُشك فيه أن الاتيان بهذه الفواتح على النحو الذي أوضحه الزمخشري وغيره ليس من مقدور البشر ولا يضير هذا الإِعجاز كونه لم يتكشف للعرب الذين نزل بين ظهرانيهم، فإن نداء القرآن ليس قاصرا عليهم، وآياته لا تزال تتجدد بتجدد أطوار الناس، وتتجلى في كل عصر بما يقيم حجته على الخلق أجمعين،**{ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }** [القلم: 52]،**{ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ }** [ص: 88]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم { الۤمۤ } هي وسائر الألفاظ التي يتهجى بها كبا تا ثا أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها الكلمة لصدق حد الاسم المتفق عليه واعتوار خواصه المجمع عليها على كل منها، ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه كيف تنطقون في الباء من ضرب والكاف من لك؟ فقالوا: باء كاف، فقال إنما جئتم بالاسم لا الحرف/ وأنا أقول به كه. وما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: **" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: { آلۤم } حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف "** فالمراد به غير المصطلح إذ هو عرف جديد بل المعنى اللغوي وهو واحد حروف المباني فمعنى ألف حرف الخ مسمى ألف وهكذا ولعله صلى الله عليه وسلم سمى ذلك حرفاً باسم مدلوله فهو معنى حقيقي له وما قيل إنه سماه حرفاً مجازاً لكونه اسم الحرف وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء فإن أريد من { الۤمۤ } مفتتح سورة الفيل يكون المراد أيضاً منه مسماه وتكون الحسنات ثلاثين وفائدة النفي دفع توهم أن يكون المراد بالحرف فيمن قرأ حرفا الكلمة وإن أريد نحو ما هنا فالمراد نفسه ويكون عدد الحسنات حينئذٍ تسعين وفائدة الاستئناف دفع أن يراد بالحرف الجملة المستقلة كما في «الإبانة» لأبـي نصر عن ابن عباس قال: آخر حرف عارض به جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم**{ الۤمۤ \* ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 1-2] والمعنى لا أقول إن مجموع الأسماء الثلاثة حرف بل مسمى كل منها حرف وإنما لم يذكر تلك الحروف من حيث إنها أجزاء بأن يقابل ألف حرف ولام حرف تنبيهاً على أن المعتبر في عدد الحسنات الحروف المقروءة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر لا من حيث إنها أجزاء لتلك الأسماء فيكون عدد الحسنات في نحو ضرب ثلاثين. والحاصل أن الحروف المذكورة من حيث إنها مسميات تلك الأسماء أجزاء لجميع الكلم مفردة بقراءتها ومن حيث إنها أجزاء تلك الأسماء لا تكون مفردة إلا عند قراءة تلك الأسماء والمعتبر في عدد الحسنات الاعتبار الأول دون الثاني ذكر ذلك بعض المحققين ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة حيث جعلوا المسمى صدر كل اسم له، كما قاله ابن جني وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروفه جيم وإذا قلت ألف فأول حروفه ألف التي نطقت بها همزة ولما لم يمكن للواضع أن يبتدىء بالألف التي هي مدة ساكنة دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الابتداء بها فقالوا لا كما ـ لا ـ كما يقوله المعلمون لام ألف فإنه خطأ وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا إلى اللام بأختها في التعريف فكأنهم قصدوا ضرباً من المعاوضة فالألف هي أول حروف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة ويضاهي هذا في إيداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحمدلة والحوقلة وتسمية النحاة نحتاً وحكم أسماء الحروف سكون الإعجاز ما لم تكن معمولة وهل هي معربة أم مبنية أم لا؟ ولا خلاف مبني على الاختلاف في تفسير المعرب والمبني فالخلاف لفظي وللناس فيما يعشقون مذاهب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والبحث مستوفى في «كتبنا النحوية». وقد كثر الكلام في شأن أوائل السور والذي أطبق عليه الأكثر وهو مذهب سيبويه وغيره من المتقدمين أنها أسماء لها وسميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها وذلك كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وبصاد النحاس وبقاف الجبل، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربـي ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدى ولما أمكن التحدي به، وإن كانت مفهمة فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها بناءً على ذلك الإشعار أو غير ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب وظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل بلسان عربـي مبين/ فلا يحمل على ما ليس في لغتهم وعورض بوجوه، الأول أنا نجد سوراً كثيرة افتتحت بالم وحم والمقصود رفع الاشتباه، الثاني لو كانت أسماء لوردت ولاشتهرت بها والشهرة بخلافها كسورة البقرة وآل عمران، الثالث أن العرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين كبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم، الرابع أنه يؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، الخامس أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة واسم الشيء متأخر عنه فيلزم أن يكون متقدماً متأخراً معاً وهو محال. وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد، وعن الثاني بأنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم: **" يسۤ قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح "** وفي " السنن ": **" أن النبـي صلى الله عليه وسلم سجد في (صۤ) "** وإذا ثبت في البعض ثبت في الجميع إذ لا فارق مع أن شهرة أحد العلمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه إلا بعد التنقير لاشتهاره بغيره كأبـي هريرة وذي اليدين وعدم اشتهار بعضها لكونه مشتركاً فترك لاحتياجه إلى ضميمة كألم هنا، وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء مثلاً إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسماً واحداً فأما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد وردت التسمية بثلاثة ألفاظ كشاب قرناها، وسر من رأى، ودارابجرد وسوى سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، وعن الرابع بأن هذه التسمية من تسمية مؤلف بمفرد والمفرد غير المؤلف فلا اتحاد ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن غيره كصاد فهما متغايران ذاتاً وصفة، وعن الخامس بأن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل والجزء مقدم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه وهو الاسمية فلا محذور، وقال بعضهم: كونها أسماء الحروف المقطعة أقرب إلى التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره ولأنه الأمر المحقق وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصداً ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية وكلام سيبويه وغيره ليس نصاً فيها لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها، كما يقولون: قرأت بانت سعاد و { قُلْ هُوَ الله أحد } [الإخلاص: 1] أي ما أوله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الأعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبتت لها أحكامه على أن ما ذكر في الاعتراض الثالث مما لا محيص عنه إذ عدم وجود التسمية بثلاثة أسماء وأربعة وخمسة في كلام العرب مما لا شك فيه وما نقل عن سيبويه مجرد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد السند. هذا ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال والذي يغلب على الظن أن تحقيق ذلك علم مستور وسر محجوب عجزت العلماء ـ كما قال ابن عباس ـ عن إدراكه وقصرت خيول الخيال عن لحاقه، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه: لكل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور، وقال الشعبي: سر الله تعالى فلا تطلبوه: | **بين المحبين سر ليس يفشيه** | | **قول ولا قلم للخلق يحكيه** | | --- | --- | --- | فلا يعرفه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى وكلمه الضب والظبـي صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي الله تعالى عنهم بل متى جنى العبد ثمرة شجرة قرب النوافل علمها وغيرها بعلم الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما ذكره المستدل سابقاً من أنه لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل الخ فمهمل من القول وإن جل قائله لأنه إن أراد/ إفهام جميع الناس فلا نسلم أنه موجود في العلمية وإن أراد إفهام/ المخاطب بها وهو هنا الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما لا يشك فيه مؤمن وإن أراد جملة من الناس فيا حيهلا إذ أرباب الذوق يعرفونها وهم كثيرون في المحمديين والحمد لله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **نجوم سماء كلما انقض كوكب** | | **بدا كوكب تأوي إليه كواكبه** | | --- | --- | --- | وجهل أمثالنا بالمراد منها لا يضر فإن من الأفعال التي كلفنا بها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والاضطباع والطاعة في مثله على كمال الانقياد ونهاية التسليم فلم لا يجوز أن يأمرنا من لا يسئل عما يفعل جل شأنه بما لم نقف على معناه من الأقوال ويكون المقصود من ذلك ظهور كمال الانقياد من المأمور للآمر ونهاية التسليم والامتثال للحكيم القادر: | **لو قال تيها قف على جمر الغضى** | | **لوقفت ممتثلاً ولم أتوقف** | | --- | --- | --- | على أن فيه فائدة أخرى هي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود منه مع القطع بأن المتكلم به حكيم فإنه يبقى قلبه منقلباً إليه أبداً ومتلفتاً نحوه سرمداً ومتفكراً فيه وطائراً إلى وكره بقدامى ذهنه وخوافيه وباب التكليف اشتغال السر بذكر المحبوب والتفكر فيه وفي كلامه فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة ومنة منه عليه جسيمة ربما يرقى بواسطتها إلى حظائر القدس ومعالم الأنس وأول العشق خيال وهذا لا ينافي كون القرآن عربياً مبيناً مثلاً لأنه بالنسبة إلى من علمت. وأما التحدي فليس بجميع أجزائه وكون أول السورة مما ينبغي أن يكون مما يتحدى به غير مسلم. ومن عجائب هذه الفواتح أنها نصف حروف المعجم على قول وهي موجودة في تسع وعشرين سورة عدد الحروف كلها على قول، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة وقد تكلم الشيخ الأكبر قدس سره ((على سر عدد حروفها بالتكرار وعدد حروفها بغير تكرار وعلى جملتها في السور وعلى أن إفرادها في (صۤ) و (قۤ) و (نۤ) وتثنيتها في (طسۤ) و (طه) وأخواتهما وجمعها من ثلاثة فصاعداً ولم بلغت خمس حروف ولم وصل بعضها وقطع بعض؟ فقال قدس سره في «فتوحاته» أعاد الله تعالى علينا من طيب نفحاته ما حاصله: اعلم أن مبادىء السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة فجعلها تبارك وتعالى تسعاً وعشرين سورة وهو كمال الصورة**{ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ }** [يس: 39] والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجوده وهو سورة آل عمران [1-2] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ الۤمۤ \* ٱللَّه }** ولولا ذلك ما ثبتت الثمانية والعشرون وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفاً فالثمانية حقيقة البضع قال صلى الله عليه وسلم: **" الإيمان بضع وسبعون "** وهذه الحروف ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه الله فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفاً مفردة مبهمة فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات منا وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة فجاءت اثنتا عشرة موجودة وهذا هو الإنسان من هذا الفلك ومن فلك آخر متركب من أحد عشر ومن عشرة ومن تسعة ومن ثمانية حتى يصل إلى فلك الاثنين ولا يتحلل إلى الأحدية أبداً فإنها مما انفرد بها الحق سبحانه ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ وآخرها النون، فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك والنصف الآخر النون المعقولة عليها التي لو ظهرت للحس وانتقلت إلى عالم الروح لكانت دائرة محيطة ولكن أخفى هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها/ فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة فالشمس كاملة والقمر ناقص لأنه محو فصفة ضوئه معارة وهي الأمانة التي حملها وعلى قدر محوه وسراره إثباته وظهوره ثلاثة لثلاثة فثلاثة غروب القمر القلبـي الإلهي في الحضرة الأحدية وثلاثة طلوع القمر القلبـي الإلهي في الحضرة الربانية وما بينهما في الخروج والرجوع قدماً بقدم لا يختل أبداً ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع ومنها مفرد ومثنى ومجموع ثم نبه أن في كل وصل قطعاً وليس في كل قطع وصل فكل وصل يدل على فصل وليس كل فصل يدل على وصل والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع والفصل وحده في عين الفرق فما أفرده من هذا فإشارة إلى فناء رسم العبد أزلاً أو ما ثناه فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا وما جمعه فإشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى والإفراد للبحر الأزلي والجمع للبحر الأبدي والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيد والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام بينهما واسطة ليكون بينهما رابطة، فانظر إلى السطر الذي يقع عليه الخط من اللام، فتجد الألف إليه ينتهي أصلها وتجد الميم منه يبتدىء نشؤها ثم تنزل من أحسن تقويم وهو موضع السطر إلى أسفل سافلين منتهى تعريف الميم ونزول الألف إلى السطر مثل قوله: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " وهو أول عالم التركيب لأنه سماء آدم عليه السلام ويليه فلك النار فلذلك نزل إلى أول السطر فإنه سبحانه وتعالى نزل من مقام الأحدية إلى مقام الخليفة نزول تقدس وتنزيه لا نزول تمثيل وتشبيه وكانت اللام واسطة وهي نائبة مناب المكون والكون فهي القدرة التي عنها وجد العالم فأشبهت الألف في النزول إلى أول السطر؛ ولما كانت ممتزجة من المكون والكون فإنه سبحانه وتعالى لا يتصف بالقدرة على نفسه وإنما هو قادر على خلقه فكان وجه القدرة مصروفاً إلى الخلق فلا بد من تعلقها بهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولما كانت حقيقتها لا تتم بالوصول إلى السطر فتكون هي والألف على مرتبة واحدة طلبت بحقيقتها النزول تحت السطر أو عليه كما نزل الميم فنزلت إلى إيجاده ولم تتمكن أن تنزل على صورته فكان لا يوجد عنها إلا الميم فنزلت نصف دائرة حتى بلغت إلى السطر من غير الجهة التي نزلت منها فصارت نصف فلك محسوس تطلب نصف فلك معقول فكان منهما فلك دائر فكان العالم كله في ستة أيام أجناساً من أول يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة وبقي يوم السبت للانتقال من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال فصار آلمۤ فلكاً محيطاً من دار به علم الذات والصفات والأفعال والمفعولات فمن قرأها بهذه الحقيقة حضر بالكل للكل مع الكل)) إلى آخر ما قال، وذكر في كتاب «الاسرا إلى المقام الأسرى» ما يشير إلى دقائق أفكار وخفايا أسرار مبنية على أعداد الحروف وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنين وثلاثين وأول التفصيل من نوح إلى إشراق يوح ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحاً وتضعه يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى انخرام الطبيعة، ومما يستأنس به لذلك ما رواه العز بن عبد السلام أن علياً رضي الله تعالى عنه استخرج وقعة معاوية من**{ حـمۤ \* عۤسۤقۤ }** [الشورى: 1-2] واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في " تفسيره " فتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى:**{ الۤمۤ \* غُلِبَتِ ٱلرُّومُ }** [الروم: 1-2] وذكر الشيخ قدس سره كيفية استخراج ذلك بغير الطريق الذي ذكره وهو أن تأخذ عدد { الۤمۤ } بالجزم الصغير فيكون ثمانية وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية فتكون ستة عشر فتزيل الواحد الذي للألف للأس فتبقى خمسة عشر فتمسكها عندك ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير وهو الجزم فتضرب ثمانية البضع في أحد وسبعين واجعل ذلك كله سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة فتضيف إليها الخمسة عشر التي مسكتها عندك فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة/ سنة وهو زمان فتح بيت المقدس على قراءة (غلبت) بفتح الغين واللام و (سيغلبون) بضم الياء وفتح اللام انتهى وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم والبحر الخضم والنور الأتم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا** | | **ونور ولا نار وروح ولا جسم** | | --- | --- | --- | فاعلم: أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن ادعى قصراً فمن قصوره أو زعم أنه أتى بكثير فمن قلة نوره والعارف يقول باندماج جميع ما ذكروه في صدف فرائدها وامتزاج سائر ما سطروه في طمطام فوائدها فإن شئت فقل كما أنها مشتملة على هاتيك الأسرار يشير كل حرف منها إلى اسم من أسمائه تعالى وإن شئت فقل أتى بها هكذا لتكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن وإن شئت فقل جاءت كذلك ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلاً بضرب من الغرابة أنموذجاً لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط وأما من لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق ولا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبىء عن سر سري مبني على نهج عبقري بحيث يحار فيه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول وإن شئت فقل فيها جلب لإصغاء الأذهان وإلجام كل من يلغو من الكفار عند نزول القرآن لأنهم إذا سمعوا ما لم يفهموه من هذا النمط العجيب تركوا اللغط وتوفرت دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاءت مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل وفي ذلك ردّ شر كثير من عنادهم وعتوهم ولغوهم الذي كان إذ ذاك يظهر منهم وفي ذلك رحمة منه تعالى للمؤمنين ومنة للمستبصرين وإن شئت فقل إن بعض مركباتها بالمعنى الذي يفهمه أهل الله تعالى منها يصح إطلاقه عليه سبحانه فيجري ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال يا كهيعص ويا حمعسق على ظاهره، وإن أبيت فقل المراد يا منزلهما وإن شئت فقل غير ذلك حدث عن البحر ولا حرج. وعندي فيما نحن فيه لطائف وسبحان من لا تتناهى أسرار كلامه فقد أشار سبحانه بمفتتح الفاتحة حيث أتى به واضحاً إلى اسمه الظاهر وبمبدأ سورة البقرة إلى اسمه الباطن فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وأشار بتقديم الأول إلى أن الظاهر مقدم وبه عموم البعثة نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وأيضاً في الأول إشارة إلى مقام الجمع وفي الثاني رمز إلى الفرق بعد الجمع وأيضاً افتتاح هذه السورة بالمبهم ثم تعقيبه بالواضح فيه أتم مناسبة لقصة البقرة التي سميت السورة بها | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَٱدرَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }** [البقرة: 72] وأيضاً في الحروف رمز إلى ثلاثة أشياء فالألف إلى الشريعة واللام إلى الطريقة والميم إلى الحقيقة فهناك يكون العبد كالدائرة نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله تعالى بالكلية وأيضاً الألف من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخرها فيشير بها إلى أن أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله عز وجل، وأيضاً في ذلك إشارة إلى سر التثليث فالألف مشير إلى الله تعالى واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في الألف ست صفات من صفات الله تعالى الابتداء والله تعالى هو الأول والاستواء والله تعالى هو العدل الذي لا يجور والانفراد والله تعالى هو الفرد وعدم الاتصال بحرف وهو سبحانه بائن عن خلقه وحاجة الحروف إليها مع عدم حاجتها وأنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني ومعناها الألفة وبالله تعالى الائتلاف، وبقيت أسرار وأي أسرار يغار عليها العارف الغيور/ من الأغيار. ومن الظرائف أن بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف لخلافة الأمير علي كرم الله تعالى وجهه فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يخرج منه (صراط علي حق نمسكه) ولك أيها السني أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطاباً للشيعي وتذكيراً له بما ورد في حق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهو (طرق سمعك النصيحة) وهذا مثل ما ذكروه حرفاً بحرف وإن شئت قلت (صح طريقك مع السنة) ولعله أولى وألطف، وبالجملة عجائب هذه الفواتح لا تنفد ولا يحصرها العد: | **وكل يدعي وصلاً لليلى** | | **وليلى لا تقر لهم بذاكا** | | --- | --- | --- | وقد اختلف الناس في إعرابها حسبما اختلفت أقوالهم فيها فإن جعلت أسماء للسور مثلاً كان لها حظ من الإعراب رفعاً ونصباً وجراً فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والنصب بتقدير فعل القسم أو فعل يناسب المقام وجاز النصب بتقدير فعل القسم فيما وقع بعده مجرور مع الواو نحو**{ قۤ وَٱلْقُرْءانِ }** [قۤ: 1] مع أنه يلزم المخالفة بين المتعاطفين في الإعراب إن جعلت الواو للعطف واجتماع قسمين على شيء واحد إن جعلت للقسم وهو مستكره كما قاله الخليل وسيبويه لأن المعطوف عليه في محل يقع فيه المجرور فيكون العطف على المحل ويقدر الجواب من جنس ما بعد إن كانت للقسم أو لا حاجة للتقدير ويكتفي بجواب واحد إذ لا مانع من جعل أحد القسمين مؤكداً للآخر من غير عطف أو يقال هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك ولا وجه وجيه للاستكراه وإن كان للضلالة أب فالتقليد أبوها والجر على إضمار حرف القسم وقول ابن هشام إنه وهم لأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه وبأنه لا جواب للقسم في سورة البقرة ونحوها ولا يصح جعل ما بعد جواباً وحذفت اللام كحذفها في قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **ورب السماوات العلى وبروجها** | | **والأرض وما فيها المقدر كائن** | | --- | --- | --- | لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم وهم لا يخفى على الوليد إذ مذهبنا كوفي واتباع البصري ليس بفرض وكثيراً ما يستغنى عن الجواب بما يدل عليه والمقسم عليه مضمون ما بعده وهو قرينة قريبة وبهذا صرح في «التسهيل وشروحه»، وحديث الاستطالة ليس بلازم بل هو الأغلب كما صرح به ابن مالك. ثم ما كان من هذه الفواتح مفرداً كصۤ أو موازناً له كحمۤ بزنة قابيل يتأتى فيه الإعراب لفظاً أو محلاً بأن يسكن حكاية لحاله قبل ويقدر إعرابه وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث وما خالفهما نحو كهيعص يحكى لا غير وجازت الحكاية في هذه الأسماء مع أنها مختصة بالأعلام التي نقلت من الجمل كتأبط شراً لرعاية صورها المنبئة عن نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت أعلاماً لأنفسها كضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى في الأشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية لأنها لكثرة استعمالها معدودة موقوفة صارت هذه الحالة كأنها أصل فلما جعلت أعلاماً جازت حكايتها على تلك الهيئة الراسخة تنبيهاً على أن فيها سمة من ملاحظة الأصل وهو الحروف المبسوطة والمقصود الإيقاظ وقرع العصا فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء أعلاماً للسور وإلا فلم تجز الحكاية كذا في «الحواشي الشريفة الشريفية» وإطباق النحاة على أن المفردات تحكى بعد من وأي الاستفهاميتين وبدونهما كقولهم دعنا من تمرتان مخالف لدعوى الاختصاص التي حكاها كما لا يخفى وإن أبقيت على معانيها مسرودة على نمط التعديد لم تعرب لعدم المقتضي والعامل وكذا إذا جعلت أبعاضاً على الصحيح أو مزيدة/ للفصل مثلاً نعم إن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كانت في حيز الرفع على ما مر وإن جعلت مقسماً بها يكون كل كلمة منها منصوباً أو مجروراً على اللغتين في الله لافعلن وهل ذلك المجموع نحو { الۤـمۤ } و**{ حـمۤ }** [غافر: 1] أو للألف والحاء مثلاً على طريق الرمان حلو حامض؟ خلاف والظاهر الأول وجوز بعضهم الرفع بالابتداء والخبر قسمي محذوفاً وتصريح الرضى باختصاص ذلك فيما إذا كان المبتدأ صريحاً في القسمية يجعله غير مرتضى، وجعل بعضهم النصب في البعض مخصوصاً بما إذا لم يمنع مانع كما في**{ ص وَٱلْقُرْءانِ }** [ص: 1] فيتعين الجر للزوم المخالفة بين المتعاطفين واجتماع القسمين حينئذ وفيه ما تقدم فلا تغفل، وبقيت أقوال مبنية على أقوال لا أظنها تخفى عليك إن أحطت خبراً بما قدمناه لديك فتدبر، وفي كون هذه الفواتح آية خلاف فقال الكوفيون: { الۤـمۤ } آية أينما وقعت وكذلك (آلمصۤ) و (طۤسمۤ) وأخواتهما و (طه) و (يسۤ) و (حمۤ) وأخواتها و (كۤهيعۤصۤ) آية و (حـمۤ عۤسۤقۤ) آيتان وأما (الۤمۤر) وأخواتها الخمس فليست بآية وكذلك (طسۤ) و (صۤ) و (قۤ) و (نۤ)، وقال البصريون: ليس شيء من ذلك آية وفي «المرشد» أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة وليس بشيء كقول بعض إن { الۤـمۤ } في آل عمران [1] ليست بآية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور، وفي فواتح سور أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي**{ ن والقلم }** القلم 1، وأَخْلِقْ بها أن تكون مثار حيرة ومصدر، أقوال متعددة وأبحاث كثيرة، ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفاً وهي نصف حروف الهجاء وأكثر السور التي وقعت فيها هذه الحروف السورُ المكية عدا البقرة وآل عمران، والحروف الواقعة في السور هي أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي، بعضها تكرر في سور وبعضها لم يتكرر وهي من القرآن لا محالة ومن المتشابه في تأويلها. ولا خلاف أن هاته الفواتح حين ينطق بها القارىء أسماء الحروف التهجي التي يُنطق في الكلام بمسمياتها وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل في مخارج الحروف ولذلك إنما يقول القارىء أَلِفْ لاَمْ ميمْ مثلاً ولا يقول أَلَمَ. وإنما كتبوها في المصاحف بصور الحروف التي يتهجى بها في الكلام التي يَقُوم رسمُ شكلها مقام المنطوق به في الكلام ولم يكتبوها بدَوَالِّ ما يقرأُونَها به في القرآن لأن المقصود التهجي بها وحروف التهجي تكتب بصورها لا بأسمائها. وقيل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال المندرجة تحتها، وإلى هنا خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلاً لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساماً أقسم بها لتشريف قدر الكتابة، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها، فإن الأقوال الثاني والسابع والثامن والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها، وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال. وعرفت اسميتها من دليلين أحدهما اعتوار أحوال الأسماء عليها مثل التعريف حين تقول الألف، والباء، ومثل الجمع حين تقول الجيمات، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة والثاني ما حكاه سيبويه في «كتابه» قال الخليل يوماً وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التي في لك والباء التي في ضرب فقيل نقول كافْ، باء، فقال إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف وقال أقول كه، وبه يعني بهاء وقعت في آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان عند النطق إذْ أبقيت على حرف واحد لا يظهر في النطق به مفرداً. والذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخِلِه وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولاً ولشدة خفاء المراد من هذه الحروف لم أر بداً من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها بتنويعها إلى ثلاثة أنواع النوع الأول يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كَلم أو جمل، فكانت أسراراً يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة ويندرج تحت هذا النوع ثمانية أقوال الأول أنها علم استأثر " الله تعالى " به ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة ولعلهم يثبتون إطلاع الله على المقصود منها رسوله صلى الله عليه وسلم وقاله الشعبي وسفيان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثاني أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى المفتتحة بحروف مماثلة لهذه الحروف المقطعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله محمد بن القرظي أو الربيع بن أنس " فألم " مثلاً الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي، واللام إلى لطيف، والميم إلى ملك أو مجيد، ونحو ذلك، وعلى هذا يحتاج في بيانها إلى توقيف وأنى لهم به. الثالث أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة " فألم " مثلاً، الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، قاله الضحاك، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها، ولعلنا سننبه على ذلك في مواضعه. الرابع جزم الشيخ محي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة في الفصل 27 منه من كتابه «الفتوحات» أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها، فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خبر، ويقولون هذا مؤمن حقاً نطق حقاً وأخبر بحق فيستغفرون له، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى. الخامس أنها رموز كلها لأسماء النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه خاصة قاله الشيخ محمد بن صالح المعروف بابن مُلوكة التونسي في «رسالة» له قال إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به عن طائفة من أسمائة الكريمة وأوصافه الخاصة، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم، واللام مكنيّ به عن صفاته مثل لب الوجود، والميم مكني به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر، فكلها منادًى بحرف نداء مقدر بدليل ظهور ذلك الحرف في يس. ولم يَعْزُ هذا القول إلى أحد، وعلق على هذه «الرسالة» تلميذه شيخ الإسلام محمد معاوية «تعليقة» أكثر فيها من التعداد، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد وهي وأصلها موجودة بخزنة جامع الزيتونة بتونس عدد 514 ويرُدُّ هذا القولَ التزام حذف حرف النداء وما قاله من ظهوره في يس مبني على قول من قال إن يس بمعنى يا سيد وهو ضعيف لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء ولأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولاً لنحو الياء من | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كهيعص }** مريم 1. القول السادس أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجُمَّل قاله أبو العالية أخذاً بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله بن وثاب قال «جاء أبو ياسر بن أخطب وحُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوا رسول الله عن ألم وقالوا هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم ص والمر فقالوا اشتبه علينا الأمر فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟» ا هـ. وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقريرٌ لاعتبارها رموزاً لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيداً لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل ومرجعُها إلى المَنع والمانع لا مذهب له. وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم فهو تعجب من جهلهم. القول السابع أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو ألم أنا الله أعلم، وألمر أنا الله أرى، وألـمص أنا الله أعلم وأفصل. رواه أبو الضحى عن ابن عباس، ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرفِ أول الكلمة، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها. ونظروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلاً من كلمات تتألف من تلك الحروف نظماً ونثراً، من ذلك قول زهير | **بالخير خيرات وإن شرٌّ فَا ولا أُريد الشر إلا أنْ تَا** | | | | --- | --- | --- | أراد وإن شر فشر وأراد إلا أن تَشا، فأتى بحرف من كل جملة. وقال الآخر قرطبي | **ناداهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعاً كلهم ألا فا** | | | | --- | --- | --- | أراد بالحرف الأول ألا تركبون، وبالثاني ألا فاركبوا. وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي بن حاتم | **قلت لها قفي لنا قالتْ قافْ لا تَحْسِبَنِّي قد نسيت الإيجاف** | | | | --- | --- | --- | أراد قالت وقفت. وفي الحديث **" من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة "** قال شقيق هو أن يقول أُقْ مكان اقتل. وفي الحديث أيضاً «كفى بالسيف شَا»، أي شاهداً. وفي «كامل المبرد» من قصيدة لعلي بن عيسى القمي وهو مولد | **ولبس العجاجة والخافقا تِ تريك المَنَا برؤوس الأسل** | | | | --- | --- | --- | أي تريك المنايا. وفي «تلع» من «صحاح الجوهري» قال لبيد | **دَرَسَ المَنَا بمتالعٍ فأبَانِ فتقادمت بالحبس فالسوبان** | | | | --- | --- | --- | أراد درس المنازل. وقال علقمة الفحل «خصائص» ص 82 | **كأن إبريقهم ظبي على شرف مفدم بِسَبَا الكَتان ملثوم** | | | | --- | --- | --- | أراد بسبائب الكتان. وقال الراجز | **حين ألقت بقُباء بَرْكها واستمر القتلُ في عبد الأشَل** | | | | --- | --- | --- | أي عبد الأشهل. وقول أبي دؤاد | **يدرين حَندل حائر لجنوبها فكأنما تُذْكى سنابكها الحُبَا** | | | | --- | --- | --- | أراد الحباحب. وقال الأخطل | **أمست مَنَاهَا بأرض ما يبلغها بصاحب الهم إلا الجَسْرَة الأُجُد** | | | | --- | --- | --- | أراد منازلها. ووقع «طراز المجالس» - المجلس للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **لم أنس بدراً زارني ليلة مستوفزاً مطلعاً للخطر فلم يقم إلا بمقدار ما قلت له أهلاً وسهلاً ومَرْ** | | | | --- | --- | --- | أراد بعض كلمة مرحباً وقد أكثرت من شواهده توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب ولست أريد بذلك تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه وليس معها ما يشير إليه مع التورية بجعل مَرَّ من المرور. القول الثامن أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب، وجعَلها في «الفتوحات» في الباب الثاني إيماء إلى شعب الإيمان، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفاً والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم **" الإيمان بضع وسبعون شعبة "** فهذه الحروف هي شعب الإيمان، ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها. وكيف يزعم زاعم أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند، ولولا أنهم فهموا منها معنى معروفاً دلت عليه القرائن لسأل السائلون وتورك المعاندون. قال القاضي أبو بكر بن العربي " لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة " قلت وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا**{ وما الرحمٰن }** الفرقان 60، وأما ما استشهدوا به من بيت زهير وغيره فهو من نوادر كلام العرب، ومما أخرج مخرج الألغاز والتمليح وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد. النوع الثاني يجمع الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالاً وفيه من الأقوال أربعة. التاسع في عداد الأقوال في أولها لجماعة من العلماء والمتكلمين واختاره الفخر أنها أسماء للسور التي وقعت فيها، قاله زيد بن أسلم ونسب لسيبويه في «كتابه» باب أسماء السور من أبواب ما لا ينصرف أو للخليل ونسبه صاحب «الكشاف» للأكثر ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور، وسميت بها كما نقول الكراسة ب والرزمة ج ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لاَمَ الطائي والد حارثة، وسموا الذهب عَيْن، والسحاب غَيْن، والحوتَ نونْ، والجبل قاف، وأقول، وحاء قبيلة من مَذحج، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي | **يذكرني حَامِيمَ والرمحُ شاجر فهَلاَّ تلا حاميمَ قبل التقدم** | | | | --- | --- | --- | يريد**{ حم عسق }** الشورى 1، 2 التي فيها**{ قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى }** الشورى 23. ويبعد هذا القول بعداً مَّا إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل آلم وآلر وحم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها. القول العاشر وقال جماعة إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها قاله الكلبي والسدي وقتادة ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن، نحو**{ آلم غلبت الروم }** الروم 1، 2، و**{ آلم أحسب الناس }** العنكبوت 1، 2. القول الحادي عشر أن كل حروفٍ مركبةِ منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عـسـق وسكت عن الحروف المفردة فيُرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبراً أو نحوه عن اسم الله مثل**{ الم ذلك الكتاب }** البقرة 1، 2 و**{ آلمص كتاب أنزل إليك }** الأعراف 1، 2. الثاني عشر قال الماوردي هي أفعال فإن حروف المص كتاب فعل ألمّ بمعنى نزل فالمراد { آلم ذلك الكتاب } أي نزل عليكم، ويبطل كلامه أنها لا تُقْرَأ بصيغ الأفعال على أن هذا لا يتأتى في جميعها نحو كهيعـص وأَلمص والر ولولا غرابة هذا القول لكان حرياً بالإعراض عنه. النوع الثالث تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك وفيه من الأقوال القول الثالث عشر أن هاته الحروف أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويهاً بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى وأصول التخاطب والعلوم قاله الأخفش، وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت مقسماً بها لذكر حرف القسم إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين وبأنها قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو**{ ن والقلم }** القلم 1 و**{ حم والكتاب المبين }** الزخرف 1، قال صاحب الكشاف وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد حتى قال الخليل في قوله تعالى**{ والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى }** الليل 1، 2 أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف، والجواب عن هذا أن اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه وأن كراهية جمع قسمين تندفع بجعل الواو التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين، قال النابغة | **واللَّهِ واللَّهِ لَنِعْمَ الفتى الْـ ـحارثُ لا النكسُ ولا الخاملُ** | | | | --- | --- | --- | القول الرابع عشر أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتاً للمشركين وإيقاظاً لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تُحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضاً بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتّاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزاً لا معذرة لهم فيه، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء، قال في «الكشاف» وهذا القول من القوة والخلافة بالقبول بمنزلة، وقلت وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فأتوا بسورة من مثله }** البقرة 23 فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ، ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في**{ كهيعص }** مريم 1 و**{ الم أحسِب الناسُ }** العنكبوت 1، 2 و**{ الم غلبت الروم }** الروم 1، 2 ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ولعله لمراعاة فصاحة الكلام، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي، ويؤيده أيضاً الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء والهاء والراء والطاء والحاء قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتَّاب طلباً للخفة كما سيأتي قريباً في آخر هذا المبحث من تفسير { الم }. القول الخامس عشر أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة، ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز بن يحيى، يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيء وبعض قريش وكنانة من أهل مكة، ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة، فكانوا بادىء الأمر أهل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق بعد تبلبل الألسن، والعراق مهد القراءة والكتابة وقد أثبت التاريخ أن ضخم بن إرم أول من علم العرب الكتابة ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين، ثم إن العرب لما بادوا أي سكنوا البادية تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة، وشغلهم حالهم عن تلقي مبادىء العلوم، فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها فكانت طيء بنجد يعرفون القراءة والكتابة، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيء يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد، وكان أهل الحيرة يعلمون الكتابة فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة، وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين، قد تناسوا الكتابة إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب، فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك فكان من لا مال له من الأسرى يفتدي بأن يعلم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة فتعلم زيد بن ثابت في جماعة، وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين. ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم فقد ذكروا قصة وهي أن المحض بن جندل من أهل مدين وكان ملكاً كان له ستة أبناء وهم أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، فجعل أبناءه ملوكاً على بلاد مدين وما حولها فجعل أبجد بمكة وجعل هوزاً وحطياً بالطائف ونجد، وجعل الثلاثة الباقين بمدين، وأن كلمناً كان في زمن شعيب وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها ثخذ وضغط فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين فألحقها أهل الحجاز، وحقاً إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها كما سيأتي بيانه من كلام «الكشاف». القول السادس عشر أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يَافتى لإيقاظ ذهن السامع قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة، قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لاَ وبل لا، قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو مشغول البال يُقدِّم على الكلام المقصود شيئاً ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاماً مثل النداء وحروفِ الاستفتاح، وقد يكون المقدم صوتاً كمن يصفق ليُقْبِل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفاً من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت للتنبيه على غرض مهم. القول السابع عشر أنها إعجاز بالفعل وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بيِّن البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | القول الثامن عشر أن الكفار كانوا يُعرضون عن سماع القرآن فقالوا**{ لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه }** فصلت 26 فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قَصد، قاله قُطرب وهو قريب من القول السادس عشر. القول التاسع عشر أنها علامة لأهل الكتاب وُعدوا بها من قِبَل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة. القول العشرون قال التبريزي علم الله أن قوماً سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام، وهذا وهم لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها. القول الحادي والعشرون روي عن ابن عباس أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول أو الثاني. هذا جماع الأقوال، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف. لاَمْ. ميمْ دون أن يقرأوا ألَمْ وأن رسْمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول، فإن الأقوال الثاني، والسابع، والثامن، والثاني عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبَة من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها. فإذا تعين هذان النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتمها واهياً، خلَص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي كون تلك الحروف لتبكيتِ المعاندين وتسجيلاً لعجزهم عن المعارضة، أو كونُها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونُها أقساماً أقسم بها لتشريف قدر الكتابة وتنبيهِ العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأُمية وأرجح هذه الأقوال الثلاثةِ هو أولها. قال في «الكشاف» ما ورد في هذه الفواتح من أسماء الحروف هو نصف أسامي حروف المعجم إذ هي أربعة عشر وهي الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، وهذه الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس صفات الحروف ففيها من المهموسة نصفها الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون، ومن الشديدة نصفها الألف، والكاف، والطاء، والقاف، ومن الرخوة نصفها اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون. ومن المُطْبَقَة نصفها الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها القاف، والصاد، والطاء. ومن المستَفِلة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القَلْقلة نصفها القاف، والطاء. ثم إن الحروف التي ألغى ذكرها مكثورة بالمذكورة، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ا هـ وزاد البيضاوي على ذلك أصنافاً أخرى من صفات الحروف لا نطيل بها فمن شاء فليراجعها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومحصول كلامهما أنه قد قضى بذكر ما ذُكر من الحروف وإهمال ذكر ما أهمل منها حقُّ التمثيل لأنواع الصفات بذكر النصف، وترك النصف من باب «وليُقس ما لم يقل» لحصول الغرض وهو الإشارة إلى العناية بالكتابة، وحقُّ الإيجاز في الكلام. فيكون ذكر مجموع هذه الفواتح في سور القرآن من المعجزات العلمية وهي المذكورة في الوجه الثالث من وجوه الإعجاز التي تقدمت في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير. وكيفيةُ النطقِ أن يُنطق بها موقوفة دون علاماتِ إعراب على حكم الأسماء المسرودة إذ لم تكن معمولة لعوامل فحَالها كحال الأعداد المسرودة حين تقول ثلاثهْ أربعهْ خمسهْ. وكحال أسماء الأشياء التي تُملى على الجارد لها، إذ تقول مثلاً ثَوْب، بِساطْ، سَيْف، دون إعراب، ومن أعربها كان مخطئاً. ولذلك نطق القراء بها ساكنة سكون الموقوف عليه فما كان منها صحيح الآخِرِ نُطق به ساكناً نحو أَلِفْ، لاَمْ، مِيمْ. وما كان من أسماء الحروف ممدود الآخر نُطق به في أوائل السور أَلفاً مقصوراً لأنها مسوقة مَساق المتهجَّى بها وهي في حالة التهجي مقصورة طلباً للخفة لأن التهَجِّي إنما يكون غالباً لتعليم المبتدىء، واستعمالها في التهجي أكثر فوقعت في فواتح السور مقصورة لأنها على نمط التعْديد أو مأخوذة منه. ولكن الناس قد يجعلون فاتحة إحدى السور كالاسم لها فيقولون قرأتُ { كهيعص } كما يجعلون أول كلمة من القصيدة اسماً للقصيدة فيقولون قرأت «قِفَا نَبْكِ» و«بانت سعاد» فحينئذٍ قد تعامل جملة الحروف الواقعة في تلك الفاتحة معاملة كلمة واحدة فيجري عليها من الإعراب ما هو لنظائر تلك الصيغة من الأسماء فلا يصرف حَامِيم كما قال شُريح بن أَوفى العَنْسي المتقدم آنفاً | **يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ والرُّمْحُ شَاجِر فهلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قبلَ التَّقَدُّم** | | | | --- | --- | --- | وكما قال الكميت | **قرأْنا لَكُم في آلِ حَامِيمَ آية تأوَّلها مِنَّا فقيهٌ ومُعْرِب** | | | | --- | --- | --- | ولا يعرب**{ كهيعص }** مريم 1 إذ لا نظير له في الأسماء إفراداً ولا تركيباً. وأما طسـم فيعرب اعترابَ المركب المزجى نحو حَضْرَمَوْتَ ودَارَاَبجِرْدَ وقال سيبويه إنك إذا جعلت هُود اسم السورة لم تَصرفها فتقول قرأت هُودَ للعَلَمِيَّة والتأنيث قال لأنها تصير بمنزلة امرأة سميتَها بعَمْرو. ولك في الجميع أن تأتي به في الإعراب على حاله من الحكاية وموقع هاته الفواتح مع ما يليها من حيث الإعراب، فإن جعلتها حروفاً للتهجي تعريضاً بالمشركين وتبكيتاً لهم فظاهر أنها حينئذٍ محكية ولا تقبَل إعراباً، لأنها حينئذٍ بمنزلة أسماء الأصوات لا يقصد إلا صُدورها فدلالتها تشبه الدلالة العقلية فهي تدل على أن الناطق بها يهيّىء السامع إلى ما يرد بعدها مثل سرد الأعداد الحِسابية على من يراد منه أن يجمع حاصلها، أو يَطرح، أو يقسم، فلا إعراب لها مع ما يليها، ولا معنى للتقدير بالمؤلف من هذه الحروف إذ ليس ذلك الإعلام بمقصودٍ لظهوره وإنما المقصود ما يحصل عند تعدادها من التعريض لأن الذي يتهجَّى الحروف لمن ينافي حالُه أن يقصد تعليمُه يتعين من المقام أنه يَقصِد التعريض. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا قَدَّرتها أسماء للسور أو للقرآن أو لله تعالى مقسَماً بها فقيل إن لها أحكاماً مع ما يليها من الإعراب بعضُها محتاج للتقدير الكثير، فدع عنك الإطالة بها فإن الزمان قصير. وهاته الفواتح قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور القراء. وروى عن قراء الكوفة أن بعضها عدُّوه آياتٍ مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما يليه، ولم يظهر وجه التفصيل حتى قال صاحب «الكشاف» إن هذا لا دخل للقياس فيه. والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم لأن الدليل مفقود. والوجه عندي أنها آيات لأن لها دلالة تعريضية كنائية إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقُبها من الكلام ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح بل تعتبر دلالةُ المطابقة في هذه الحروف تقديريةً إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة الالتزام. ويدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرأونها إذا قرأوا الآية المتصلة بها، ففي «جامع الترمذي» في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة الروم فنَزلت**{ الم غلبت الروم }** الروم 1، 2، وفيه أيضاً «فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكةٍ { الم غلبت الروم } وفي سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام عنه «فقرأ رسول الله على عُتبة بن ربيعة**{ حم تنزيل من الرحمٰن الرحيم }** حتى بلغ قوله**{ فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }** فصلت 1 ـــ 13 الحديث. وعلى هذا الخلاف اختُلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
أَلِفْ. لام. ميم. وَتُقْرأُ مُقَطَّعةً، كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ. اختَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ تَفسِيرِ مَعْنَى الحُروفِ الوَارِدَةِ فِي مَطَالِعِ السُّورِ، وَأَكثَرُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلى أَنَّها مِمَّا استَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ. وَمنهُمْ مَنْ فَسَّرها، وَلكِنَّهُمُ اختَلَفُوا حَولَ مَقَاصِدِهَا، فَمِنهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّها حُروفُ تَنْبيهٍ، كَمَا يَقُولُ القَائِلُ: أَيا وَهَيَا: والتَّفسِيرُ الذِي اختَارَهُ بَعضُهُمْ وَرأَى أَنَّهُ أَقْربُ إِلى المَنْطِقِ هُوَ: أَنَّ هذا القُرآنَ المُنَزَّلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِأَمْثَالِ هذهِ الحُروفِ، المَعْروفَةِ عِندَ العَرَبِ، هُوَ المُعْجِزَةُ، لأَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، مَعَ أَنَّه مُنَزَّلٌ بِلُغَتِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الفَصَاحَةِ وَالبَيَانِ واللَّسنِ. وَمَا دَامَ المُفَسِّرونَ قَدِ اخْتَلَفُوا حَوْلَ مَعْنَاهَا الصَّحِيحِ فَالأَفْضَلُ أَنْ نَقُولَ: اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
بدأت سورة البقرة بقوله تعالى: { الۤمۤ } [البقرة: 1].. وهذه الحروف حروف مقطعة.. ومعنى مقطعة أن كل حرف ينطق بمفرده. لأن الحروف لها أسماء ولها مسميات.. فالناس حين يتكلمون ينطقون بمسمى الحرف وليس باسمه.. فعندما تقول كتب تنطق بمسميات الحروف. فإذا أردت أن تنطق بأسمائها. تقول كاف وتاء وباء.. ولا يمكن أن ينطق بأسماء الحروف إلا من تعلم ودرس، أما ذلك الذي لم يتعلم فقد ينطق بمسميات الحروف ولكنه لا ينطق بأسمائها، ولعل هذه أول ما يلفتنا. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ولذلك لم يكن يعرف شيئا عن أسماء الحروف.. فإذا جاء ونطق بأسماء الحروف يكون هذا إعجازاً من الله سبحانه وتعالى.. بأن هذا القرآن موحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم.. ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم درس وتعلم لكان شيئاً عادياً أن ينطق بأسماء الحروف. ولكن تعالَ إلى أي أمي لم يتعلم.. إنه يستطيع أن ينطق بمسميات الحروف.. يقول الكتاب وكوب وغير ذلك.. فإذا طلبت منه أن ينطق بأسماء الحروف فإنه لا يستطيع أن يقول لك. إن كلمة كتاب مكونة من الكاف والتاء والألف والباء.. وتكون هذه الحروف دالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن ربه. وأن هذا القرآن موحى به من الله سبحانه وتعالى. ونجد في فواتح السور التي تبدأ بأسماء الحروف. تنطق الحروف بأسمائها وتجد الكلمة نفسها في آية أخرى تنطق بمسمياتها. فـ " الم " في أول سورة البقرة نطقتها بأسماء الحروف ألف لام ميم. بينما تنطقها بمسميات الحروف في شرح السورة في قوله تعالى:**{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }** [الشرح: 1]. وفي سورة الفيل في قوله تعالى:**{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ }** [الفيل: 1]. ما الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ينطق { الۤمۤ } [البقرة: 1] في سورة البقرة بأسماء الحروف.. وينطقها في سورتي الشرح والفيل بمسميات الحروف. لابد أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سمعها من الله كما نقلها جبريل عليه السلام إليه هكذا. إذن، فالقرآن أصله السماع لا يجوز أن تقرأه إلا بعد أن تسمعه. لتعرف أن هذه تُقرأ ألف لام ميم والثانية تقرأ ألم.. مع أن الكتابة واحدة في الاثنين.. ولذلك لابد أن تستمع إلى فقيه يقرأ القرآن قبل أن تتلوه.. والذي يتعب الناس أنهم لم يجلسوا إلى فقيه ولا استمعوا إلى قارئ.. ثم بعد ذلك يريدون أن يقرأوا القرآن كأي كتاب. نقول لا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . القرآن له تميز خاص.. إنه ليس كأي كتاب تقرؤه.. لأنه مرة يأتي باسم الحرف. ومرة يأتي بمسميات الحرف. وأنت لا يمكن أن تعرف هذا إلا إذا استمعت لقارئ يقرأ القرآن. والقرآن مبني على الوصل دائما وليس على الوقف، فإذا قرأت في آخر سورة يونس مثلا:**{ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ }** [يونس: 109] لا تجد النون عليها سكون بل تجد عليها فتحة، موصولة بقول الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم. ولو كانت غير موصولة لوجدت عليها سكونا. إذن فكل آيات القرآن الكريم مبنية على الوصل.. ما عدا فواتح السور المكونة من حروف فهي مبنية على الوقف.. فلا تقرأ في أول سورة البقرة: { الۤمۤ } [البقرة: 1] والميم عليها ضمة. بل تقرأ ألفا عليها سكون ولاما عليها سكون وميما عليها سكون. اذن كل حرف منفرد بوقف. مع أن الوقف لا يوجد في ختام السور ولا في القرآن الكريم كله. وهناك سور في القرآن الكريم بدأت بحرف واحد مثل قوله تعالى:**{ صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ }** [ص: 1].**{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }** [القلم: 1]. ونلاحظ أن الحرف ليس آية مستقلة. بينما " الم " في سورة البقرة آية مستقلة. و: " حم ". و: " عسق " آية مستقلة مع أنها كلها حروف مقطعة. وهناك سور تبدأ بآية من خمسة حروف مثل " كهيعص " في سورة مريم.. وهناك سور تبدأ بأربعة حروف. مثل " المص " في سورة " الأعراف ". وهناك سور تبدأ بأربعة حروف وهي ليست آية مستقلة مثل " المر " في سورة " الرعد " متصلة بما بعدها.. بينما تجد سورة تبدأ بحرفين هما آية مستقلة مثل: " يس " في سورة يس. و " حم " في سورة غافر وفصلت.. و: " طس " في سورة النمل. وكلها ليست موصلة بالآية التي بعدها.. وهذا يدلنا على أن الحروف في فواتح السور لا تسير على قاعدة محددة. " الم " مكونة من ثلاثة حروف تجدها في ست سور مستقلة.. فهي آية في البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم والسجدة ولقمان. و " الر " ثلاثة حروف ولكنها ليست آية مستقلة. بل جزء من الآية في أربع سور هي: يونس ويوسف وهود وإبراهيم.. و: " المص " من أربعة حروف وهي آية مستقلة في سورة " الأعراف " و " المر " أربعة حروف، ولكنها ليست آية مستقلة في سورة الرعد إذن فالمسألة ليست قانوناً يعمم، ولكنها خصوصية في كل حرف من الحروف. وإذا سألت ما هو معنى هذه الحروف؟.. نقول إن السؤال في أصله خطأ.. لأن الحرف لا يسأل عن معناه في اللغة إلا إن كان حرف معنى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . والحروف نوعان: حرف مَبْنَى وحرف معنى. حرف المبنى لا معنى له إلا للدلالة على الصوت فقط.. أمَّا حروف المعاني فهي مثل: في ومِنْ.. وعلى.. في تدل على الظرفية.. ومِنْ تدل على الابتداء وإلى تدل على الانتهاء.. وعلى تدل على الاستعلاء.. هذه كلها حروف معنى. وإذا كانت الحروف في أوائل السور في القرآن الكريم قد خرجت عن قاعدة الوصل لأنها مبنية على السكون لابد أن يكون لذلك حكمة.. أولاً لنعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حَسَنَةٌ والحَسَنَةُ بعَشْر أمْثَالها، لا أقولُ الم حرف ولكن ألفٌ حرْفٌ ولاَمٌ حرف ومِيمٌ حرف ".** ولذلك ذكرت في القرآن كحروف استقلالية لنعرف ونحن نتعبد بتلاوة القرآن الكريم أننا نأخذ حسنة على كل حرف. فإذا قرأنا بسم الله الرحمن الرحيم. يكون لنا بالباء حسنة وبالسين حسنة وبالميم حسنة فيكون لنا ثلاثة حسنات بكلمة واحدة من القرآن الكريم. والحسنة بعشر أمثالها. وحينما نقرأ " الم " ونحن لا نفهم معناها نعرف أن ثواب القرآن على كل حرف نقرؤه سواء فهمناه أم لم نفهمه.. وقد يضع الله سبحانه وتعالى من أسراره في هذه الحروف التي لا نفهمها ثواباً وأجراً لا نعرفه، ويريدنا بقراءتها أن نحصل على هذا الأجر. والقرآن الكريم ليس إعجازاً في البلاغة فقط. ولكنه يحوي إعجازاً في كل ما يمكن للعقل البشري أن يحوم حوله. فكل مفكر متدبر في كلام الله يجد إعجازاً في القرآن الكريم. فالذي درس البلاغة رأى الإعجاز البلاغي، والذي تعلم الطب وجد إعجازاً طبياً في القرآن الكريم. وعالم النباتات رأى إعجازاً في آيات القرآن الكريم، وكذلك عالم الفلك. وإذا أراد إنسان منا أن يعرف معنى هذه الحروف فلا نأخذها على قدر بشريتنا.. ولكن نأخذها على قدر مراد الله فيها.. وقدراتنا تتفاوت وأفهامنا قاصرة. فكل منا يملك مِفْتاحاً من مفاتيح الفهم كل على قدر علمه.. هذا مفتاح بسيط يفتح مرة واحدة وآخر يدور مرتين.. وآخر يدور ثلاث مرات وهكذا.. ولكن مَنْ عنده العلم يملك كل المفاتيح، أو يملك المفتاح الذي يفتح كل الأبواب. ونحن لا يصح أن نجهد أذهاننا لفهم هذه الحروف. فحياة البشر تقتضي منا في بعض الأحيان أن نضع كلمات لا معنى لها بالنسبة لغيرنا.. وإذن كانت تمثل أشياء ضرورية بالنسبة لنا. تماماً ككلمة السر التي تستخدمها الجيوش لا معنى لها إذا سمعتها. ولكن بالنسبة لمَنْ وضعها يكون ثمنها الحياة أو الموت.. فخذ كلمات الله التي تفهمها بمعانيها.. وخذ الحروف التي لا تفهمها بمرادات الله فيها. فالله سبحانه وتعالى شاء أن يبقى معناها في الغيب عنده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والقرآن الكريم لا يؤخذ على نسق واحد حتى نتنبه ونحن نتلوه أو نكتبه. لذلك تجد مثلا بسم الله الرحمن الرحيم مكتوبة بدون ألف بين الباء والسين. ومرة تجدها مكتوبة بالألف في قوله تعالى:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ }** [العلق: 1]. وكلمة تبارك مرة تكتب بالألف ومرة بغير الألف.. ولو أن المسألة رتابة في كتابة القرآن لجاءت كلها على نظام واحد. ولكنها جاءت بهذه الطريقة لتكون كتابة القرآن معجزة وألفاظه معجزة. ونحن نقول للذين يتساءلون عن الحكمة في بداية بعض السور بحروف.. نقول إن لذلك حكمة عند الله فهمناها أو لم نفهمها.. والقرآن نزل على أمة عربية فيها المؤمن والكافر.. ومع ذلك لم نسمع أحداً يطعن في الأحرف التي بدأت بها السور. وهذا دليل على أنهم فهموها بملكاتهم العربية.. ولو أنهم لم يفهموها لطعنوا فيها. وأنا أنصح مَنْ يقرأ القرآن الكريم للتعبد.. ألا يشغل نفسه بالتفكير في المعنى. أما الذي يقرأ القرآن ليستنبط منه فليقف عند اللفظ والمعنى.. فإذا قرأت القرآن لتتعبد فاقرأه بسر الله فيه.. ولو جلست تبحث عن المعنى.. تكون قد حددت معنى القرآن الكريم بمعلوماتك أنت. وتكون قد أخذت المعنى ناقصاً نقص فكر البشر.. ولكن اقرأ القرآن بسر الله فيه. إننا لو بحثنا معنى كل لفظ في القرآن الكريم فقد أخرجنا الأمي وكل مَنْ لم يدرس اللغة العربية دراسة متعمقة من قراءة القرآن. ولكنك تجد أمياً لم يقرأ كلمة واحدة ومع ذلك يحفظ القرآن كله. فإذا قلت كيف؟ نقول لك بسر الله فيه. والكلام وسيلة إفهام وفهم بين المتكلم والسامع. المتكلم هو الذي بيده البداية، والسامع يفاجأ بالكلام لأنه لا يعلم مقدماً ماذا سيقول المتكلم.. وقد يكون ذهن السامع مشغولا بشيء آخر.. فلا يستوعب أول الكلمات.. ولذلك قد تنبهه بحروف أو بأصوات لا مهمة لها إلا التنبيه للكلام الذي سيأتي بعدها. وإذا كنا لا نفهم هذه الحروف. فوسائل الفهم والإعجاز في القرآن الكريم لا تنتهي، لأن القرآن كلام الله. والكلام صفة من صفات المتكلم.. ولذلك لا يستطيع فهم بشري أن يصل إلى منتهى معاني القرآن الكريم، إنما يتقرب منها. لأن كلام الله صفة من صفاته.. وصفة فيها كمال بلا نهاية. فإذا قلت إنك قد عرفت كل معنى للقرآن الكريم.. فإنك تكون قد حددت معنى كلام الله بعلمك.. ولذلك جاءت هذه الحروف إعجازاً لك. حتى تعرف إنك لا تستطيع أن تحدد معاني القرآن بعلمك. إن عدم فهم الإنسان لأشياء لا يمنع انتفاعه بها.. فالريفي مثلاً ينتفع بالكهرباء والتليفزيون وما يذاع بالقمر الصناعي وهو لا يعرف عن أي منها شيئاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فلماذا لا يكون الله تبارك وتعالى قد أعطانا هذه الحروف نأخذ فائدتها ونستفيد من أسرارها ويتنزل الله بها علينا بما أودع فيها من فضل سواء أفهم العبد المؤمن معنى هذه الحروف أو لم يفهمها. وعطاء الله سبحانه وتعالى وحكمته فوق قدرة فهم البشر.. ولو أراد الإنسان أن يحوم بفكره وخواطره حول معاني هذه الحروف لوجد فيها كل يوم شيئاً جديداً. لقد خاض العلماء في البحث كثيراً.. وكل عالم أخذ منها على قدر صفائه، ولا يدَّعي أحد العلماء أن ذلك هو الحق المراد من هذه الحروف.. بل كل منهم يقول والله أعلم بمراده. ولذلك نجد عالما يقول الر وحم ون وهي حروف من فواتح السور تكوِّن اسم الرحمن.. نقول إن هذا لا يمكن ان يمثل فهماً عاماً لحروف بداية بعض سور القرآن.. ولكن ما الذي يتعبكم أو يرهقكم في محاولة إيجاد معان لهذه الحروف؟!. لو أن الله سبحانه وتعالى الذي أنزل القرآن يريد أن يفهمنا معانيها.. لأوردها بمعنى مباشر أو أوضح لنا المعنى. فمثلاً أحد العلماء يقول إن معنى الم هو أنا الله اسمع وأرى.. نقول لهذا العالم لو أن الله أراد ذلك فما المانع من أن يورده بشكل مباشر لنفهمه جميعا.. لابد أن يكون هناك سر في هذه الحروف.. وهذا السر هو من أسرار الله التي يريدنا أن ننتفع بقراءتها دون أن نفهمها. ولابد أن نعرف أنه كما أن للبصر حدوداً. وللأذن حدوداً وللمس والشم والتذوق حدوداً، فكذلك عقل الإنسان له حدود يتسع لها في المعرفة.. وحدود فوق قدرات العقل لا يصل إليها. والإنسان حينما يقرأ القرآن والحروف الموجودة في أوائل بعض السور يقول إن هذا أمر خارج عن قدرة عقلي.. وليس ذلك حجراً أو سَدّاً لباب الاجتهاد.. لأننا إن لم ندرك فإن علينا أن نعترف بحدود قدراتنا أمام قدرات خالقنا سبحانه وتعالى التي هي بلا حدود. وفي الإيمان هناك ما يمكن فهمه وما لا يمكن فهمه.. فتحريم أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لا ننتظر حتى نعرف حكمته لنمتنع عنه. ولكننا نمتنع عنه بإيمان أنه ما دام الله قد حرمه فقد أصبح حراماً. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" ما عرفتم من محكمه فاعملوا به، وما لم تدركوا فآمنوا به ".** والله سبحانه وتعالى يقول:**{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }** [آل عمران: 7]. إذن، فعدم فهمنا للمتشابه لا يمنع أن نستفيد من سر وضعه الله في كتابه.. ونحن نستفيد من أسرار الله في كتابه فهمناها أم لم نفهمها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير غريب القرآن / زيد بن علي (ت 120 هـ)
قولهُ تعالى: { الۤمۤ } معناه أَنَا الله أَعلمُ، ويقال هو اسم من أَسماءِ القُرآنِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { الۤمۤ }؛ اختلَفُوا في تفسيرِ { الۤمۤ } وسائرِ حروف التهجِّي، ورويَ عن عمرَ وعثمانَ وابنِ مسعودٍ: (أنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لاَ يُفَسَّرُ). ووافقَهم في ذلك الشعبيُّ؛ وقال: (إنَّ للهِ تَعَالَى سِرّاً فِي كُتُبهِ؛ وَإنَّ سِرَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ) وقال بعضُهم: إنَّها من المتشابهاتِ التي استأثرَ اللهُ بعلمِها فنحن نؤمنُ بتنْزيلها ونَكِلُ إلى الله تأويلَها. وقال عليٌّ رضي الله عنه: (لِكُلِّ شَيْءٍ صَفْوَةٌ؛ وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَاب حُرُوفُ التَّهَجِّي). وعنِ ابنِ عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أنَّ مَعْنَى { الۤمۤ }: أنَا اللهُ أعْلَمُ وَأرَى، و { الۤمۤصۤ }: أنَا اللهُ أعْلَمُ وأَفْصِلُ، و { كۤهيعۤصۤ }: الْكَافُ مِنْ كَافٍ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادٍ، وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيْمٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيْمٍ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ). ويقالُ: الألفُ: مفتاحُ اسمهِ الله؛ واللام: لطيفٌ، والميم: مجيدٌ، ومعناه اللطيفُ المجيدُ أنزلَ الكتابَ. ويقال: الألف: اللهُ، واللام: جبريلُ، والميم: مُحَمَّدٌ، معناهُ: اللهُ أنزلَ جبريلَ على محمدٍ بهذا القرآنِ. وقيل: هذا قسمٌ أقسمَ الله به أنَّ هذا الكتابَ الذي أُنزل على مُحَمَّدٍ هو الكتابُ الذي عندَ الله، وجوابهُ:**{ لاَ رَيْبَ فِيهِ }** [البقرة: 2]. وقال محمَّدُ بن كعبٍ: (الأَلِفُ آلاَءُ اللهِ، وَاللاَّمُ لُطْفُهُ، وَالْمِيْمُ مُلْكُهُ). وقال أهلُ الإشارة: الأَلِفُ أنَا، واللاَّم لِي، وَالْمِيْمُ مِنِّي. فَصْلٌ: وهذه الحروفُ موقوفةٌ؛ لأنَّها حرفُ هجاء، وحروف الهجاءِ لا تُعْرَبُ كالعدد في قوله: واحد اثنان. ولِغَايَةٍ أدخَلُوا الواوَ وحرَّكوهُ؛ لأنه صارَ في حدِّ الأسماء، فيقالُ: ألفٌ ولام كالعددِ. وكذلك قال الأخفشُ: (هِيَ سَاكِنَةٌ لاَ تُعْرَبُ). وقولهُ: { الۤمۤ } رُفع بالابتداء؛ و { ذَلِكَ } خبرهُ؛ و { ٱلْكِتَابُ } صلةٌ لذلك. ويحتمل أن يكونَ (الۤمۤ) خبراً مقدَّماً تقديرهُ: ذلكَ الكتابُ الذي وعدتُ أن أوحيَهُ إليك { الۤمۤ }. ومن أبطلَ مَحَلَّ الحروف جعل { ذَلِكَ } ابتداء و { ٱلْكِتَابُ } خبره. و { الۤمۤ } صلةٌ؛ فيكون لذلك معنيان؛ أحدُهما: أن { ذَلِكَ } بمعنى، وقد يستعملُ { ذَلِكَ } بمعنى، (هذا). قال خِفَافُ: | **أقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ** | | **تَأَمَّلْ خُفَافاً إنَّنى أنَا ذلِكَا** | | --- | --- | --- | أي إنَّنِي هذا أطرأُ لعودِ عطفه. والثانِي: على الإضمار؛ كأنه قال: هذا القرآنُ**{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }** [البقرة: 2] الذي وعدتُ في التوراة والإنجيل أن أُوحيَهُ إليكَ. وقيل: { الۤمۤ } ابتداءٌ؛ و { ذَلِكَ } ابتداءٌ آخرُ؛ و { ٱلْكِتَابُ } خبره، والجملةُ خبرُ الأول. وقال بعضُ المفسرين: اخْتُلِفَ في**{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }** [البقرة: 2]، فقال الحسنُ وابن عباسٍ وقتادةُ ومجاهد: (هُوَ الْقُرْآنُ). فعلى هذا يكون { ذَلِكَ } بمعنى (هَذَا) كقولهِ تعالى:**{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ }** [الأنعام: 83] أي هذه حُجَّتنا. وَقِيْلَ: معناهُ:**{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }** [البقرة: 2] الذي ذكرتُهُ في التوراةِ والإنجيل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
واختلف العلماء في معاني أوائل السور: فعن ابن عباس أقوال، منها: أنه قال: " الۤمۤ؛ أنا الله أعلم، الۤرۤ؛ أنا الله أرى ". فالألف: يؤدي عن " أنا " ، واللام: يؤدي عن اسم الله. والميم: تؤدي عن " أعلم " ، والراء: يؤدي عن " أرى ". وعنه [أن] أوائل السور مأخوذة من أسماء الله. فيقول في**{ كۤهيعۤصۤ }** [مريم: 1]: " إن الكاف: من كاف، والهاء: من هاد ". وعنه أيضاً " أنها أقسام، أقسم الله بها، وهي من أسماء الله جل ذكره ". وقد قال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من العلماء. وروى عنه عطاء أنه قال في { الۤـمۤ }: " الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم " [وكذلك] روى الضحاك عنه. وقال قتادة: " الۤمۤ، اسم من أسماء القرآن ". وروي مثله عن مجاهد. وعن مجاهد أيضاً أنه قال: " هي فواتح السور ". وقال أبو عبيدة والأخفش: " هي افتتاح كلام ". وقال زيد بن أسلم: " هي أسماء السور ". وروى ابن جبير عن ابن عباس: "**{ كۤهيعۤصۤ }** [مريم: 1]: كبير، هاد، عزيز، صادق ". وقال محمد بن كعب: { حـمۤ \* عۤسۤقۤ }: الحاء والميم: من الرحمان، والعين: من العليم، والسين: من القدوس، والقاف: من القهار ". / وقال في { الۤمۤصۤ }: " الألف واللام: الله، والصاد: من الصمد ". وقال بعض أهل النظر: " هي تنبيه ". وقال قطرب في معناها: " كان المشركون ينفرون عند قراءة القرآن. فلما سمعوا " { الۤـمۤ } و { الۤمۤصۤ } وقفوا ليفهموا ما هو وأنصتوا، فاتصلت تلاوة القرآن بها / فسمعوه، وثبتت عليهم الحجة، وجحدوا بعد سماع ما هو حجة عليهم. وهذه حكمة بالغة من الله، والله أعلم بذلك ". وعن قطرب أيضاً أنه قال: " هي حروف ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة ". وقال أبو العالية: " هي الحروف من التسعة وعشرين حرفاً دارت بها الألسن كلها، ليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه ونعمائه، وليس منها (حرف) إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. الألف: مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح / اسمه: لطيف، والميم مفتاح اسمه: مجيد. الألف: آلاء الله، واللام: لطفه، والميم: مجده. الألف: سنة، واللام: ثلاثون سنة، والميم: أربعون سنة ". وقال جماعة: " هي مما لا يعلمه إلا الله، ولله في [كل كتاب] سر، وهذه الحروف سره في كتابه ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقيل: هي اسم الله الأعظم. رواه السدي عن ابن عباس. ويروى أن اليهود لما سمعت / { الۤـمۤ } ، قالوا: " الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، وهي مدة ملك محمد. أفتدخلون في دين، إنما مدة ملكه إحدى وسبعون سنة. فلما سمعوا**{ الۤمۤصۤ }** [الأعراف: 1] قالوا: هذا أثقل وأطول؛ الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون والصاد ستون فذلك إحدى وثلاثون ومائة سنة، فلما سمعوا**{ الۤر }** [يونس: 1] و**{ الۤمۤر }** [الرعد: 1] و**{ حـمۤ \* عۤسۤقۤ }** [الشورى: 1-2]، قالوا: قد لبس علينا الأمر، فما ندري ما يقيم ملكه. فأنزل الله عز وجل:**{ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }** [آل عمران: 7]. فهذا الذي اشتبه عليهم في هذا التأويل والله أعلم. وهذه الحروف تسمى حروف المعجم، وإنما سميت بذلك لأنها مبينة للكلام فاشتق لها هذا الاسم من قولهم: " أعجَمْتُ الِكتَابَ " إذا بَيَّنْتَهُ. وقيل: إنما اشتق لها هذا من قولهم: " عَجَمْتُ الْعُودَ " إذا عَضَضْتَهُ لِتَخْتَبِرَهُ. فيكون " المعجم " من هذا أتى على توهم زيادة الهمزة، كما أتى " لواقع " على توهم حذف الهمزة من " ألْقَحْتُ " ، وكان الأصل " ملاقح ". كذلك كان الأصل " المعجوم " ، إذا جعلته من " عَجَمْت ". وقد قالوا: / " مسعود " ، على تقدير حذف الهمزة من " أسعده الله " ، وقرئ:**{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ }** [هود: 108] - بضم السين - على ذلك التقدير. فكذلك المعجم من " عجمت " على تقدير حذف الهمزة من " أعجمت " ، فيكون معناه حروف الاختبار، وهي موقوفة مبنية على السكون أبداً، إلا أن تخبر عن شيء منها، أو تعطف بعضها على بعض، فتعربها، تقول: هذه جاء وياء ". وهي تؤنث وتذكر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { الۤـمۤ }: اعلم أن مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور أربعة عشر حرفاً وهي نصف حروف الهجاء، وقد تفرّقت في تسع وعشرين سورة: المبدوء بالالف واللام منها ثلاث عشرة، وبالحاء والميم سبعة، وبالطاء أربعة، وبالكاف واحدة، وبالباء واحدة، وبالصاد واحدة، وبالقاف واحدة، وبالنون واحدة، وبعض هذه الحروف المبدوء بها أحادي وبعضها ثنائي وبعضها ثلاثي وبعضها رباعي وبعضها خماسي ولا تزيد. قوله: (الله أعلم بمراده بذلك) أشار بهذا إلى أرجح الأقوال في هذه الأحرف التي ابتدأ بها تلك السور، وهو أنها من المتشابه جرياً على مذهب السلف القائلين باختصاص الله تعالى بعلم المراد منه، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب، لأنه فرع إدراك المعنى فلا يحكم عليها بإعراب ولا بناء ولا بتركيب مع عامل، ومقابل هذا أقوال: قيل إنها اسماء للسور التي ابتدئت بها، وقيل اسماء للقرآن، وقيل لله تعالى، وقيل كل حرف منها مفتاح اسم من اسمائه تعالى، أي جزء من اسم، فالألف مفتاح لفظ الجلالة، واللام مفتاح اسم لطيف، والميم مفتاح اسم مجيد، وهكذا، وقيل كل حرف منها يشير إلى نعمة من نعم الله، وقيل إلى ملك، وقيل إلى نبي، وقيل الالف تشير إلى آلاء الله، واللام إلى لطف الله، والميم إلى ملك الله، وعلى هذه الاقوال فلها محل من الإعراب، فقيل الرفع، وقيل النصب، وقيل الجر، فالرفع على أحد وجهين، إما بكونها مبتدأ، وإما بكونها خبراً، والنصب على أحد وجهين أيضاً: إما باضمار فعل لائق تقديره اقرؤوا مثلاً وإما باسقاط حرف القسم كقول الشاعر: | **إذا ما الخبز تأدمه بلحم** | | **فذلك أمانة الله الثريد** | | --- | --- | --- | يريد وأمانة الله والجر بوجه واحد وهو أنها مقسم بها حذف حرف القسم وبقي عمله، أجاز ذلك الزمخشري وإن كان ضعيفاً لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير عبد الرزاق الصنعاني مصور /همام الصنعاني (ت 211 هـ)
15- عبد الرزّاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: { الۤـمۤ }: [الآية: 1]، قال: " اسم من أسماء القرآن ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
أعلم أن للناس في هذا وما يجري مجراه من الفواتح مذهبين: الأول: أن هذا علم مستور، وسرّ محجوب، استأثر الله تبارك وتعالى به فهو من المتشابه، ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق. واحتجوا بأدلة عقلية ونقلية، بسطها العلامة الفخر. المذهب الثاني: مذهب من فسرها، وتكلم فيما يصح أن يكون مراداً منها، وهو ما للجمهور. وفيه وجهان: الأول: وعليه الأكثر: أنها أسماء للسور. الثاني: أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودةً على نمط التعديد: كالإيقاظ وقرع العصا لمن تُحُدِّيَ بالقرآن وبغرابة نظمه، وكالتحريك لنظر في أن هذا المتلو عليهم - وقد عجزوا عنه عن آخرهم - كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر مَعْجزتهم عن أن يأتوا بمثله - بعد المراجعات المتطاولة وهم أمراء الكلام، وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزلة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كلّ ناطق، وشقت غبار كلّ سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أَعين البصراءَ إلا لأنه ليس بكلام البشر، وإنه كلام خالق القوى والقُدَر. قاله الزمخشري. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ الۤـمۤ } وسائر حروف الهجاء في أوائل السور، كان بعض المفسرين يجعلها أسماء للسور؛ تعرف كل سورة بما افتتحت به؛ وبعضهم يجعلها أقساما أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها؛ ولأنها مبادئ كتبه المنزلة ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا. وبعضهم يجعلها حروفا مأخوذة من صفاته عز وجل كقول ابن عباس في كهيعص: إن الكاف من كاف والهاء من هاد والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تذكرة الاريب في تفسير الغريب/ الامام ابي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى الم كان جماعه من العلماء يرون هذا من المتشابه الذى انفرد الله تعالى بعلمه وفسره اخرون فقالو ا هى حروف من اسماء الله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم / تفسير الكازروني (ت 923هـ)
لما ختم السورة التي هيَ أُم القُرْآن المشتملة على مطالبه مُجْمَلاً، أخذ في تفصيلها مبيناً أن ذلك الكتاب الذي عرفته مجملاً لا ريب فيه أَصْلاً فقال:**{ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ }** { الۤـمۤ } هذا وأمثالُهُ سِرٌّ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ حبيبه، أو استأئره الله بعلمه، وتكليفنا بالتكلم بما لا نفهمه كتكليفنا بعَمَلٍ لا نعرف حكمته اختياراً لانقيادنا. وعَنْ ابن عباس -رضي الله عنه- أنها إشارة إلى: أنا الله أعلم. وهكذا قالوا في**{ الۤمۤصۤ }** [الأعراف: 1] أنا الله أعلم وأفصل**{ الۤر }** [يونس: 1] أنا الله أرى، و**{ الۤمۤر }** [الرعد: 1] أنا الله أعلم وأرى،**{ كۤهيعۤصۤ }** [مريم: 1] كَافٍ هَادٍ رَحِيمٌ عَلِيْمٌ صَادِقٌ**{ طه }** [طه: 1] طاهرٌ هادٍ، و**{ طسۤمۤ }** [الشعراء: 1] طَوْلُهُ وسناؤه وملكه و**{ صۤ }** [ص: 1] صمد، و**{ حـمۤ }** [غافر: 1] حكيم ملك، و**{ حـمۤ عۤسۤقۤ }** [الشورى: 1-2]، حلمه مجده، سناؤه وقدرته و**{ قۤ }** [ق: 1]، قدير، و**{ الۤر }** [يونس: 1] و**{ حـمۤ }** [الشورى: 1] إشارة إلى الرحمن. ولعلهم عنوا به أنها منبع الأسماء ومبادئ الخطاب، ومثلوها بأمثلة حسنة. [وكذا ورد عنهم هذا أيضاً]. \*ومن عجائب ما رُوْعِيَ فيها أنَّها كُلّها نِصْفَ الحروف المعجمة مشتملاً على أنصاف جميع أنواع الحروف، وما لم يكن له نصف صحيح أتى بالنصف الأقل منهما فيما هو قليل الاستعمال وبالأكثر منهما فيما هو كثير الاستعمال كما بُيِّنَ في المطولات. [ونّبَّه بذكرها مفرده وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية على أن أصول الكتاب كأصول كلامهم كذلك، وبذكر ثلاث مفردات في ثَلَاثِ صُوَرٍ على وُجُدِها في الأقسام الثلاثةَ للكلمة، وبِذِكْرِ أربع ثنائيات عَلَى كَوْنها أربعة أقسامٍ بلا حذف في الحرف، وبه في الفعل وبه وبدونه في الاسم وبتخصيصها بتسع صُوَرٍ على وقوعها في أقسام الكلمة على ثلاثة أوجه كمن، إن ذو، وقل، بع، وإن من مذ الجارة، وبذكر ثلاث ثلاثيات على وقوعها في الأقسام الثلاثة وتخصيصها بثلاث عشرة سورة على أن أصول أبنية الثلاثي ثلاثة عشر، عشرة، وثلاثة للفعل، وبذكر رباعيين وخماسيين على أن لكل منهما أصلاً وملحقاً -والله أعلم]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
حدثنا مـحمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } قال: يصدقون. حدثنـي يحيى بن عثمان بن صالـح السهمي، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح عن علـيّ إبن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس: { يُؤْمِنُونَ } يصدّقون. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { يُؤْمِنُونَ } يخشون. حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: حدثنا مـحمد بن ثور عن معمر، قال: قال الزهري: الإيـمان: العمل. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر عن أبـيه عن العلاء بن الـمسيب بن رافع، عن أبـي إسحاق، عن أبـي الأحوص عن عبد الله، قال: الإيـمان: التصديق. ومعنى الإيـمان عند العرب: التصديق، فـيُدْعَى الـمصدّق بـالشيء قولاً مؤمناً به، ويُدْعَى الـمصدّق قوله بفعله مؤمناً. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه:**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }** [يوسف: 17] يعنـي: وما أنت بـمصدق لنا فـي قولنا. وقد تدخـل الـخشية لله فـي معنى الإيـمان الذي هو تصديق القول بـالعمل. والإيـمان كلـمة جامعة للإقرار بـالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بـالفعل. وإذا كان ذلك كذلك، فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفـين بـالتصديق بـالغيب، قولاً، واعتقاداً، وعملاً، إذ كان جل ثناؤه لـم يحصرهم من معنى الإيـمان علـى معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شيء من معانـية أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { بـالغَيْبِ }. حدثنا مـحمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: بـالغيب قال: بـما جاء به، يعنـي من الله جل ثناؤه. حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيصلى الله عليه وسلم: بـالغيب أما الغيب: فما غاب عن العبـاد من أمر الـجنة وأمر النار، وما ذكر الله تبـارك وتعالـى فـي القرآن. لـم يكن تصديقهم بذلك يعنـي الـمؤمنـين من العرب من قِبَلِ أصل كتاب أو علـم كان عندهم. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان عن عاصم، عن زر، قال: الغيب: القرآن. حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة فـي قوله: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال: آمنوا بـالـجنة والنار والبعث بعد الـموت وبـيوم القـيامة، وكل هذا غيب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }: آمنوا بـالله وملائكته ورسله والـيوم الآخر وجنته وناره ولقائه، وآمنوا بـالـحياة بعد الـموت، فهذا كله غيب. وأصل الغيب: كل ما غاب عنك من شيء، وهو من قولك: غاب فلان يغيب غيبـاً. وقد اختلف أهل التأويـل فـي أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتـين الآيتـين من أول هذه السورة فـيهم، وفـي نعتهم وصفتهم التـي وصفهم بها من إيـمانهم بـالغيب، وسائر الـمعانـي التـي حوتها الآيتان من صفـاتهم غيره. فقال بعضهم: هم مؤمنوا العرب خاصة، دون غيرهم من مؤمنـي أهل الكتاب. واستدلوا علـى صحة قولهم ذلك وحقـيقة تأويـلهم بـالآية التـي تتلو هاتـين الآيتـين، وهو قول الله عز وجل:**{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }** [البقرة: 4] قالوا: فلـم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم تدين بتصديقه والإقرار والعمل به، وإنـما كان الكتاب لأهل الكتابـين غيرها. قالوا: فلـما قص الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بـما أنزل إلـى مـحمد وما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ الـمؤمنـين بـالغيب، علـمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الآخر، وأن الـمؤْمنـين بـالغيب نوع غير النوع الـمصدّق بـالكتابـين اللذين أحدهما منزل علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم، والآخر منهما علـى من قبله من رسل الله تعالـى ذكره. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلنا من أن تأويـل قول الله تعالـى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } إنـما هم الذين يؤمنون بـما غاب عنهم من الـجنة والنار والثواب والعقاب والبعث، والتصديق بـالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدين به فـي جاهلـيتها، بـما أوجب الله جل ثناؤه علـى عبـاده الدينونة به دون غيرهم. ذكر من قال ذلك: حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم أما: رالذين يؤمنون بـالغيب } فهم الـمؤمنون من العرب، { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } أما الغيب: فما غاب عن العبـاد من أمر الـجنة والنار، وما ذكر الله فـي القرآن. لـم يكن تصديقهم بذلك من قِبَلِ أصلِ كتابٍ أو علـم كان عندهم.**{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }** [البقرة: 4] هؤلاء الـمؤمنون من أهل الكتاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع فـي مؤمنـي أهل الكتاب خاصة، لإيـمانهم بـالقرآن عند إخبـار الله جل ثناؤه إياهم فـيه عن الغيوب التـي كانوا يخفونها بـينهم ويسرّونها، فعلـموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبـيه صلى الله عليه وسلم علـى ذلك منهم فـي تنزيـله أنه من عند الله جل وعز، فآمنوا بـالنبـي صلى الله عليه وسلم وصدقوا بـالقرآن وما فـيه من الإخبـار عن الغيوب التـي لا علـم لهم بها لـما استقرّ عندهم بـالـحجة التـي احتـجّ الله تبـارك وتعالـى بها علـيهم فـي كتابه، من الإخبـار فـيه عما كانوا يكتـمونه من ضمائرهم أن جميع ذلك من عند الله. وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة أنزلت علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع الـمؤمنـين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم وأهل الكتابـين و سواهم، وإنـما هذه صفة صنف من الناس، والـمؤمن بـما أنزل الله علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله هو الـمؤمن بـالغيب. قالوا: وإنـما وصفهم الله بـالإيـمان بـما أنزل إلـى مـحمد وبـما أنزل إلـى من قبله بعد تَقَضِّي وصفه إياهم بـالإيـمان بـالغيب لأن وصفه إياهم بـما وصفهم به من الإيـمان بـالغيب كان معنـياً به أنهم يؤمنون بـالـجنة والنار والبعث، وسائر الأمور التـي كلفهم الله جل ثناؤه بـالإيـمان بها مـما لـم يروه ولـم يأت بَعْدُ مـما هو آت، دون الإخبـار عنهم أنهم يؤمنون بـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل والكتب. قالوا: فلـما كان معنى قوله:**{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }** [البقرة: 4]غير موجود فـي قوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } كانت الـحاجة من العبـاد إلـى معرفة صفتهم بذلك لـيعرفوهم نظير حاجتهم إلـى معرفتهم بـالصفة التـي وصفوا بها من إيـمانهم بـالغيب لـيعلـموا ما يرضي الله من أفعال عبـاده، ويحبه من صفـاتهم، فـيكونوا به إن وفقهم له ربهم. مؤمنـين. ذكر من قال ذلك: حدثنـي مـحمد بن عمرو بن العبـاس البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخـلد، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون الـمكي، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة فـي نعت الـمؤمنـين وآيتان فـي نعت الكافرين وثلاث عشرة فـي الـمنافقـين. حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد بـمثله. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال حدثنا موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد الله إبن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع بن أنس، قال: أربع آيات من فـاتـحة هذه السورة يعنـي سورة البقرة فـي الذين آمنوا، وآيتان فـي قادة الأحزاب. وأولـى القولـين عندي بـالصواب وأشبههما بتأويـل الكتاب، القول الأول، وهو: أن الذين وصفهم الله تعالـى ذكره بـالإيـمان بـالغيب، وما وصفهم به جل ثناؤه فـي الآيتـين الأوَّلَتـين غير الذين وصفهم بـالإيـمان بـالذي أنزل علـى مـحمد والذي أنزل إلـى من قبله من الرسل لـما ذكرت من العلل قبل لـمن قال ذلك، ومـما يدل أيضاً مع ذلك علـى صحة هذا القول إنه جَنَّسَ بعد وصف الـمؤمنـين بـالصفتـين اللتـين وصف، وبعد تصنـيفه كل صنف منهما علـى ما صنف الكفـار جِنْسَين، فجعل أحدهما مطبوعاً علـى قلبه مختوماً علـيه مأيوساً من إيـمانه، والآخر منافقاً يرائي بإظهار الإيـمان فـي الظاهر، ويستسرّ النفـاق فـي البـاطن، فصير الكفـار جنسين كما صير الـمؤمنـين فـي أول السورة جنسين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم عرّف عبـاده نعت كل صنف منهم وصفتهم وما أعدّ لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب، وذمّ أهل الذمّ منهم، وشكر سعي أهل الطاعة منهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَيُقِيمُونَ }. إقامتها: أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فـيها علـى ما فُرضت علـيه، كما يقال: أقام القوم سوقهم، إذا لـم يعطلوها من البـيع والشراء فـيها، وكما قال الشاعر: | **أقَمْنا لأِهْلِ العِرَاقَـيْنِ سُوقَ الضِ** | | **رابِ فخاسُوا ووَلَّوْا جَمِيعَا** | | --- | --- | --- | وكما حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } قال: الذين يقـيـمون الصلاة بفروضها. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } قال: إقامة الصلاة: تـمام الركوع والسجود والتلاوة والـخشوع والإقبـال علـيها فـيها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ٱلصَّلَوٰةَ }. حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر عن الضحاك فـي قوله: { الَّذِينَ يُقِـيـمُونَ الصَّلاةَ } يعنـي الصلاة الـمفروضة. وأما الصلاة فـي كلام العرب فإنها الدعاء كما قال الأعشى: | **لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَـيْتَهَا** | | **وَإنْ ذُبِحَتْ صَلَّـى عَلَـيْهَا وَزَمْزَما** | | --- | --- | --- | يعنـي بذلك: دعا لها، وكقول الآخر أيضاً: | **وَقابَلَها الرِّيحَ فـي دَنِّها** | | **وَصَلَّـى علـى دَنِّها وَارْتَسَمَ** | | --- | --- | --- | وأرى أن الصلاة الـمفروضة سميت صلاة لأن الـمصلـي متعرّض لاستنـجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه فـيها من حاجاته تعرض الداعي بدعائه ربه استنـجاح حاجاته وسؤله. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }. اختلف الـمفسرون فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم بـما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال: يؤتون الزكاة احتسابـاً بها. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، عن معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال: زكاة أموالهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر عن الضحاك: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال: كانت النفقات قربـات يتقرّبون بها إلـى الله علـى قدر ميسورهم وجهدهم، حتـى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات فـي سورة براءة، مـما يذكر فـيهن الصدقات، هن الـمثبتات الناسخات. وقال بعضهم بـما: حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } هي نفقة الرجل علـى أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وأولـى التأويلات بـالآية وأحقها بصفة القوم أن يكونوا كانوا لـجميع اللازم لهم فـي أموالهم، مؤدين زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل وعيال وغيرهم، مـمن تـجب علـيهم نفقته بـالقرابة والـملك وغير ذلك لأن الله جل ثناؤه عمّ وصفهم، إذ وصفهم بـالإنفـاق مـما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم، فكان معلوماً أنه إذ لـم يخصص مدحهم ووصفهم بنوع من النفقات الـمـحمود علـيها صاحبها دون نوع بخبر ولا غيره أنهم موصوفون بجميع معانـي النفقات الـمـحمود علـيها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الـحلال منه الذي لـم يشبه حرام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه بــ أولئك على هدى. فإذا كان موصولاً، كان الوقف على المتقين حسناً غير تامّ. وإذا كان مقتطعاً، كان وقفاً تاماً. فإن قلت ما هذه الصفة، أواردة بياناً وكشفاً للمتقين؟ أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات الله الجارية عليه تمجيداً؟ قلت يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات. أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما. ألم تر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم14 **" الصلاة عماد الدين. "** 16 وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة؟15.وسمى الزكاةقنطرة الإسلام؟ وقال الله تعالى**{ وويلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ }** فصلت 6 ـــ 7. فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها. ومن ثم اختصر الكلام اختصاراً، بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين. وأما الترك فكذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى**{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** العنكبوت 45؟ ويحتمل أن لا تكون بياناً للمتقين، وتكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي. ويحتمل أن تكون مدحاً للموصوفين بالتقوى، وتخصيصاً للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهاراً لإنافتها عن سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات. والإيمان إفعال من الأمن. يقال أمنته وآمنته غيري. ثم يقال آمنه إذا صدّقه. وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة. وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف. وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب ما آمنت أن أجد صحابة ـــ أي ما وثقت ــ فحقيقته صرت ذا أمن به، أي ذا سكون وطمأنينة، وكلا الوجهين حسن في { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق. ويجوز أن لا يكون { بِٱلْغَيْبِ } صلة للإيمان، وأن يكون في موضع الحال، أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به. وحقيقته ملتبسين بالغيب، كقوله**{ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }** فاطر 18،**{ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }** يوسف 52. ويعضده ما روى «أن أصحاب عبد الله ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم، فقال ابن مسعود إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | والذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية. فإن قلت فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالاً؟ قلت إن جعلته صلة كان بمعنى الغائب، إمّا تسمية بالمصدر من قولك غاب الشيء غيباً، كما سمي الشاهد بالشهادة. قال الله تعالى**{ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ }** الزمر 46. والعرب تسمي المطمئن من الأرض غيباً. وعن النضر بن شميل شربت الإبل حتى وارت غيوب كلاها. يريد بالغيب الخمصة التي تكون في موضع الكلية، إذا بطنت الدابة انتفخت. وإما أن يكون فيعلا فخفف، كما قيل وأصله قيل. والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه، أو نصب لنا دليلاً عليه. ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال فلان يعلم الغيب. وذلك نحو الصانع وصفاته، والنبوّات وما يتعلق بها، والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد، وغير ذلك. وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء. فإن قلت ما الإيمان الصحيح؟ قلت أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه، ويصدّقه بعمله. فمن أخل بالاعتقاد ـــ وإن شهد وعمل ـــ فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل فهو فاسق. ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود ـــ إذا قوّمه ـــ أو الدوام عليها والمحافظة عليها، كما قال عز وعلا**{ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ }** المعارج 23،**{ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوٰتِهِمْ يُحَـٰفِظُونَ }** المؤمنون 9 من قامت السوق إذا نفقت، وأقامها. قال | **أَقَامَتْ غَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ لِأَهْلِ العِرَاقيْنِ حَولاً قمِيطَا** | | | | --- | --- | --- | لأنها إذا حوفظ عليها، كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون. وإذا عطلت وأضيعت، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو التجلد والتشمر لأدائها. وأن لا يكون في مؤدّيها فتور عنها ولا توان، من قولهم قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها. وفي ضدّه قعد عن الأمر، وتقاعد عنه ـــ إذا تقاعس وتثبط ـــ أو أداؤها، فعبر عن الأداء بالإقامة لأنّ القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت ـــ والقنوت القيام ـــ وبالركوع وبالسجود، وقالوا سبح، إذا صلى لوجود التسبيح فيها.**{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ }** الصافات 143. والصلاة فعلة من صلى، كالزكاة من زكى. وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى حرّك الصلوين لأن المصلي يُفعل ذلك في ركوعه وسجوده. ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه لأنه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان. وقيل للداعي مصلّ، تشبيهاً في تخشعه بالراكع والساجد. وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله، ويسمى رزقاً منه. وأدخل من التبعيضية صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهى عنه. وقدّم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به. وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة، وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبيل الخير، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق. وأنفق الشيء وأنفده أخوان. وعن يعقوب نفق الشيء، ونفد واحد. وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: قرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك كل همزة ساكنة مثل يؤمنون ويأكلون ويؤتون وبئس ونحوها ويتركان كثيراً من المتحركة مثل يؤده ولا يؤاخذكم ويؤيد بنصره ومذهب أبي جعفر فيه تفصيل يطول ذكره وأما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها الهمزة فيها وروي عنه الهمزة أيضاً في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاءً من الفعل نحو يؤمنون ولا يؤاخذكم واختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل واحد منهم مذهب فيه يطول ذكره فالهمز على الأصل وتركه للتخفيف. اللغة والإعراب: الذين جمع الذي واللائي واللاتي: جمع التي وتثنيتهما اللذان واللتان في حال الرفع واللذين واللتين في حال الجر والنصب وهي من الأسماء التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما وأي وصلاتها لا تكون إلا جملاً خبرية يصح فيها الصدق والكذب ولا بد أن يكون فيها ضمير يعود إلى الموصول فإذا استوفت الموصولات صلاتها كانت في تأويل اسم مفرد مثل زيد وعمرو ويحتاج إلى جزء آخر تصير به جملة فقولـه الذين موصول ويؤمنون صلة ويحتمل أن يكون محله نصباً وجراً ورفعاً فالنصب على المدح تقديره أعني الذين يؤمنون وأما الجر فعلى أنه صفة للمتقين وأما الرفع فعلى المدح أيضاً كأنه لما قيل هدى للمتقين قيل من هم قيل هم الذين يؤمنون بالغيب فيكون خبرَ مبتدأ محذوف ويؤمنون معناه يصدقون والواو في موضع الرفع بكونه ضمير الفاعلين والنون علامة الرفع والأصل في يُفعل يؤفعل ولكن الهمزة حذفت لأنك إذا أنبأت عن نفسك قلت أنا أُفعل فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا فحذفت الهمزة الثانية فقيل أفعل ثم حذفت من الصيغ الآخر نفعل وتفعل ويفعل كما أن باب يعد حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء وكسرة إذ الأصل يوعد ثم حذفت في تعد وأعد ونعدي ليجري الباب على سنن واحد قال الأزهري اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق قال الله تعالى:**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }** [يوسف: 17] أي ما أنت بمصدق لنا قال أبو زيد وقالوا ما أمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فالإيمان هو الثقة والتصديق قال الله تعالى**{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا }** [الزخرف: 69] أي صدقوا ووثقوا بها وقال الشاعر أنشده ابن الأنباري: | **وَمِنْ قَبلُ آمَنَّا وَقْد كانَ قَومُنا** | | **يُصلُّونَ للأوْثانِ قَبلُ مُحمَّدا** | | --- | --- | --- | ومعناه آمنا محمداً أي صدّقناه ويجوز أن يكون آمن من قياس فعلته فافعل تقول أمنته فأمن مثل كببته فاكب والأمن خلاف الخوف والأمانة خلاف الخيانة والأمون الناقة القوية كأنها يؤمن عثارها وكلالها ويجوز أن يكون آمن بمعنى صار ذا أمن على نفسه بإظهار التصديق نحو أجرب وأعاهَ وأصح وأسلم صار ذا سلم أي خرج عن أن يكون جرباً هذا في أصل اللغة أما في الشريعة فالإيمان هو التصديق بكل ما يلزم التصديق به من الله تعالى وأنبيائه وملائكته وكتبه والبعث والنشور والجنة والنار وأما قولنا في وصف القديم تعالى المؤمن فإنه يحتمل تأويلين أحدهما أن يكون من آمنت المتعدي إلى مفعول فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين فصار من أمن زيد العذاب وآمنته العذاب فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه من أوليائه ومن هذا وصفه سبحانه بالعدل كقولـه: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ }** [آل عمران: 18] وهذا الوجه مروي في أخبارنا والآخر أن يكون معناه المصدق أي يصدق الموحدين على توحيدهم إياه يدل عليه قولـه:**{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }** [آل عمران: 18] لأن الشاهد مصدق لما يشهد به كما أنه مصدق من يشهد له فإذا شهد بالتوحيد فقد صدق الموحدين وأما الغيب فهو غاب عنك ولم تشهده وقولـه بالغيب كأنه إجمال لما فصل في قولـه كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله أي يؤمنون بما كفر به الكفار من وحدانية الله وإنزال كتبه وإرسال رسله فكل هذا غيب فعلي هذا يكون الجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول به وفيه وجه آخر وهو أن يكون أراد يؤمنون إذا غابوا عنكم ولم يكونوا كالمنافقين ومثله قولـه:**{ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ }** [يس: 11] فعلى هذا يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي يؤمنون غائبين عن مراءة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعاً لأحد ولكن يخلصونه لله ويقيمون الصلاة يؤدونها بحدودها وفرائضها يقال أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع والشراء وقال الشاعر: | **أَقَامَتْ غَزالَةُ سُوق الضرِّابِ** | | **لأهْلِ العِراقِينَ حَوْلاً قَميطا** | | --- | --- | --- | وقال أبو مسلم يقيمون الصلاة أي يديمون أداء فرائضها يقال للشيء الراتب قايم ويقال فلان يقيم أرزاق الجند والصلاة في اللغة الدعاء قال الأعشى: | **وأَقْبَلها الرّيحَ في ظِلِّها** | | **وصَلَّى عَلى دَنِّها وارْتُسَمْ** | | --- | --- | --- | أي دعا لها ومنه الحديث: **" إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائماً فليصل "** أي فليدعُ له بالبركة والخير. وقيل أصله رفع الصلا في الركوع وهو عظم في العجز وقولـه: { ومما رزقناهم ينفقون } ما هذا حرف موصول ورزقناهم صلته وهما جميعاً بمعنى المصدر تقديره ومن رزقنا إياهم ينفقون أو اسم موصول والعائد من الصلة إلى الموصول محذوف والتقدير ومن الذي رزقناهموه ينفقون فيكون ما رزقناهم في موضع جر بمن والجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول ينفقون. والرزق هو العطاء الجاري وهو نقيض الحرمان والإنفاق إخراج المال يقال أنفق ماله أي أخرجه عن ملكه ونفقت الدابة إذا خرجت روحها والنافقاء جُحر اليربوع لأنه يخرج منها ومنه النفاق لأن المنافق يخرج إلى المؤمن بالإيمان وإلى الكافر بالكفر. المعنى: لما وصف القرآن بأنه هدى للمتقين بيَّن صفة المتقين فقال الذين يؤمنون بالغيب أي يصدّقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندب إليه أو أباحه وقيل يصدقون بالقيامة والجنة والنار عن الحسن وقيل بما جاء من عند الله عن ابن عباس وقيل بما غاب عن العباد علمه عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة وهذا أولى لعمومه ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي ع ووقت خروجه وقيل الغيب هو القرآن عن زرّ بن حبيش وقال الرماني: الغيب خفاء الشيء عن الحس قرب أو بعد إلا أنه كثرت صفة غايب على البعيد الذي لا يظهر للحس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال البلخي: الغيب كل ما أدرك بالدلائل والآيات مما يلزم معرفته. وقالت المعتزلة بأجمعها: الإيمان هو فعل الطاعة ثم اختلفوا فمنهم من اعتبر الفرائض والنوافل ومنهم من اعتبر الفرائض والنوافل ومنهم من اعتبر الفرائض حسب واعتبروا اجتناب الكبائر كلها وقد روى الخاص والعام عن علي بن موسى الرضا ع: إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان وقد روي ذلك على لفظ آخر عنه أيضاً: الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول. وأقول إن أصل الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله وكل عارف بشيء فهو مصدق به يدل عليه هذه الآية فإنه تعالى لما ذكر الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه تصديق للمخبر فيما أخبر به من الغيب على معرفة وثقة ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات البدنية والمالية وعطفهما عليه فقال: { ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } والشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره ويدل عليه أيضاً أنه تعالى حيث ذكر الإيمان إضافة إلى القلب فقال: { وقلبه مطمئن بالإيمان } وقال أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقال النبي صلى الله عليه وسلم: **" الإيمان سر "** وأشار إلى صدره والإسلام علانية وقد يسمى الإقرار إيماناً كما يسمى تصديقاً إلا أنه متى صدر عن شك أو جهل كان إيماناً لفظياً لا حقيقياً وقد تسمى أعمال الجوارح أيضاً إيماناً استعارة وتلويحاً كما تسمى تصديقاً كذلك فيقال فلان تصدق أفعاله مقاله ولا خير في قول لا يصدقه الفعل والفعل ليس بتصديق حقيقي باتفاق أهل اللغة وإنما استعير له هذا الاسم على الوجه الذي ذكرناه فقد آل الأمر مع تسليم صحة الخبر وقبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والتصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة ولا يطلق لفظه إلا على ذلك إلا أنه يستعمل في الإقرار باللسان والعمل بالأركان مجازاً واتساعاً وبالله التوفيق. وقد ذكرنا في قولـه: { ويقيمون الصلاة } وجهين اقتضاهما اللغة وقيل أيضاً إنه مشتق من القيام في الصلاة ولذلك قيل قد قامت الصلاة وإنما ذكر القيام لأنه أول أركان الصلاة وأمدّها وإن كان المراد به هو وغيره والصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة على وجوه مخصوصة وهذا يدل على أن الاسم ينقل من اللغة إلى الشرع وقيل إن هذا ليس بنقل بل هو تخصيص لأنه يطلق على الذكر والدعاء في مواضع مخصوصة وقولـه تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون } يريد ومما أعطيناهم وملكناهم يخرجون على وجه الطاعة وحكي عن ابن عباس: أنه الزكاة المفروضة وعن ابن مسعود: أنه نفقة الرجل على أهله لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة وعن الضحاك: هو التطوع بالنفقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وروى محمد ابن مسلم عن الصادق ع أن معناه ومما علمناهم يبثون والأولى حمل الآية على عمومها وحقيقة الرزق هو ما صح أن ينتفع به المنتفع وليس لأحد منعه منه وهذه الآية تدل على أن الحرام لا يكون رزقاً لأنه تعالى مدحهم بالإنفاق مما رزقهم والمنفق من الحرام لا يستحق المدح على الإنفاق بالإنفاق فلا يكون رزقاً. النزول: قال بعضهم هذه الآية تناولت مؤمني العرب خاصة بدلالة قولـه فيما بعد { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } الآية فهذا في مؤمني أهل الكتاب إذ لم يكن للعرب كتاب قبل القرآن وهذا غير صحيح لأنه لا يمتنع أن تكون الآية الأولى عامة في جميع المؤمنين وإن كانت الثانية خاصة في قوم منهم ويجوز أن يكون المراد بالآيات قوماً واحداً وصفوا بجميع ذلك بأن جمع بين أوصافهم بواو العطف كقول الشاعر: | **إلى الْمَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام** | | **وَليْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزدْحَمْ** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
اعلم أن فيه مسائل: المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين، وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه بـ { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } فإذا كان موصولاً كان الوقف على المتقين حسناً غير تام، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تاماً. المسألة الثانية: قال بعضهم: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيآت، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب ـ وهو قوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } ـ وإما أن يكون فعل الجوارح، وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة لأن العبادة أما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة، أو مالية، وأجلها الزكاة ولهذا سمى الرسول عليه السلام: **" الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام "** وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى:**{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }** [العنكبوت: 45] والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيراً لكونهم متقين وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي، فالترك هو التقوى، والفعل إما فعل القلب، وهو الإيمان، أو فعل الجوارح، وهو الصلاة والزكاة، وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة، لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، واللروح يجب تطهيره أولاً عن النقوش الفاسدة، حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه، وكذا القول في الأخلاق، فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي، ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي. المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: الإيمان إفعال من الأمن، ثم يقال آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة، وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى «أقر وأعترف» وأما ما حكى أبو زيد: ما آمنت أن أجد صحابة أي ماوثقت، فحقيقته صرت ذا أمن، أي ذا سكون وطمأنينة وكلا الوجهين حسن في { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق. وأقول: اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ويجمعهم فرق أربع. الفرقة الأولى: الذين قالوا: الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح والإقرار باللسان، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية، وأهل الحديث، أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنّة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً. فقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر، وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق، ولذلك يقال فلان آمن بالله وبرسوله، ويكون المراد التصديق، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى وصام، بل يقال فلان آمن بالله كما يقال صام وصلى لله، فالإيمان المُعدَّى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة، أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي ـ الذي هو التصديق ـ إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات، وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار بن أحمد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثانيها: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم. وثالثها: أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد، فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر، والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد، وهو قول النظام، ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها. وأما أهل الحديث فذكروا وجهين: الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار، لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب. الثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها وهو إيمان واحد وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه، ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل. الفرقة الثانية: الذين قالوا: الإيمان بالقلب واللسان معاً، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب الأول: أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين. أحدهما: اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم ـ سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو كان علماً صادراً عن الدليل ـ وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال. وثانيهما: اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال بعض المتكلمين: هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ثم أنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو عالماً لذاته وبكونه مرئياً أو غيره لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان. القول الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً، وهو قول بشر بن غِياث المريسي، وأبي الحسن الأشعري، والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس. القول الثالث: قول طائفة من الصوفية: الإيمان إقرار باللسان، وإخلاص بالقلب. الفرقة الثالثة: الذين قالوا: الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين: أحدهما: أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب، حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان. أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان. وحكى الكعبي عنه: أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم. وثانيهما: أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب وهو قول الحسين بن الفضل البجلي. الفرقة الرابعة: الذين قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط وهم فريقان: الأول: أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيماناً، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولاً لغيلان. الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع، والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر ههنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب فنقول: أن من قال العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفاً بالحدوث، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثاً، والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمراً واحداً يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول، ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم، لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني، بقي ههنا بحث لفظي وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهين أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | القيد الأول: أن الإيمان عبارة عن التصديق ويدل عليه وجوه: الأول: أنه كان في أصل اللغة للتصديق، فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلماً بغير كلام العرب، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربياً. الثاني: أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين فلو صار منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى، ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع. الثالث: أجمعنا على أن الإيمان المعدى بحرف الباء مبقي على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدى كذلك. الرابع: أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال:**{ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ }** [البقرة: 41] وقوله:**{ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ }** [النحل: 106]**{ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ }** [المجادلة: 22]**{ وَلَـٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ }** [الحجرات: 14] الخامس: أن الله تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به ولو كان العمل الصالح داخلاً في الإيمان لكان ذلك تكراراً. السادس: أنه تعالى كثيراً ذكر الإيمان وقرنه وبالمعاصي، قال:**{ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ }** [الأنعام: 82]**{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىء إِلَىٰ أَمْر الله }** [الحجرات: 9] واحتج ابن عباس على هذا بقوله تعالى:**{ يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى }** [البقرة: 178] من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن القصاص إنما يجب على القاتل المتعمد ثم أنه خاطبه بقوله: { يا أيها الذين آمنوا } فدل على أنه مؤمن. وثانيها: قوله:**{ فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء }** [البقرة: 178] وهذه الأخوة ليست إلا إخوة الإيمان، لقوله تعالى:**{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }** [الحجرات: 10] وثالثها: قوله:**{ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ }** [البقرة: 178] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن، ومما يدل على المطلوب قوله تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ آمنوا ولم يهاجروا }** [الأنفال: 72] هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ }** [النحل: 28] وقوله:**{ مَالَكُمْ مّن وَلـٰيَتِهِم مّن شَىْء حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ }** [الأنفال: 72] ومع هذا جعلهم مؤمنين ويدل أيضاً عليه قوله تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء }** [الممتحنة: 1] وقال:**{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ }** [الأنفال: 27] وقوله تعالى:**{ يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً }** [التحريم: 8] والأمر بالتوبة لمن لا ذنب له محال وقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ }** [النور: 31] لا يقال فهذا يقتضي أن يكون كل مؤمن مذنباً وليس كذلك قولنا: هب أنه خص فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجة. القيد الثاني: أن الإيمان ليس عبارة عن التصديق اللساني، والدليل عليه قوله تعالى:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }** [البقرة: 8] نفي كونهم مؤمنين، ولو كان الإيمان بالله عبارة عن التصديق اللساني لما صح هذا النفي. القيد الثالث: أن الإيمان ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً. القيد الرابع: ليس من شرط الإيمان التصديق بجميع صفات الله عزّ وجلّ لأن الرسول عليه السلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالماً لذاته أو بالعلم، ولو كان هذا القيد وأمثاله شرطاً معتبراً في تحقيق الإيمان لما جاز أن يحكم الرسول بإيمانه قبل أن يجربه في أنه هل يعرف ذلك أم لا. فهذا هو بيان القول في تحقيق الإيمان، فإن قال قائل: ها هنا صورتان: الصورة الأولى: من عرف الله تعالى بالدليل والبرهان ولما تم العرفان مات ولم يجد من الزمان والوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة. فههنا إن حكمتم أنه مؤمن فقد حكمتم بأن الإقرار اللساني غير معتبر في تحقيق الإيمان، وهو خرق للإجماع، وإن حكمتم بأنه غير مؤمن فهو باطل لقوله عليه السلام: **" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "** وهذا قلب طافح بالإيمان، فكيف لا يكون مؤمناً؟ الصورة الثانية: من عرف الله تعالى بالدليل ووجد من الوقت ما أمكنه أن يتلفظ بكلمة الشهادة ولكنه لم يتلفظ بها فإن قلتم إنه مؤمن فهو خرق للإجماع، وإن قلتم ليس بمؤمن فهو باطل لقوله عليه السلام: **" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان "** ولا ينتقي الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق. والجواب: أن الغزالي منع من هذا الإجماع في الصورتين، وحكم بكونهما مؤمنين، وأن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان. المسألة الرابعة: قيل: { ٱلْغَيْبَ } مصدر أقيم مقام اسم الفاعل، كالصوم بمعنى الصائم، والزور بمعنى الزائر، ثم في قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قولان: الأول: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني ـ أن قوله: { بِٱلْغَيْبِ } صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزءون. ونظيره قوله تعالى:**{ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }** [يوسف: 52] ويقول الرجل لغيره: نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب، وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقاً لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والثاني: وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائباً عن الحاسة ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثناء العظيم. واحتج أبو مسلم على قوله بأمور: الأول: أن قوله:**{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }** [البقرة: 4] إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وأنه غير جائز: الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى:**{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }** [الأنعام: 59] أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور الثالث: لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته، فقوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته، ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة، وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور. والجواب عن الأول: أن قوله: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من باب عطف التفصيل على الجملة، وهو جائز كما في قوله:**{ وَمَلَـٰئِكَتُهُ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلُ وَمِيكَـٰلَ }** [البقرة: 98] وعن الثاني: أنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً. فإن قيل أفتقولون: العبد يعلم الغيب أم لا؟ قلنا قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما لا دليل عليه أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره، وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن تقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، ويفيد الكلام فلا يلتبس، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة. وعن الثالث: لا نسلم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور، والدليل على ذلك أن المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد. ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | المسألة الخامسة: قال بعض الشيعة: المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر، أما القرآن فقوله:**{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }** [النور: 55] وأما الخبر فقوله عليه السلام: **" لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً "** واعلم أن تخصيص المطلق من غير الدليل باطل. المسألة السادسة: ذكروا في تفسير إقامة الصلاة وجوهاً: أحدها: أن إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود إذا قومه. وثانيها: أنها عبارة عن المداومة عليها كما قال تعالى:**{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }** [المعارج: 34] وقال:**{ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ }** [المعارج: 23] من قامت السوق إذا نفقت، وإقامتها نفاقها لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه وثالثها: أنها عبارة عن التجرد لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها، وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط. ورابعها: إقامتها عبارة عن أدائها، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنها بالقنوت وبالركوع وبالسجود، وقالوا: سبح إذا صلى، لوجود التسبيح فيها، قال تعالى:**{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ }** [الصافات: 143] واعلم أن الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه من الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها ولذلك فإن القيم بأرزاق الجند إنما يوصف بكونه قيماً إذا أعطى الحقوق من دون بخس ونقص ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيوم لأنه يجب دوام وجوده ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده. المسألة السابعة: ذكروا في لفظ الصلاة في أصل اللغة وجوهاً. أحدها: أنها الدعاء قال الشاعر: | **وقابلها الريح في دنها** | | **وصلى على دنها وارتشم** | | --- | --- | --- | وثانيها: قال الخارزنجي. اشتقاقها من الصلى، وهي النار، من قولهم: صليت العصا إذا قومتها بالصلى، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل باطنه وظاهره مثل من يحاول تقويم الخشبة بعرضها على النار. وثالثها: أن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى:**{ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً }** [الغاشية: 4]**{ سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ }** [المسد: 3] وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصلياً. ورابعها: قال صاحب الكشاف: الصلاة فعلة من «صلى» كالزكاة من «زكى» وكتبتها بالواو على لفظ المفخم، وحقيقة صلى حرك الصلوين، لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل الداعي مصلي تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد، وأقول ها هنا بحثان: الأول: إن هذا الاشتقاق الذي ذكره صاحب الكشاف يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة، وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن يقال: مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمان الرسول موضوعة لمعان أخر، وكان مراد الله تعالى منها تلك المعاني، إلا أن تلك المعاني خفيت في زماننا واندرست كما وقع مثله في هذه اللفظة، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني: الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة يتلو بعضها بعضاً مفتتحة بالتحريم، مختتمة بالتحليل، وهذا الاسم يقع على الفرض والنفل. لكن المراد بهذه الآية الفرض خاصة لأنه الذي يقف الفلاح عليه لأنه عليه السلام لما بين للإعرابي صفة الصلاة المفروضة قال والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" أفلح إن صدق "** المسألة الثامنة: الرزق في كلام العرب هو الحظ قال تعالى:**{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ }** [الواقعة: 82] أي حظكم من هذا الأمر، والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره ثم قال بعضهم: الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل، لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال:**{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُمْ }** [الرعد: 22] فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه. وقال آخرون: الرزق هو ما يملك وهو أيضاً باطل، لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولداً صالحاً أو زوجة صالحة وهو لا يملك الولد ولا الزوجة، ويقول: اللهم ارزقني عقلاً أعيش به وليس العقل بمملوك، وأيضاً البهيمة يكون لها رزق ولا يكون لها ملك. وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحسين البصري: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا: قد رزقنا الله تعالى الأموال، فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالاً فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص، وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص، وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به، ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به، واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقاً. وقال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقاً، فحجة الأصحاب من وجهين: الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظاً ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له الثاني: أنه تعالى قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** [هود: 6] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئاً. أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب فوجوه: أحدها: قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى، فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق. وثانيها: لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى:**{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُمْ }** [البقرة: 254] وأجمع المسلون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده، فدل على أن الحرام لا يكون رزقاً. وثالثها: قوله تعالى:**{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءآللَّهِ أَذِنَ لَكُمْ }** [يونس: 59] فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً، وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال. كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة فقال له يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأئذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال عليه السلام: **" لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله رزقاً طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئاً ضربتك ضرباً وجيعا "** وأما المعنى فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به، من منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال. إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان لكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال:**{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ }** [الإنسان: 6] فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضاً من العباد، وكذلك ها هنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقاً أيضاً، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا، لأن قوله عليه السلام: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه "** صريح في أن الرزق قد يكون حراماً وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض للغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ والله أعلم. المسألة التاسعة: أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه نفق المبيع نفاقاً إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها، ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى:**{ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى ٱلأرْضِ }** [الأنعام: 35]. المسألة العاشرة: في قوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } فوائد: أحدها: أدخل من التبعيضية صيانة لهم، وكفى عن: الإسراف والتبذير المنهي عنه. وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به. وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة وهي قوله في آية الكنز:**{ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّه }** [التوبة: 34]. وثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله: { وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } وأراد به الصدقة لقوله بعده:**{ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِين }** [المنافقون: 10] فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
فيها ست وعشرون مسألة: الأولى: قوله: { ٱلَّذِينَ } في موضع خفض نعت «للمتقين»، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين، ويجوز النصب على المدح. { يُؤْمِنُونَ } يصدقون. والإيمان في اللغة: التصديق وفي التنزيل:**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }** [يوسف: 17] أي بمصدق ويتعدّى بالباء واللام كما قال:**{ وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ }** [آل عمران: 73]**{ فَمَآ ءامَنَ لِمُوسَىٰ }** [يونس: 83]. وروى حجاج بن حجاج الأحول ـ ويلقب بزق العَسَل ـ قال سمعت قتادة يقول: يا ابن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السّأْمة والفَتْرَة والملّة ولكنّ المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المُتقوَّى، والمؤمن هو المتشدّد، وإن المؤمنين هم العجّاجون إلى الله الليل والنهار واللَّهِ ما يزال المؤمن يقول: ربَّنا ربَّنا في السرّ والعلانية حتى ٱستجاب لهم في السر والعلانية. الثانية: قوله تعالى: { بِٱلْغَيْبِ } في كلام العرب: كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء يقال منه: غابت الشمس تَغيب والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهي مُغيبة إذا غاب عنها زوجها ووقعنا في غَيبة وغَيابة، أي هبطة من الأرض والغيابة: الأَجَمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر. الثالثة: وٱختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه. وضعّفه ٱبن العربي. وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ٱبن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها. قلت: وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان. قال: **" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقَدَر خيره وشره "** قال: صدقت. وذكر الحديث. وقال عبد اللَّه بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. قلت: وفي التنزيل:**{ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ }** [الأعراف: 7]، وقال:**{ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ }** [الأنبياء: 49]. فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مَرْئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال فهم يؤمنون أن لَهم رَبًّا قادراً يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم بٱطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض والحمد لله. وقيل: «بالغيب» أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين وهذا قول حسن. وقال الشاعر: | **وبالغيب آمنّا وقد كان قومُنا** | | **يصلّون للأوثان قبل محمّد** | | --- | --- | --- | الرابعة: قوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } معطوف جملة على جملة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها على ما يأتي بيانه. يقال: قام الشيء أي دام وثبت وليس من القيام على الرِّجْل وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت قال الشاعر: | **وقامت الحرب بنا على ساق** | | | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **وإذا يقال أتيتُم لم يبرحوا** | | **حتى تُقيم الخيلُ سُوقَ طِعانِ** | | --- | --- | --- | وقيل: «يقيمون» يديمون، وأقامه أي أدامه وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضَيّعها فهو لما سواها أضيع. الخامسة: إقامة الصلاة معروفة وهي سنة عند الجمهور، وأنه لا إعادة على تاركها. وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وٱبن أبي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الإعادة وبه قال أهل الظاهر، وروي عن مالك، وٱختاره ٱبن العربي قال: لأن في حديث الأعرابي: «وأقم» فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء. قال: فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعيّن عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الإقامة فرض. قال ٱبن عبد البر قوله صلى الله عليه وسلم: **" وتحريمها التكبير "** دليل على أنه لم يَدخل في الصلاة من لم يُحْرِم، فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للاجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك. وقال بعض علمائنا: مَن تركها عمداً أعاد الصلاة، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن، والله أعلم. السادسة: وٱختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يُسرع أوْ لا؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام: **" إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسعَون وأتوها تمشون وعليكم السكِينة فما أدركتم فصَلُّوا وما فاتكم فأتِمُّوا "** رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وعنه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إذا ثُوّب بالصلاة فلا يَسْعَ إليها أحدكم ولكن لِيمْشِ وعليه السَّكِينة والوقار صَلِّ ما أدركت وٱقضِ ما سبقك "** وهذا نص. ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع ٱنبهر فشوّش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها. وذهب جماعة من السلف منهم ٱبن عمر وٱبن مسعود على ٱختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع. وقال إسحٰق: يسرع إذا خاف فوات الركعة وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرّك الفرس وتأوّله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي. قلت: وٱستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار لأنه في صلاة ومحال أن يكون خبره صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبر فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة، وما خرّجه الدّارمي في مسنده قال: حدّثنا محمد بن يوسف قال حدّثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عُجْرَة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تُشَبِّكَنّ بين أصابعك فإنك في صلاة "** فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلّي وهذه السنن تبيّن معنى قوله تعالى:**{ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ }** [الجمعة: 9] وأنه ليس المراد به الاشتداد على الأقدام، وإنما عنى العمل والفعل هكذا فسره مالك. وهو الصواب في ذلك والله أعلم. السابعة: وٱختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: **" وما فاتكم فأتِمُّوا "** وقوله: **" وٱقض ما سبقك "** هل هما بمعنىً واحد أوْ لا؟ فقيل: هما بمعنىً واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام، قال الله تعالى:**{ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ }** [الجمعة: 10] وقال:**{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ }** [البقرة: 200]. وقيل: معناهما مختلف وهو الصحيح ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أوّل صلاته أو آخرها؟ فذهب إلى الأوّل جماعة من أصحاب مالك ـ منهم ٱبن القاسم ـ ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة، فيكون بانياً في الأفعال قاضياً في الأقوال. قال ٱبن عبد البر: وهو المشهور من المذهب. وقال ٱبن خُوَيْزْ مَنْدَاد: وهو الذي عليه أصحابنا، وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود بن عليّ. وروى أشهب وهو الذي ذكره ٱبن عبد الحكم عن مالك، ورواه عيسى عن ٱبن القاسم عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وأنه يكون قاضياً في الأفعال والأقوال وهو قول الكوفيين. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: وهو مشهور مذهب مالك. قال ٱبن عبد البر: من جعل ما أدرك أوّلَ صلاته فأظنهم راعوا الإحرام لأنه لا يكون إلا في أوّل الصلاة، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في آخرها فمن ها هنا قالوا: إن ما أدرك فهو أوّل صلاته، مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله: **" فأتموا "** والتمام هو الآخر. وٱحتج الآخرون بقوله: **" فٱقضوا "** والذي يقضيه هو الفائت، إلا أن رواية من روى **" فأتموا "** أكثر، وليس يستقيم على قول من قال: إن ما أدرك أوّل صلاته ويطرد، إلا ما قاله عبد العزيز بن أبي سَلَمة الماجِشُون والمزني وإسحٰق وداود من أنه يقرأ مع الإمام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها فهؤلاء ٱطرد على أصلهم قولهم وفعلهم رضي الله عنهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثامنة: الإقامة تمنع من ٱبتداء صلاة نافلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة "** خرّجه مسلم وغيره فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها لقوله تعالى:**{ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ }** [محمد: 33] وخاصة إذا صلى ركعة منها. وقيل: يقطعها لعموم الحديث في ذلك. والله أعلم. التاسعة: وٱختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة فقال مالك: يدخل مع الإمام ولا يركعهما وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد ـ التي تصلَّى فيها الجمعة ـ اللاصقة بالمسجد وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب وَلأنْ يصلّيهما إذا طلعت الشمس أحبّ إليّ وأفضل من تركهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الإمام. وكذلك قال الأوزاعي إلا أنه يجوِّز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة. وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد. وقال الحسن بن حَيّ ويقال ٱبن حَيَان: إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوّع إلا ركعتي الفجر. وقال الشافعي: من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك وهو الصحيح في ذلك لقوله عليه السلام: **" إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة "** وركعتا الفجر إمّا سنة، وإمّا فضيلة، وإمّا رَغِيبة والحجة عند التنازع حجة السُّنة. ومن حجة قول مالك المشهور وأبي حنيفة ما روي عن ٱبن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حُجرة حفصة، ثم إنه صلى مع الإمام. ومن حجة الثَوْري والأوزاعي ما روي عن عبد اللَّه بن مسعود أنه دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فصلي إلى أُسْطُوَانة في المسجد ركعتي الفجر، ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما. قالوا: وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد، روى مسلم عن عبد اللَّه بن مالك ٱبن بُحَيْنَة قال: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي والمؤذن يقيم، فقال: **" أتصلي الصبح أربعاً "** وهذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي، ويمكن أن يستدل به أيضاً على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صَحّت لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | العاشرة: الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صَلّى يصلّي إذا دعا ومنه قوله عليه السلام: **" إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليُجِب فإن كان مفطراً فليطعم وإن كان صائماً فليُصَلّ "** أي فليدْعُ. وقال بعض العلماء: إن المراد الصلاة المعروفة، فيصلي ركعتين وينصرف والأوّل أشهر وعليه من العلماء الأكثر. ولما وَلدت أسماءُ عبد اللَّه بن الزبير أرسلته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت أسماء: ثم مسحه وصلّى عليه، أي دعا له. وقال تعالى:**{ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ }** [التوبة: 103] أي ٱدع لهم. وقال الأعشى: | **تقول بِنْتي وقد قَرُبتُ مرتحلاً** | | **يا ربّ جنّب أبي الأوْصاب والوَجَعَا** | | --- | --- | --- | | **عليكِ مثلَ الذي صلّيتِ فاغْتمِضِي** | | **نوماً فإن لجَنْبِ المرء مُضطجَعَا** | وقال الأعشى أيضاً: | **وقابلها الرّيح في دَنِّها** | | **وصلَّى على دَنِّها وارتْسَمْ** | | --- | --- | --- | ٱرتسم الرجل: كبّر ودعا قاله في الصحاح. وقال قوم: هي مأخوذة من الصَّلا وهو عِرْق في وسط الظهر ويفترق عند العَجْب فيكتنفه ومنه أُخذ المُصَلَّي في سبق الخيل لأنه يأتي في الحَلْبة ورأسه عند صَلْوَى السابق فٱشتقت الصلاة منه، إمّا لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمُصَلِّى من الخيل، وإما لأن الراكع تثنى صَلَوَاه. والصَّلا: مَغْرِز الذَّنَب من الفرس، والاثنان صلوان. والمُصَلّى: تالي السابق لأن رأسه عند صَلاه. وقال عليّ رضي الله عنه: سَبَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصَلَّى أبو بكر وثَلّث عمر. وقيل: هي مأخوذة من اللزوم ومنه صَلِي بالنار إذا لزمها ومنه**{ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً }** [الغاشية: 4]. قال الحارث بن عُبَاد: | **لم أكن من جُنَاتِها علم اللّـ** | | **ـهُ وإنّي بحرّها اليومَ صالِ** | | --- | --- | --- | أي ملازم لحرّها وكأنّ المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحدّ الذي أمر الله تعالى به. وقيل: هي مأخوذة من صَلَيت العود بالنار إذا قوّمته وليّنته بالصّلاء. والصِّلاء: صِلاء النار بكسر الصاد ممدود فإن فتحت الصاد قَصَرْت، فقلت صَلا النار، فكأنّ المصلي يقوّم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع قال الخارزنجي: | **فلا تعْجل بأمرك وٱستدمْهُ** | | **فما صَلَّى عصاك كمستديمِ** | | --- | --- | --- | والصلاة: الدعاء. والصلاة: الرحمة ومنه: **" اللّهم صلّ على محمد "** الحديث. والصلاة: العبادة ومنه قوله تعالى:**{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ }** [الأنفال: 35] الآية أي عبادتهم. والصلاة: النافلة ومنه قوله تعالى:**{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ }** [طه: 132]. والصلاة التسبيح ومنه قوله تعالى:**{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ }** [الصافات: 143] أي من المصلين. ومنه سُبْحة الضحى. وقد قيل في تأويل**{ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }** [البقرة: 30]: نصلّي. والصلاة: القراءة ومنه قوله تعالى:**{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ }** [الإسراء: 110] فهي لفظ مشترك. والصلاة: بيت يصلّى فيه قاله ٱبن فارس. وقد قيل: إن الصلاة ٱسم عَلَم وضع لهذه العبادة فإن الله تعالى لم يُخلِ زماناً من شرع، ولم يُخلَ شرع من صلاة حكاه أبو نصر القشيري. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قلت: فعلى هذا القول لا ٱشتقاق لها وعلى قول الجهور وهي: الحادية عشرة: ٱختلف الأصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي، وكذلك الإيمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرّها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع. هنا ٱختلافهم والأوّل أصح لأن الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين ولكن للعرب تحكُم في الأسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدِب ثم خصصها العرف بالبهائم فكذلك لعرف الشرع تحكُّم في الأسماء، والله أعلم. الثانية عشرة: وٱختلف في المراد بالصلاة هنا فقيل: الفرائض. وقيل: الفرائض والنوافل معاً وهو الصحيح لأن اللفظ عام والمتّقي يأتي بهما. الثالثة عشرة: الصلاة سبب للرزق قال الله تعالى:**{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ }** [طه:132] الآية على ما يأتي بيانه في «طه» إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره روى ٱبن ماجه عن أبي هريرة قال: **" هَجَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم فهجَّرتُ فصليتُ ثم جلستُ فٱلتفت إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أشكمت دَرْدَه» قلت: نعم يا رسول الله قال: «قم فصلّ فإن في الصلاة شفاء». في رواية: «أشكمت درد» "** يعني تشتكي بطنك بالفارسية وكان عليه الصلاة والسلام إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة. الرابعة عشرة: الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض فمن شروطها: الطهارة، وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة. وستر العورة، يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى. وأما فروضها: فاستقبال القبلة، والنية، وتكبيرة الإحرام والقيام لها، وقراءة أم القرآن والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثاني والطمأنينة فيه. والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أخَلَّ بها، فقال له: **" إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم ٱستقبل القبلة ثم كبر ثم ٱقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم ٱركع حتى تطمئن راكعاً ثم ٱرفع حتى تعتدل قائماً ثم ٱسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ٱرفع حتى تطمئن جالساً ثم ٱفعل ذلك في صلاتك كلها "** خرّجه مسلم. ومثله حديث: رفاعة بن رافع، أخرجه الدّارقُطْنِي وغيره. قال علماؤنا: فبيّن قوله صلى الله عليه وسلم أركان الصلاة، وسكت عن الإقامة ورفع اليدين وعن حدّ القراءة وعن تكبير الانتقالات، وعن التسبيح في الركوع والسجود، وعن الجلسة الوسطى، وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام. أما الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما. وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع. وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال بعض أصحابه: الرفع عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب، وإنّ من لم يرفع يديه فصلاته باطلة وهو قول الحميدي، ورواية عن الأوزاعي. وٱحتجوا بقوله عليه السلام: **" صلُّوا كما رأيتموني أصلي "** أخرجه البخاري. قالوا: فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل لأنه المبلِّغ عن الله مرادَه. وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور. وكان ٱبن قاسم صاحب مالك يقول: من أسقط من التكبير في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، وإن لم يسجد بطلت صلاته وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضاً للسهو، فإن لم يفعل فلا شيء عليه وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها. وهذا يدل على أن عُظْم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه. وقال أصْبَغ بن الفرج وعبد اللَّه بن عبد الحكم: ليس على من لم يكبّر في الصلاة من أوّلها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام، فإن تركه ساهياً سجد للسهو، فإن لم يسجد فلا شيء عليه ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامداً لأنه سنة من سنن الصلاة، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية. قلت: هذا هو الصحيح، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غيرَ من ذهب مذهب ٱبن القاسم. وقد ترجم البخاري رحمه الله باب إتمام التكبير في الركوع والسجود وساق حديث مُطَرِّف بن عبد اللَّه قال: صلّيت خلف عليّ بن أبي طالب أنا وعمران بن حُصين، فكان إذا سجد كبّر، وإذا رفع رأسه كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر فلما قضى الصلاة أخذ بيدِي عمرانُ بن حصين فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. وحديثَ عكرمة قال: رأيت رجلاً عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ٱبن عباس فقال: أو ليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا أُمَّ لك! فدلّك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به عندهم. روى أبو إسحاق السَّبِيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال: صلّى بنا عليّ يوم الجمل صلاة أذكرنا بها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود قال أبو موسى: فإما نسيناها وإما تركناها عمداً. قلت: أتراهم أعادوا الصلاة! فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته! ولو كان ذلك لم يكن فرق بين السنة والفرض، والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه وبالله التوفيق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الخامسة عشرة: وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور وأوجبه إسحٰق بن رَاهْوَيْه، وأن من تركه أعاد الصلاة، لقوله عليه السلام: **" أما الركوع فعظموا فيه الربّ وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِن أن يستجاب لكم ".** السادسة عشرة: وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك فقال مالك وأصحابه: الجلوس الأوّل والتشهد له سنتان. وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأوّل وقالوا: هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعَرايا من المُزَابنة، والقِراض من الإجارات، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعاً. وٱحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة. ٱحتج من لم يوجبه بأن قال: لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به، كما لو ترك سجدة أو ركعة ويراعى فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما. وفي حديث عبد اللَّه بن بُحَيْنة: **" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين ونسي أن يتشهد فسبّح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائماً فقاموا فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم "** فلو كان الجلوس فرضاً لم يسقطه النسيان والسهو لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم. وٱختلفوا في حكم الجلوس الأخير في الصلاة وما الغرض من ذلك. وهي: السابعة عشرة: على خمسة أقوال: أحدها: أن الجلوس فرض والتشهد فرض والسلام فرض. وممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في رواية، وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة، وبه قال داود. قال الشافعي: من ترك التشهد الأوّل والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم فلاإعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه. وإذا ترك التشهد الأخير ساهياً أو عامداً أعاد. وٱحتجوا بأن بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض لأن أصل فرضها مجمل يفتقر إلى البيان إلا ما خرج بدليل. وقد قال صلى الله عليه وسلم: **" صلوا كما رأيتموني أصلي ".** القول الثاني: أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب، وإنما ذلك كله سنة مسنونة هذا قول بعض البصريين، وإليه ذهب إبراهيم بن عُلَيّة، وصرح بقياس الجلسة الأخيرة على الأولى، فخالف الجمهور وشذّ إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئاً من ذلك كله. ومن حجتهم حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا رفع الإمام رأسه من آخر سجدةٍ في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته "** وهو حديث لا يصح على ما قاله أبو عمر وقد بيناه في كتاب المقتبس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا اللفظ إنما يُسقط السلام لا الجلوس. القول الثالث: إن الجلوس مقدار التشهد فرض، وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضاً. قاله أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين. وٱحتجوا بحديث ٱبن المبارك عن الإفريقي عبد الرحمن بن زياد وهو ضعيف وفيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلّم فقد تمت صلاته "** قال ٱبن العربي: وكان شيخنا فخر الإسلام ينشدنا في الدرس: | **ويرى الخروج من الصلاة بضَرْطَة** | | **أيْن الضّراطُ من السلامِ عليكُم** | | --- | --- | --- | قال ٱبن العربي: وسلك بعض علمائنا من هذه المسألة فرعين ضعيفين، أما أحدهما: فروى عبد الملك عن عبد الملك أن من سلَّم من ركعتين متلاعبا، فخرج البيان أنه إن كان على أربع أنه يجزئه، وهذا مذهب أهل العراق بعينه. وأما الثاني: فوقع في الكتب المنبوذة أن الإمام إذا أحدث بعد التشهد متعمداً وقبل السلام أنه يجزىءُ من خلفَه، وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه في الفتوى وإن عمرت به المجالس للذكرى. القول الرابع: أن الجلوس فرض والسلام فرض، وليس التشهد بواجب. وممن قال هذا مالك بن أنس وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية. وٱحتجوا بأن قالوا: ليس شيء من الذكر يجب إلا تكبيرة الإحرام، وقراءة أم القرآن. القول الخامس: أن التشهد والجلوس واجبان، وليس السلام بواجب قاله جماعة منهم إسحٰق بن رَاهْوَيْه، وٱحتج إسحٰق بحديث ٱبن مسعود حين علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وقال له: **" إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك "** قال الدّارقُطّني: قوله **" إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك "** أدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، ووصله بكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وفصله شَبَابة عن زهير وجعله من كلام ٱبن مسعود، وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم. وشَبَابة ثقة. وقد تابعه غَسّان بن الربيع على ذلك، جعل آخر الحديث من كلام ٱبن مسعود ولم يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. الثامنة عشرة: وٱختلف العلماء في السلام فقيل: واجب، وقيل: ليس بواجب. والصحيح وجوبه لحديث عائشة وحديث عليّ الصحيح خرّجه أبو داود والترمذيّ ورواه سفيان الثوريّ عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن عليّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم "** وهذا الحديث أصل في إيجاب التكبير والتسليم، وأنه لا يجزىء عنهما غيرهما كما لا يجزىء عن الطهارة غيرها باتفاق. قال عبد الرحمن بن مهدي: لو ٱفتتح رجل صلاته بسبعين ٱسماً من ٱسماء الله عز وجلّ ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه، وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه وهذا تصحيح من عبد الرحمن بن مهدي لحديث عليّ، وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وحَسْبُك به! وقد ٱختلف العلماء في وجوب التكبير عند الافتتاح وهي: التاسعة عشرة:فقال ٱبن شهاب الزهري وسعيد بن المسيّب والأوزاعي وعبد الرحمن وطائفة: تكبيرة الإحرام ليست بواجبة. وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة وهو الصواب وعليه الجمهور، وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسنة. الموفية عشرين: وٱختلف العلماء في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة فقال مالك وأصحابه وجمهور العلماء: لا يجزىء إلا التكبير، لا يجزىء منه تهليل ولا تسبيح ولا تعظيم ولا تحميد. هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين ولا يجزىء عند مالك إلا «الله أكبر» لا غير ذلك. وكذلك قال الشافعي وزاد: ويجزىء «الله الأكبر» و «الله الكبير». والحجة لمالك حديث عائشة قالت: **" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ «ـالحمد لله رب العالِمين» "** وحديث عليّ: وتحريمها التكبير. وحديث الأعرابي: فكبّر. وفي سنن ٱبن ماجه حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعليّ بن محمد الطنافسي قالا: حدّثنا أبو أسامة قال حدّثني عبد الحميد بن جعفر قال حدّثنا محمد ابن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي يقول: **" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة ٱستقبل القبلة ورفع يديه وقال: «الله أكبر» "** وهذا نص صريح وحديث صحيح في تعيين لفظ التكبير قال الشاعر: | **رأيتُ الله أكبرَ كلِّ شيء** | | **محاولةً وأعظمه جنودا** | | --- | --- | --- | ثم إنه يتضمن القدم، وليس يتضمنه كبير ولا عظيم، فكان أبلغ في المعنى والله أعلم. وقال أبو حنيفة: إن ٱفتتح بلا إلٰه إلا الله يجزيه. وإن قال: اللهم ٱغفر لي لم يجزه، وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: لا يجزئه إذا كان يحسن التكبير. وكان الحكم بن عتيبة يقول: إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه. قال ٱبن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من أحسن القراءة فهلّل وكبّر ولم يقرأ أن صلاته فاسدة، فمن كان هذا مذهبه فاللازم له أن يقول لا يجزيه مكان التكبير غيره، كما لا يجزىء مكان القراءة غيرها. وقال أبو حنيفة: يجزئه التكبير بالفارسية وإن كان يحسن العربية. قال ٱبن المنذر: لا يجزيه لأنه خلاف ما عليه جماعات المسلمين، وخلاف ما علّم النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته، ولا نعلم أحداً وافقه على ما قال. والله أعلم. الحادية و العشرون: وٱتفقت الأمة على وجوب النية عند تكبيرة الإحرام إلا شيئاً روي عن بعض أصحابنا يأتي الكلام عليه في آية الطهارة وحقيقتها قصد التقرّب إلى الآمر بفعل ما أمر به على الوجه المطلوب منه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال ٱبن العربي: والأصل في كل نية أن يكون عقدها مع التلبس بالفعل المنويّ بها، أو قبل ذلك بشرط ٱستصحابها، فإن تقدّمت النية وطرأت غفلة فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتد بها. كما لا يعتد بالنية إذا وقعت بعد التلبس بالفعل، وقد رخص في تقديمها في الصوم لعظم الحرج في ٱقترانها بأوّله. قال ٱبن العربيّ: وقال لنا أبو الحسن القرويّ بثَغْر عسقلان: سمعت إمام الحرمين يقول: يحضر الإنسان عند التلبس بالصلاة النية، ويجرد النظر في الصانع وحدوث العالم والنبوّات حتى ينتهي نظره إلى نية الصلاة، قال: ولا يحتاج ذلك إلى زمان طويل، وإنما يكون ذلك في أوحى لحظة، لأن تعليم الجمل يفتقر إلى الزمان الطويل، وتذكارها يكون في لحظة، ومن تمام النية أن تكون مستصحبة على الصلاة كلها، إلا أن ذلك لما كان أمراً يتعذر عليه سمح الشرع في عزوب النية في أثنائها. سمعت شيخنا أبا بكر الفهري بالمسجد الأقصى يقول قال محمد بن سحنون: رأيت أبي سحنونا ربما يكمل الصلاة فيعيدها فقلت له ما هذا؟ فقال: عَزَبت نيتي في أثنائها فلأجل ذلك أعدتها. قلت: فهذه جملة من أحكام الصلاة، وسائر أحكامها يأتي بيانها في مواضعها من هذا الكتاب بحول الله تعالى فيأتي ذكر الركوع وصلاة الجماعة والقبلة والمبادرة إلى الأوقات، وبعض صلاة الخوف في هذه السورة، ويأتي ذكر قصر الصلاة وصلاة الخوف، في «النساء» والأوقات في «هود وسبحان والروم» وصلاة الليل في «المزمل» وسجود التلاوة في «الأعراف» وسجود الشكر في «ص» كلٌّ في موضعه إن شاء الله تعالى.الثانية والعشرون: قوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } رزقناهم: أعطيناهم، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به حلالاً كان أو حراماً، خلافاً للمعتزلة في قولهم: إن الحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه، وإن الله لا يرزق الحرام وإنما يرزق الحلال، والرزق لا يكون إلا بمعنى المِلك. قالوا: فلو نشأ صبي مع اللصوص ولم يأكل شيئاً إلا ما أطعمه اللصوص إلى أن بلغ وقوي وصار لصاً، ثم لم يزل يتلصّص ويأكل ما تلصّصه إلى أن مات، فإن الله لم يرزقه شيئاً إذ لم يملكه، وإنه يموت ولم يأكل من رزق الله شيئاً. وهذا فاسد، والدليل عليه أن الرزق لو كان بمعنى التمليك لوجب ألا يكون الطفل مرزوقاً، ولا البهائم التي ترتع في الصحراء، ولا السِّخال من البهائم، لأن لبن أمهاتها ملك لصاحبها دون السخال. ولما ٱجتمعت الأمة على أن الطفل والسخال والبهائم مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين علم أن الرزق هو الغذاء ولأن الأمة مجمعة على أن العبيد والإماء مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين فعلم أن الرزق ما قلناه لا ما قالوه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والذي يدل على أنه لا رازق سواه قوله الحق:**{ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ }** [فاطر:3] وقال:**{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }** [الذاريات:58] وقال:**{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** [هود:6] وهذا قاطع فالله تعالى رازق حقيقة وٱبن آدم رازق تجّوزاً، لأنه يملك ملكاً منتزعاً كما بيناه في الفاتحة مرزوق حقيقة كالبهائم التي لا ملك لها إلا أن الشيء إذا كان مأذوناً له في تناوله فهو حلال حكماً، وما كان منه غير مأذون له في تناوله فهو حرام حكماً وجميع ذلك رزق. وقد خَرَّج بعض النبلاء من قوله تعالى:**{ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }** [سبأ:15] فقال: ذكر المغفرة يسير إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام. الثالثة والعشرون: قوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } الرزق مصدر رزق يرزق رَزقاً ورِزقاً، فالرَّزق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وجمعه أرزاق والرزق: العطاء. والرازقية: ثياب كتان بيض. وٱرتزق الجند: أخذوا أرزاقهم. والرزقة: المرة الواحدة هكذا قال أهل اللغة. وقال ٱبن السكيت: الرزق بلغة أَزْدِ شَنُوءَة: الشكر وهو قوله عزّ وجلّ:**{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }** [الواقعة:82] أي شكركم التكذيب. ويقول: رزقني أي شكرني. الرابعة والعشرون: قوله تعالى: { يُنْفِقُونَ } ينفقون: يخرجون. والإنفاق: إخراج المال من اليد ومنه نَفَق البيع: أي خرج من يد البائع إلى المشتري. ونَفَقت الدّابةُ: خرجت روحها ومنه النافِقاء لجُحْر اليربوع الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى. ومنه المنافق لأنه يخرج من الإيمان أو يخرج الإيمان من قلبه. ونَيْفَق السراويل معروفة وهو مخرج الرِّجل منها. ونَفِق الزاد: فني وأنفقه صاحبه. وأنفق القوم: فنى زادهم ومنه قوله تعالى:**{ إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ }** [الإسراء:100]. الخامسة والعشرون: وٱختلف العلماء في المراد بالنفقة ها هنا فقيل: الزكاة المفروضة ـ روي عن ٱبن عباس ـ لمقارنتها الصلاة. وقيل: نفقة الرجل على أهله ـ روي عن ٱبن مسعود ـ لأن ذلك أفضل النفقة. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" دينارٌ أنفقَته في سبيل الله ودينار أنفقته في رَقَبة ودينار تَصدّقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك "** وروي عن ثَوْبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" أفضلُ دينارٍ ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عزّ وجلّ ودينارٌ ينفقه على أصحابه في سبيل الله "** قال أبو قِلابة: وبدأ بالعيال ثم قال أبو قِلابة: وأيُّ رجلٍ أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفّهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: المراد صدقة التطوّع ـ روي عن الضحاك ـ نظراً إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة ٱحتملت الفرض والتطوّع، فإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم تكن إلا التطوّع. قال الضحاك: كانت النفقة قرباناً يتقرّبون بها إلى الله جلّ وعزّ على قدر جِدَتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في «براءة». وقيل: إنه الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ما عدا الزكاة لأن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضاً، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها. وقيل: هو عام وهو الصحيح، لأنه خرج مخرج المدح في الإنفاق مما رزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أي يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعنّ في بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه. وقيل: الإيمان بالغيب حظ القلب. وإقام الصلاة حظ البدن. ومما رزقناهم ينفقون حظ المال، وهذا ظاهر. وقال بعض المتقدّمين في تأويل قوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي مما علّمناهم يعلّمون حكاه أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم القُشيري. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية، والتصوير على التصقيل. أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالباً، ألا ترى إلى قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت: 45] وقوله عليه الصلاة والسلام: **" الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام "** أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين. وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى. أو على أنه مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين. وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى، فيكون الوقف على المتقين تاماً. والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن، كأن المصدِّق أمن من المصدَّق التكذيب والمخالفة، وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب. وأما في الشرع: فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء، ومجموع ثلاثة أمور: اعتقاد الحق، والإقرار به، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج. فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالإقرار فكافر، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقاً، وكافر عند الخوارج، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال:**{ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ }** [المجادلة: 22]،**{ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ }** [النحل: 106]،**{ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ }** [المائدة: 41]،**{ وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ }** [الحجرات: 14] وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى:**{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ }** [الحجرات: 9]**{ ٱ يـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى }** [البقرة: 178]،**{ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ }** [الأنعام: 82] مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقاً. ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه. والغيب مصدر، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى:**{ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | [الأنعام: 73] والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيباً، أو فيعل خفف كقيل، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى:**{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }** [الأنعام: 59] وقسم نصب موقع عليه دليل: كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به. وإن جعلته حالاً على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء. والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا**{ لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ }** [البقرة: 14] أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية. وقيل المراد بالغيب: القلب لأنه مستور، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. فالباء على الأول للتعدية. وعلى الثاني للمصاحبة. وعلى الثالث للآلة. { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ } أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال: | **أقَامتْ غزالةً سُوقَ الضُراب** | | **لأهْلِ العِرَاقينِ حَولاً قَمِيطا** | | --- | --- | --- | فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد، وضده قعد عن الأمر، وتقاعد. أو يؤدونها. عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح. والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب، وأفيد لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى، لا { لّلْمُصَلّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ } ، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة، وفي معرض الذم فويل للمصلين، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى، كتبتا بالواو على لفظ المفخم، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء. وقيل: أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه، وإنما سمي الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشعه بالراكع الساجد. { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } الرزق في اللغة: الحظ قال تعالى:**{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ }** [الواقعة: 82] والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه. وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه، قالوا: الحرام ليس برزق، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال المطلق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله:**{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً }** [يونس: 59] وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق، والذم لتحريم ما لم يحرم. واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة. وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن قرة: **" لقد رزقك الله طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ".** وبأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً، وليس كذلك لقوله تعالى:**{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلاْرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** [هود: 6] وأنفق الشيء وأنفده أخوان، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالاً على معنى الذهاب والخروج، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل. ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها. وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه. ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: **" إن عِلماً لا يُقال به، ككنزٌ لا يُنفق منه "** وإليه ذهب من قال: ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال الإيمان التصديق، وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤمنون يصدّقون. وقال معمر عن الزهري الإيمان العمل، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس يؤمنون يخشون. قال ابن جرير والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل قلت أما الإيمان في اللغة، فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك كما قال تعالى**{ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ }** التوبة 61 وكما قال إخوة يوسف لأبيهم**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـٰدِقِينَ }** يوسف 17 وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال كقوله تعالى**{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }** العصر 3 فأما إذا استعمل مطلقاً، فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً. هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث، أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنَّة. ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }** الملك 12 وقوله**{ مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ }** ق 33 والخشية خلاصة الإيمان والعلم كما قال تعالى**{ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ }** فاطر 28 وقال بعضهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين**{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوۤا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }** البقرة 14 وقال**{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** المنافقون 1 فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالاً أي في حال كونهم غيباً عن الناس. وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قوله تعالى { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة بن دعامة وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بالغيب قال بما جاء منه - يعني من الله تعالى - وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال الغيب القرآن وقال عطاء بن أبي رباح من آمن بالله فقد آمن بالغيب وقال إسماعيل بن أبي خالد يؤمنون بالغيب، قال بغيب الإسلام وقال زيد بن أسلم الذين يؤمنون بالغيب قال بالقدر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به. وقال سعيد بن منصور حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيّناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ { الۤمۤ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي حدّثني أسد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال قلت لأبي جمعة حدّثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم، أحدّثك حديثاً جيّداً تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، قال يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك. قال **" نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني "** طريق أخرى قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدّثنا عبد الله بن جعفر حدّثنا إسماعيل عن عبد الله ابن مسعود. حدّثنا عبد الله بن صالح حدّثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يؤمئذٍ رجاء ابن حيوة رضي الله عنه، فلما انصرف، خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال إن لكم جائزة وحقاً، أحدّثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا هات رحمك الله، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ آمنا بالله واتبعناك، قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم، يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم، يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً "** مرتين. ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه. وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري لأنه مدحهم على ذلك، وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية، لا مطلقاً. وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ "** قالوا الملائكة، قال **" وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ "** قالوا فالنبيون، قال **" وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ "** قالوا فنحن، قال **" وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ "** قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ألا إن أعجب الخلق إليّ إيماناً لقوم يكونون من بعدكم، يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها "** قال أبو حاتم الرازي المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث قلت ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن حميد - وفيه ضعف - عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه، وقال الحاكم صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعاً، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته نُوَيلة بنت أسلم قالت صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام. قال إبراهيم فحدثني رجال من بني حارثة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال **" أولئك قوم آمنوا بالغيب "** هذا حديث غريب من هذا الوجه. قال ابن عباس ويقيمون الصلاة، أي يقيمون الصلاة بفروضها. وقال الضحاك عن ابن عباس إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها، وقال قتادة إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها. وقال مقاتل بن حيان إقامتها المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور بها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إقامتها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال زكاة أموالهم، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وقال جويبر عن الضحاك كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهنّ الصدقات هن الناسخات المثبتات. وقال قتادة { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها. واختار ابن جرير أنّ الآية عامة في الزكاة والنفقات فإنه قال وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين زكاة كانت ذلك، أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه. قلت كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت "** والأحاديث في هذا كثيرة، وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء. قال الأعشى | **لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَها وإنْ ذَبَحَتْ صَلَّى عَلَيْها وزَمْزَما** | | | | --- | --- | --- | وقال أيضاً | **وقابَلَها الريحُ في دَنها وصَلّى على دَنها وارْتَسَمْ** | | | | --- | --- | --- | أنشدهما ابن جرير مستشهداً على ذلك. وقال الآخر، وهو الأعشى أيضاً | **تقولُ بِنْتي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحِلاً يارب جَنبْ أَبِي الأَوْصابَ والوَجَعا عَلَيْكِ مِثْلُ الذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضي نَوْماً فَإِنَّ لِجَنْبِ المرْءِ مُضْطَجَعا** | | | | --- | --- | --- | يقول عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي، وهذا ظاهر. ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة، في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها وأنواعها المشهورة. قال ابن جرير وأرى أن الصلاة سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعلمه مع ما يسأل ربه من حاجاته. وقيل هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب، ومنه سمي المصلي، وهو التالي للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر. وقيل هي مشتقة من الصلي، وهو الملازمة للشيء، من قوله تعالى**{ لاَ يَصْلَـٰهَآ }** الليل 15 أي لا يلزمها ويدوم فيها**{ إِلاَّ ٱلأَشْقَى }** الليل 15 وقيل مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة**{ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ }** العنكبوت 45 واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم. وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } يصدِّقون { بِٱلْغَيْبِ } بما غاب عنهم من البعث والجنة والنار { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ } أي يأتون بها بحقوقها { وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ } أعطيناهم { يُنفِقُونَ } في طاعة الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
هو وصف للمتقين كاشف. والإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع ما سيأتي. والغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك. قال القرطبي واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه، وضعفه ابن العربي. وقال آخرون القضاء والقدر. وقال آخرون القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر والنشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار. قال ابن عطية وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها، قال وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم **" فأخبرني عن الإيمان؟ قال أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره، وشرّه، قال صدقت "** انتهى. وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره، وشرّه». وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وأبو نعيم، كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قالت «صليت الظهر، أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيليا، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحوّل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أولئك قوم آمنوا بالغيب». وأخرج البزار، وأبو يعلى، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب، قال «كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال **" أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً؟ "** فقالوا يا رسول الله الملائكة، قال **" هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم، وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها "** قالوا يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته، والنبوّة، قال **" هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم، وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها "** قالوا يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال **" هم كذلك، وما يمنعهم، وقد أكرمهم الله بالشهادة "** قالوا فمن يا رسول الله؟ قال **" أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي، ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً "** وفي إسناده محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف. وأخرج الحسن بن عرفة في حزبه المشهور، والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو الحديث الأول، وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري، وهو منكر الحديث. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً، والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً، والبزار عن أنس مرفوعاً. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يا ليتني قد لقيت إخواني. قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال بلى، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني "** وأخرج نحوه ابن عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس، وفي إسناده أبو هدبة، وهو كذاب، وزاد فيه «ثم قرأ النبي**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ }** البقرة 3 الآية». وأخرج أحمد، والدارمي، والبارودي، وابن قانع معاً في معجم الصحابة، والبخاري في تاريخه، والطبراني، والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال «قلت يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بك، واتبعناك؟ قال **" ما يمنعكم من ذلك، ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي، ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً "** وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والحاكم، عن أبي عبد الرحمن الجهني قال «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" كنديان أو مَذْحجيان حتى أتيا، فإذا رجلان من مذحج، فدنا أحدهما ليبايعه، فلما أخذ بيده قال يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك، واتبعك، وصدّقك فماذا له؟ قال طوبى له فمسح على زنده، وانصرف، ثم جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال يا رسول الله أرأيت من آمن بك، وصدّقك، واتبعك، ولم يرك؟ قال طوبى له ثم طوبى له، ثم مسح على زنده، وانصرف "** وأخرج الطيالسي، وأحمد، والبخاري في تاريخه، والطبراني، والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" طوبى لمن رآني، وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي، ولم يرني سبع مرات "** وأخرج أحمد، وابن حبان، عن أبي سعيد «أن رجلاً قال يا رسول الله طوبى لمن رآك، وآمن بك؟ قال **" طوبى لمن رآني، وآمن بي، وطوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي، ولم يرني "** وأخرج الطيالسي، وعبد بن حميد، عن ابن عمر نحوه. وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدّم. وأخرج سفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وأحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم، وابن الانباري، والحاكم وصححه عن ابن مسعود، أنه قال والذي لا إلٰه غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ**{ الم \* ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | إلى قوله**{ ٱلْمُفْلِحُونَ }** البقرة 1 ــ 5 وللتابعين أقوال، والراجح ما تقدم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا، قال ابن جرير والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً، واعتقاداً، وعملاً. قال وتدل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله، وكتبه، ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. وقال ابن كثير إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً، وقولاً، وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول، وعمل، ويزيد وينقص. وقد ورد فيه آيات كثيرة. انتهى. { ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } هو معطوف على { يؤمنون } والإقامة في الأصل الدوام والثبات. يقال قام الشيء أي دام وثبت. وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك قام الحق. أي ظهر وثبت. قال الشاعر | **وقامت الحرب بنا على ساق** | | | | --- | --- | --- | وقال آخر | **وإذا يقال أقيموا لم تبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان** | | | | --- | --- | --- | وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها، وسننها، وهيئاتها في أوقاتها. والصلاة أصلها في اللغة الدعاء من صلى يصلي إذا دعا. وقد ذكر هذا الجوهري، وغيره. وقال قوم هي مأخوذة من الصلا، وهو عرق في وسط الظهر، ويفترق عند العُجْب. ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي في الحلبة، ورأسه عند صلوى السابق، فاشتقت منه الصلاة لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع يثني صلويه، والصلا مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان، والمصلي تالي السابق لأن رأسه عند صلوه. ذكر هذا القرطبي في تفسيره. وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف هذا المعنى اللغوي. وأما المعنى الشرعي، فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان، والأذكار. وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة على أصلها اللغوي أو موضوعة وضعاً شرعياً ابتدائياً. فقيل بالأوّل، وإنما جاء الشرع بزيادات هي الشروط والفروض الثابتة فيها. وقال قوم بالثاني. والرزق عند الجمهور ما صلح للانتفاع به حلالاً كان أو حراماً خلافاً للمعتزلة، فقالوا إن الحرام ليس برزق، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا. والإنفاق إخراج المال من اليد، وفي المجيء بـ " من " التبعيضية ههنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله { يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ } قال الصلوات الخمس { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال زكاة أموالهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها، وسجودها { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال أنفقوا في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قال هي نفقة الرجل على أهله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله عزّ وجل على قدر ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة هنّ الناسخات المبينات. واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنفل وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتمّ إشعار بالتعميم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي يصدقون بالغيب. والغيب: هو ما غاب عن العين، وهو محضر في القلب، وإنما أراد به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تابعهم إلى يوم القيامة أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من الله تعالى فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه. ويقال: يؤمنون بالغيب يعني بالله تعالى حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا الديبلي قال: حدثنا أبو [عبيد] الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا أصحابنا عن الحارث بن قيس أنه قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحتسب [بكم يا] أصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبته، فقال عبد الله بن مسعود: ونحن نحتسب (لكم) إيمانكم به ولم تروه، وأن أفضل الإيمان الإيمان بالغيب، ثم قرأ عبد الله { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وقد قيل: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } يعني يصدقون بالبعث بعد الموت. وقوله تعالى { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } [أي يديمون الصلاة وقد قيل أيضاً إن العبد يديم الصلاة وقد قيل] يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها. وقد قيل إن العبد إذا صلى صلاة تقبل منه خلق الله تعالى منها ملكاً يقوم ويصلي لله إلى يوم القيامة، وثوابه لصاحب الصلاة. فهذا معنى قوله: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } وقوله عز وجل { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } أي يتصدقون، قال الكلبي: وهو زكاة المال. وروى أسباط عن السدي عن أصحابه قال: هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة. ويقال [ينفقون أي] يتصدقون صدقة التطوع. ويقال: هي عليهم جميعاً التطوع والفريضة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبَ } قوله تعالى: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبَ } فيه تأويلان: أحدهما: يصدقون بالغيب، وهذا قول ابن عباس. والثاني: يخشون بالغيب، وهذا قول الربيع بن أنس. وفي الأصل الإيمان ثلاثة أقوال: أحدها: أن أصله التصديق، ومنه قوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أي بمصدِّق لنا. والثاني: أن أصله الأمان فالمؤمن يؤمن نفسه من عذاب الله، والله المؤمِنُ لأوليائه من عقابه. والثالث: أن أصله الطمأنينة، فقيل للمصدق بالخبر مؤمن، لأنه مطمئن. وفي الإيمان ثلاثة أقاويل: أحدها: أنّ الإيمان اجتناب الكبائر. والثاني: أن كل خصلة من الفرائض إيمان. والثالث: أن كل طاعةٍ إيمان. وفي الغيب ثلاثة تأويلات: أحدها: ما جاء من عند الله، وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه القرآن، وهو قول زر بن حبيش. والثالث: الإيمان بالجنة والنار والبعث والنشور. { وَيُقِيمونَ الصَّلوة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) } وفي قوله تعالى: { وَيُقِيمُون الصَّلاَةَ } تأويلان: أحدهما: يؤدونها بفروضها. والثاني: أنه إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع فيها، وهذا قول ابن عباس. واختُلف لِمَ سُمِّي فعل الصلاة على هذا الوجه إقامةً لها، على قولين: أحدهما: من تقويم الشيء من قولهم قام بالأمر إذا أحكمه وحافظ عليه. والثاني: أنه فعل الصلاة سُمِّي إقامة لها، لما فيها من القيام فلذلك قيل: قد قامت الصلاة. وفي قوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ثلاثة تأويلات: أحدها: إيتاء الزكاة احتساباً لها، وهذا قول ابن عباس. والثاني: نفقة الرجل على أهلِهِ، وهذا قول ابن مسعود. والثالث: التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى، وهذا قول الضحاك: وأصل الإنفاق الإخراج، ومِنْهُ قيل: نَفَقَتِ الدابة إذا خرجت رُوحها. واختلف المفسرون، فِيمَنْ نزلت هاتان الآيتان فيه، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في مؤمني العرب دون غيرهم، لأنه قال بعد هذا: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } يعني به أهْلَ الكتاب، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنها مع الآيتين اللتين من بعد أربع آيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب، لأنه ذكرهم في بعضها. والثالث: أن الآيات الأربع من أول السورة، نزلت في جميع المؤمنين، وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: " نزلت أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثَلاَث عَشْرَةَ في المُنافقين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
{ يؤمنون } معناه يصدقون ويتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى:**{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم }** [آل عمران: 73] وكما قال:**{ فما آمن لموسى }** [يونس: 83] وبين التعديتين فرق، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدٍّ بالباء يفهم من المعنى. واختلف القراء في همز { يؤمنون } فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون " يؤمنون " وما أشبهه، مثل يأكلون، ويأمرون، ويؤتون؛ وكذلك مع تحرك الهمزة مثل " يؤخركم " و " يؤوده " إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا وقف، والباقون يقفون بالهمز. وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك. وقد روي عن عاصم أنه لم يكن يهمز الساكنة. وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة، إلا أنه يهمز حروفاً من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله. وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل**{ ننسأها }** [البقرة:105]**{ وهيىء لنا }** [الكهف: 8] وما أشبهه. وقوله: { بالغيب } قالت طائفة: معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا. وقال آخرون: معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع. واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك، فقالت فرقة: " الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل " وقال آخرون: " القضاء والقدر " وقال آخرون: " القرآن وما فيه من الغيوب " وقال آخرون: " الحشر والصراط والميزان والجنة والنار ". قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها، والغيب في اللغة: ما غاب عنك من أمر، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله. وقوله: { يقيمون } معناه يظهرونها ويثبتونها، كما يقال: أقيمت السوق، وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء، قعود أو غيره، ومنه قول الشاعر: [الكامل]. | **وإذا يقال أتيتُم لم يبرحوا** | | **حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعان** | | --- | --- | --- | ومنه قول الشاعر: [المتقارب] | **أقمنا لأهل العراقين سوق الطِّـ** | | **ـطِعان فخاموا وولّوا جميعا** | | --- | --- | --- | وأصل { يقيمون } يقومون، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت ياء لكون الكسرة قبلها. و { الصلاة } مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، كما قال الشاعر: [البسيط] | **عليكِ مثل الذي صلّيت فاغتمضي** | | **يوماً فإنَّ لجنب المرءِ مُضْطَجعا** | | --- | --- | --- | ومنه قول الآخر: [الطويل] | **لها حارس لا يبرح الدهرَ بيتها** | | **وإنْ ذبحت صلّى عليها وزمزما** | | --- | --- | --- | فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي جميع ذلك باسم الدعاء. وقال قوم: هي مأخوذة من الصَّلاَ وهو عِرْق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي مع صَلَوي السابق، فاشتقّت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلِّي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد صَلَواه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قال القاضي أبو محمد: والقول إنها من الدعاء أحسن. وقوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون } كتبت " مما " متصلة " وما " بمعنى " الذي " فحقّها أن تكون منفصلة، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد، وأيضاً فلما خفيت نون " من " في اللفظ حذفت في الخط. والرزق عند أهل السنة. ما صح الانتفاع به حلالاً كان أو حراماً، بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق. و { ينفقون } معناه هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك. قال ابن عباس: { ينفقون } يؤتون الزكاة احتساباً لها ". قال غيره: " الآية في النفقة في الجهاد ". قال الضحاك: " هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يُسْرهم ". قال ابن مسعود وابن عباس أيضاً: " هي نفقة الرجل على أهله ". قال القاضي أبو محمد: والآية تعمّ الجميع. وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب } الايمان في اللغة: التصديق، والشرع أقره على ذلك، وزاد فيه القول والعمل. وأصل الغيب: المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله فسمي كل مستتر: غيباً. وفي المراد بالغيب هاهنا ستة أقوال. أحدها: أنه الوحي، قاله ابن عباس، وابن جريج. والثاني: القرآن، قاله أبو رزين العقيلي، وزر بن حبيش. والثالث: الله عز وجل، قاله عطاء، وسعيد ابن جبير. والرابع: ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن. رواه السدي عن أشياخه، وإليه ذهب أبو العالية، وقتادة. والخامس: أنه قدر الله عز وجل، قاله الزهري. والسادس: أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره. قال عمرو بن مرَّة: قال أصحاب عبد الله له: طوبى لك، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجالسته. فقال: إن شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبيِّنا لمن رآه، ولكن أعجب من ذلك: قوم يجدون كتاباً مكتوباً يؤمنون به ولم يروه، ثم قرأ: { الذين يؤمنون بالغيب } قوله تعالى: { ويقيمون الصلاة } الصلاة في اللغة: الدعاء. وفي الشريعة: أفعال وأقوال على صفات مخصوصة. وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال. أحدها: أنها سميت بذلك لرفع الصَّلا، وهو مغرز الذنب من الفرس. والثاني: أنها من صليت العود إذا لينته، فالمصلي يلين ويخشع. والثالث: أنها مبنية على السؤال والدعاء، والصلاة في اللغة: الدعاء، وهي في هذا المكان اسم جنس. قال مقاتل: أراد بها هاهنا: الصلوات الخمس. وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال. أحدها: أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به، روي عن ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: إِدامتها، والعرب تقول في الشيء الراتب: قائم، وفلان يقيم أرزاق الجند، قاله ابن كيسان. قوله تعالى: { ومما رزقناهم } أي: أعطيناهم { ينفقون } أي يخرجون. وأصل الإِنفاق الإِخراج. يقال: نفقت الدابة: إذا خرجت روحها. وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال. أحدها: أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود، وحذيفة. والثاني: أنها الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثالث: أنها الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك. والرابع: أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا: إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته، ويفرق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء، الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت. واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإِيمان بالغيب وهو عقد القلب، وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال -أنه ليس في التكليف قسم رابع، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما، كالحج والصوم ونحوهما. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ يُؤْمِنُونَ } يصدقون أو يخشون الغيب، أصل الإيمان التصديق**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }** [ يوسف: 17] أو الأمان، فالمؤمن يؤمن نفسه بإيمانه من العذاب، والله تعالى مؤمِّن لأوليائه من عذابه، أو الطمأنينة، فالمصدق بالخبر مطمئن إليه، ويُطلق الإيمان على اجتناب الكبائر، وعلى كل خَصلة من الفرائض، وعلى كل طاعة. { بِالْغَيْبِ } بالله، أو ما جاء من عند الله، أو القرآن، أو البعث والجنة والنار، أو الوحي. { وَيُقِيمُونَ } يديمون، كل شيء راتب قائم، وفاعله يقيم، ومنه فلان يقيم أرزاق الجند، أو يعبدون الله بها، إقامتها: أداؤها بفروضها، أو إتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها " ع " ، سُمي ذلك إقامة لها من تقويم الشيء، قام بالأمر أحكمه، وحافظ عليه، أو سمى فعلها إقامة لها لاشتمالها على القيام. { رَزَقْنَاهُمْ } أصل الرزق الحظ، فكان ما جعله حظاً من عطائه رزقاً. { يُنفِقُونَ } وأصل الإنفاق الإخراج، نفقت الدابة خرجت روحها، والمراد الزكاة " ع " ، أو نفقة الأهل، أو التطوع بالنفقة فيما يقرب إلى الله تعالى. نزلت هاتان الآيتان في مؤمني العرب خاصة، واللتان بعدهما في أهل الكتاب " ع " ، أو نزلت الأربع في مؤمني أهل الكتاب، أو نزلت الأربع في جميع المؤمنين، فتكون الأربع في المؤمنين، وآيتان بعدهن في الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ... } (قال ابن عرفة): الغيب ما (لم) يَنصبّ عليه دليل (فَمِنَ) الناس من أجاز النظر في علم النجوم وعلم الهيئة والكسوفات. وقال أبو العز المقترح في عقيدته: أجمعوا على أن النظر في علم الهيئة محرم. قال ابن عرفة: إنما ذلك إذا نظر (فيه) للحكم، أما إذا (نظره) ليعلم الكواكب (والنجوم) فجائز، لكن الاشتغال بالعبادة وتعلّم ما ينفعه أولى. قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }. قال القرطبي: الآية حجة على المعتزلة ويلزمهم الكفر في قولهم: إنّ لفظ الرزق لا يطلق إلا على الحلال لأن من تغذى من صغره إلى كبره بالحرام يلزمهم أن لا يدخل في عموم قوله تعالى:**{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** قال ابن عرفة: يكون عاما مخصوصا (إن) سمّاه رزقا مجازا أو من باب التغليب باعتبار الأكثر فإنّ الأكثر حلال. وقال غيره: هذا الخلاف لفظي لا يبنى عليه كفر أو إيمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
" الذين " يحتمل الرفع والنصب والجر، والظاهر الجر، وهو من ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه نعت لـ " المتقين ". والثاني: بدل. والثالث: عطف بيان. وأما الرفع فمن وجهين: أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع، وقد تقدم. والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: " أولئك " الأولى. والثاني: " أولئك " الثانية، والواو زائدة، وهذان القولان منكران؛ لأنه قوله: " والذين يؤمنون " يمنع كونه " أولئك " الأولى خبراً، ووجود الواو يمنع كون " أولئك " الثانية خبراً أيضاً. وقولهم: الواو زائدة لا يلتفت إليه. والنصب على القطع. و " يؤمنون " صلة وعائد. قال الزمخشري: " فإذا كان موصولاً كان الوقف على " المتقين " حسناً غير تام، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تاماً ". وهو مضارع علامة رفعه " النون "؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به " ألف " اثنين، أو " واو " جمع، أو " ياء " مخاطبة، نحو: " يؤمنان - تؤمنان - يؤمنون - تؤمنون - تؤمنين ". والمضارع معرب أبداً، إلاّ أن يباشر نون توكيد أو إناث، على تفصيل يأتي إن شاء الله - تعالى - في غُضُون هذا الكتاب. وهو مضارع " أمن " بمعنى: صدق، و " آمن " مأخوذ من " أمن " الثلاثي، فالهمزة في " أمن " للصّيرورة نحو: " أعشب المكان " أي: صار ذا عُشْب. أو لمطاوعة فعل نحو: " كبه فأكب " ، وإنما تعدى بالباء، لنه ضمن معنى اعترف، وقد يتعدّى باللام كقوله تعالى:**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }** [يوسف: 17]،**{ فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰ }** يونس: 83] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. وأصل " يؤمنون ": " يؤأمنون " بهمزتين: الأولى: همزة " أفْعَل ". والثاني فاء الكلمة، حذفت الأولى؛ لأن همزة " أَفْعَل " تحذف بعد حرف المُضَارعة، واسم فاعله، ومفعوله نحو: " أكرم " و " يكرم " و " أنت مُكْرِم، ومُكْرَم ". وإنما حذفت؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرف المُضَارعة همزة نحو: " أنا أكرم " ، الأصل: أأكرم بهمزتين، الأولى: للمضارعة والثانية: همزة أفعل، فحذفت الثانية؛ لأن بها حصل الثّقل؛ ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب. ولا يجوز ثبوت همزة " أفعل " في شيء من ذلك إلا في ضرورة؛ كقوله: [الرجز] | **119- فَإِنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا** | | | | --- | --- | --- | وهمزة " يؤمنون " - وكذلك كل همزة ساكنة - يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها، فتبدل حرفاً مجانساً نحو: " راس " و " بير " و " يومن " ، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو: " إيمان " و " آمن ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل قال بعضهم: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَٰوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيئات، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله: " الذين يؤمنون ". وإما أن يكون فعل الجوارح، أساسه الصَّلاة والصدقة؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية، وأصلها الصَّلاة، أو مالية وأصلها الزكاة، ولهذا سمى الرسول عليه الصلاة والسلام: **" الصَّلاَة عِمَاد الدِّين، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسْلاَم "** أما التَّرْك فهو داخل في الصَّلاة، لقوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت: 45] واختلف الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق: الفرقة الاولى: قالوا: الإيمان اسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية، وأهل الحديث. أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله، وبكل ما وضع عليه دليلاً عقلياً، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً. فقالوا: مجموع هذه الأشياء هو الإيمان، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر، أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء، فالمراد به التصديق؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال: فلان آمن بكذا إذا صَلّى وصام، بل يقال: فلان آمن بالله كما يقال: صام وصلّى لله، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة. أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسَمَّى اللغوي - الذي هو التصديق - إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أن الإيمان عبارةٌ عن فعل كل الطَّاعات، سواء كانت واجبة أم مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال، أو الاعتقادات، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ، وأبي الهذيل، والقاضي عبد الجبار بن أحمد. وثانيها: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم. وثالثها: أن الإيمان عبارة عن [اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد. ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد. فالمؤمن عند الله كل من اجتنب] كل الكبائر، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد، وهو قول النّظام، ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها. وأما أهل الحديث فذكروا وجهين: الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلاّ إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجُحُود والإنكار؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب. والثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها، وهو إيمان واحد، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه. ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل. الفرقة الثانية الذين قالوا: الإيمان باللِّسان والقَلْب معاً، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب: الأول: أن الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين: أحدهما: اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فَسّرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً، أو كان علماً صادراً عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم. ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من الاستدلال. وثانيهما: اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ بماذا؟ قال بعض المتكلّمين: هو العلم بالله، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطوائف. وقال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه الصَّلاة والسلام، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم، أو عالماً بذاته، وبكونه مرئياً أو غير مرئي، لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان. القول الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً، وهو قول بشر بن غياث المَرِيسِي، وأبي الحسن الأشعري، والمراد من التصديق بالقلب الكَلاَم القائم بالنفس. القول الثالث: قول جماعة من الصُّوفية: الإيمان إقرار باللسان، وإخلاص بالقلب. الفرقة الثالثة الذين قالوا: الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، وهؤلاء اختلفوا على قولين: أحدهما: أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ، حتى إن من عرف الله بقلبه، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صَفْوَان. وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلةٍ في حَدّ الإيمان. وحكى الكعبي عنه: أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد. ثانيهما: أنّ الإيمان مُجَرَّد التصديق بالقَلب، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي. الفرقة الرابعة الذين قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، وهم فريقان: الأول: أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيماناً، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدِّمشقي، والفضل الرقاشي، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه لـ " غيلان ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المُنَافق مؤمن الظاهر كافر السريرة، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا، وحكم الكافرين في الآخرة، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع. و " بالغيب " متعلّق بـ " يؤمنون " ، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، وفي هذا الثاني نظر؛ لأنه من " غاب " وهو لازم، فكيف يبنى منه اسم مفعول من حتى يقع المصدر موقعه؟ إلا أن يقال: إنه واقع موقع اسم مفعول من " فَعَّلَ " مضعفاً متعدياً، أي: المُغَيَّب، وفيه بعد. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون مخففاً من " فَيْعِل " نحو: " هَيِّن " من " هَيْن " ، و " مَيِّت " من " مَيْت ". وفيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً كنظائره، فإنها سمعت مخففةً ومثقلةً، ويبعد أن يقال: التزم التخفيف في هذا خاصّة. ويجوز أن تكون " الباء " للحال فيتعلّق بمحذوف أي: يؤمنون متلبسين بالغيب عن المؤمن به، و " الغيب " حينئذ مصدر على بابه. فصل في معنى " يؤمنون بالغيب " في قوله " يؤمنون بالغيب " قولان: الأول: قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله: " يؤمنون بالغيب " صفة المؤمنين معناه: أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين { إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا، قَالُوا: ءَامَنّا: وَإذَا خَلوا إِلَى شَيَٰطِيْنِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ }. نظيره قوله:**{ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }** [يوسف: 52]، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين. الثاني: وهو قول جمهور المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما هو عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل. فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا، ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله - تعالى - وبصفاته والعلم بالآخرة، والعلم بالنبوة، والعلم بالأحكام بالشرائع، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثَّنَاء العظيم. واحتج أبو مسلم بأمور: الأول: أن قوله:**{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }** [البقرة: 4] إيمان بالأشياء الغائبة، فلو كان المراد من قوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وهو غير جائز. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى:**{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ }** [الأنعام: 59] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب. أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور. الثالث: لفظ " الغيب " إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحُضُور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله - تعالى - وصفاته، فقوله: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله وصفاته، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة، وذلك غَيْرُ جائز؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟ أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور. والجواب عن الأول: أن قوله: " يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال، ثم إن قوله بعد ذلك:**{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ }** [البقرة:4] يتناول الإيمان ببعض الغائبات، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة، وهو جائز كقوله:**{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ }** [البقرة: 98]. وعن الثاني: لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً. فإن قيل: أفتقولون: العبد يعلم الغيب أم لا؟ قلنا: قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما لا دليل عليه. أما الذي لا دليل عليه، فهو سبحانه العالم به لا غيره. وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة. وعن الثالث: لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته، والله أعلم. واختلفوا في المراد بـ " الغيب ". قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " الغيب - هاهنا - كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل: الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيْزان ". وقيل: الغيب هاهنا هو الله تعالى. وقيل: القرآن. وقال الحسن: الآخرة. وقال زرُّ بن حبيش، وابن جريج: بالوحي. ونظيره:**{ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ }** [النجم: 35] قال ابن كيسان: بالقدر. وقال عبد الرحمن بن يزيد: كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ، فذكرنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سبقوا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب، ثم قرأ: " الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ " إلى قوله " المفلحون ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال بعض الشيعة: المراد بالغيب المَهْدِي المنتظر. قال ابن الخطيب: " وتخصص المطلق من غير دليل باطل ". قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، وورش: " يُومِنُونَ " ، بترك الهمزة. ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في**{ أَنبِئْهُم }** [البقرة: 33]، و**{ يُنَبِّئُهُمُ }** [المائدة: 14]، و**{ نَبِّئْنَا }** [يوسف: 36]. ويترك أبو عمرو كلها، إلا أن يكون علامةً للجزم نحو:**{ وَنَبِّئْهُمْ }** [الحجر: 51]، " وأَنبئْهُمْ " ، و**{ تَسُؤْهُمْ }** [آل عمران: 120]، و**{ إِن نَّشَأْ }** [الشعراء: 4] ونحوها، أو يكون خروجاً من لُغَةٍ إلى أخرى نحو:**{ مُّؤْصَدَةٌ }** [البلد: 20]، و**{ وَرِءْياً }** [مريم: 74]. ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت " فاء " الفعل، إلا**{ وَتُؤْوِيۤ }** [الأحزاب: 51] و**{ تُؤْوِيهِ }** [المعارج: 13]، ولا يترك من عين الفعل إلا**{ ٱلرُّؤْيَا }** [الإسراء: 60] وبابه، أو ما كان على وزن " فعل ". و " يقيمون " عطف على " يؤمنون " فهو صلةٌ وعائد. وأصله: يؤقومون حذفت همزة " أفعل "؛ لوقوعها بعد حرف المُضَارعة كما تقدم فصار: يقومون، فاستثقلت الكسرة على الواو، ففعل فيه ما فعل في " مستقيم " ، وقد تقدم في الفاتحة. ومعنى " يقيمون ": يديمون، أو يظهرون، قال تعالى:**{ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ }** [المعارج: 23] وقال الشاعر: [الوافر] | **120- أَقَمْنَا لأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الطْـ** | | **ـطِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعا** | | --- | --- | --- | وقال آخر: [الكامل] | **121- وَإِذَا يُقَالُ: أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا** | | **حَتَّى تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوْقُ طِعَانِ** | | --- | --- | --- | من قامت السّوق: إذا أنفقت؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات، وإذا أضيفت كانت كالشّيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو يكون عبارة عن تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع خَلَل في فرائضها وسُننها، أو يكون من قام بالأمر، وقامت الحرب على ساق. وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه: إذا تقاعس وتثبط، فعلى هذا يكون عبارة عن التجرُّد لأدائها، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور، أو يكون عبارةً عن أدائها، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت. وذكر الصّلاة بلفظ الواحد، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى:**{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ }** [البقرة: 213] يعني: الكتب. و " الصّلاة " مفعول به، ووزنها: " فَعَلَة " ، ولامها واو، لقولهم: صَلَوات، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، واشتقاقها من: " الصَّلَوَيْنِ " وهما عِرْقَان في الْوِرْكَيْنِ مفترقان من " الصَّلاَ " ، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان عند عَجْبِ الذَّنَبِ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ، ومنه " المُصَلِّي " في حَلْبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند " صَلْوَي " السابق. ذكره الزَّمخشري. قال ابن الخطيب: وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة؛ وذلك لأن لفظ " الصلاة " من أشدّ الألفاظ شهرة، وأكثرها دوراناً على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن [يقال]: مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله - تعالى - من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر، وكان مراد الله - تعالى - تلك المعاني، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا، واندرست كما وقع مثله في هذه اللَّفظة، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد - عليه الصلاة والسلام - بالإسلام، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق، ولا شَكّ أنه وضع عبارات، فاحتاج إلى وضع ألفاظ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه، والتعبير مشهور. وأما ما ذكره من احتمال التعبير فلا دليل عليه، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا. و " الصَّلاة " لغة: الدّعاءُ: [ومنه قول الشاعر] [البسيط] | **122- تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً** | | **يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا** | | --- | --- | --- | | **فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي** | | **يَوْماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا** | أي: مثل الَّذي دعوت، ومثله: [الطويل] | **123- لَهَا حَارِسٌ لاَ يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا** | | **وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمزَمَا** | | --- | --- | --- | وفي الشرع: هذه العبادة المعروفة. وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه: " صَلِيَ بِالنَّارِ " أي: لزمها، ومنه قوله تعالى:**{ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً }** [الغاشية: 4] قال: [الخفيف] | **124- لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّـ** | | **ـهُ وإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِ** | | --- | --- | --- | وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار، أي: قَوَّمْتُهُ بالصِّلاَء - وهو حَرّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ، وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه؛ قال: [الوافر] | **125- فَلاَ تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ** | | **فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ** | | --- | --- | --- | ذكر ذلك الخَارزنجِيّ، وجماعة أجلّة، وهو مشكل، فإن " الصلاة " من ذوات الواو، وهذا من الياء. وقيل في قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلآئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ }** [الأحزاب: 56] الآية: إنّ الصّلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاسْتِغْفَار، ومن المؤمنين الدعاء. { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } مما: جاء ومَجْرور متعلّق بـ " ينفقون " و " ينفقون " معطوف على الصِّلة قبله، و " ما " المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون اسماً بمعنى " الذي " ، و " رزقناهم " صِلَتُهَا، والعائد محذوف. قال أبو البقاء: " تقديره رزقناهموه، أو رزقناهم إياه ". وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال؛ لأن تقديره متصلاً يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة، وهو واجب الانفصال، وتقديره منفصلاً يمنع حذفه؛ لأنّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه، نصُّوا عليه، وعللوا بأنه لم يفصل إلا لغرض، وإذا حذف فاتت الدِّلالة على ذلك الغرض. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً - وإن اتحدا رتبةً - جاز اتصاله؛ ويكون كقوله: [الطويل] | **126- فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ** | | **لِضَغْمِهِمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا** | | --- | --- | --- | وأيضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي. وعن الثَّاني: بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْس الحاصل، ولا لبس هنا. الثَّاني: يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً. الثَّالث: أن تكون مصدريةً، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي: مرزوقاً. وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال: " لأنَّ الفعل لا يتفق " ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول. والرزق لغة: العَطَاء، وهو مصدر؛ قال تعالى:**{ وَمَن رَّزَقْنَٰهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً }** [النحل: 75] وقال الشَّاعر: [البسيط] | **127- رُزِقْتَ مَالاً وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ** | | **إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا** | | --- | --- | --- | وقيل: يجوز أن يكون " فِعْلاً " بمعنى " مفعول " نحو: " ذِبْح " ، وَ " رِعْي " بمعنى: " مَذْبوح " ، و " مَرْعيّ ". وقيل: " الرَّزْق " - بالفَتْح - مصدر، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة: الشّكر، ومنه:**{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }** [الواقعة: 82]. وقال بعضهم: ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعَبْد. وقيل: هو نصيب الرجل، وما هو خاص له دون غيره. ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل؛ لأن الله - تعالى - أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال:**{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا }** [المنافقون: 10]، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه. وقال آخرون: الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً؛ لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولداً صالحاً، أو زوجة صالحة، وهو لا يملك الولد ولا الزَّوجة، ويقول: اللَّهم أرزقني عقلاً أعيش به، والعقل ليس بمملوك، وأيضاً البهيمة يحصل له رزْقٌ ولا يكون لها ملك. وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي: الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاع بالشيء، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به. فإذا قلنا: قد رزقنا الله الأموال، فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها، وإذا سألنا - تعالى - أن يرزقنا مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ. واعلم أن المعتزلة لما فَسّروا الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا: الحرام لا يكون رزقاً. وقال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقاً. قال ابن الخطيب: حُجّة الأصحاب من وجهين: الأول: أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظَّا ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له. الثَّاني: أنه تعالى قال:**{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [هود: 6]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً. أما المعتزلة: فقد احتجُّوا بالكتاب، والسُّنة، والمعنى: أما الكتاب فوجوه: أحدها: قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [البقرة: 3] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق. ثانياً: لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى:**{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا }** [المنافقون: 10]، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [مما أخذه]، بل يجب عليه رَدّه، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً. ثالثها: قوله تَعَالَى:**{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ }** [يونس: 59] فبين أن من حرم رزق الله، فهو مُفْتَرٍ على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً. وأما السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب " الفرائض " بإسناده عن صفوان بن أمية قال: **" كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ جاءه عمرو بن مُرَّةَ فقال له: يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة، فلا أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ. فقال عليه الصّلاة والسلام: " لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ الله لقد رزقك الله [رزقاً] طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على ما أَحَلّ الله لك من حَلاَلهِ، أَمَا وإنك لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً " ".** وأما المعنى فإنَّ الله - تَعَالَى - منع المكلّف من الانتفاع به، وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال: إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه، ولا يمنعهم منه، ولا أمر بمنعهم منه. وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله، فإنه لا يُضَاف إليه ذلك؛ لما فيه من سُوءِ الأدب، كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكِلاَب والخَنَازير، وقال:**{ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ }** [الإنسان: 6] فخصّ اسم العباد بالمتّقين، وإن كان الكُفّار أيضاً من العباد، وكذلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً. وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: " فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه " صريح في أن الرزق قد يكون حراماً. وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة، وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و " نفق " الشيء: نفد، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون، وعينه فاء، فدالّ على معنى ونحو ذلك إذا تأملت، قاله الزمخشري، وذلك نحو: نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ " نفذ " " نَفَشَ " " نَفَحَ " " نفخ " " نفض " " نفل ". و " نفق " الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة: ماتت نُفُوقاً، والنفقة: اسم المُنْفَق. فصل في معاني " من " و " من " هنا لابتداء الغاية. وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أخر: بيان الجنس:**{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ }** [الحج: 30]. والتعليل:**{ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ }** [البقرة: 19]. والبدل:**{ بِٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ }** [التوبة: 38]. والمُجَاوزة:**{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ }** [آل عمران: 121]. وانتهاء الغاية: " قربت منه ". والاستعلاء**{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ }** [الأنبياء: 77]. والفصل:**{ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ }** [البقرة: 220]. وموافقة " الباء "**{ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ }** [الشورى: 45]،**{ مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ }** [فاطر: 40]. والزيادة باطّراد، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب. واشترط الكوفيون التنكير فقط، ولم يشترط الأخفش شيئاً. و " الهمزة " في " أنفق " للتَّعدية، وحذفت من " ينفقون " لما تقدم في " يؤمنون ". فصل في قوله تعالى " ومما رزقناهم ينفقون " قال ابن الخَطِيبْ: في قوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } فوائد: إحداها: أدخل " من " للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف والتَّبذير المنهي عنه. وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ، كأنه قال: يخصّون بعض المال بالتصدق به. وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة وهي قوله تعالى:**{ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا }** [التوبة: 34]. وثانيها: الإنفاق على النفس، وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله تعالى:**{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ }** [المنافقون: 10]، وأراد به الصدقة؛ لقوله بعد:**{ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }** [المنافقون: 10] فكل هذه داخلةٌ تحت الآية، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج جرير عن قتادة { هدى للمتقين } قال: نعتهم ووصفهم بقوله { الذين يؤمنون بالغيب } الآية. وأخرج ابن إسحق وابن جرير عن ابن عباس في قوله { الذين يؤمنون } قال: يصدقون { بالغيب } قال: بما جاء منه، يعني من الله. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { الذين يؤمنون بالغيب } قال: هم المؤمنون من العرب قال: و { الإِيمان } التصديق و { الغيب } ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، وما ذكر الله في القرآن لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصحاب الكتاب، أو علم كان عندهم { يؤمنون بما أنزل إليك } هم المؤمنون من أهل الكتاب، ثم جمع الفريقين فقال { أولئك على هدى } الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله { الذين يؤمنون بالغيب } قال: بالله وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، ولقائه، والحياة بعد الموت. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله { الذين يؤمنون بالغيب } قال: آمنوا بالبعث بعد الموت، والحساب، والجنة والنار، وصدقوا بموعود الله الذي وعد في هذا القرآن. وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل { الذين يؤمنون بالغيب } قال: ما غاب عنهم أمر الجنة والنار قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت أبا سفيان بن الحرث يقول: | **وبالغيب آمنا وقد كان قومنا** | | **يصلون للأوثان قبل محمد** | | --- | --- | --- | وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قالت: **" صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد ايلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحوّل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلو البيت الحرام. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال " أولئك قوم آمنوا بالغيب " ".** وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه وابن مردويه عن الحرث بن قيس أنه قال لابن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا به يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ابن مسعود: عند الله يحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه! إن أمر محمد كان بيِّناً لمن رآه. والذي لا إله غيره. ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب. ثم قرأ**{ الۤمۤ ذلك الكتاب لا ريب فيه }** [البقرة: 1 ـ 2] إلى قوله**{ المفلحون }** [البقرة: 5]. وأخرج البزار وأبو يعلي والمرهبي في فضل العلم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" انبئوني بأفضل أهل الإِيمان إيماناً؟ قالوا: يا رسول الله الملائكة...؟ قال: هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا: يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالاته والنّبوة! قال: هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء...! قال: هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة مع الأنبياء. بل غيرهم قالوا: فمن يا رسول الله؟! قال: أقوام في أصلاب الرجال، يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً ".** وأخرج الحسن بن عروة في حزبه المشهور والبيهقي في الدلائل والأصبهاني في الترغيب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ قالوا: الملائكة...قال: وما لهم لايؤمنون، وهم عند ربهم. قالوا: فالأنبياء...قال: فما لهم لا يؤمنون، والوحي ينزل عليهم. قالوا: فنحن...قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم، ألا إن أعجب الخلق إلي إيماناً، لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيه ".** وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال **" ما من ماء ما من ماء؟ قالوا: لا. قال: فهل من شن؟ فجاؤوا بالشن، فوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع يده عليه ثم فرق أصابعه، فنبع الماء مثل عصا موسى من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بلال اهتف بالناس بالوضوء، فأقبلوا يتوضأون من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت همة ابن مسعود الشرب، فلما توضأوا صلى بهم الصبح، ثم قعد للناس فقال: يا أيها الناس من أعجب الخلق إيماناً؟ قالوا: الملائكة. قال: وكيف لا تؤمن الملائكة وهم يعاينون الأمر! قالوا: فالنبيون يا رسول الله. قال: وكيف لا يؤمن النبيون والوحي ينزل عليهم من السماء! قالوا: فأصحابك يا رسول الله فقال: وكيف لا تؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون، ولكن أعجب الناس إيماناً، قوم يجيئون بعدي يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني أولئك اخواني ".** وأخرج الإسماعيلي في معجمه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" أي شيء أعجب إيماناً؟ قيل: الملائكة... فقال كيف وهم في السماء يرون من الله ما لا ترون! قيل: فالأنبياء... قال: كيف وهم يأتيهم الوحي؟ قالوا: فنحن... قال: كيف وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله! ولكن قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، أولئك أعجب إيماناً، وأولئك إخواني، وأنتم أصحابي ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" أي الخلق أعجب إيماناً؟ قالوا الملائكة.. قال: الملائكة... كيف لا يؤمنون؟ قالوا: النبيون... قال: النبيون يوحى إليهم فكيف لا يؤمنون؟ ولكن أعجب الناس إيماناً، قوم يجيئون من بعدكم، فيجدون كتاباً من الوحي، فيؤمنون به ويتبعونه. فهؤلاء أعجب الناس إيماناً ".** وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يا ليتني قد لقيت إخواني؟ قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك وأصحابك: قال: بلى. ولكن قوماً يجيئون من بعدكم، يؤمنون بي إيمانكم، ويصدقوني تصديقكم، وينصروني نصركم. فيا ليتني قد لقيت إخواني ".** وأخرج ابن عساكر في الأربعين السباعية من طريق أبي هدبة وهو كذاب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ليتني قد لقيت إخواني؟ فقال له رجل من أصحابه: أولسنا إخوانك؟ قال: بلى أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ثم قرأ { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } ".** وأخرج أحمد والدارمي والباوردي وابن قانع معاً في معجم الصحابة والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال **" قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ آمنا بك، واتبعناك. قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، يأتيكم الوحي من السماء! بل قوم يأتون من بعدي، يأتيهم كتاب بين لوحين، فيؤمنون به، ويعملون بما فيه،أولئك أعظم أجراً ".** وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي عمر وأحمد والحاكم عن أبي عبد الرحمن الجهني قال **" بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنديان، أو مذحجيان، حتى أتيا فإذا رجلان من مذحج فدنا أحدهما ليبايعه، فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك واتبعك وصدقك، فماذا له؟ قال: طوبى له، فمسح على يده وانصرف. ثم جاء الآخر حتى أخذ على يده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك؟ قال: طوبى له ثم طوبى له. ثم مسح على يده وانصرف ".** وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات ".** وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" أن رجلاً قال: يارسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك. قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني ".** وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعينكم هذه؟ قال: نعم قال: طوبى لكم. فقال ابن عمر: ألا أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. قال: سمعته يقول **" قال طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ثلاث مرات ".** وأخرج أحمد وأبو يعلي والطبراني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات ".** وأخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً **" أن ناساً من أمتي يأتون بعدي، يودّ أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله ".** وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحق عن ابن عباس في قوله { ويقيمون الصلاة } قال: الصلوات الخمس { ومما رزقناهم ينفقون } قال: زكاة أموالهم. وأخرج ابن إسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ويقيمون الصلاة } قال: يقيمونها بفروضها { ومما رزقناهم ينفقون } قال: يؤدّون الزكاة احتساباً لها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإِقبال، عليها فيها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله { يقيمون الصلاة } قال: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها، ووضوئها، وركوعها، وسجودها { ومما رزقناهم ينفقون } قال: انفقوا في فرائض الله التي افترض الله عليهم، في طاعته وسبيله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله { ومما رزقناهم ينفقون } قال: إنما يعني الزكاة خاصة، دون سائر النفقات. لا يذكر الصلاة إلا ذكر معها الزكاة، فإذا لم يسم الزكاة قال في أثر ذكر الصلاة { ومما رزقناهم ينفقون }. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { ومما رزقناهم ينفقون } قال: هي نفقة الرجل على أهله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله { ومما رزقناهم ينفقون } قال: كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة. هن الناسخات المبينات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } إما موصولٌ بالمتقين، ومحلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ مقيِّدةٌ له إن فُسّر التقوى بترك المعاصي فقط، مترتبةٌ عليه ترتّبَ التحلية على التَّخْلية، وموضِّحةٌ إن فُسِّر بما هو المتعارَفُ شرعاً والمتبادَرُ عُرفاً، من فعل الطاعات وتركِ السيئات معاً، لأنها حينئذٍ تكون تفصيلاً لما انطوى عليه اسمُ الموصوف إجمالاً، وذلك لأنها مشتملة على ما هو عمادُ الأعمال وأساسُ الحسنات، من الإيمان والصلاة والصدقة، فإنها أمهاتُ الأعمال النفسانية والعباداتِ البدنية والمالية المستتبِعة لسائر القُرَب الداعيةِ إلى التجنب عن المعاصي غالباً، ألا ترى إلى قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت، الآية 45] وقوله عليه السلام: **" الصلاةُ عمادُ الدين، والزكاةُ قنطرةُ الإسلام "** ، أو مادحةً للموصوفين بالتقوى المفسَّرِ بما مر من فعل الطاعات وتركِ السيئات. وتخصيصُ ما ذكر من الخِصال الثلاثِ بالذكر لإظهار شرفِها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسمِ التقوى من الحسنات، أو النصبُ على المدح بتقدير أعني أو الرفعُ عليه بتقدير «هم»، وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ بالابتداء خبرُه الجملةُ المصدّرةُ باسم الإشارة كما سيأتي بـيانُه، فالوقفُ على (المتقين) حينئذ وقفٌ تام، لأنه وقف على مستقلٍ، ما بعده أيضاً مستقل، وأما على الوجه الأول فحسنٌ لاستقلال الموقوف عليه، غيرُ تامَ لتعلق ما بعده به وتبعيّته له، أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر، وأما على تقدير النصبِ أو الرفع على المدح فلما تقرَّر من أن المنصوبَ والمرفوعَ مدحاً وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورةً حيث لم يتبعاه في الإعراب، وبذلك سُمّيا قطعاً لكنهما تابعان له حقيقة، ألا ترى كيف التزموا حذفَ الفعل والمبتدأ في النصب والرفع رَومْاً لتصوير كلَ منهما بصورة متعلِّقٍ من متعلقات ما قبله وتنبـيهاً على شدة الاتصال بـينهما، قال أبو علي: إذا ذُكرت صفاتٌ للمدح وخولف في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان، أي للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجِدّ في الإصغاء، فإن تغيـير الكلامِ المَسوقِ لمعنىً من المعاني وصَرْفَه عن سَننه المسلوكِ يُنبىء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم، ويستجلب مزيدَ رغبةٍ فيه من المخاطب. إن قيل: لا ريب في أن حال الموصول عند كونه خبراً لمبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبرُه (أولئك على هدى) في أنه ينسبك به جملةً اسميةً مفيدة، لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة، ضرورةَ أن كلاًّ من الضمير المحذوف والموصولِ عبارةٌ عن المتقين. وأن كلاًّ من اتصافهم بالإيمان وفروعِه، وإحرازهم للهدى والفلاحِ من النعوت الجليلة، فما السرُّ في أنه جُعل ذلك في الصورة الأولى من توابع المتقين، وعُدَّ الوقفُ غيرَ تام، وفي الثانية مقتطعاً عنه، وعُدَّ الوقفُ تامًّا؟ قلنا: السرُّ في ذلك أن المبتدأ في الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين، لكن الخبرَ في الأولى لما كان تفصيلاً لما تضمنه المبتدأ إجمالاً حسبما تحققته معلومُ الثبوت له بلا اشتباه، غيرُ مفيد للسامع سوى فائدةِ التفصيلِ والتوضيح، نُظم ذلك في سلك الصفاتِ مراعاةً لجانب المعنى، وإن سمي قطعاً مراعاة لجانب اللفظ، كيف لا وقد اشتهر في الفن أن الخبر إذا كان معلومَ الانتساب إلى المُخبَر عنه فحقُّه أن يكون وصفاً له، كما أن الوصف إذا لم يكن معلومَ الانتساب إلى الموصوف حقُّه أن يكون خبراً له، حتى قالوا: إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ، والأخبارُ بعد العلم بها صفات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما الخبرُ في الثانية فحيث لم يكن كذلك بل كان مشتملاً على ما لا ينبىء عنه المبتدأ من المعاني اللائقة كما ستحيط به خبراً مفيداً للمخاطب فوائدَ رائقة، جُعل ذلك مقتطعاً عما قبله محافظةً على الصورة والمعنى جميعاً. والإيمانُ إفعالٌ من الأمن المتعدّي إلى واحد، يقال آمنتُه، وبالنقل تعدى إلى اثنين، يقال آمنَنيه غيري، ثم استُعمل في التصديق، لأن المصَدِّقَ يؤمِنُ المُصَدَّق، أي يجعله أميناً من التكذيب والمخالفة، واستعماله بالباء لتضمينه معنى الاعتراف، وقد يطلق على الوثوق، فإن الواثقَ يصير ذا أمنٍ وطُمأنينة، ومنه ما حُكي عن العرب ما آمِنْتُ أن أجد صحابة، أي ما صِرْتُ ذا أمنٍ وسكون، وكلا الوجهين حسنٌ هنا وهو في الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما عُلم، ضرورةَ أنه من دين نبـينا عليه الصلاة والسلام، كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها، وهل هو كافٍ في ذلك أو لا بد من انضمام الإقرار إليه للتمكن منه؟. والأول رأيُ الشيخ الأشعري ومن شايعه، فإن الإقرارَ عنده منشأٌ لإجراء الأحكام، والثاني مذهبُ أبـي حنيفة ومن تابعه وهو الحق، فإنه جعلهما جزأين له، خلا أن الإقرارَ ركنٌ محتمِلٌ للسقوط بعذر، كما عند الإكراه، وهو مجموعُ ثلاثةِ أمور: اعتقادُ الحق، والإقرارُ به، والعملُ بموجبه عند جمهورِ المحدثين والمعتزلة والخوارج، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالإقرارِ فهو كافر، ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقاً وكافرٌ عند الخوارج، وخارجٌ عن الإيمان غيرُ داخلٍ في الكفر عند المعتزلة. وقرىء (يُومنون) بغير همزة، والغيبُ إما مصدرٌ وُصف به الغائبُ مبالغةً كالشهادة في قوله تعالى:**{ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ }** [الزمر، الآية 46]، أو فعيل خُفّف كقَتْل في قتيل وهيْنٍ في هيّن، وميْتٍ في ميِّت، لكن لم يُستعمل فيه الأصلُ كما استعمل في نظائره. وأيًّا ما كان فهو ما غاب عن الحس والعقلِ غَيْبة كاملةً، بحيث لا يُدرَك بواحد منهما ابتداءً بطريق البَداهة، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه، وهو الذي أريد بقوله سبحانه:**{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }** [الأنعام، الآية 59] وقسم نُصب عليه دليل كالصانع وصفاتِه، والنبواتِ وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع، واليومِ الآخر وأحوالِه من البعث والنشورِ والحسابِ والجزاء، وهو المرادُ هٰهنا، فالباءُ صلةٌ للإيمان، إما بتضمينه معنى الاعتراف، أو بجعله مجازاً من الوثوق، وهو واقعٌ موقعَ المفعول به، وإما مصدرٌ على حاله كالغَيبة، فالباءُ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من الفاعل كما في قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }** [الأنبياء، الآية 49] وقوله تعالى:**{ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }** [يوسف، الآية 52] أي يؤمنون ملتبسين بالغيبة، إما عن المؤمن به، أي غائبـين عن النبـي صلى الله عليه وسلم غيرَ مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة، لما رُوي أن أصحابَ ابنِ مسعود رضي الله عنه، ذكروا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانَهم، فقال رضي الله عنه: «إن أمرَ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام كان بـيِّناً لمن رآه، والذي لا إله غيرُه ما آمن مؤمنٌ أفضلَ من الإيمان بغيب، ثم تلا هذه الآية». وإما عن الناس، أي غائبـين عن المؤمنين، لا كالمنافقين الذين إذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم. وقيل: المرادُ بالغيب القلبُ، لأنه مستور، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فالباءُ حينئذٍ للآلة، وتركُ ذكرِ المؤمَن به على التقادير الثلاثةِ إما للقصد إلى إحداث نفسِ الفعلِ كما في قولهم فلانٌ يُعطي ويمنع، أي يفعلون الإيمان، وإما للاكتفاء بما سيجيء، فإن الكتبَ الإلهية ناطقةٌ بتفاصيل ما يجب الإيمانُ به. { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ } إقامتُها عبارةٌ عن تعديل أركانها، وحفظِها من أن يقع في شيء من فرائضها وسننها وآدابِها زيغٌ، من إقامة العُودِ إذا قوّمه وعدّله. وقيل عن المواظبة عليها، مأخوذٌ من قامت السُّوق إذا نفَقت، وأقمتُها إذا جعلتُها نافقة، فإنها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يُرغب فيه، وقيل عن التشمُّر لأدائها عن غير فتورٍ ولا تَوانٍ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدَّ فيه واجتهد، وقيل عن أدائها، عبَّر عنه بالإقامة لاشتماله على القيام، كما عبَّر عنه بالقنوت الذي هو القيامُ وبالركوع والسجود والتسبـيح، والأولُ هو الأظهر، لأنه أشهرُ، وإلى الحقيقة أقربُ، والصلاةُ فَعْلةٌ، من صلَّى إذا دعا، كالزكاة من زكّى، وإنما كُتبتا بالواو مراعاةَ اللفظِ المفخّم، وإنما سُمِّيَ الفعلُ المخصوصُ بها لاشتماله على الدعاء، وقيل: أصلُ صلَّىٰ حرَّك الصَّلَوَيْنِ، وهما العظمان الناتئان في أعلى الفخِذين، لأن المصليَ يفعله في ركوعه وسجوده، واشتهارُ اللفظ في المعنى الثاني دون الأول لا يقدح في نقله عنه، وإنما سُمِّيَ الداعي مصلياً تشبـيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد. { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } والرزقُ في اللغة العطاءُ، ويطلق على الحظ المُعْطىٰ، نحو ذِبْحٍ ورِعْيٍ للمذبوح والمَرْعيِّ. وقيل: هو بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، وفي العُرف ما ينتفِعُ به الحيوان. والمعتزلةُ لما أحالوا تمكينَ الله تعالى من الحرام لأنه منَعَ من الانتفاع به وأمرَ بالزجر عنه قالوا: الرزقُ لا يتناول الحرام، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزقَ إلى ذاته إيذاناً بأنهم يُنفِقون من الحلال والصِّرْف، فإن إنفاقَ الحرام بمعزل من إيجاب المدح، وذمَّ المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً }** [يونس، الآية 59] وأصحابنا جعلوا الإسنادَ المذكورَ للتعظيم والتحريضِ على الإنفاق، والذمَّ لتحريم ما لم يحرّم، واختصاصَ ما رزقناهم بالحلال للقرينة. وتمسكوا لشمول الرزق لهما بما رُوي عنه عليه السلام **" في حديث عَمْرو بن قرَّة حين أتاه فقال: يا رَسُول الله، إنَّ الله [قد] كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ، فلا أرى أُرْزَقُ إلاَّ مِنْ دُفِّي بِكَفِّي، فَأْذَنْ لِي فِي الغِنَاءِ، من غيرِ فَاحِشَةٍ، من أنه قال عليه السلام: لاَ آذَنُ لَكَ وَلاَ كَرَامةَ، ولا نُعْمَةَ (عَيْنٍ) كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ الله، والله لَقَدْ رَزَقَكَ الله حَلاَلاً طَيِّباً، فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ الله عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ الله لَكَ مِنْ حَلاَلِهِ "** وبأنه لو لم يكن الحرامُ رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً، وقد قال الله تعالى:**{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** [هود، الآية 6] والإنفاقُ والإنفادُ أخوانِ، خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول، والمرادُ بهذا الإنفاق الصَّرْفُ إلى سبـيل الخير، فرضاً كان أو نفلاً، ومن فسَّر [ه] بالزكاة ذكر أفضلَ أنواعه الأصلَ فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقُها، والجملة معطوفة على ما قبلها من الصلة، وتقديمُ المفعول للاهتمام، والمحافظةِ على رؤوس الآي، وإدخال (من) التبعيضية عليه للكف عن التبذير. هذا وقد جاز أن يراد به الإنفاقُ من جميع المعاون التي منحهم الله تعالى من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده قوله عليه السلام: **" إن علماً لا يُنال به ككنز لا يُنفق منه "** وإليه ذهب من قال: ومما خَصَصْناهم من أنوار المعرفة يَفيضون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ التستري (ت 283 هـ)
قوله: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [3] قال سهل: إن الله تعالى وصف بذلك من جبله بجبلّةٍ متعلقاً بسبب من سببه غير منفك عن مراقبته، وهم الذين لم يختاروا قط اختياراً، ولا أرادوا شيئاً دونه، ولا اختياراً دون اختياره لهم كما اختاره لهم، ولا أرادوا شيئاً منسوباً يغنيهم عنه، ومن غيره هم مبرؤون. قال أبو بكر: قيل لسهل: لقد آتاك الله الحكمة، فقال: قد أوتيت، إن شاء الله، الحكمة، وغيباً علمت من غيب سره، فأغناني عن علم ما سواه.**{ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ }** [النجم:42] وبإتمام ما بدأني به من فضله وإحسانه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. قيل: الغيب هو الله. وقيل: إن الإيمان بالغيب للعام، لأن الإيمان بالغيب قطع عن مغيب الغيب حجبهم بالغيب عن مغيبه. وقال: بعض العراقيين: الغيب هو مشاهدات الملك بعين الحق. وقيل: الذين يؤمنون بالغيب: الذين يصدقون ما أظهره على أوليائك من الآيات والكرامات. وقال أبو يزيد رحمة الله عليه: لا يؤمن بالغيب من لم يكن معه سراج الغيب. وقال بعض العراقيين: إنهم بغيب القرآن عاينوا غيب الآخرة، ثم بغيب الغيب شاهدوا الحق مطلعًا عليهم فى جميع الأوقات، فغابوا باطلاعه عليهم مشاهدة عن مشاهدة كل ما سواه، فهم قائمون معه على المشاهدة، وهذا هو الإيمان بالغيب. وقال فارس: الإيمان بالغيب تعظيم الحقيقة وصون الشريعة والرضا بالقضية، حتى تستيقن أن ليس لك من الأمر شىء. قوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ }. وإقامتها: حفظ حدودها ظاهرًا وباطنًا. وقال بعضهم: النية فى إقامة الصلاة أى: لا أواصلك بها ولا أواصلك بتركها، ولكنها اتباع الأمر والنهى. وقيل لا يكن حظك من صلاتك إقامتها دون السرور بما أحلت له من القربة والمناجاة. وقيل: لا يكن همك فيها إقامتها دون الهيبة والتعظيم والخوف عن كيفية إقامتها ورؤية التقصير فيها. وقال ابن عطاء: إقامة الصلاة فيها حفظ حدودها مع حفظ السرّ مع الله أى: لا يختلج بسرك سواه. قوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. قال بعض العراقيين: فى الإمساك لذة وفى الإنفاق لذة، وكل ما يلتذ به العبد فهو يعبد من عين الحق. وقيل: مما رزقناهم ينفقون أى: مما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون بركتها ونورها على متبعيهم. وقيل: الذين يؤمنون بالغيب حظ قلبك ويعلمون حظ بدنك، ومما رزقناهم ينفقون حظ مالك معناه تجرد قلبك وتتعب بدنك في خدمتى وتنفق مالك فى مرضاتى لأوصلك إلى معرفتى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
قوله جلّ ذكره: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ }. حقيقة الإيمان التصديق ثم التحقيق، وموجب الأمرين التوفيق. والتصديق بالعقل والتحقيق ببذل الجهد، في حفظ العهد، ومراعاة الحد. فالمؤمنون هم الذين صدَّقوا باعتقادهم ثم الذين صَدَقُوا في اجتهادهم. وأمَّا الغيب فما يعلمه العبد مما خرج عن حد الاضطرار؛ فكل أمر ديني أدركه العبد بضرب استدلال، ونوع فكر واستشهاد فالإيمان به غَيْبِيُّ. فالرب سبحانه وتعالى غيب. وما أخبر الحق عنه من الحشر والنشر، والثواب والمآب، والحساب والعذاب - غيب. وقيل إنما يؤمن بالغيب من كان معه سراج الغيب، وأن من أيّدوا ببرهان العقول آمنوا بدلالة العلم وإشارة اليقين، فأوْرَدَهم صدقُ الاستدلال ساحاتِ الاستبصار، وأوصلهم صائبُ الاستشهاد إلى مراتب السكون؛ فإيمانهم بالغيب بمزاحمة علومهم دواعي الريب. ومن كوشف بأنواع التعريف أسبل عليهم سجوف الأنوار، فأغناهم بلوائح البيان عن كل فكر وروية، وطلب بخواطر ذكية، وردِّ وردع لدواعٍ ردية، فطلعت شموس أسرارهم فاستغنوا عن مصابيح استدلالهم، وفي معناه أنشدوا: | **لَيْلِي من وجهك شمس الضحا** | | **وظلامه في الناس ساري** | | --- | --- | --- | | **والنـاس فـي سـدف الظـلا** | | **م ونحن في ضوء النهـار** | وأنشدوا: | **طلعت شمس من أحبَّك ليلاً** | | **فاستضاءت وما لها من غروب** | | --- | --- | --- | | **إن شمس النهار تغرب بالليل** | | **وشمس القلوب ليست تغيب** | ومن آمن بالغيب بشهود الغيب غاب في شهود الغيب فصار غيباً يغيب. وأمَّا إقامة الصلاة فالقيام بأركانها وسننها ثم الغيبة عن شهودها برؤية مَنْ يُصَلَّى له فيحفظ عليه أحكام الأمر بما يجري عليه منه، وهو عن ملاحظتها محو، فنفوسهم مستقبلة القِبْلة، وقلوبهم مستغرقة في حقائق الوصلة: | **أراني إذا صَلَّيْت يَمَّمْت نحوها** | | **بوجهي وإنْ كان المُصَلَّى ورائيا** | | --- | --- | --- | | **أصلي فلا أدري إذا ما قضيتها** | | **اثنتين صليت الضحا أم ثمانيا؟** | وإن أصحاب العموم يجتهدون عند افتتاح الصلاة ليردوا قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون من الفرض، ولكن عن أودية الغفلة ما يرجعون. أما أهل الخصوص فيردون قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون ولكن عن حقائق الوصلة ما يرجعون؛ فشتَّان بين غائبٍ يحضر أحكام الشرع ولكن عند أوطان الغفلة، وبين غائبٍ يرجع إلى أَحكام الشرع ولكن عند حقائق الوصلة. قوله جلّ ذكره: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. الرزق ما تمكَّن الإنسان من الانتفاع به، وعلى لسان التفسير أنهم ينفقون أموالهم إمَّا نَفْلاً وإما فرضاً على موجب تفصيل العلم. وبيان الإشارة أنهم لا يدخرون عن الله سبحانه وتعالى شيئاً من ميسورهم؛ فينفقون نفوسهم في آداب العبودية، وينفقون قلوبهم على دوام مشاهدة الربوبية. فإنفاق أصحاب الشريعة من حيث الأموال، وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال، فهؤلاء يكتفي منهم عِشْرين بنصفٍ ومن المائتين بِخَمس، وعلى هذا السَّنَن جميع الأموال يعتبر فيه النِّصاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأمَّا أهل الحقائق فلو جعلوا من جميع أحوالهم - لأنفسهم ولحظوظهم - لحظةً قامت عليهم القيامة. فصل: الزاهدون أنفقوا في طريقة متابعة هواهم، فآثروا رضاء الله على مناهم، والعابدون أنفقوا في سبيل الله وسعهم وقواهم، فلازموا سراً وعلناً نفوسهم. والمريدون أنفقوا في سبيله ما يشغلهم عن ذكر مولاهم فلم يلتفتوا إلى شيء من دنياهم وعقباهم. والعارفون أنفقوا في سبيل الله ما هو سوى مولاهم فقرَّبهم الحق سبحانه وأجزاهم، ويحكم الإفراد به لقَّاهم. فصل: الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم. والفقراء أنفقوا من هممهم على مَنَابَتِهمْ. ويقال العبد بقلبه وببدنه وبماله فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم، وحين قاموا لِحَقِّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ما غابَ عن الابصار منكشفا بنعت الانوار لعيون الاسرار والايمان بالغيب هو تفرس الرّوح بنور اليقين ومشاهدة الحق سبحانه وتعالى والايمان بالغيب شوق القلب الى لقاء الربّ وايضاً الايمان تصديق السّرّ ما أبصرت الرّوح من مكنون حقائق الغيب بنعت مباشرَة حلاوة انكشاف نور الحق في صميم سرّ السّر واتصال بروقه بَطنان القلب وتعريفه اوصاف صفات الحق عقل الكل وايضا الايمان تصديق القلب بوجدان الرّوح رؤية الربّ جلّ وعلا والمؤمنون هم الذين صدقوا مواعيد الغيوب بعد إدراكهم مواجيد قلوبهم من رؤيتها ومواجيدُ قلوبهم لا يكون الا من رؤية ابصار بصائرهم انوار غيب الغيب وترائى الغيب لا يكون لروح الناطقة الا بعد ان يؤيدهَا الحق بتبيين البرَاهين واستكشافه حقائق الاستدلال بشهود الحال رؤية المدلول واستحكام انوار البصيرة فاذا كَمُلت هذه الاوصاف للرّوح ابْصَرَت صفاء صحارى الغيب وتمكّنت تحتَ ركوم انوار اليقين وسناء قدس الحق بنعت بروزه في لباس حق اليقين وحقيقة حق اليقين لا تحصل بالتحقيق الا بعد انسلاخ السّر عن الاستشهاد والاستدلال فاذا فرغ منها اوصله التاييد الى مراتب الكشوف وايضاح الفرقان واورده صدق تحقيق رؤية الغيب ساحات استبصار عيون النفوس واستغناه بما آنَس من عجائب جلال المشهود من سَيرانه في عالم الشواهِدِ واذا عاين مكشوفات الغيب ببصر العرفان دَخَل في سُجوفِ ايواءِ عزّ الحقّ واغناءِ الحقَّ بلوائِح البيان عن طلب المشاهدة بالفكر في الحدثانِ وتَطلع لَه شموسُ اسرار انوارِ القِدَمِ وتَخْلصُهُ بجمالِها عن اقتباس مصابيح البراهين واذا بَرَق السّرّ بهذِه المعانى اشرق له حق الغيب بأوصافه فصار السّرُّ والغيب متّحداً ويكون السّر غيباً بعينه والغيبُ سرّا بعينه فيُغَيَّبُ السّر في الغيب والغيب في السّر وتحصيل هذا العلم ان الغيبَ يصيرُ اهلاً للسّر لا يحوى فوءهُ ابداً وصاحبه في كل حالٍ شاهداً لمشاهدة يرى في جميع الانفاس عالم الملكوتِ وعالم الجبروت وهذا صفةُ قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقال الشبلى لما صَفَتْ ارواحُهُمْ وشَرفَتْ همومهم اشرفوا على اسرار الغيب بعظم أمانَتهِم وقال بعضهم الّذين تُصدِّق نفُوسُهُم ارواحَهم بما ادَّت اليهم من خبر ما شاهدته قلوبُهم بما غيب عن نفوسهم وقال ابو بكر بن ظاهرٍ اشار الحقُّ الى اخلاص عباده المخلصِين باَنّهم بذلوا لمحبوبهم قلوبهم بالايمان بالغيب وبَذَلوا له نفوسَهُم بالخدمة والعبودية بقوله { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } وبذلوا ما ملَّكهم فلم يبخلُوا عليه بشئ من ذلك علماً بانّها عوارٍ في ايديهم وهو تعالى المالكُ لها ولهم على الحقيقة بقوله { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وقال الواسطى أمنوا بالغيب ولما عاينوا الحق في القيامة علموا حقيقية انّ ما امنوا به بعيدٌ ما شاهَدُوا وقال بعضهم الله غيب وهو مُغيب الغَيْب والقلبُ غيبٌ فاذا أمن الغيبُ بالغيب رفع الحجابُ عن الغيب فوجد في الغيب الغيب صاحب الغيب وذلك قوله { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وقال بعضهم الذين يقضون بالغيب في الغيب للغيب وقال الاستاذ حقيقة الايمان التصديق ثم التحقيق وموجب الامرين التوفيق فالتصديق بالعقد والتحقيق ببذل الجهد في حفظ العهد وفرسان اهلِ الغيب خمس طوائف النفوس والارواح والعقول والقلوب والاسرار ومشاربهم متفاوتة فمشرب صرف بلا مزاجٍ ومشربٌ عذب بلا اجاج ومشرب ملح ومشرب رايق ومشرب سايق ومشرب زنجيل المحبة ومشرب سلسبيل المعرفة ومشرب تسنيم المشاهدة ومشرب عين المكاشفة وقائدُ التوفيق يقود طائفة السَّعَادة الى مناهل القرية وسائِقُ الخذلان يَسُوق طائفة الشقاوة الى موارد الشهود وموارد النفوس الَّتي تَرُدّها هى اسُنّ المنى واحَسَنُ الهوىَ ومناهل الشهوات سواحِل نهر الغفلات ومشارب الارواح الَّتى تَرُدّها هِىَ سواقى المشاهدات والمكاشفات وعيون القلوب التي تَرُدُّها هي صفاء المعاملات وانوارُ المناجاة والانهار التي ترُدّها العقول هى مشاهدة والربوبيّة وادراك نور القربة من مرآة الآيات والينابيع التي ترُدّهَا الاسرار هي عجائب كشوف جمال القِدَمِ وشهودها مشهد التّوحيد وحقائق حق الربوبيّة ومطالع شموسِ الصفات ومشارق اقمار انوارِ الذات فالزّهاد اصحاب العقول ومَشْرَبُهُم الطاعات والعبادات والمحبوبون هم اصحاب القلوب ومشربهُمُ الوجود والحالات والعارفون هم اصحاب الارواح ومشربهم المراقبات والانس والخلوات والموجّدون هم اصحاب الاسرار ومشربهُم التفرّد عن الاكوان والتجّرد عن الحدثان والبطالون هم اصحاب النفوس ومشربهم الدَّعاوى والاباطيل والترهات والمزخرفات وقيل الغيب هو الله تعالى وقال بعض العراقين الغيبُ هو مشاهدة الكلّ بعين الحقّ وقال ابو يزيد لا يؤمن بالغيب من لم يكن معه سراج من الغيب { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } يراقِبون اوقاتَ الصّلاة لاستنشاقِ نفخات الصفات واقامة الصلاة حفظ أداب العبوديّة في جناب الربوبيّة بنعت الافتقار الى مشاهَدة الملك الجبار لان في الصّلاة قرّة عيون العارفين ومناجاة المحبين ومشاهدة الحق للشائقين وقال ابن عطاء اقامة الصلاة حفظ حدودها مع حفظ السرّ مع الله ان لا يختلج بسره سواه { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } اي يطلبَوُن قرب الرزّاق بخروجهم عن الارزاق واينما يتقربون اليه بما نالوا منه وايضاً يتخلَّقون بخلقه في الاكرام والاعطاء وايضاً يتحدّثون بما وَجَدُوا من انوار الكواشف وكرائم المعارف عند السّالكين الصّادقين وقيل في الامسَاك لذة وفي الانفاق لذة وكلُّ ما يَلذ فهو بعيدٌ من عَين الحق وقيل ينفقون مما خصصناهم به من انوار المعرفة يفيضون بركاتها ونورها على مَنْ تَبِعهُم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ)
{ الذين يُؤمنونَ بالغَيبِ ويقيمُونَ الصلاةَ } أي: بما غاب عنهم الإيمان التقليديّ، أو التحقيقيّ العلميّ، فإنّ الإيمان قسمان: تقليديّ وتحقيقيّ. والتحقيقيّ قسمان: استدلالي وكشفيّ، وكلاهما إمّا واقف على حدّ العلم والغيب، وإما غير واقف. والأول هو الإيقان المسمّى علم اليقين. والثاني: إمّا عيني، وهو المشاهدة المسمى عين اليقين، وإما حقيّ، وهو الشهود الذاتي المسمّى حق اليقين. والقسمان الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية التي هي التزكية، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية، الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث: قلبية، وبدنية، وما حول البدن. فالقلبية هي المعارف، والحكم، والكمالات العلمية والعملية الخلقية. والبدنية هي الصحة والقوّة واللّذات الجسمانية والشهوات الطبيعية. وما حول البدن هي الأموال والأسباب، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " ألا وإنّ من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة الجسد، وتقوى القلب ". ويجب الاحتراز عن الأوليين لإحراز الأخيرة المطلوبة بالزهد والعبادة. فإقامة الصلاة ترك الراحات البدنية وإتعاب الآلات الجسدية، وهي أمّ العبادات التي إذا وجدت لم يتأخر عنها البواقي**{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَر }** [العنكبوت، الآية: 45] إذ هي تحامل على البدن والنفس، ومشقة فادحة عليهما، وإنفاق المال هو الإعراض عن السعادة الخارجية المحبوبة إلى النفس المسمّى بالزهد، فإن الإنفاق ربما كان أشدّ عليها من بذل الروح للزوم الشحّ إياها، ولم يكتف بالقدر الواجب فقال: { ومما رزقناهم ينفقون } ليعتاد القلب ترك الفضول المالية بالجود والسخاء وبذل المال، في وجوه المروّات، والهبات، والصدقات الغير الواجبة، فيوقي شحّ نفسه، وخصص الإنفاق بالبعض بإيراد من التبعيضية لئلا يقع في رذيلة التبذير ببذل القدر الضروري فيحرم فضيلة الجود الذي هو من باب التخلق بأخلاق الله. { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أي: الإيمان التحقيقيّ الشامل للأقسام الثلاثة المستلزم للأعمال القلبية التي هي التحلية، وهي تفرّس القلب بالحكم والمعارف المنزّلة في الكتب الإلهية والعلوم المتعلقة بأحوال المعاد، وأمور الآخرة، وحقائق علم القدس. ولهذا قال: { وبالآخرة هم يوقنون } وأهل الآخرة الذين ما جاوزوا حدّ التزكية، ولم يصلوا إلى التحلية التي هي ميراثها، لقوله عليه السلام: **" من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم "** وأهل الله الموقنون الجامعون لها كلهم على هدى من ربهم إمّا إليه وإما إلى داره، دار السلامة والفضل والثواب واللطف، وهم أهل الفلاح لا غير إما من العقاب وإما من الحجاب ولهذا قال: { أولئك } أي: الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من التزكية والتحلية. { على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } لأجلها، فعلى هذا الذين يؤمنون مبتدأ، والذين يؤمنون الثاني معطوف عليه، وأولئك خبره، ولو جعل صفة للمتقين لكان المراد بهم الكاملين في التقوى بعد الهداية. وكان مجازاً من باب تسمية الشيء بما سيؤول إليه. الصفحة غير موجودة
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ الذين يؤمنون بالغيب } الجملة صفة مقيدة للمتقين ان فسر التقوى بترك ما لا ينبغى مترتبة عليه ترتب التحلية على التخلية والتصوير على التصقيل وموضحة ان فسر بما يعم فعل الطاعة وترك المعصية لاشتماله على ما هو اصل الاعمال واساس الحسنات من الايمان والصلاة والصدقة فانها امهات الاعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصى غالبا ألا يرى قوله تعالى**{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }** العنكبوت 45 وقوله عليه السلام **" الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الاسلام ".** والايمان هو التصديق بالقلب لان المصدق يؤمن المصدق يؤمن المصدق يؤمن المصدق اى يجعله آمنا من التكذيب او يؤمن نفسه من العذاب بفعله والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن عباده من عذابه بفضله واستعماله بالباء ههنا لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق على الوثوق فان الواثق يصير ذا امن وطمانينة. قال فى الكواشى الايمان فى الشريعة هو الاعتقاد بالقلب والاقرار باللسان والعمل بالاركان والاسلام الخضوع والانقياد فكل ايمان اسلام وليس كل اسلام ايمانا اذا لم يكن معه تصديق فقد يكون الرجل مسلما ظاهرا غير مصدق باطنا ولا يكون مصدقا باطنا غير منقاد ظاهرا. قال المولى ابو السعود رحمه الله فى تفسيره هو فى الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما علم ضرورة انه من دين نبينا صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها وهل هو كاف فى ذلك او لا بد من انضمام الاقرار اليه للتمكن منه الاول رأى الشيخ الاشعرى ومن تابعه والثانى مذهب ابى حنيفة رحمه الله ومن تابعه وهو الحق فانه جعلهما جزئين له خلا ان الاقرار ركن محتمل للسقوط كما عند الاكراه وهو مجموع ثلاثة امور اعتقاد الحق والاقرار به والعمل بموجبه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج فمن اخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ومن اخل بالقرار فهو كافر ومن اخل بالعمل فهو فاسق اتفاقا عندنا وكافر عند الخوارج وخارج عن الايمان غير داخل فى الكفر عند المعتزلة. والغيب مصدر سمى به الغائب توسعا كقولهم للزآئر زور وهو ما غاب عن الحس والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة وهو قسمان قسم لا دليل عليه وهو الذي اريد بقوله سبحانه**{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو }** الأنعام 59. وقسم نصب عليه دليل كالصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها من الاحكام والشرائع واليوم الآخر واحواله من البعث والنشور والحساب والجاء وهو المراد ههنا. فالباء صلة الايمان اما بتضمينه معنى الاعتراف او بجعله مجازا عن الوثوق وهو واقع موقع المفعول به وان جعلت الغيب مصدرا على حاله كالغيبة فالباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل اى يؤمنون ملتبسين بالغيبة اما عن المؤمن به اى غائبين عن النبى صلى الله عليه وسلم غير مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة ويدل عليه انه قال حارث بن نغير لعبد الله بن مسعود رضى الله عنه نحن نحتسب لكم يا اصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته فقال عبد الله ونحن نحتسب لكم ايمانكم به ولم تروه وان افضل الايمان ايمان بالغيب ثم قرأ عبد الله { الذين يؤمنون بالغيب } كذا فى تفسير ابى الليث واما عن الناس اى غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم }** البقرة14 وقيل المراد بالغيب القلب لانه مستور والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بافواههم ما ليس فى قلوبهم فالباء حينئذ للآلة. **" وعن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه احد منا فاقبل حتى جلس بين يدى رسول الله الله صلى الله عليه وسلم وركبتيه تمس ركبتيه فقال يا محمد أخبرنى عن الاسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا " فقال صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه ثم قال فما الايمان قال " ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره " فقال صدقت ثم قال فما الاحسان قال " ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك " قال صدقت ثم قال فاخبرنى عن الساعة فقال " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " قال صدقت قال فاخبرنى عن اماراتها قال " ان تلد الامة ربتها وان ترى العراة الحفاة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان " قال صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عمر هل تدرى من الرجل " قلت الله ورسوله اعلم قال " ذاك جبريل اتاكم يعلمكم امر دينكم وما اتانى فى صورة الا عرفته فيها الا فى صورته هذه "** وفى التأويلات النجمية { يؤمنون بالغيب } اى بنور غيبى من الله فى قلوبهم نظروا فى قول محمد صلى الله عليه وسلم فشاهدوا صدق قوله فآمنوا به كما قال عليه السلام **" المؤمن ينظر بنور الله "** واعلم ان الغيب غيبان غيب غاب عنك وغيب غبت عنه فالذى غاب عنك عالم الارواح فانه قد كان حاضرا حين كنت فيه بالروح وكذرة وجودك فى عهد الست بربكم واستماع خطاب الحق ومطالعة آثار الربوبية وشهود الملائكة وتعارف الارواح من الانبياء والاولياء وغيرهم فغاب عنك اذ تعلقت بالقالب ونظرت بالحواس الخمس اى بالمحسوسات من عالم الاجسام واما الغيب الذي غبت عنه فغيب الغيب وهو حضرة الربوبية قد غبت عنه بالوجود وما غاب عنك بالوجود وهو معكم اينما كنتم انت بعيد منه وهو قريب منك كما قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }** ق16 انتهى كلام الشيخ نجم الدين قدس سره قال الشيخ سعدى | **دوست نزديكتر ازمن بمنست وين عجبتركه من ازوى ذورم جه كنم باكه توان كفت كه او در كنار من ومن مهجورم** | | | | --- | --- | --- | { ويقيمون الصلاة } الصلاة اسم للدعاء كما فى قوله تعالى**{ وصل عليهم }** التوبة 103اى ادع لهم والثناء كما فى قوله تعالى**{ إن الله وملائكته يصلون }** الأحزاب 56. والقراءة كما فى قوله تعالى**{ ولا تجهر بصلاتك }** الإِسراء110 اى بقراءتك والرحمة كما فى قوله تعالى**{ أولئك عليهم صلوات من ربهم }** البقرة 157 والصلاة المشروعة المخصوصة بافعال واذ كار سميت بها لما فى قيامها من القراءة وفى قعودها من الثناء والدعاء ولفاعلها من الرحمة. والصلاة فى هذه الآية اسم جنس اريد بها الصلوات الخمس. واقامتها عبارة عن المواظبة عليها من قامت السوق اذا نفقت او عن التشمر لادائها من غير فتور ولاتوان من قولهم قام بالامر واقامه اذا جد فيه وتجلد وضده قعد عن الامر وتقاعد او عن ادائها فان قول المؤذن قد قامت الصلاة معناه اخذوا فى ادائها عبر عن ادائها بالاقامة لاشتمالها على القيام كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح او عن تعديل اركانها وحفظها من ان يقع فى شئ من فرائضها وسننها وادائها زيغ من اقام العود اذا قومه وعدله وهو الاظهر لانه اشهر والى الحقيقة اقرب وافيد لتضمنه التنبيه على ان الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنه من الخشوع والاقبال بقلبه على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون. قال ابراهيم النخعى اذا رأيت رجلا يخفف الركوع والسجود فترحم على عياله يعنى سن ضيق المعيشة. وذكر ان حاتما الزاهد دخل على عاصم بن يوسف فقال له عاصم يا حاتم هل تحسن ان تصلى فقال نعم قال كيف تصلى قال اذا تقارب وقت الصلاة اسبغ الوضوء ثم استوى فى الموضع الذى اصلى فيه حتى يستقر كل عضو منى وارى الكعبة بين حاجبى والمقام بحيال صدرى والله فوقى يعلم ما فى قلبى وكأن قدمى على الصراط والجنة عن يمينى والنار عن شمالى وملك الموت خلفى واظن انها آخر الصلاة ثم اكبر تكبيرا باحسان واقرأ قراءة بتفكر واركع ركوعا بالتواضع واسجد سجودا بالتضرع ثم اجلس على التمام وأتشهد على الرجاء واسلم على السنة ثم اسلمها للاخلاص واقوم بين الخوف والرجاء ثم اتعاهد على الصبر قال عاصم يا حاتم أهكذا صلاتك قال كذا صلاتى منذ ثلاثين سنة فبكى عاصم وقال ما صليت من صلاتى مثل هذا قط كذا فى تنبيه الغافلين قال السعدى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **كه داند جو دربند حق نيستى اكربى وضو درنماز ايستى** | | | | --- | --- | --- | قال فى تفسيره التيسير المذكور فى الآية اقامة الصلاة والله تعالى امر فى الصلاة بأشياء باقامتها بقوله**{ واقيموا الصلاة }** البقرة43 وبالمحافظة عليها وادامتها بقوله**{ الذين هم على صلاتهم دائمون }** المعارج 23 وبادائها فى اوقاتها بقوله**{ إِن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا }** النساء 103 وبادائها فى جماعة بقوله**{ واركعوا مع الراكعين }** البقرة 43 وبالخشوع فيها بقوله**{ الذين هم فى صلاتهم خاشعون }** المؤمنون 2 وبعد هذه الاوامر صارت الناس على طبقات. طبقة لم يقبلوها ورأسهم ابو جهل لعنه الله قال الله تعالى فى حقه**{ فلا صدق ولا صلى }** القيامة 31 وذكر مصيرهم فقال**{ ما سلككم فى صقر قالوا لم نكن من المصلين }** المدثر 42-43 الى قوله**{ وكنا نكذب بيوم الدين }** المدثر46 وطبقة قبلوها ولم يؤدوها وهم اهل الكتاب قال الله تعالى**{ فخلف من بعدهم خلف }** مريم 59 وهم اهل الكتاب**{ أضاعوا الصلاة }** مريم 59 وذكر مصيرهم فقال**{ فسوف يلقون غيا }** مريم 59 وهى دركة فى جهنم هى اهيب موضع فيها تستغيث الناس منها كل يوم كذا وكذا مرة ثم قال الله**{ إلا من تاب }** مريم 60 اى من اليهودية والنصرانية**{ وآمن }** مريم 60 اى بمحمد**{ وعمل صالحا }** مريم 60 اى حافظ على الصلاة. وطبقة ادوا بعضا ولم يؤدا بعضا متكاسلين وهم المنافقون قال الله تعالى**{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى }** النساء 142 وذكران مصيرهم ويل وهو واد فى جهنم لو جعلت فيه جبال الدنيا لماعت اى سالت قال النبى صلى الله عليه وسلم **" من ترك صلاة حتى مضى وقتها عذب فى النار حقبا "** والحقب ثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم الف سنة مما تعدون. قالوا وتأخير الصلاة عن وقتها كبيرة واصغر الكبيرة ما قيل انه يكون كانه زنا بامه سبعين مرة كما فى روضة العلماء. وطبقة قبلوها وهم يراعونها فى مواقيتها بشرائطها ورأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلم قال تعالى**{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل }** المزمل20 وقال تعالى**{ قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين }** الأنعام 162 الآية واصحابه كذلك فذكرهم الله تعالى بقوله**{ قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون }** المؤمنون 1-2 وذكر مصيرهم فقال**{ أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس }** المؤمنون 10-11 وهو ارفع موضع فى الجنة وابهاه ينال المؤمن فيه مناه وينظر الى مولاه. قال الحكماء كن نجما فان لم تستطع فكن قمرا فان لم تستطع فكن شمسا اى مصليا جميع الليل كالنجم يشرق جميع الليل او كالقمر يضيء بعض الليل او كالشمس تضيء بالنهار معناه فصل بالنهار إن لم تستطع بالليل كذا في زهرة الرياض. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واعلم أن الجماعة من فروض الكفاية وفيها فضل وليست بفرض عند عامة العلماء حتى اذا صلى وحده جاز وان فاته فضل الجماعة. وقال احمد بن حنبل ان الجماعة فرض وليست بنافلة حتى اذا صلى وحده لم تجز صلاته غير انها وان لم تكن فريضة عندنا فالواجب على المسلم ان يتعاهدها ويحفظها قال تعالى**{ يا قومنا اجيبوا داعى الله }** الأَحقاف 31 قال بعضهم المراد من الداعى المؤذنون الذين يدعون الى الجماعة فى الصلوات الخمس وتارك الجماعة شر من شارب الخمر وقاتل النفس بغير حق ومن القتات ومن العاق لوالديه ومن الكاهن والساحر ومن المغتاب وهو ملعون فى التوراة والانجيل والزبور والفرقان وهو ملعون على لسان الملائكة لا يعاد اذا مرض ولا تشهد جنازته اذا مات قال النبى عليه الصلاة والسلام **" تارك الجماعة ليس منى ولا انا منه ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا "** اى نافلة وفريضة فان ماتوا على حالهم فالنار اولى بهم كذا فى روضة العلماء. وقال فى نصاب الاحتساب قال عليه السلام **" لقد هممت ان آمر رجلا يصلى بالناس وانظر الى اقوام يتخلفون عن الجماعة فاحرق بيوتهم "** وهذا يدل على جواز احراق بيت الذى يتخلف عن الجماعة لان ألهم بالمعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لانه معصية فاذا علم جواز احراق البيت على ترك السنة المؤكدة فما ظنك فى احراق البيت على ترك الواجب والفرض وما ظنك فى احراق آلات المعصية انتهى كلام النصاب هذا. وعن ابن عباس رضى الله عنهما بعث الله نبيه عليه السلام بشهادة ان لا اله الا الله فلما صدق زاد الصلاة فلما صدق زاد الزكاة فلما صدق زاد الصيام فلما صدق زاد الحج ثم الجهاد ثم اكمل لهم الدين. قال مقاتل كان النبى عليه السلام يصلى بمكه ركعتين بالغداة وركعتين بالعشاء فلما عرج به الى السماء أمر بالصلوات الخمس كما فى روضة الاخيار. وانما فرضت الصلاة ليلة المعراج لان المعراج افضل الاوقات واشرف الحالات واعز المناجات والصلاة بعد الايمان افضل الطاعات وفى التعبد احسن الهيآت ففرض افضل العبادات فى افضل الاوقات وهو وصول العبد الى ربه وقربه منه. واما الحكمة فى فرضيتها فلانه صلى الله عليه وسلم لما اسرى به شاهد ملكوت السموات باسرها وعبادات سكانها من الملائكة فاستكثرها عليه السلام غبطة وطلب ذلك لامته فجمع الله له فى الصلوات الخمس عبادات الملائكة كلها لان منهم من هو قائم ومنهم من هو راكع ومنهم من هو ساجد وحامد ومسبح الى غير ذلك فاعطى الله تعالى اجور عبادات اهل السموات لامته اذا قاموا الصلوات الخمس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واما الحكمة فى ان جعلها الله تعالى مثنى وثلاث ورباع فلانه عليه السلام شاهد هياكل الملائكة تلك الليلة اى ليلة الاسراء اولى اجنحة مثنى وثلاث ورباع فجمع الله ذلك فى ضور انوار الصلوات عند عروج ملائكة الاعمال بارواح العبادات لان كل عبادة تتمثل فى الهيا كل النورانية وصورها كما وردت الاشارات فى ذلك بل يخلق الملائكة من الاعمال الصالحة كما ورد فى الاحاديث الصحيحة وكذلك جعل الله اجنحة الملائكة على ثلاث مراتب فجعل اجنحتك التي تطير بها الى الله موافقه لاجنحتهم ليستغفروا لك وأما الحكمة فى كونها خمس صلوات فلانه عليه السلام بعد سؤاله التخفيف ومراجعته قال له الله تعالى **" يا محمد انهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر حسنات فتلك خمسون صلاة وكانت خمسين على من قبلنا "** فحطت ليلة المعراج الى خمس تخفيفا وثبت جزاء الخمسين تضعيفا. وحكمة اخرى فى كونها خمس صلوات انها كانت متفرقة فى الامم السالفة فجمعها سبحانه لنبيه وامته لانه عليه السلام مجمع الفضائل كلها دنيا وآخره وامته بين الامم كذلك فاول من صلى الفجر آدم والظهر ابراهيم والعصر يونس والمغرب عيسى والعشاء موسى عليهم السلام فهذا سر القرار على خمس صلوات وقيل صلى آدم عليه السلام الصلوات الخمس كلها ثم تفرقت بعده بين الانبياء عليهم السلام واول من صلى الوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لذلك قال **" زادنى ربى صلاة "** اى الوتر على الخمس او صلاة الليل فافهم اول من بادر الى السجود جبريل عليه السلام ولذلك صار رفيق الانبياء وخادمهم واول من قال سبحان الله جبريل والحمد لله آدم ولا اله الا الله نوح والله اكبر ابراهيم ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كل ذلك فى كشف الكنوز وحل الرموز. وذكر فى الحكم الشاذلية وشرحها انه لما علم الحق منك وجود الملل لون لك الطاعات لتستريح من نوع الى نوع وعلم ما فيك من وجود الشر المؤدى الى الملل القاطع عن بلوغ الامل فحجرها عليك فى الاوقات اذ جعل فى اليوم خمسا وفى السنة شهرا وفى المائتين خمسة وفى العمر زورة ولكل واحدة فى تفاصيلها وقت لا تصح فى غيره كل ذلك رحمة بك وتيسيرا للعبودية عليك وقد قيد الله الطاعات باعيان الاوقات كيلا ينفك عنها وجود التوسيف ووسع الوقت عليك كى تبقى صفة الاختيار قالوا المولى جلال الدين قدس سره | **كرنباشد فعل خلق اندرميان بس مكوكس راجرا كردى جنان يك مثال ايى دل بى فرقى بيار تابدانى جبررا از اختيار دست كان لرزان بود ازار تعاش وانكه دستى را تولرزانى زجاش هردوجنبش آفريده حق شناس ليك نتوان كرد اين با آن قياس** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفى التأويلات النجمية بداية الصلاة اقامة ثم ادامة فاقامتها بالمحافظة عليها بمواقيتها واتمام ركوعها وسجودها وحدودها ظاهرا وباطنا وادامتها بدوام المراقبة وجمع الهمة فى التعرض لنفحات الطاف الربوبية التى هى مودعة فيها لقوله عليه السلام **" ان لله فى ايام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ".** فصورة الصلاة صورة التعرض والامر بها صورة جذبة الحق بان يجذب صورتك عن الاستعمال لغير العبودية وسر الصلاة حقيقه التعرض ففى كل شرط من شرائط صورتها وركن من اركانها وسنة من سننها وأدب من آدابها وهيئة من هيآتها سر يشير الى حقيقة التعرض لها. ومن شرائط الصلاة الوضوء ففي كل أدب وسنة وفرض منه سر يشير الى طهارة يستعد بها لاقامة الصلاة ففى غسل اليدين اشارة الى تطهير نفسك عن تلوث المعاصى وتطهير قلبك عن تلطخ الصفات الذميمة الحيوانية والسبعية والشيطانية كما قال تعالى لحبيبه عليه السلام**{ وثيابك فطهر }** المدثر 4. جاء فى التفسير اى قلبك فطهر وغسل الوجه اشارة الى طهارة وجه همتك من دنس ظلمة حب الدنيا فانه رأسُ كل خطيئة. ومن شرائط الصلاة استقبال القبلة وفيه اشارة الى الاعراض عما سوى طلب الحق والتوجه الى حضرة الربوبية لطلب القربة والمناجاة ورفع اليدين اشارة الى رفع يدالهمة عن الدنيا والآخرة والتكبير تعظيم الحق بانه اعظم من كل شيء فى قلب العبد طلبا ومحبة وعظما وعزة ومقارنة النية مع التكبير اشارة الى ان صدق النفية فى فى الطلب ينبغى ان يكون مقرونا بتكبير الحق وتعظيمه في الطلب عن غيره فلا تطلب منه الا هو فان من طلب غيره غيره فقد كبر وعظم ذلك المطلوب لا الله تعالى فلا تجوز صلاته حقيقة كما لا تجوز صلاته صورة الا بتكبير الله فان قال الدنيا اكبر او العقبى أكبر لا يجوز حتى يقول الله أكبر فكذلك في الحقيقة في وضع اليمنى على اليسرى ووضعها على الصدر اشارة الى اقامة رسم العبودية بين يدى مالكه وحفظ القلب عن محبة ما سواه وفى افتتاح القراءة بوجهت اشارة الى توجهه للحق خالصا عن شرك طلبه غير الحق وفى وجوب الفاتحة وقراءتها وعدم جواز الصلاة بدونها اشارة الى حقيقة تعرض العبد فى الطلب لنفحات الطاف الربوبية بالحمد والثناء والشكر لرب العالمين وطلب الهداية وهى الجذبات الالهية التى توازى كل جذبة منها عمل الثقلين وتقرب العبد بنصف الصلاة المقسومة بين العبد والرب نصفين والقيام والركوع والسجود اشارة الى رجوعه الى عالم الارواح ومسكن الغيب كما جاء منه فاول تعلقه بهذا العالم كان بالنباتية ثم بالحيوانية ثم بالانسانية فالقيام من خصائص الانسان والركوع من خصائص الحيوان والسجود من خصائص النبات كما قال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ والنجم والشجر يسجدان }** الرحمن 6 فللعبد فى كل مرتبة من هذه المراتب ربح وخسران والحكمة فى تعلق الروح العلوى والنورانى بالجسد السفلى الظلمانى كان هذا الربح لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام **" خلقت الخلق ليربحوا على لا لأربح عليهم "** ليربح الروح فى كل مرتبة من مراتب السفليات فائدة لم توجد فى مراتب العلويات وان كان قد ابتلى اولا ببلاء الخسران كما قال تعالى**{ والعصر ان الانسان لفى خسر الا الذين آمنوا }** العصر 1-3 الآية. فبنور الايمان والعمل الصالح يتخلص العبد من بلاء خسران المراتب السفلية ويفوز بربحها فبالقيام فى الصلاة بالتذلل وتواضع العبودية يتخلص من خسران التكبر والتجبر الذى من خاصته ان يتكامل فى الانسان ويظهر منه انا ربكم الاعلى ويفوز بربح علو الهمة الانسانية التى اذا كملت فى الانسان لا يلتفت الى الكون فى طلب المكون كما كان حال النبى عليه السلام**{ اذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاع البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى }** النجم 16-18 فاذا تخلص من التكبر الانسانى يرجع من القيام الانسانى الركوع الحيوانى بالانكسار والخضوع فالبركوع يتخلص من خسران الصفة الحيوانية ويفوز بربح تحمل الاذى والحلم ثم يرجع من الركوع الحيوانى الى السجود النباتى فبالسجود يتخلص من خسران الذلة النباتية والدناءة السفلية ويفوز بربح الخشوع الذى يتضمن الفلاح الابدى والفوز العظيم السرمدى كما قال تعالى**{ قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلتهم خاشعون }** المؤمنون 1-2 فالخشوع اكمل آلات العروج فى العبودية وقد حصل فى تعلقه بالجسد النيرانى وليس لاحد من العالمين هذا الخشوع وبهذا السرابت الملائكة وغيرهم ان يحملن الامانة فاشفقن منها لان الاباء ضد الخشوع وحملها الانسان باستعداد الخشوع وكمل خشوعه بالسجود اذ هو غاية التذلل فى صورة الانسان وهيئة الصلاة ونهاية قطع تعلق الروح من العالم السفلى وعروجه الى العالم الروحانى العلوى برجوعه من مراتب الانسانية والحيوانية والنباتية وكمال التعرض لنفحات ألطاف الحق وبذل المجهود وانفاق الموجود من انانية الوجود الذى هو من شرط المصلين كقوله تعالى**{ ويقيمون الصلاة }** التوبة 17**{ ومما رزقناهم ينفقون }** البقرة 3 الرزق فى اللغة العطاء. وفى العرف ما ينتفع به الحيوان وهو تناول الحلال والحرام عند اهل السنة والقرينة تخصصه ههنا بالحلال لان المقام مقام المدح وتقديم المفعول للاهتمام به والمحافظة على رؤوس الآى وادخال من التبعيضية عليه للكف عن الاسراف المنهى عنه وصيغة الجمع فى رزقنا مع انه تعالى واحد لا شريك له لانه خطاب الملوك والله تعالى مالك الملك وملك الملوك والمعهود من كلام الملوك اربعة اوجه الاخبار على لفظ الواحد نحو فعلت كذا وعلى لفظ الجمع فعلنا كذا وعلى ما لم يسم فاعله رسم لكم كذا واضافة الفعل الى اسمه على وجه المغايبة امركم سلطانكم بكذا والقرآن نزل بلغة العرب فجمع الله فيه هذه الوجوه كلها فيما اخبر به عن نفسه فقال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ذرنى ومن خلقت وحيدا }** المدثر11 على صيغة الواحد وقال تعالى**{ إنا أنزلناه فى ليلة القدر }** القدر 1 على صيغة الجمع وقال فيما لم يسم فاعله**{ كتب عليكم الصيام }** البقرة 183 وامثاله وقال فى المغايبة**{ والله الذى خلقكم }** الروم54 وامثاله كذا فى التيسير. ويقول الفقير جامع هذه اللطائف سمعت من شيخى العلامة ابقاه الله بالسلامة ان الافراد بالنظر الى الذات والجمع بالنظر الى الاسماء والصفات ولا ينافى كثرة الاسماء والصفات وحدة الذات اذ كل منها راجع اليها والانفاق والانفاد اخوان خلا ان فى الثانى معنى الاذهاب بالكلية دون الاول والمراد بهذا الانفاق الصرف الى سيبل الخير فرضا كان او نفلا ومن فسره بالزكاة ذكر افضل انواعه والاصل فيه او خصصه بها لاقترانه بما هى شقيقتها واختها وهى الصلاة وقد جوز ان يراد به الانفاق من جميع المعادن التى منحهم الله اياها من النعم الظاهرة والباطنة ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم **" ان علما لا ينال به ككنز لا ينفق منه "** واليه ذهب من قال فى تفسير الآية ومما خصصناهم من انوار المعرفة يفيضون والاظهر ان يقال المراد من النفقة هى الزكاة وزكاة كل شئ من جنسه كما روى عن انس بن مالك زكاة الدار ان يتخذ فيها بيت للضيافة كما فى الرسالة القشيرية. قالوا انفاق اهل الشريعة من حيث الاموال وانفاق ارباب الحقيقة من حيث الاحوال قال المولى جلال الدين قدس سره | **آن درم دادن سخى را لايق است جان سبردن خود سخاى عاشق است** | | | | --- | --- | --- | وانفاق الاغنياء من اموالهم لا يدخرونها عن اهل الحاجة وانفاق العابدين من نفوسهم لا يدخرونها عن وظائف الخدمة وانفاق العارفين من قلوبهم لا يدخرونها عن حقائق المراقبة وانفاق المحبين من ارواحهم لا يدخرونها عن مجارى الاقضية. والاقصر ان يقال انفاق الاغنياء اخراج المال من الجيب وانفاق الفقراء اخراج الاغيار من القلب ثم ذكر فى الآية الايمان وهو بالقلب ثم الصلاة وهى بالبدن ثم الانفاق وهو بالمال وهو مجموع كل العبادات ففى الايمان النجاة وفى الصلاة المناجاة وفى الانفاق الدرجات وفى الايمان البشارة وفى الصلاة الكفارة وفى الانفاق الطهارة وفى الايمان العزة وفى الصلاة القربة وفى الانفاق الزيادة. وقيل ذكر فى هذه الآية اربعة اشياء التقوى والايمان بالغيب واقامة الصلاة والانفاق وهى صفة الخلفاء الراشدين الاربعة ففى الآية بيان فضلهم التقوى لابى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه قال الله تعالى**{ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الليل 5-6 والايمان بالغيب لعمر الفاروق رضى الله عنه قال الله تعالى**{ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين }** الأنفال 64. واقامة الصلاة لعثمان ذى النورين رضى الله تعالى عنه قال الله تعالى**{ أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما }** الزمر 9 الآية. والانفاق لعلى المرتضى رضى الله تعالى عنه قال الله تعالى**{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار }** البقرة 247 الآية. وعند القوم اى الصوفية السخاء هو الرتبة الاولى ثم الجود بعده ثم الايثار فمن اعطى البعض وابقى البعض فهو صاحب سخاء ومن بذل الاكثر وابقى لنفسه شيأ فهو صاحب جود والذي قاسى الضرورة وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب ايثار وبالجملة فى الانفاق فضائل كثيرة. وروى عن ابى عبد الله الحارث الرازى انه قال اوحى الله الى بعض انبيائه **" انى قضيت عمر فلان نصفه بالفقر ونصفه بالغنى فخيره حتى اقدم له أيهما شاء "** فدعا نبى الله عليه السلام الرجل واخبره فقال حتى اشاور زوجتى فقالت زوجته اختر الغنى حتى يكون هو الاول فقال لها ان الفقر بعد الغنى صعب شديد والغنى بعد الفقر طيب لذيذ فقالت لا بل اطعنى فى هذا فرجع الى النبى عليه السلام فقال اختار نصف عمرى الذى قضى لى فيه بالغنى ان يقدم فوسع الله عليه الدنيا وفتح عليه باب الغنى فقالت له امرأته ان اردت ان تبقى هذه النعمة فاستعمل السخاء مع خلق ربك فكان اذا اتخذ لنفسه ثواباً اتخذا لفقير ثوبا مثله فلما تم نصف عمره الذى قضى له فيه بالغنى اوحى الله تعالى الى نبى ذلك الزمان **" انى كنت قضيت نصف عمره بالفقر ونصفه بالغنى لكنى وجدته شاكرا لنعمائى والشكر يستوجب المزيد فبشرة انى قضيت باقى عمره بالغنى "** قال المولى جلال الدين قدس سره | **هركه كارد كردد انبارش تهى ليكش اندر مزرعه باشد بهى وانكه در انبار ماند وصرفه كرد ابش وموش حوادثهاش خورد** | | | | --- | --- | --- | قال الحافظ. | **احوال كنج قارون كايام درد برباد باغنجه باز كوييد تازر نهان ندارد** | | | | --- | --- | --- | وفى التأويلات النجمية { ومما رزقناهم ينفقون } اى من اوصاف الوجود يبذلون بحق النصف المقسوم من الصلاة بين العبد والرب فاذا بلغ السبيل زباه والتعرض منهاه ادركته العناية الازلية بنفحات ألطاف وهداه الى درجات قرباته فكما جذبة الحق للنبي عليه السلام فى صورة خطاب أدن فجذبة الحق للمؤمن تكون فى صورة خطاب**{ واسجد واقترب }** العلق 19 ففى التشهد بعدا السجود اشارة الى الخلاص من حجب الانانية والوصول الى شهود جمال الحق بجذبات الربانية ثم بالتحيات يراقب رسوم العباد فى الرجوع الى حضرة الملوك بمراسم تحفة الثناء والتحنن الى اللقاء وفى التسليم عن اليمين وعن الشمال اشارة الى السلام على الدارين وعلى كل داع جاهل يدعوه عن اليمين الى نعيم الجنات او عن الشمال الى اللذات والشهوات وهو فى مقامات الاجابات والمناجاة ودرجات القربات مستغرق فى بحر الكرامات مقيد بقيد الجذبات كما قال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما }** الفرقان 63 فاهل الصورة بالسلام يخرجون من اقامة الصلاة واهل الحقيقة بالسلام يدخلون فى ادامة الصلاة كقوله**{ الذين هم على صلاتهم دائمون }** المعارج 23 فقوم يقيمون الصلاة والصلاة تحفظهم كما قال تعالى**{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }** العنكبوت 45 فهم**{ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون }** البقرة 3 بمالهم فى الغيب معد بقوله **" اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "** فعلموا ان ماهو المعد لهم لا تدركه الابصار ولا الآذان ولا القلوب التى رزقهم الله وليس بينهم وبين ما هو المعد لهم حجاب الا وجودهم فاشتاقوا الى نار تحرق عليهم حجاب وجودهم فآنسوا من جانب طور صلاتهم نار لان صلاتهم بمثابة الطور لهم للمناجاة فلما اتاها نودى ان بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين فجعلوا ما رزقهم الله من اوصاف الوجود حطب نار الصلاة ينفقونه عليها ويقيمون الصلاة حتى نودوا انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم انتم لها واردون ومن لم يكن له نار تحرق فى نار جهنم الصلاة حطب وجوده ووجود كل من يعبد من دون الله فلا بدله من الحرقة بنار جهنم الآخرة فالفرق بين النارين ان نار الصلاة تحرق لب وجودهم الذى هم به محجوبون عن الله تعالى ويبقى جلد وجودهم وهو الصورة والحجاب من لب الوجود لا من جلده وهذا سر عظيم لا يطلع عليه الا اولوا الالباب المحترقة ونار جهنم تحرق جلودهم ويبقى لب وجودهم لا جرم لا ترفع الحجب عنهم كلا انهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون لان اللب باق والجلد وان احترق بقى اللب كما قال تعالى**{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها }** النساء 56 فمن انفق لب الوجود وما تبدى منه له الوجود من المال والجاه فى سبيل نار الصلاة والقربة الى الله فينفق الله عليه وجود نار الصلاة كما قال لحبيبه عليه السلام " انفق عليك " فبقى بنار الصلاة بلا انانية الوجود فتكون صلاته دائمة بنور نار الصلاة يؤمن بما انزل على الانبياء عليهم الصلاة والسلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
قلت: هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال، الأول: عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني: عمل بدني، وهو الصلاة، والثالث: عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها. أما العمل القلبي: فهو الإيمان أولاً، والمعرفة ثانياً، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى، وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتاً، والمستقبل حالاً، والآتي واقعاً، وقد قلت ذلك: | **فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبّاً وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ تَرَى الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيَانٍ تَحْظَى بالوصُولِ وبالتَّلاَقِي** | | | | --- | --- | --- | وفي الحكم: " لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها " وقال في التنوير: ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان. هـ. وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص، والله تعالى أعلم. وأما العمل البدني: فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها، قال تعالى { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ } ، وقال تعالى:**{ أَقِمِ الصَّلاَةَ }** [الإسرَاء: 78]،**{ وَالْمُقِيمِى الصَّلاَةِ }** [الحَجّ: 35]، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال:**{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ }** [الماعون: 4، 5] ولم يقل: فويل للمقيمين الصلاة. وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً، وهو من أفضل القربات، يقول الله - تبارك وتعالى: **" يا ابنَ آدم أنفِقْ، أنفقْ عليك "** ، وفي حديث آخر: **" أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالاً "** وقال صلى الله عليه وسلم: **" إنّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا "** ، قيل: لِمَنْ هِي يا رسولَ الله؟ قال: **" لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ، وأفْشَى، السلام، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام "** وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: **" إن الله - عزّ وجلّ - ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً، الجنةَ: رَب البيتِ الآمرَ به، والزوجة تصلحه، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين "** وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: **" إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ باباً من السّوء "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: **" صنائِع المعْرُوف تقي مَصارعَ السُّوءِ، وصدقةُ السِّر تُطفِئ غَضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العمرِ ".** الإشارة: يا من غرق في بحر الذات وتيار الصفات { ذلك الكتاب } الذي تسمع من أنوار ملكوتنا، وأسرار جبروتنا { لا ريب فيه } أنه من عندنا، فلا تسمعه من غيرها،**{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ }** [القيامة: 18]، فهو هاد لشهود ذاتنا، ومرشد للوصول إلى حضرتنا، لمن اتقى شهود غيرِنا، وغرق في بحر وحدتنا، الذي يؤمن بغيب غيبنا، وأسرار جبروتنا، التي لا تحيط بها العلوم، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والفهوم، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، إظهاراً لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة، فهو على صلاته دائم، وقلبه في غيب الملكوت هائم، ينفق مما رزقه الله من أسرار العلوم ومخازن الفهوم، فهو دائماً ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه، فلا جرم أنه على بينة من ربه. ولمَّا ذكر الحق تعالى من آمن من العرب، ذكر من آمن من أهل الكتاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ)
قال بيان لشيعتنا قوله: { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } قال: مما علمناهم ينبئون ومما علمناهم من القرآن يتلون وقال ألم هو حرف من حروف اسم الله الاعظم المتقطع في القرآن الذي خوطب به النبي صلى الله عليه وآله والإمام فإذا دعا به أُجيب والهداية في كتاب الله على وجوه أربعة فمنها ما هو للبيان للذين يؤمنون بالغيب قال يصدقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد والإيمان في كتاب الله على أربعة أوجه فمنه إقرار باللسان قد سماه الله إيمانا ومنه تصديق بالقلب ومنه الإِداء ومنه التأييد. (الأول) الإيمان الذي هو إقرار باللسان وقد سماه الله تبارك وتعالى إيماناً ونادى أهله به لقوله: { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كان لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فافوز فوزاً عظيماً } قال الصادق عليه السلام لو أن هذه الكلمة قالها أهل المشرق وأهل المغرب لكانوا بها خارجين من الإيمان ولكن قد سماهم الله مؤمنين بإقرارهم وقوله: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } فقد سماهم الله مؤمنين بإقرارهم ثم قال لهم صدقوا. (الثاني) الإيمان الذي هو التصديق بالقلب فقوله: { الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } يعني صدقوا وقوله { وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } أي لا نصدقك وقوله { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } اي يا أيها الذين أقروا صدقوا فالإيمان الحق هو التصديق وللتصديق شروط لا يتم التصديق إلا بها وقوله { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } فمن أقام بهذه الشروط فهو مؤمن مصدق. (الثالث) الإيمان الذي هو الأداء فهو قوله لما حول الله قبلة رسوله إلى الكعبة قال أصحاب رسول الله يا رسول الله صلواتنا إلى بيت المقدس بطلت فانزل الله تبارك وتعالى { وما كان الله ليضيع إيمانكم } فسمى الصلاة إيماناً. (الرابع) من الإيمان وهو التأييد الذي جعله الله في قلوب المؤمنين من روح الإيمان فقال: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباء‌هم أو أبناء‌هم أو أخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإِيمان وأيدهم بروح منه } والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **" لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن يفارقه روح الإيمان ما دام على بطنها فإذا قام عاد إليه " قيل وما الذي يفارقه قال " الذي يدعه (يرعد ط) في قلبه "** ثم قال عليه السلام **" ما من قلب إلا وله أذنان على أحدهما ملك مرشد وعلى الآخر شيطان مغتر هذا يأمره وهذا يزجره "** ومن الإيمان ما قد ذكره الله في القرآن (خبيث وطيب ط) حيث قال { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } ومنهم من يكون مؤمناً مصدقاً ولكنه يلبس إيمانه بظلم وهو قوله { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } فمن كان مؤمناً ثم دخل في المعاصي التي نهى الله عنها فقد لبس إيمانه بظلم فلا ينفعه الإيمان حتى يتوب إلى الله من الظلم الذي لبس إيمانه حتى يخلص لله فهذه وجوه الإيمان في كتاب الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
آية بلا خلاف الذين في موضع خفض لأنه نعت للمتقين، ويجوز ان يكون رفعاً على الابتداء و { يؤمنون } رفع لأنه فعل مستقبل والواو والنون في موضع رفع لأنه كناية عن الفاعل، والنون الأخيرة مفتوحة لأنها نون الجمع والصلاة نصب لأنها مفعول به. والايمان في اللغة هو التصديق، ومنه قوله: وما انت بمؤمن لنا. أي بمصدق لنا. وقال:**{ يؤمِنُونَ بِالجبتِ والطاغوت }** وكذلك هو في الشرع عند أكثر المرجئة ،والمراد بذلك التصديق بجميع ما اوجب الله او ندبه او اباحة وهو المحكي عن ابن عباس في هذه الاية لأنه قال: الذين يصدقون بالغيب. وحكى الربيع بن انس انه قال: الذين يخشون بالغيب. وقال: معناه يطيعون الله في السر والعلانية. وقيل: إن الايمان مشتق من الامان، والمؤمن من يؤمن نفسه من عذاب الله، والله المؤمن لاوليائه من عذابه وذلك مروي في اخبارنا وقالت المعتزلة باجمعها: الايمان هو فعل الطاعة، ومنهم من اعتبر فرائضها ونوافها، ومنهم من اعتبر الواجب منها لا غير، واعتبروا اجتناب الكبائر من جملتها. وروي عن الرضا عليه السلام: ان الايمان هو التصديق بالقلب والعمل بالاركان والقول باللسان. وقد بينا الاقوى من ذلك في كتاب الاصول. واما { الغيب } فحكي عن ابن عباس انه قال: ما جاء من عند الله. وقال جماعة من الصحابة كابن مسعود وغيره: ان الغيب ما غاب عن العباد علمه من امر الجنة والنار والأرزاق والاعمال وغير ذلك، وهو الاولى لأنه عام، ويدخل فيه ما رواه اصحابنا من زمان الغية ووقت خروج المهدي عليه السلام. وقال قوم: الغيب هو القرآن، حكي ذلك عن زر بن جيش. وذكر البلخي ان الغيب كل ما ادرك بالدلائل والآيات مما تلزم معرفته. وقال الرماني: الغيب خفاء الشيء عن الحس قرب أو بعد إلا انه قد كثرت صفة الغائب على البعيد الذي لا يظهر للحس. واصل الغيب من غاب يقولون: غاب فلان يغيب، وليس الغيب ما غاب عن الادراك لأن ما هو معلوم وان لم يكن مشاهداً، لا يسمى غيباً، والأولى ان تحمل الآية على عمومها في جميع من يؤمن بالغيب، وقال قوم: انها متناولة لمؤمني العرب خاصة دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب، قالوا بدلالة قوله فيما بعد { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } قالوا ولم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي انزله الله على نبيه تدين بتصديقه، وانما الكتاب لأهل الكتابين وهذا غير صحيح لأنه لا يمنع أن تكون الآية الاولى عامة في جميع المؤمنين المصدقين بالغيب وإن كانت الآية الثانية خاصة في قوم لأن تخصيص الثانية لا يقتضي تخصيص الأولى. وقال قوم: انهما مع الآيتين اللتين بعدهما أربع آياتٍ نزلت في مؤمني أهل الكتاب، لأنه ذكرهم في بعضها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقال قوم: ان الأربع آيات من أول السورة نزلت في جميع المؤمنين، واثنتان نزلتا في نعت الكافرين، وثلاثة عشر في المنافقين وهذا أقوى الوجوه، لأنه حمل على عمومه، وحكي ذلك عن مجاهد وقوله: { يقيمون الصلاة } فاقامتها أداؤها بحدودها وفرائضها وواجباتها، كما فرضت عليهم يقال: أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع والشراء قال الشاعر: | **أقمنا لأهل العراقين سوق** | | **الضراب فخاموا وولوا جميعا** | | --- | --- | --- | وقال أبو مسلم محمد بن بحر: معنى { يقيمون الصلاة } يديمون أداء فرضها يقال للشيء الراتب قائم ولفاعله مقيم، ومن ذلك: فلان يقيم أرزاق الجند. وقيل انه مشتق من تقويم الشيء من قولهم: قام بالأمر، إذا أحكمه وحافظ عليه. وقيل انه مشتق مما فيه من القيام، ولذلك قيل قد قامت الصلاة. وأما الصلاة فهي الدعاء في اللغة، قال الشاعر: | **وقابلها الريح في دنّها** | | **وصلى على دنّها وارتسم** | | --- | --- | --- | أي دعا لها. وقال الأعشى: | **لها حارس لا يبرح الدهر بيتها** | | **فان ذبحت صلى عليها وزمزما** | | --- | --- | --- | يعني دعا لها: وأصل الاشتقاق في الصلاة من اللزوم من قوله تصلى ناراً حامية، والمصدر الصلا ومنه اصطلى بالنار إذا لزمها، والمصّلى الذي يجيء في اثر السابق للزوم أثره، ويقال للعظم الذي في العجز صلواً، وهما صلوان. فأما في الشرع ففي الناس من قال إنها تخصصت بالدعاء والذكر في موضع مخصوص. ومنهم من قال، وهو الصحيح، انها في الشرع عبارة عن الركوع والسجود على وجه مخصوص وأركان واذكار مخصوصة. وقيل انها سميت صلاة لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله ونعمه مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته. وأما الرزق، فهو ما للحي الانتفاع به على وجه لا يكون لأحد منعه منه، وهذا لا يطلق إلا فيما هو حلال فأما الحرام فلا يكون رزقاً لأنه ممنوع منه بالنهي، ولصاحبه أيضاً منعه منه، ولأنه أيضاً مدحهم بالانفاق مما رزقهم، والمغصوب والحرام يستحق الذم على إنفاقه، فلا يجوز أن يكون رزقاً. وقوله: { ومما رزقناهم ينفقون } حكي عن ابن عباس انها الزكاة المفروضة يؤتيها احتساباً. وحكي عن ابن مسعود أنها نفقة الرجل على أهله، لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة. وقال الضحاك: هو التطوع بالنفقة فيما قرّب من الله والأولى حمل الآية على عمومها فيمن أخرج الزكاة الواجبة والنفقات الواجبة وتطوع بالخيرات. وأصل الرزق الحظ لقوله:**{ وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون }** أي حظكم، وما جعله حظا لهم فهو رزقهم. والانفاق أصله الاخراج، ومنه قيل: نفقت الدابة إذا خرجت روحها، والنافقاء، جحر اليربوع، من ذلك لأنه يخرج منها. ومنه النفاق لأنه يخرج إلى المؤمن بالايمان والى الكافر بالكفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
قوله جل اسمه: ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ في الكشّاف: الذين يؤمنون: إمّا موصولٌ بالمتّقين على أنّه صفة مجرورة، أو مدحٌ، منصوبٌ أو مرفوعٌ، بتقدير: أعني الذين يؤمنون، أو: هم الذين يؤمنون. وإمّا منقطعٌ عن المتّقين، مرفوعٌ على الابتداء مخبَرٌ عنه بأولئك على هدى. فإذا كان موصولاً، كان الوقفُ على المتقين حسناً غير تامّ، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تامّا. انتهى. واعلم أنّه على تقدير كون " الذين " مع ما يليه متّصلاً بالمتقين وصِفةً له، فإن كان المراد بالتقوى ترك ما لا ينبغي، فهو يكون صفةً مقيدةً له، مترتبة عليه ترتّب الفعل على القوّة، وتوقّف التحلية على التخلية، والتصوير على التطهير. فإنّ النفس الإنسانيّة كاللوح القابل لنقوش العلوم الحقة؛ وهي الإيمان بالله واليومِ الآخر والأخلاقُ الفاضلة التي هي مبادئ الأفعال الحسنة، كالصلاة والزكاة. فيجب تطهره أولاً بالتقوى عن النقوش الفاسدة حتّى يمكن إثبات النقوش الجيّدة فيه، ويستقرّ حصول الأوصاف الحسنة عليه، فلهذا السبب قدّم ذكر التقوى وهي ترك ما لا ينبغي، ثمّ ذكر بعده فعل ما ينبغي وهو الإيمان والطاعة. وإن فسِّر التقوى بما يعمّ فعل الطاعات وترك المعاصي، فيكون صفة موضحة للمتّقين، وذلك لاشتماله على ما هو أصل الأعمال الصالحة، كالإيمان بالله وملكوته، فإنّه من امّهات الأعمال القلبيّة؛ وعلى أساس الحسنات كالصلاة والزكاة، فإنهما من أمّهات العبادات البدنية والمالية، المستتبعة لسائر الطاعات، والتجنّب عن المعاصي غالباً، ألا ترَى الى قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت:45]. وقوله عليه وآله السلام: الصلاةُ عمادُ الدين، والزكاةُ قنطَرةُ الإسلام. تنبيه [التقوى والمتقين] غايةُ التقوى، الاتّصال بالحضرة الإلهيّة بترك الالتفات بغير الله، وقطْع النظَر سواه، وهذا هو غاية النشأة الآدميّة ونهاية الكمال الأخروي للروح الإنساني، ولا يمكن تحصيله إلاّ بتكميل القوّة العاقلة من النفس بالعلوم الحقّة، وبتعديل القوّة العاملة منها بالأعمال الحسَنة، ليتحلّى بالفضائل ويتخلّى عن الرذائل. فالمتكفّل لتكميل الأولى، هو الإيمانِ بالغيبِ، وهو العِلْم بأحوال المبدإ وملائكته وكتبه ورُسله، وأحوال المعاد ومراتبه، وطبقات نفوس الإنسان بحسب درجات الجنان ودركات النيران. والمتكفّل لتكميل الثانية، هو العملُ الصالح، وأصل الأعمال الصالحة الصلاةُ والزكاةُ، أمّا الأولى، فلاشتمالها على الأذكار والنيّات الحسنة، وهيئات الخضوع والخشوع. وأمّا الثانية، فلاستلزامها تركَ التعلّق باللذّات النفسانيّة، والمحبوبات الدنيويّة، لأنّ المال وسيلةٌ لأكثرها. وقد قال سبحانه:**{ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ }** [آل عمران:92]. فإذا تقرَّر هذا، فقوله: " الذين " مع ما يتلوه، بمنزلة تفسيرٍ كاشفٍ للمتّقين وَحَدٍّ مبيّن له. [الأقوال في ماهية الإيمان] ثمّ الإيمانِ بحسب اللغةِ - كما ذكَره صاحب الكشّاف - مأخوذٌ من الأمن؛ ثمّ يقال: آمَنه إذا صدَّقَه، كأن المصدِّق أمِنَ من التكذيب والمخالفة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وتعديته بالباء، لتضمّنه معنى الاعتراف، وقد يُطلق بمعنى الوثوق كما حَكى أبو يزيد: ما آمنت أن أجد صحابة، أي ما وثقت فهو من حيث أنّ الواثقَ صار ذا أمنٍ، وكلا الوجهين حسَنٌ في: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. وأما بحسب الشرع فقد اختلف أهل القبلة في معنى الإيمان في عرف الشرع إلى اربعة مذاهب. أحدها: إنّه إسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان. وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية واهل الحديث، فهو اسمٌ لمجموع أمور ثلاثة: اعتاقد الحقّ، والإقرار به، والعمل بمقتضاه، فمَن أخلَّ بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخلَّ بالإقرار فهو كافر على رأي. ومن أخلَّ بالعملِ ففاسقٌ وفاقاً، وكافرٌ عند الخوارج، خارجٌ عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة. وروى الخاصُّ والعامُّ عن مولانا عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام): " إنّ الإيمان هو التصديقُ بالقلبِ والإقرارُ باللسانِ والعمَلُ بالأركانِ " وقد روي ذلك عنه أيضاً على لفظ آخر: " الإيمانُ قولٌ مقولٌ، وعملٌ معمولٌ، وعرفانٌ بالعقول، واتّباعُ الرسول ". ثمّ إنّ الخوارجَ اتّفقت على أنّ الإيمان بالله متناولٌ للمعرفة به، وبكلّ ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً او نقلياً، ويتناول طاعته في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك، حتّى الصغائر، فالإخلالُ بشيء من هذه الأمور كفْرٌ. وأمّا المعتزلة فقد اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: إنّ الإيمان عبارةٌ عن الإتيان بكلّ الطاعات، سواء كانت من الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات، وسواء كانت واجبةً أو مندبةً، وهو قول واصِل بن عَطاء وأبي هذيل والقاضي عبد الجبّار. وثانيها: إنّه عبارةٌ عن فعل الواجبات فقط دون النوافل. وهو قولُ أبي هاشم وأبي علي. وثالثها: إنّه عبارة عن اجتناب كلّ ما جاء به الوعيد. وأما أهل الحديث: فذكروا وجهين: الأول: إنّ المعرفة ايمانٌ كاملٌ، وهو الأصل، ثمّ بعد ذلك كل طاعة ايمان على حِدةٍ، وهذه الطاعات لا يكون شيءٌ منها ايماناً إلاّ إذا كانت مرتّبةً على الأصل الذي هو المعرفة، وكذا القياس في جانب مقابله: أعني الكفر، وهو قول عبد الله بن سعيد الكُلاّب. الثاني: زعموا أنّ الإيمان اسم للطاعات كلّها، وهو إيمانٌ واحدٌ، وجعلوا الفرائضَ والنوافلَ كلَّها من جملة الإيمان، ومنهم من قال: الإيمانُ اسمٌ للفرائض دون النوافل. وثانيها: إنّ الإيمان بالقلب واللسان معاً، وقد اختلف أهل هذا المذهب على أقوالٍ. الأول: إنّه إقرارٌ باللسان ومعرفةٌ بالقلب، وهو قولُ أبي حنيفة وعامّة الفقهاء. ثمّ هؤلاء اختلفوا في موضعين. أحدهما: في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فسّرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً، أو علماً صادراً عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون أنّ المقلّد مسلم، ومنهم من فسَّرها بالعلْم الصادر عن الاستدلال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثاني: في متعلّق هذا العلْم، فقال بعضُ المتكلمين: هو العلْم بالله وصفاتِه على سبل الكمال والتمام. ثمّ لما كثُر الاختلافُ بينهم في الصفات، واقدمت كلُّ طائفةٍ على تكفير من عداها، قال أهل الإنصاف: المعتَبر هو العلْم بكل ما عُلِم بالضرورة من دين محمد (صلّى الله عليه وآله). القول الثاني: إنّه التصديقُ بالقلبِ واللسان معاً، وهو قول أبي الحسن الأشعري، وبشر بن غياث المريسي، والمراد بالتصيدق بالقلب: الكلامُ القائم بالنفس. القول الثالث: قولُ جماعةً من الصوفية: إنّه إقرارٌ باللسان وإخلاصٌ بالقلب. وثالثها: إنّه عبارة عن عمَل القلب وأصحاب هذا المذهب اختلفوا على قولين: أحدهما: إنّه معرفة الله بالقلب، حتّى انّ من عرف الله بقلبه ثمَّ جحَد بلسانه ومات قبل التوبة، فهو مؤمنٌ كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صفوان، أما معرفة الكتاب والرسل واليوم الآخر فقد زعَم إنّها غير داخلةٍ في حدّ الإيمان. وحكى الكعبيُّ عنه: أنّ الإيمانَ معرفةُ الله مع معرفة كلّ ما عُلم بالضرورة إنّه من دين محمد (صلّى الله عليه وآله). وثانيهما: إنّه مجرد التصديق بالقلب، وهو قول الحسين بن الفضل البجلي. ورابعها: إنّه إقرارٌ باللسان فقط، وأصحابُه فريقان: الأولى: قالوا: إن الإقرارَ باللسان هو الإيمانُ فقط، لكن شرط كونه ايماناً حصول المعرفة، فالمعرفة شرطٌ لكون الإقرار باللسان ايماناً، لا انّها داخلة في مسمّى الايمان. وهو قول غَيْلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي، وإن كان الكعبيُّ قد أنكر كونه قولاً لغيلان. الفرقة الثانية قالوا: إنّ الإيمانَ مجرّد الإقرار باللسان، وهو قول الكرّامية، وزعموا أنّ المنافقَ مؤمنٌ بالظاهر، كافرٌ بالسريرة، فثبت له حكمُ المؤمنين في الدنيا وحكْم الكافرين في الآخرة، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمّى الإيمان في الشرع حسبما وُجِد في كتب الكلام وغيره. اشارة فيها انارة [ماهية الإيمان وانه مجرد العلم والتصديق] أعلم إنّ الإيمان وسائر مقامات الدين ومعالم شريعة سيد المرسلين (عليه وآله السلام)، إنّما ينتظم من ثلاثة أمور: معارفٌ وأحوالٌ وأعمالٌ. فالمعارفُ هي الأصول، وهي تورث الأحوالَ، والأحوالُ تورث الأعمالَ. أما المعارف، فهي العلم بالله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأما الأحوال، فكالانقطاع عن الأغراض الطبيعيّة، والشوائب النفسانيّة، والوساوس العاديّة، كالشهوةِ والغضبِ والكِبْر والعُجب، ومحبّة الجاه والشهرة وغير ذلك. وأما الأعمال، فكالصلاةِ والزكاةِ والصومِ والطوافِ والجهادِ وفعْلِ ما أمره الله به وتركِ ما نهى عنه. فهذه الثلاثة إذا قيس بعضُها الى بعضٍ، لاحَ للناظرين الى الأشياء بالنظر الظاهر، المقتصرين على إدراك النشأة الحسيّة، أنّ العلوم تُراد للأحوالِ، والأحوالُ تراد للأعمال، فالأعمالُ هي الأصل عندهم، والأفضل في نظرهم. وأما أرباب البصائر، المقتبسين أنوار المعرفة من مشكاة النبوّة لا من أفواه الرجال، المستفيضين أسرار الحكمة الحقّة من معدن الوحي والرسالة، لا من مقارعة الأسماع بالقيل والقال، فالأمر عندهم بالعكس من ذلك، فإنّ الأعمالَ تُراد للأحوال، والأحوالَ للعلوم، فالأفضلُ العلومُ، ثمّ الأحوالُ، ثم الأعمال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإنّ لوح النفس كالمرآة، والأعمالُ تصقيلها وتطهيرها، والأحوالُ صقالتها وطهارتها، والعلومُ صوَرها المرتسمة فيها. فنفسُ الأعمال - لكونها من جنس الحركات والانفعالات - تتبعها المشقّةُ والتعبُ، فلا خير فيها إذا نُظر اليها لذواتها. ونفس الأحوال - لكونها من قبيل الأعدام والقُوى - فلا وجود لها، وما لا وجود له فلا فضيلة فيه، وإنّما الخيرُ والفضيلةُ لما له الوجودُ الأتمّ والشرف الأنور، وهي الموجودات المقدّسة والمعقولات الصوريّة المجرّدة عن التغيّر والزوال، والشرّ والوبال. كالباري وملائكته العلويّة، والأرواح المطهّرة الإنسيّة، والحضرة الإلٰهيّة، والحظيرة القدسيّة. ففائدةُ إصلاح العملِ إصلاحِ القلب. وفائدةُ إصلاح القلب، أن ينكشفَ له جلالُ الله في ذاته وصفاته وأفعاله. فأرفعُ علوم المكاشفة هي المعارف الإيمانيّة ومعظَمها معرفةُ الله ثمّ معرفة صفاتِه وأسمائِه، ثمّ معرفة أفعاله، فهي الغاية الأخيرةُ التي يُراد لأجلها تهذيبُ الظواهر بالأعمال، وتهذيبُ البواطن بالأحوال، فإنّ السعادة بها تنال، بل هي عين الخير والسعادة واللذة القصوى. ومقابلها وهو الجهل بها، محضُ الشرّ والشقاوةِ والألم الشديد، ولكن قد لا يشعر القلبُ في الدنيا بأنّها عين السعادة، ولا قلب من اتّصف بالجهل بحقائق الإيمان بأنّه محض الشر والألم، وانّما يقع الشعورُ بتلك السعادة وهذه الشقاوة في الدار الآخرة، التي فيها أعلنت السرائر، وأبطنت الظواهر، ونُشرت الصحائف، وبُعثِر ما في القبور وحُصِّلَ ما في الصدور. فالعلْم بالإلٰهيّات هو الأصل في الإيمان بالله ورسولِه، وهو المعرفة الحرّة التي لا قيد عليها ولا تعلّق له بغيرها، وكل ما عداه عبيدٌ وخدمٌ بالإضافة، فإنما يراد لأجلها، وهي أيضاً معطى أصولها، ومثبِت موضوعاتِ مسائلها ومحقّق مبادئ براهينها وغايات مطالبها. ولمّا كانت سائر العلوم لأجلها، كان تفاوتها في الفضيلة بحسب تفاوت نفعها بالإضافة الى معرفة الله، فإنّ بعضَ المعارف يفضي الى بعضٍ إما بواسطة أو بوسائط، حتّى يتوسل بها الى معرفة الله، كما انّ الأعمال والأخلاق يفضي بعضُها إلى بعض حتّى ينجزّ الى تصفية الباطن بالكليّة. فمن العلوم كلّما كانت الوسائطُ بينه وبين معرفة الله أقل، كان أفضل، كما انّ من الأعمال كلّما كانت الوسائط بينه وبين تصفية القلب أقل، كان أزكىٰ. وأمّا الأحوالُ - أعني صفاءَ القلب وطهارته من شوائب الدنيا وشواغل الخلق - فيعني بها استحقاقه لحصول نور المعرفة، واستعداده لانكشاف حقيقة الحقّ وصورة الحضرة الإلٰهيّة، حتّى إذا تمّت طهارتُه، وصقلت صفحةُ وجهه، واجَهته أنوارُ الكبرياء، وحضرَت عندَه وانكشفت لديه حقائقُ الأشياء. فقد ثبت انّ وجوب الأعمال الصالحة وترك القبائح، لأجل إصلاح القلب وجلْب الأحوال، وتفاوتها في الفضيلة إتياناً وتركاً، بقدر تأثيرها في تطهير القلب وتهذيبه وإعداده لأن تحصل له المعرفةُ الإلٰهيّة والعلوم الكشفيّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكما انّ تصقيل المرآة يحتاج الى أعمال تتقدّم على تمام أحوال المرآة في صفائها وصقالتها، وتلك الأعمال بعضُها أقرب إلى الصقالة التامّة من بعض، فكذلك الأعمال المورثة لأحوال القلب، تترتّب في الفضيلة ترتّب الأحوال، فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب، هي أفضل مما دونها لا محالة بحسب قربها من المقصود الأصلي. فكلّ عملٍ، إما أن يجلب الى القلبِ حالةً مانعةً من المكاشفة، موجبةً لظلمة القلب، جاذبةً الى زخارف الدنيا. وإما أن يجلب إليه حالةً مهيّئة للمكاشفة، موجبةً لصفاء القلب وقطع علاقته عن الدنيا، واسم الأول في عرف الشرع: المعصية، سواء كان فعلاً أو تركاً، واسم الثاني: الطاعة، فعلاً كان أو تركاً. والمعاصي، من حيث تأثيرها في ظلمة القلب وقساوته، متفاوتةٌ، وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته، فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها. وذلك يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص. فربما كان قيام الليل لأحدٍ أفضل من إيتاء الصدقات المتبرّعة، وربما كان الأمر بالعكس من ذلك، وربما كان صوم ستّين يوماً أفضل في باب الكفّارة من عتق رقبة، كما للسلاطين والأمراء من أهل الدنيا. فإذا تقرّرت هذه المقدّمات، فقد عُلم أنّ الأصل في الإيمان هو المعرفة بالجنان، وأما العملُ بالأركان، فإنّما يعتبر لتوقّف المعرفة على إصلاح القلب، وتهذيب الباطن، وتلطيف السرّ، وتوقّفها على فعل الحسنات وترك السيّئات. ومما يدلّ على أنّ الإيمان مجرّد العلم والتصديق وحده أمور: الأول: أنّه تعالى أضَاف الإيمان الى القلب فقال في حق المؤمنين:**{ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ }** [المجادلة:22]. وفي حقّ المنافقين:**{ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ }** [المائدة:41].**{ وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }** [الحجرات:14] وقوله:**{ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ }** [النحل:106]. وقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) **" الإيمانُ سرٌّ - وأشار الى صدره - والإسلام علانية ".** الثاني: إنّه تعالى كثيراً ما ذكَر الإيمانَ وقرنَ به العملَ الصالحِ، ولو كان داخلاً فيه لكان ذكُره تكراراً. الثالث: إنّ كثيراً ما ذكَر الإيمانَ وقرَنه بالمعاصي قال:**{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ }** [الأنعام:82]. وقوله:**{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي }** [الحجرات:9]. واحتجّ ابن عباس على هذا المطلب بقوله تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى }** [البقرة:178] من ثلاثة أوجه: أحدها: إنّما يجبُ القصاصُ على القاتلِ المتعمِّد، ثمّ إنّه خاطَبه بالإيمان، فدلّ على أنّه مؤمن. وثانيها:**{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ }** [البقرة:178]. وهذه الأخوّة ليست إلا أخوّةُ الإيمان لقوله تعالى:**{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }** [الحجرات:10]. وثالثها: قوله:**{ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ }** [البقرة:178] وهذا لا يليق إلاّ بالمؤمن، ومن هذا القبيل قوله تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ }** [الأنفال: 72] جعلهم مؤمنين مع عظيم الوعيد في ترك الهجرة بقوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ }** [النساء:97]. إلى قوله:**{ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ }** [الأنفال:72]. ومنه ايضاً قوله:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [الأنفال:27] وقوله:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً }** [التحريم:8]. إلى غير ذلك من الآيات التي تجري هذا المجرى. الرابع: إنّه تعالى قال:**{ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ }** [البقرة:256] يدلّ على أنَّه من الأمور الإعتقاديّة التي لا يمكن تحصيلها بالجبر والإكراه. وكذا قوله (صلّى الله عليه وآله): **" ليس الدين بالتمنّي "** يعلم أنّه ليس أمر اختياريّاً، ولو كان من باب الأعمال البدنيّة كالصلاة والصيام، لأمكن تحصيلُه في شخصٍ آخر بالجبر، وفي الشخص نفسه بالتمنّي. الخامس: إنّ العلم والتصديق اليقيني غير قابل للزوال والتغيير، فهو المتعيّن بأن يكون أصلاً في الإيمان. السادس: إنّ الإيمان في أصل اللغة بمعنى التصديق والإذعان، فلو صار في عرْف الشرع لغير هذا المعنى، لزم أن لا يكون عربيّاً، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربيّاً. وأيضاً لو صار منقولاً عن معناه ومسمّاه الأصلي، لتوفّرت الدواعي على معرفة ذاك المسمّى، ولاشتهر وبلَغ الى حدّ التواتر، وليس كذلك فعُلِم أنّه باقٍ على أصل الوضع. وأيضاً: لا خلاف لأحدٍ في أنّ لفظَ الإيمان اذا عدّي بحرف الباء، كان معناه التصديق، كما هو في اللغة، فوجَب أن يكون المعدّى كذلك، لا يقال: هذا إثبات اللغة بالقياس، وهو غير جائز، كما ثبت في علم الاصول، لأنّا نقول: ليس كذلك، بل هذا استنباط المعنى الأصلي من موارد الاستعمال، إذ التعدية بالحرف لا تغيِّر أصل المعنى المصدري بل تزيده كمالاً وقوةً. وأمّا المعتزلةُ، فقد اعترفوا أنّ الإيمان اذا عدّي بالباء. كان المراد به التصديق كما في أصل اللغة، ولذلك إذا قيل: " فلانٌ آمَن بالله وبرسوله " يكون المراد عندهم أيضاً مجرد التصديق، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال: " فلانٌ آمَن بكذا " إذا صام أو صلّى، وأما إذا ذُكر مطلقاً بلا تعدية، فقد زعموا أنّه منقول من المسمّى اللغوي الى معنى آخر، وهذا تحكّم محضٌ كما لا يخفى. فصل [درجات الإيمان ومراتبه] فالمذهب المنصور المعتضَد بالبرهان، أنّ الإيمان في عرف الشرع هو التصديق بكل ما علُم بالضرورة من دين نبيّنا (صلّى الله عليه وآله). لكن قد يسمّى الإقرار ايماناً كما يسمّى تصديقاً، إلا انّه متى صدَر عن شك أو جهلٍ كان ايماناً لفظيّاً لا حقيقياً، ومن هذا القبيل تقسيم المنطقيّين القضية - وهي الحكم بثبوت أمرٍ لآخر - الى قضيّةٍ معقولة، والى قضيّة ملفوظة. وقد تسمّى أعمال الجوارح ايماناً استعارة وتلويحاً، كما تسمّى تصديقاً لذلك، كما يقال: فلان يصدق أفعالُه مقالَه " ، والفِعلُ ليس بتصديقٍ باتّفاق أهل اللغة، فالإيمان من الألفاظ المشكّكة التي يتفاوت معناها في الشدّة والضعف، والكمال والنقص، فهو منقسم الى حقيقيّ ومجازيّ، باطنيّ وظاهريّ، بل ينقسم كما أشار اليه بعض العرفاء، الى لُب ولبّ لب، وقِشرٍ وقشرِ قشرٍ وهذا بعينه كانقسام الإنسان الى هذه المراتب، فإن الإيمان من مقامات الإنسان في إنسانيّته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد يمثّل هذا تقريباً للأفهام الضعيفة بالجَوْز، فإنّ له قشرين؛ الأعلى والأسفل، وله لبٌّ وللُّبِّ دُهن، وهو لب لبِّه. فالمرتبة الأولى من الإيمان: أن يقول الإنسانُ كلمةَ الشهادة، ويعترف باللسان وقلبُه غافل عنه، أو جاحد له، كما للمنافقين. والثانية: أن يصدّق بمعنى هذه الكلمة، وبكلّ ما هو معلومٌ بالضرورة من الدين، كتصديق عامّة المسلمين، وهذا اعتقاد ليس بيقين. والثالثة: أن يعرف هذه المعارف الإيمانيّة، ويصدّق بها عرفاناً كشفياً، أو تصديقاً برهانيّاً وعلماً يقينيّاً بواسطة نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، وهو المشار اليه في قوله:**{ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم }** [الحديد:12]. وهذا هو الإيمان الحقيقي، الذي سأل رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) حارثة الأنصاري عن بيان حقيقته لمّا قال: إنّي أصبحتُ مؤمناً حقاً، فقال (صلّى الله عليه وآله): لِكلِّ حق حقيقة، فما حقيقةُ ايمانك؟ فأجاب بقوله: عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا بما فيها، فاستوى عندي حجَرها وذهِبها. فكأني أرى أهل الجنّة يتزاورون، وأهل النار في النار يتعاوَون. وكأنّي أرى عرش ربّي بارزاً. فصدّقه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقال: أصبتَ فالزم. والرابعة: أن يستغرق الإنسان في نور الحضرة الأحديّة بحيث لا يرى في الوجود إلاّ الواحد القهّار، فيقول بلسان حاله وايمانه: لِمَن المُلكُ اليَوم؟ ثمّ يجيب عنه بلغة توحيده وعرفانه: لله الواحدِ القهّارِ. وهذا المقام لا يحصل لأحد ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا إلا للكمّل من العرفاء والأولياء بواسطة غلبة سلطان الآخرة على بواطنهم. فصاحب المقام الأوّل، مؤمنٌ بمجرّد اللسان في عالَم الأجسام ونشأة الحواس، وفائدة ايمانه ترجع اليه في هذه النشأة، إذ يحقن دمه من السيف والسنان، ويعصم ماله وذراريه من النهب والسَّبي. وصاحب المقام الثاني، مؤمنٌ بمعنى أنّه معتقدٌ بقلبه مفهومَ هذا اللفظ، وقلبُه خالٍ عن التكذيب، وهو عقد على القلب وليس فيه انشراح القلب لنور المعرفة، ولا انفتاحُ رَوْزَنَته لعالَم الملكوت الغيبي المقابل لهذا العالم، عالم المُلك والشهادة. وفائدته انّه يصير منشأ بعض الأعمال الصالحة، ومبدأ بعض الخيرات وأداء الأمانات وفعل الحسنات، التي ينجرّ تارة أخرى الى اصلاح القلب وتصفيته وليستعد لحصول المعرفة على وجه أكمل؛ حتى ينتهي الى الإيمان الحقيقي. فعلى هذا صحّ القولُ بأنّ الإيمان هو المبدأ والغاية، فإنّ الإيمانَ والعمل الصالح كلٌّ منهما يدور على صاحبه، فكلّ إيمان موجبٌ لصالح من العمل، وكل صالحٍ من العَمل ينجرّ الى حصول ضَرْبٍ من الإيمان، فيدور كلٌّ منهما على نفسه دوراً غير مستحيل، لتغايره بالعدد. لكن الإيمان أول الأوائل في الحدوث، وهو أيضاً آخرُ الأواخر في البقاء. ثمّ لهذا العقد الإيماني الذي كلامنا فيه، شُبه وحِيلٌ يُقصَد بها تحليلُه وتوهينُه تسمّى " بدعة " ، وله أيضاً حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتوهين، ويقصد بها إحكام هذه العقدة وشدّها على قلوب المسلمين، ويسمّى كلاماً والعالِم بها متكلّماً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهو في مقابلة المتبدَع، ومقصدُه دفعُ المبتِدَع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوامّ. وصاحب المقام الثالث مؤمنٌ، بمعنى أنه بصيرٌ بحقائق الأمور الإيمانيّة بصيرة قلبيّة ومشاهدة عقليّة. إذ قد انكشفت له أسرار الملكوت وخفايا عالَم الغيب والجبروت. لا انّه مكلَّف بعقد قلبه على مفهوم هذه الألفاظ، فإنّ ذلك رتبة العوام والمتكلّمين، إذ لا يفارق المتكلّمُ العاميّ في أصل الاعتقاد، بل في صنعة تلفيق الكلام الذي يدفع به حيَل المبتدِعة في تحليل هذه العقدة. وصاحب المقام الرابع مؤمن، بمعنى أنّه لم يحضر في شهوده غير الواحد القهّار مبدأ الأشياء وغايتها، وأولها وآخرها، وظاهرها وباطنها، الذي إليه ترجع عواقبُ الأمور، وبه ينقطع سير السائرين وسفَر المسافرين، وهذه المرتبة في الإيمان هي الغايةُ القصوى التي لا حدّ لها ولا منتهى. والتمثيل لمراتب الإيمان والتوحيد بقِشْرَي الجوز ولُبيه على هذا الوجه، ذكره صاحب كتاب إحياء العلوم بأدنى تغيير ثمّ قال: فالأول كالقِشرة من العُليا الجوز، والثاني كالقشِرة السُّفلى، والثالث كاللبّ، والرابع كالدُهن المستخرَج من اللبّ. وكما أنّ القشرة العليا لا خير فيها، بل إن أُكِل فهو مُرّ المذاق، وإن نُظِر الى باطنه فهو كريه المنظَر، وإن اتخّذ حطباً أطفأ النار وأكثَرَ الدخان، وإن تُرك في البيت ضيَّق المكان، فلا يصلح إلاّ أن يترك مدّة على الجوز للصَّوْن ثمّ يرمى؛ فكذلك التوحيد بمجرّد اللسان عديمُ الجدوىٰ، كثيرُ الضررِ، مذمومُ الظاهرِ والباطن، لكنّه ينفع مدّةً في حفظ القشرة السفلى الى وقت الموت، والقشرة السفلى هي القالب والبدن وتوحيد المنافق يصون بدنَه عن سيف الغُزاة، فإنّهم لم يؤمَروا بشَقِّ القلوب، والسيفُ انام يسلب الجسم وهو القِشر، وإنّما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لإيمانه فائدةٌ بعده. وكما انّ القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة الى القشرة العليا، فإنها تصون اللبّ وتحرسه عن الفساد، وعند الادّخار فإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطباً لكنها ناقصة القدْر بالإضافة الى اللبّ، فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كاشف، كثير النفع بالإضافة الى مجرّد نطق اللسان، ناقص القدْر بالإضافة الى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفتاحه، وإشراق نور القلب فيه، إذ ذلك الشرح هو المراد بقوله تعالى:**{ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ }** [الأنعام:125]، وبقوله تعالى:**{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }** [الزمر:22]. وكما انّ اللُّبّ نفيسٌ في نفسه بالإضافة الى القشر، فكأنّه المقصود، لكنّه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة الى الدُّهن المستخرج منه. فكذلك ايمان الثالث مقصد عال للسالكين، ولكنّه لا يخلو عن شوب ملاحظة غير الله، والالتفات الى ما سواه بالإضافة الى حال من لا يشاهد سوى الواحد الحقّ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | تكميل فيه دفع إذا تحققت ماهية الإيمان على هذا الوجه، من كونه ذا مراتب متفاوتة متدرّجة في الشرف والخسّة، فقد علم فائدة قوله تعالى:**{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ }** [النساء:136]. فإن الأول ايمانٌ صوريٌّ دنيويٌّ، والآخر معنويٌّ أخرويٌّ. ولما ثبَت ممّا قرّرناه انّ مراتب الإيمان متعلّقة بمراتب العلم، ومتعاكسة كلّ منهما على الأخرى، فإن استشكل أحد على ما هو المختار عندنا، من أنّ الإيمان هو عبارةٌ عن نفس التصديق والعرفان، وأنّ الأعمال خارجة عنه؛ بأنّا لو فرضنا أنّ أحداً عرف الله بالدليل والبرهان، ولمّا تمّ له العرفانُ ماتَ ولم يجد من الوقت ما يتلفّظ فيه بكلمة الشهادة، أو وجد من الوقت شيئاً لكنه لم يتلفّظ فيه بها، ففي هاتين الصورتين إن حكمتُم بأنّه مؤمنٌ، فقد حكمتم بأنّ الإقرار اللساني غير معتبرٍ في تحقّق الإيمان، وهو خرْقُ الإجماع. وإن حكمتم بأنّه غير مؤمن، فهو باطلٌ لما بُيِّن، ولقوله (صلّى الله عليه وآله): **" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان "** وهذا قلبه طافحٌ بالإيمان فكيف لا يكون مؤمناً؟ فالجواب: بمنع ثبوت هذا الإجماع، والحُكم بايمانه كما فعَله حجة الاسلام الغزالي، فإنّه منَع من هذا الإجماع في الصورتين، وحكَم بكونه مؤمناً، وأنّ الامتناع عن النُّطق يجري مجرى الأعمال التي يؤتى بها مع الإيمان. أقول: لا يخفى عليك - بعدما تقدّم من الكلام - أنّ الإيمان القلبيّ - لكونه كمالاً عقليّاً وصورة باطنيّة - لا يحصل إلا عقيب الأعمال الشرعيّة، والأفعال الدينيّة، والرياضات السمعيّة، من القيام والصيام والعبادات والقربات، وهذه الأمور منوطة بالتسليم والانقياد لمن عنده الحجج والبيّنات، والإذعان والاعتراف بما أتى به القادة والرؤساء، من أولي الشرائع والآيات. فالصورة المفروضة ممّا لا يمكن وقوعُها عقلاً وعادةً، فلا تقدح في الإجماع. بل نقول: الإجماع إنّما انعقد على كُفر من كُلِّف بالإيمان وإظهاره فلم يقبَل، ولم يظهر الكلمة، وهذا ممّا لا شبهة فيه، فإنّه إمّا بصدد الجحود والفتنة في الدين، وإفساد قاعدة المسلمين، وإما بصدد الإباحة والتعطيل، والخروج عن التكاليف الدينيّة، فعلى أي الوجهين يكون كافراً ظاهراً و باطناً. تنوير عقلي إعلم أن الحقيقي من الإيمان، هو الذي به يصير الإنسانُ إنساناً حقيقيّاً عقليّاً بعدما كان إنساناً حيوانيّاً، وبه يخرج من القوّة الى الفعل في الوجود البقائي الأخروي، ويتخلّص عن ألم الجحيمِ والتعذّب بالنار، ويتجرّد عن الرقّ والحدثان، وتبدّل الجلود والذوبان، كما قال تعالى في صفة أهل النار:**{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ }** [النساء:56]. وهذه الحقيقة الإيمانية يعبّر عنها بعبارات مختلفةٍ تسمّى بأسامي متعدّدة في لسان الشرع والعقل. فتارة يعبر عنه بالنور:**{ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [النور:40] وقوله:**{ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم }** [الحديد:12]. وتارةً بالحكمة:**{ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً }** [البقرة:269]. فكلّ إنسان حكيمٌ مؤمنٌ، وكل مؤمنٍ حقيقيّ فهو حكيم. إذ الحكمة بالحقيقة هي معرفة الأشياء الموجودة كما هي بحسب الطاقة البشريّة، وأصل الموجودات هو الباري وملائكته ورسله وكتبه. وتارةً بالفقه، قال تعالى:**{ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ }** [التوبة:122]. وليس المراد منه معرفة الفروع الغريبة في الفتاوى الأحكاميّة، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ الأقوال المتعلّقة بها، كما هو عُرف أهل هذه الأزمنة والأعصار اللاحقة بزمان النبي (صلّى الله عليه وآله)، وزمان الأئمة (عليهم السلام). قال صاحب الإحياء: اسم الفقْه كان في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة، ودقائق آفات النفس، ومفسدات الأعمال، وقوّة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلّع على السعادة الأخرويّة، واستيلاء الخوف على الشقاوة التي بازائها. والذي يوجب التشوّقَ الى الدار الآخرة وسعادتها، ويقتضي الخوفَ والخشَية في القلب عن الحرمان الأخروي والشقاوة الأبديّة، ويوجب إنذار القوم وتخويفهم - كما أشير اليه في الآية المذكورة - هو هذا العلم وهذا الفقْه، دون تفريعات الطلاق، واللعان، والسَّلَم والإجارة. فذلك لا يحصل به شيء من الرغْبة والرهْبة الأخرويتين، ولا الإنذارُ والتخويفُ، بل التجرّد فيه على الدوام مما يقسّي القلب، وينزع الخشية منه، كما يشاهَد من المتجرّدين له. وقال تعالى:**{ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا }** [الأعراف:179] وأراد به معاني الآيات، دون الفتاوى والأقضية. وقال (صلّى الله عليه وآله): **" لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتّى يمقت الناس في ذات الله، وحتّى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة ".** وروي أيضاً مرفوعاً عن أبي الدرداء مع قوله: ثمّ يُقْبل على نفسه، فيكون لها أشدَّ مقتاً. وسأل فرقد السبخي الحسنَ البصري عن شيء فأجاب، فقال: إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمّك، وهل رأيتَ فقيهاً بعينك؟ إنّما الفقيه، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربّه، الورع الكافّ عن أعراض الناس، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعته، ولم يقل في جميع ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى. وتارة يسمى الإيمان بعلم الكتاب والسنّة قال تعالى:**{ يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ }** [الجمعة:2]. ولفظ " العلْم " أيضاً مما وقع التصريف فيه على ما كان بإزائه، فإنّه كان مطلقاً على معنى العلم بالله وبآياته وبأفعاله في عباده وخلْقه، فكان مرادفاً للإيمان والحكمة. وقد تصرّفوا فيه أيضاً بالتخصيص، حتّى اشتهَر في الأكثر بصنعة المناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهيّة والكلاميّة، فيقال: هو العالِم على الحقيقة، وهو الفحْل: لمن مارَس هذا الفنّ، ومن لا يشتغل به يعدّونه من ضعفاء العقول، ولا يعدّونه في زمرة العلماء. ولم يعلموا أنّ ما ورَد في فضائل العلْم والعالِم أكثرُه في العلماء بالله وصفاته، وبأحكامه في أفعاله. فأطلقوا " العالِمَ " على من لا يحيط من علوم الدين بشيء سوى رسوم جدليّة ومسائل خلافيّة، فيعدّ من فحول العلماء، مع جهله بحقائق التفسير وغيرها، وصار ذلك فتنة عظيمة في الدين، مهلكاً لخلْقٍ عظيم من الطلَبة والمستعدين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن أسمائه: التوحيد، وهو في اصطلاح الصوفية إسم لحقيقة الإيمان، وفي المشهور وعند الجمهور عبارة عن صنعة الكلام، ومعرفة المجادلة، والإحاطة بمناقضات الخصوم، والقُدرة على تكثير الأسئلة وتقرير الإلزامات، وايراد الشبهات، وتأليف المناقضات والمدافعات. ومن هذا المعنى لقّبت طائفة من المتكلمين: أصحاب العدل والتوحيد: وسُمّي المتكلمون: العلماء بالتوحيد، ولعبت بهم الشكوك، وطعن كلّ لاحقٍ منهم لسابقه مع انّه أيضاً لم يأت بشيء يزيد به على السابق. على أنّ جميع ما هو خاصية هذه الصناعة، لم يكن يعرف شيء منها في العصر الأول. بل كان يشتد النكير من السلفِ على من يفتح أبواب الجدل والمماراة، كما يستفاد من أحاديث أئمتنا سلام الله عليهم أجمعين، حيث وقَع منهم المنعُ من علم الكلام وصنعة المناظرة، إلا على سبيل الضرورة عند مكافحة المتبدِعين. وأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلّة الظاهرة التي تسبق الأذهان الى قبولها في أول السماع، فلقَد كان ذلك معلوماً للكلّ، وكان علم التوحيد عندهم عبارةً عن أمرٍ آخر يستفاد من القرآن بنحو آخر لا يفهمه أكثر المتكلّمين. وهذا مقام شريف إحدى ثمراته هي أن يرى الأمور كلّها من الله رؤية يقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، ويترتّب عليه التوكّل والرضا والتسليم لحكم الله وترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم. ومن أسمائه: العقل المستفاد، وهذا اصطلاح الفلاسفة الموحّدين، والحكماء الإلٰهييّن دون الطبيعيّين والرياضيّين والأطباء والمنجّمين، فإنّهم بمعزل عن هذا المقام ومعرفته. واسم العقل، من الأسماء المشتركة التي تطلق على معان أخرى، إلاّ انّ الذي استعملته الحكماء في علم النفس، ويعدّ من أسامي مراتب النفس في استكمالاتها من حدّ القوّة الاولى الى حدّ الكمال الأخيرة، هو العقل بالمعنى المرادف فيه معه لفظ " الإيمان " في عرف شريعتنا، وذلك حيث ذكروا انّ للنفس درجات في القوّة والكمال: إحداها: درجة استعدادها الأول عند خلوّها عن العلوم كلّها، كما للطفل بالنسبة الى الكتابة، وهي المسمى بالعقل الهيولاني، تشبيهاً لها بالهيولى الأولى، الخالية عن الصوَر كلّها بحسب ذاتها. والثانية: درجة استعدادها الثاني من جهة اطّلاعها على البديهيّات، واوائل العقليّات، فيتهيّأ لإدراك الثواني إمّا بالفكر، أو الحدس، ويسمّى عندهم بالعقل بالمَلَكة. ثمّ يحصل للنفس بعدها قوّةٌ وكمالٌ، أما القوّة فهي أن يكون بحيث أن يطالع المعقولات المفروغ عنها متى شاءتْ من غير تعمّل وطلب، وهذه هي القوّة القريبة من الفعل، ويسمّى عقلاً بالفعل، وأمّا الكمال، فهو أن تكون المعقولات حاصلة بالفعل مشاهدة، ويسمى العقل المستفاد، وهذان العقلان متعاكِسان في التقدّم والتأخّر من جهة الحدوث والاستمرار، وبقاء الأخير لا يكون إلا في الدار الآخرة، اللهم إلاّ لبعض الكاملين من إخوان التجريد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما أنّه كم ينبغي أن يحصل للنفس الإنسانيّة من تصوّر المعقولات حتّى يقعَ عليه هذا الإسم، اي العقل بالفعل المساوق للعقل المستفاد من جهة الاستمرار الأخروي، ويرجو السعادة العقلية، ويتخلّص من الشقاوة التي بإزائها لمن يتّصف بالجهل المضادّ للعلم اليقيني الإيماني، فقد قال صاحبُ الشفاء: إنّه ليس يمكنني أن انصّ عليه نصّاً إلاّ بالتقريب، وأظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادي المفارقة تصوّراً حقيقياً، وتصدّق بها تصديقاً يقينياً لوجودها عندها بالبرهان، وتعرف العللَ الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكليّة دون الجزئيّة، التي لا تتناهى، وتتقرر عندها هيئة الكلّ ونسب أجزائه بعضها الى بعض، والنظام الآخذ من المبدإ الأول الى أقصى الوجودات في ترتيبه، وتتصوّر العناية وكيفيتها، وتتحقّق انّ الذات المفيدة للكلّ أيّ وجود يخصّها وأيّة وحدة تخصّها، وأنّها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثّر وتغيّر بوجه من الوجوه، وكيف تترتّب نسبة الموجوات اليها. ثمّ كلما ازداد الناظر استبصاراً، ازداد للسعادة استعداداً، وكأنّه ليس يتبرّأ الإنسان عن هذا العالَم وعلائقه، إلا أن يكون أكّد العلاقة مع ذلك العالَم، فصار له شوقٌ الى ما هناك وعشقٌ لما هناك، فصدّه عن الالتفات الى ما خلفه جملةً، ونقول أيضاً: إنّ هذه السعادة لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العلمي من النفس. انتهى كلامه. وهذه التي ذكرها من المعارف التي لا بدّ للانسان الكامل الإيمان أن يعرَفها، هي بعينها من المقاصد التي يستفاد وجوبُ معرفتها عقلاً من الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، على تغايرٍ في الاصطلاح، لا في أصول المقاصد. وكذا قوله: إنّ هذه السعادة لا تتمّ إلا بإصلاح الجزء العملي، يدلّ على أنّ الإيمان لا يتمّ إلاّ بأن يكون مشفوعاً بالأعمال الصالحة، من الطاعات والعبادات. كالقيام والإمساك عن الطعام، وبذل المال للفقراء، والمجاهدة مع أعداء الدين، وزيارة بيت الله وحضور مناسِك المسلمين، وغير ذلك ممّا ورد في الشريعة الحقّة، فإنّ اصلاح الجزء العملي الذي غايته قطع علائق الدنيا والأغراض النفسانيّة، لا يمكن إلاّ بالعمل الصالح. فالعمل الصالح وإن لم يكن داخلاً في ما هو المقصود من الإيمان كما توهّم، إلاّ انّه لا بدّ منه في حصول حقيقة الإيمان، أي النور القلبي الذي إذا حصل للإنسان يصير بصيراً بالأمور الغيبيّة والحقائق الملكوتيّة الغائبة عن مشاهدة الحواسّ. فصل [الأقوال في المراد من الغيب] فقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، إشارة الى ما ذكر، أي أنّهم يصدّقون تصديقاً بالأشياء المرتفعة عن هذا العالَم، والخارجة عن مدركات الحسّ الظاهر، كوجود الباري، والملائكة، واللوح، والقلم، والأمور الأخرويّة من الجنّة والنار، والصراط والحساب والميزان، وتطاير الكتب ونشر الصحف، وأحوال القبر والبعث، وأهوال المحشر وغير ذلك مما لا تستقلّ باثباته عقول الخلائق بأنظارهم الفكريّة، ودلائلهم النظريّة، وإنّما تتكشف بنور متابعة الشريعة، والاقتباس من مشكاة الوحي والنبوّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والغيب في اللغة: مصدرٌ أقيم مقامَ اسم الفاعل، كالصوم بمعنى الصائم، والمفسّرون ذكروا في قوله: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وجهين: الأول:- وهو اختيار أبي مسلم الإصفهاني - أن يكون صفة للمؤمنين، معناه انّهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون حال الحضور، لا كالمنافقين الذين**{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }** [البقرة:14]. ونظيره قوله:**{ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }** [يوسف:52] ويقول الرجل لغيره: نِعمَ الصديق لك فلان بظهْر الغيب، فكلّ ذلك مدح للمؤمنين بأنّ ظواهرهم تُوافِق بواطنَهم، ومباينتهم لحال المنافقين الذين**{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ }** [آل عمران:167]. أقول: هذا القول لا يخلو من ضَعف ورَكاكة، فإنّ سَوق الكلام في هذا المقام من التأكيد في بيان عظمة القرآن بكونه كتاباً من عند الله، وعِلماً إلهياً لا يحويه الشكّ، وحقاً لا يأتيه الباطلُ، ونوراً يهتدي به المتّقون في طريق الآخرة وسبيل النجاة، ممّا يدلُّ دلالةً واضحة على أنّ الخطْب فيه أعظم من أن يوصف أهلُه، والحاملون لأسراره والمستبصرون بأنواره في عالّم الملكوت، بأنّهم ليسوا عند الاهتداء به والإيمان بحقائقه منافقين ولا مستهزئين، بل هم أجلّ قدراً وأعظم شأناً من أن يقال في مدحهم: إنّهم ليسوا من حزب المنافقين والشياطين. والقول الثاني: وعليه جمهور المفسّرين: إنّ الغيب هو أن يكون غائباً عن الحاسّة. والحقّ هو القول الثاني كما لا يخفى. لكن أصحاب هذا القول ذكروا انّ الغيب ينقسم الى ما عليه دليل والى ما ليس عليه دليل، فالمراد من هذه الآية هو الثاني. ويدخل فيه العِلم بالله وبصفاته، والعِلم بالآخرة، وبالنبوّة، وبالشرائع والأحكام. وسبب كون العِلم به مدحاً للمؤمنين، أنّ في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة، فيصلح أن يكون سبباً للثناء والتعظيم. أقول: وفيه ما لا يخفى من التعسّف، لما علمت من أنّ اصل الإيمان الحقيقي نور من أنوار الله الفائضة على باطن الإنسان، وهو كمال حقيقي وسعادة حقيقية يوجب الثناء، لا لأنّ في تحصيل العلوم المتعلّقة بها مشقّة، بل لأنّه الغاية التي لأجلها خُلِق الإنسان بل بني العالَم والأكوان، وما يترتّب عليه من الأجر والثواب مما لا يسع في الميزان ولا يحويه الحساب، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، بخلاف ثواب الأعمال وميراث الأفعال، فإنّ لها حدّاً معدوداً، وثواباً معلوماً، وقدراً موزوناً يشاهِده كلُّ أحدٍ في ذلك اليوم. ظلمات وهمية تزاح بأنوار عقلية إنّ القائلين بالقول الأول احتجّوا بوجوه: الأول: إنّ قوله:**{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }** [البقرة:4] فيه ايمان بالأشياء الغائبة، فلو كان المراد من قوله { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، هو الإيمان بالأشياء الغائبة، لكان المعطوف عين المعطوف عليه، وأنّه غير جائز. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني: إنّه لو حملناه على الإيمان بالغيب، يلزم القول بأنّ الإنسان يعلم الغيب وهو خلاف قوله:**{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ }** [الأنعام:59]. وكذا الآيات النافية لكون الإنسان عالِماً بالغيب، أما لو فسّرناه بما قلنا، فلا يلزم هذا المحذور. الثالث: إنّ إطلاق الغيب إنّما يجوز على ما يجوز عليه الحضور، فعلىٰ هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله وصفاته، فلو كان المراد من الآية الإيمان بالغيب بهذا المعنى، لمَا دخل فيه الإيمان بالله وبصفاته، ولا يبقى فيه إلا الإيمان باليوم الآخرِ، وذلك باطلٌ، لأنّ الركن العظيم في الإيمان، هو الإيمان بذات الله وصفاته. فحمْل اللفظ على هذا المعنى فاسدٌ. والجواب أما عن الأول: فبأنّ قوله: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، يتناول الإيمان بالغائبات إجمالاً، وقوله: والّذين، مع ما يتلوه، يتناول تفصيل بعضها؛ وهذا من باب عطف التفصيل على الجملة، كما في قوله:**{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ }** [البقرة:98]. وأما عن الثاني: فبأنّه لا نزاع في أنّا نؤمن بالأشياء الغائبة عنّا، وكان ذلك التخصيص لازماً في الآيات الدالّة على نفي العلم بالغيب عن الإنسان على أيّ وجه كان، فنقول: الغيبُ على ضربين: فمنه ما يتطرق إليه الدليل والبرهان، ومنه ما لا يكون كذلك، فللإنسان أن يعلم من الغيوب ما عليه برهانٌ، بأن يهديه الله إليه بإقامة البراهين، أو يلهمه عليه بنور الحدس الشديد، كيف وقد شاع عند العلماء، أنّ الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلّة. وأما عن الثالث: فبمنع أنّ لفظ " الغيب " لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور، أو لاَ ترى انّ المتكلمين يقولون: هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد، ويريدون بالغائب ذات الله وصفاته؟ وعنه جواب آخر لا نسمح به، لأنّه مما تشمئزّ عنه قلوب جماعة كاشمئزاز المزكوم من رائحة الوَرد، فإن لاستشمام روائح رياحين العالَم القدسي، لا بدّ من أدمغةٍ صافية عن مضارّ الأهوية الرديّة، خاليةٍ عن عفونات أخلاط أهل الدنيا الدنيّة. توجيهات نقلية [المراد من الغيب] قال بعض المفسرين: معنى { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } يصدّقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندَب إليه أو أباحه. وقال الحسن؛ معناه: يصدّقون بالقيامة والجنّة والنار، وعن ابن عبّاس: بما جاء من عند الله، وعن ابن مسعود وجماعة من الصحابة: ما غاب عن العباد علمه، وهذا اولى لعمومه. ويدخل ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي (عليه السلام) ووقت خروجه، وأكّد كونه منتظراً بالقرآن والخبر: أما القرآن**{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ }** [النور:55]: الآية. وأما الخبر فقوله لَو لَمْ يَبْق مِن الدّنيا إلا يَومٌ واحد لطوّل الله ذلك اليومَ حتّى يخرجَ رجل من أهل بيتي يوافق اسمه اسمي وكنيته كنيتي، به يملأ الله الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: الغيب: هو القرآن وهو قول زيد بن حبيش، وكأنه أراد به أسرار القرآن وتأويلات الآيات. وقيل: المراد بالغيب، هو القلْب، والمعنى: يؤمنونَ بقلوبِهم، لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويمكن حمل ما روي عن ابن مسعود من أنه قال: والذي لا الٰه غيره ما آمن أحد أفضل من ايمانٍ بغيب - ثمّ قرأ هذه الآية -، على هذا المعنى. كما أمكن حملُه على كلّ من الوجهين السابقين. أعني قول من جعل قوله: " بالغيب " ، صفة للمؤمنين، وحالاً عن ضمير: يؤمنون، كما مرّ، أو عن: المؤمن به، وقول من جعلَه صلةً للإيمان وأوقعه موقع المفعول به، فالباء إمّا للتعدية، أو للمصاحبة، أو للآلية. قوله جل اسمه: وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ أما معنى الإقامة للصلاة، فذكروا له وجوهاً: أحدها: تعديل أركانها، وحفظها من أن يقعَ في فرائضها خلل وفي آدابها زَيغٌ، من أقام العودَ: إذا قوّمه. وثانيها: إدامتها والمواظبة عليها، كما قال تعالى:**{ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ }** [المعارج:23]. مِن: قامت السوق: إذا نفقت، وأقمتها: إذا جعلتها نافقة قال الشاعر: | **أقامت غزالةُ سوقَ الضراب** | | **لأهل العراقين حَولاً قميطا** | | --- | --- | --- | لأنّها إذا اديمت وحوفظ عليها، كانت كالشيء النافق الذي يُرغب فيه، وإذا أضيعت، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يُرغب فيه. وثالثها: التجلّد لأدائها من غَير تهاونٍ ولا فُتور، من قولهم: قام الأمرُ وقامت الحربُ على ساقها، بل من قولهم: قام بالأمر وأقامة إذا جدّ فيه وتشمّر له، وفي ضدّه: قعدَ عن الأمر وتقاعَد عنه. ورابعها: إقامتها؛ عبارةٌ عن أدائها عبِّر عن أدائها بالإقامة لاشتمالها على القيام، وهو بعض أركانها، عبِّر عنها به، كما عبِّر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح، قالوا: سبّح إذا صلّى، لوجود التسبيح فيها، قال تعالى:**{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ }** [ص:143]. وإذا نظرت في هذه المعاني، وجدتَها مشتركة في معنى الوجود والايجاد، مع تفاوت في مراتب الكمال والضّعف. فالأول إكماله، والثاني إدامته، والثالث تأكيده، والرابع تحصيل شيء منه، فالأوْلى حمل الكلام على ما هو أكمل في الثناء، وأشهر وأقرب الى الحقيقة، وأفيد لما هو المقصود بالذات، وهو الحمل على إدامتها من غير خلل في أركانها وشرائطها، ولهذا يوصف الباري، بأنّه قائم وقيّومٌ، لأنه يجب دوام وجوده للأشياء وإدامته للأرزاق. فمن أدام فعلَها، وراعىٰ حدودَها الظاهرة، - من الفرائض والسنن - وحقوقَها الباطنة - من التوجّه الى الله والعروج بقلبه الى حضرة القدس والخشوع بين يديه، لا كَحالِ**{ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ }** [الماعون:5] - فهو حريٌّ بالمدح والثناء العظيم، والأجر الجسيم، ولذلك ذكر الله تعالى في سياق المدح:**{ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ }** [النساء:162]. وفي معرض الذمّ:**{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ }** [الماعون:4]. وأما معنى الصلاة في أصل اللغة فقيل: إنها الدعاء ومنه الحديث: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إذا دُعي أحدُكم الى طعامٍ فليُجبْ، فإن كان صائماً فليُصَلِّ. أي: فليَدْعُ له بالبركة والخير ".** وقيل: مشتقّ من الصَّلَى، وهي النار من قولهم: صَلَيْتُ العصا، إذا قوّمتها بالصَّلَى، فالمصلّي يسعى في تعديل ظاهره وباطنه، مثل من يحاول تقويم الخشبَة وإصلاحها بعَرْضها على النار. أقول: وها هنا سرٌّ لطيف لا يمكنني ضبط عنان القلم عن كشْفه، وهو أنّ الإنسان في بداية الأمر في غاية الجمود والقساوة كالحجارة أو أشدّ قسوة منها، لعدم المناسبة له الى حضرة نور القدس، وإنّما يلين جِلدُه وقلبُه لذكْر الله على التدريج، بواسطة تلطّف سرّه بالرياضات والتلطفيات، وذوبان لحْمه وشحْمه بإذابة التكاليف الدينيّة والعقليّة، حتى يبلغ الى مقام يتسخّن كبدُه بحرارة الشوق والمحبّة، ثم يشتعل زيت قلبه بنار التوبة والندامة، ثمّ يتنوّر مصباحُ روحه بنور الإيمان والمعرفة. وأصل الكلام وبناؤه؛ على أنّ الموجودات متفاوتة في الوجود وكماليّته، وللإنسان أن يسلك في سبيل الله، ويتدرّج في الدرجات، ويسير من أدنى منازل الوجود الى اعلاها، فيترقّى من أول منازل الموجودات الأرضيّة والمائيّة الى آخر منازل الموجودات الهوائيّة والناريّة كالجنّ والشياطين، ومنها يأخذ في سيره الى منازل الموجودات النوريّة، وهي مراتب الملكوت الأعلى، فلا بدّ من وروده في سيره الباطني أولاً الى نشأة من نشئآت النيران، سواء كان في الدنيا أو في العقبى، كما قال تعالى:**{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً }** [مريم:71]. فإن ورد عليها في الدنيا، فيقع الخلاص منها، وإلاّ فسوف يعذّب بها في العقبىٰ، ووروده على النار في الدنيا، عبارةٌ عن احتراق قلبِه أولاً بنار التوبة والندم، ثمّ ذوبان جسمه بنار الرياضات والتكاليف الشاقّة، ثمّ اشتعال ذهنه بنار الحركات الفكريّة والانتقالات النفسانيّة، وهكذا حتّى يتجاوزَ من هذه المقامات بقوّة البرهان ونور الإيمان، الى عالَم الأنوار الملكوتيّة، ويتخلّص عن عذاب النيران، ويحل في منازل الجنان ومجاورة الرحمٰن، كما قال تعالى:**{ ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }** [مريم:72]. فإذا تقرّر هذا، فَلَعَمْري إنّ الصلاة أشدُّ العبادات تأثيراً في تسخين الباطن، وتليين الجُلود والقلوبَ لذكْرِ الله، وتذويب ذهَب الخلاص في كورة الامتحان، لاشتمالها على نارِ الإيمان والمعرفة ونارِ الخوف والخشية للقرب، ونارِ التوبة والندامة، ونارِ الفكر والرياضة النفسيّة والبدنيّة. وفي الحديث: **" كان يصلّي رسولُ الله وفي صدره ازيز، كأزيز المرجل ".** وقيل: إنّ الصلاة عبارةٌ عن الملازمة من قوله تعالى:**{ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً }** [الغاشية:4].**{ سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ }** [المسد:3] وسمّي الفرسُ الثاني من أفراس المسابقة مصلّيا. وقال صاحب الكشّاف: الصلاة فعَلَةٌ من صلّى، كالزكاة من زكّى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخّم، وحقيقة " صلّى " حرك الصَّلَوين، لأنّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل للداعي: مصلٍّ، تشبيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد. واعترض عليه صاحب التفسير الكبير: بأن هذا يفضي الى طعنٍ عظيمٍ في كون القرآن حجّة، لأنّ لفظ الصلاة من أشدّ الألفاظ شهرة، وأكثرها دَوراناً على ألسِنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصَّلَوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل، ولو جوّزنا انّها في الأصل ما ذُكر، ثمّ خفي واندرس حتّى صار بحيث لا يعرفه الآن إلاّ الآحاد، لكان مثلُه جائزاً في سائر الألفاظ، ولو جوَّزنا ذلك لما قطعنا بأنّ مراد الله من هذه الألفاظ ما يتبادر إلى أفهامنا، لاحتمال أنّه كانت موضوعة لمعانٍ أخر في زمان الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان مرادُ الله تلك المعاني، لكنها خفيت واندرست هي في زماننا كما وقع مثلُه في هذه اللفظة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولما كان هذا باطلاً بالاجماع، علِمنا أنّ هذا الاشتقاق الذي ذكره مردودٌ باطلٌ انتهى كلامُه. وفيه ما لا يخفى من التعسّف، فإنّ اشتهار اللفظ في المعنى الاصطلاحي المنقول إليه دون اللغوي المنقول منه، لا يقدحُ في الحكْم بكونه منقولاً بحسب الرواية والضبط من أهل اللغة ولا يوجِب ذلك عدم الاطلاع على معاني الألفاظ القرآنيّة في سابق الزمان، كزمان نزول القرآن، إذ بواسطة ضمّ القرآئن المعلومة لمن تتبّع موارد الاستعمالات اللغويّة، وتتبع معاني ألفاظ المفسّرين وغيرهم الذين كانت أزمنتهم قريبة من زمان الوحي، يحصل اطّلاع تام على معاني هذه اللغات في ذلك الزمان بلا شك. والصلاة في الشرع عبارة عن أفعالٍ مخصوصة، على وجوه وشرائط مخصوصة. وهذا يدلُّ على أن هذا اللفظ منقولٌ من اللغة الى الشرع. وقيل: إنّ هذا ليس بنقلٍ، بل تخصيص. لأنه يطلق على الذكْر والدعاء في مواضع مخصوصةٍ. إشارة [الصلاة] إنّ الصلاة المعهودة، من أعظم العبادات الدينيّة والأوضاع الشرعيّة جلالة وقدراً، وأشدّها قرباناً الى الباري، وأوفرها تشبّهاً بفعل المبادي المطيعة لله على الدوام، لاشتمالها على الأعمال العقليّة والبدنيّة، واحتوائها على هيئات الخضوع والتذلّل لله؛ ولهذا كانت واجبة في جميع الشرايع المعظّمة والملل القديمة. قال أفلاطون الربّاني في المقالة الثانية من كتابه في النواميس: إنّ الصلاة تجمع الإقرار بالربوبيّة، وطاعة العقل في توجه النفس اليه، وتركها استعمال الحواسّ، ونهيها بذلك عن مقتضاها طلباً للروحانيات، وترك الاشتغال بطاعة الجسَد والتخلّي عن المعاصي، والإقرار بالذنب، والمسألة في الصفح. ألاَ ترى الى الرجل كيف يرفع يديه بالتكبير، وإنّما ذلك استعاذة من شيء خاف ايقاعه به عليه فطلَب الاستقالة منه. وكان ملك اليونانيّين إذا دخل الأسرى الى بلدانهم، تقدّموا اليهم أن يبسطوا أيديهم بسط التضرّع، لترى العامّة أنّهم على الخوف والذُّعْر من مسيرهم في المدينة. فأمّا الركوع، فكتمكين الرجلِ من نفسه من حاولَ ضربَ عنقه، فإنّك لا تجد له حالةً أمكَن من الركوع. وأمّا السجود ووضع الوجوه في مراتب الأقدام، فمن تعمّد ذلك يمحق غضبه، فلهذا كانت فصول الصلاة أغضّ الأشياء من الغضب المؤذي، كما انّ الصوم من أغضّ الأشياء لدفع آفة الشهوة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | انتهى كلامه. مكاشفات عقلية متعلقة بأسرار الصلاة الأولى: في حكمة وجوب الطاعات وسرّ التكليف بها: إعلم أنّه لما اقتضت الأسماء الحسنى الإلٰهيّة ظهور آثارها جميعاً في المظاهر الكونيّة، لئلا يتعطّل طرف من الألوهيّة، ظهرت في نوع الإنسان الذي هو أشرف الأكوان، وقد أوجده الله للعبادة كما قال:**{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }** [الذاريات:56]. وطبايع أكثر الناس مجبولة على العدول عن منهج الحقّ، والانحراف عن سَنَن العدل، كما أشار اليه بقوله:**{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ }** [سبأ:13]. وقوله:**{ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }** [يوسف:103]. وقوله:**{ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }** [المؤمنون:70]. وقد تقرّر بنيان هذا البيان في كثير من الأحاديث القدسيّة والنبويّة، مثل قوله تعالى: كلّكم ضالٌّ الاّ من هَديته فاسألوني الهُدى اهدِكُم، وكلّكم فقير الاّ من أغنيته فاسألوني أرزقكم، وكلّكم مذنب الا من غفرتُه فمَن علِم منكم منّي انّي ذو قُدرةٍ على المغفرةِ فاستغفر غفرتُ ولا ابالي. فلو أنّ الناسَ أُهمِلوا وطبائعَهم وتُركوا سُدىً، وخُلّيَ بينهم وبين طبائعهم، لتوغّلوا في الدنيا، وانهمكوا في اللّذات الجسمانيّة، وطلبوا دواعي القوى الظلمانيّة لِضراوتهم واعتيادهم بها من الطفوليّة والصِّبىٰ، حتّى زالت استعداداتهم، وانسلخوا عن رتبة الإنسانيّة فمُسخوا ومُثّلوا بالبهائم والسباع، كما قال تعالى:**{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ }** [المائدة:60] وإن حوفظوا ودُعوا بالسياسات الشرعيّة والعقليّة، والحِكم والآداب النبويّة، ترقّوا وتنوّرت بواطنُهم بنور الملَكية كما قال الشاعر: | **هي النفسُ ان تهمل تلازم خساسةً** | | **وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج** | | --- | --- | --- | فلهذا وُضعت العبادات، وفُرض عليهم تكرارُها في الأوقات المعيّنة، ليزول بها دَرَن الطبائع المتراكمة في أوقات الغفَلات، وظُلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتّخاذ اللذات، وارتكاب الشهوات، وتتنوّر بواطنُهم بنور الحضور، وتنبعث قلوبُهم بالتوجّه الى الحقّ عن السقوط في هاوية النفس والعثور، وتنشرح صدورُهم وتستريح بروح الرَّوح، وحبّ الوحدة عن وحشة الهوىٰ وتفرّق الكثرة، كما قال (صلّى الله عليه وآله): **" الصلاة الى الصلاة كفّارةُ ما بينهما من الصغائِر ما اجتُنِبَت الكبائر ".** ألاَ ترى كيف أمرهم عند الحدَث الأكبر ومباشرة الشهوة بتطهير البدن بالغُسل، وعند الحدَث الأصغر بالوضوء، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيويّة في ساعات الليل والنهار بالصلَوات الخمس المزيلة لكدورات مدرَكات الحواسّ الخمس الحاصلة للنفس منها كلٌّ بما يناسبه. وكذلك وضَعوا بإزاء تفرقة الأسبوع، وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب والملابِس البدنيّة والملاذّ الجمسانية، اجتماع قومٍ على العبادة والتوجّه، لتزولَ وحشةُ التفرقة بأنس الاجتماع والحضور، ويحصلَ بدلَ ظلمةِ النفرة نورُ المحبّة الايمانية، ويرفعَ عنهم ظُلمةَ الاشتغال بالأمور الجزئية، والإعراض عن الحقّ من جهة الأغراض المختصّة الشخصيّة. وهكذا الحال في أكثر التكاليف، إذ مرجع الغرض في أكثرها الى تصفية القلب عن ظلمة الدنيا، وتجريد الباطن عن كدورة الطبيعة ودَرَن اللذات الجسمانيّة، وتخليص العقل عن طاعة الهوى والشيطان بنور طاعة الحقّ بالايمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | مكاشفة اخرى في لميّة وجوب الصلاة مطلقاً من بين العبادات على عامّة الناس بوجهٍ عقلي لمّا علِم الشارعُ انّ جميع أفراد الإنسان لا يرتفعون عن حضيض البشريّة، ولا يرتقون في مدارج العقل الى درجة الملَكيّة بحسب المعرفة والإخلاص، فلا جرَم سوّىٰ لهم رياضة بدنيّةً، وساسَهم سياسةً تكليفية، تخالف أهواءَهم الطبيعيّة، وحفظ لهم الصورةَ الإنسانية، وراعىٰ فيهم حكاية النُّسْك العقليّة، وهيكل العبادات الملَكيّة. فمهَّد لهم قاعدةً في الأذكار والأوراد، وألزمهم تركَ النسيان بتكرير الأعداد، وهي في الوجوب أعمّ وفي الحسّ أعظم، لترتبط بظواهر أشخاص الإنسان، وتمنعهم عن التشبّه بسائر أفراد الحيوان، وأقرّ بهذا الهيكل الظاهر على كلّ بالغٍ عاقل، فقال (صلّى الله عليه وآله): **" صلّوا كما رأيتُموني "** ، ولو قال: صلّوا كصلاتي، فمَن الذي صلّى مثل صلاته؟ لأنّه كان يصلّي وبصدره ازيز كأزيز المرجل من البكاء، وكان في صلاته يَرى من خَلفه. فقد ظهر أنّ في صلاة القالب مصلحةً كثيرة لا تخفى على اللبيب العاقل، ولا يقر به لسان الجاهل العاذل. وهذا المعنى من الصلاة قد كانت واجبة على الأمم السابقة على أعداد اكثر من اعداد صلواتنا لعموم جدْواها، وكانوا مكلّفين بأعمالٍ جسمانيّة كثيرة المشقّة لغلبة القسوة والجسمانيّة عليهم، وقلّة ظهور آثار الملكوتيّين منهم. وشريعتنا المحمديّة - على الصادع بها وآله خير الصلاة والتحيّة - أقلّ تكليفاً وأكثر منفعة، لصفاء القوابل، ولطافة القلوب، ورقّة الحجاب في أمّته بحمد الله، ولذلك قال: بعثتُ بالشريعة السهْلةِ السمْحاء. مكاشفة اخرى في لميّة وجوب الصلاتين القلبيّة والقالبيّة. إن الله قد بعث النبيّين معلّمين بالكتاب والحكمة، واضعين من قِبل الله للشريعة والملّة، مقيمين للعدل والقسط لقوله:**{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ }** [الحديد:25]. فوضعوا للناس النواميس الإلٰهيّة ليُخرجوهم عن حضيض البرزخ الظلماني، ويبلّغوهم الى أوج العالَم النوارني، لينخرطوا في سلك الملائكة المقرّبين، وينغمسوا في جوار القدس مع الأنبياء والصدّيقين، رحمةً من الله وفضلاً ونعمة منه. فشرع كلّ منهم بإذن الله لأمّته حسب ما أعطته العنايةُ الإلٰهيّة، واقتضته الرحمة الأزليّة في ذلك الوقت والزمان، من الأعمال القلبيّة والبدنيّة، ما تكمل به قوّتاهم العلميّة والعمليّة بحسب طاقتهم. ولمّا كانت الحكمة المحمديّة - على مقيمها وآله أفضل المحامد العليّة -، حكمة فردة، لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، بل هو أكمل الممكنات علويّها وسفليّها، روحانيّها وجسمانيّها، وكان تأثير قوّة نبوّته في تكميل أرواح أمّته، أبلغ وأتمّ كمالاً وأقوم، وحكمته أحكم، وكتابه وشريعته أبلغ وأعمّ، كانت أمّته خير الأمم وأعدلها، وأشرف الفِرق وأكملها، كما قال تعالى:**{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }** [آل عمران:110]. وإليه أشار صلّى الله عليه وآله: **" بعثتُ لاتمّم مكارمَ الأخلاق "** وبقوله: **" علماءُ امّتي كأنبياء بني إسرائيل ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فخصّ المحمّديون بوجوب حقيقة الصلاة والذكْر القلبي، والمعرفة الإلٰهيّة التي هي روح الصلاة، كما وجَبت عليهم صورةُ الصلوات الخمس المكتوبة، وأمروا بالمواظبة عليها، والمحافظة لها، وتكريرها في كل يوم بهيئة مشتملة على سرّ إلٰهي في أوقات معيّنة له؛ وهي ذكرٌ له تعالى، وقربة الى جناب الحقّ، ومناجاةٌ معه، كما قال (صلّى الله عليه وآله): **" المصلّي مناجٍ ربَّه ".** وروح الصلاة، وهي معرفة الحقّ وتعظيمه وتنزيهه عن نقائص الإمكان، أشدّ وجوباً على بواطن العقلاء الكاملين من صورتها، وهي القيام والقعود والقراءة والركوع وسائر الهيئات والأوضاع على ظوهر سائر الناس، وقال سبحانه:**{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ }** [طه:124]. مكاشفة اخرى في تحقيق القول من سبيل آخر قد بانَ لك انّ في الإنسان شيئاً من العالَم الأسفل، وشيئاً من العالَم الأعلى، وأعني بالعالَم الأسفل: الدنيا وما فيها، وبالعالَم الأعلى: الآخرة وما فيها. وكذلك في كلّ عمل من الأعمال الدينية قشرٌ ظاهرٌ ولبٌّ باطنٌ، فالقشر متعلّق بالدنيا، واللُّبٌّ متعلّق بالآخرة، وكما انّ مقصود الشارع من طهارة الثوب - وهو القشر الخارج - ومن طهارة البدن - وهو القشر القريب - إنّما هو طهارةُ القلب - وهو اللبّ الباطن - وطهارة عن نجاسات الأخلاق كالكفر والحسد والنفاق والبخل والإسراف وغيرها. فكذلك مقصود الشارع من صورة كلّ عبادة، هو الأثر الحاصل منه في القلب. ولا يبعد أن يكون لأعمال الجوارح آثارٌ في تنوير القلب وإصلاحه، كما لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثير في إشراق نورها على القلب، فإنّك إذا أسبغت الوضوء، واستشعرت نظافة ظاهرك، صادفتَ في القلب انشراحاً وصفاءً لا تصادفه قبله، كيف وإدراك النظافة يوجب حصول صورتها في القلب، وهذا ضرب من الوجود، وفعلُ الطهارة أوجب حصولها في القلب ولو بوجهٍ ضعيف. وذلك لسرّ العلاقة الواقعة بين عالَم الشهادة وعالَم الغيب، فإنّ ظاهر البدن من عالَم الشهادة والملك، والقلب من عالَم الغيب والملكوت بأصل فطرته، وإنّما يكون هبوطه الى هذا القالب، كالغريب عن موطنه الأصلي، ونزوله الى ارض عالم الشهادة عن الجنة التي هي موطنه وموطن أبيه المقدس، لجناية صدرَت أولاً عن أبيه. وكما تنحدرُ من معارف القلب آثارٌ الى البدن، فكلذلك ترتفع من أحوال الجوارح أنوار الى القلب، ولذلك أمر بالصلاة مع انّها حركات للجوارح، وهي من عالَم الشهادة. وبهذا الوجه، جعلَها رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) من الدنيا فقال: **" أحببتُ من دنياكُم ثلاثاً الحديث. وعدّ الصلاة من جملتها ".** ومن ها هنا قد شممت شيئاً يسيراً من أسرار الطهارة والصلاة وسائر العبادات، وإذا تقرّر هذا عندك، وعلمت بمثل هذا التقسيم في جميع العبادات، واتّضح لك وتأكّد عندك حسبما قدمنا اليك أنّ الصلاة منقسمةٌ الى رياضيّ جسمانيّ والى حقيقيّ روحانيّ، فاعلم أنّ نفوس الإنسان متفاوتة بحسب آثار القُوى والأرواح والدواعي المتركّبة فيها، فمن غلب عليه الروح الطبيعي والحيواني، فإنّه عاشق البدن يحبّ نظامَه وتزيينَه وتعظيمه وأكلَه وشُربَه ولبسه وطالَب جذب منفعته ودفعَ مضرّته، فهذا الطالِب من عِداد الحيوانات وزمرة البهائم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فأيّامه مستغرقة باهتمام بدنه، وأوقات عمره مصروفة الى مصالح جثّته وشخصيّته. فهو غافلٌ عن الحقّ جاهلٌ بأمره، فلا يجوز له التهاون بهذا الأمر الشرعي اللازم الواجب، وإن قعد عنه فبالسياسات والزواجر يُكْرَهُ عليه ويجبر، حتى لا يفوت عنه حقّ التضرّع والاشتياق الى الله تعالى، ليفيض عليه بجوده، وينجيه من عذاب وجوده، ويخلّصه من آمال بدنه، ويوصله الى منتهى أمله. فإنّه لو انقطع عنه قليلُ خير، لتسارع اليه كثير شرّ، ولكان أدنى درجة من البهائم، وأضلُّ سبيلاً من الأنعام. ومن غلبت عليه قواه الروحانية، وتسلطت على هواه قوّته الناطقة، وتجرّد عن محبّة الدنيا وعلائق العالَم الأدنى، فهذا الأمر الحقيقي والتعبّد الروحاني، وذكْر الله بالقلب ومناجاته وقرباته، واجبٌ عليه أشدّ وجوباً وأقوى إلزاماً، كما قيل: الحكمة أشد تحكّماً على باطِن العاقل من السيفِ على ظاهر الأحمق. لأنّه استعدّ بطهارة نفسه وشرافة عقله ليفيض عليه ربُّه، فهو أقبل بمشقّته، واجتهد في تعبّده لتسارع إليه جميع الخيرات العلوية والسعادات الأخرويّة، حتى إذا انفصل عن جسمه وفارَق الدنيا، يدخل عليه الملائكة من كلّ، باب ويشاهد مفيضَه وموجِدَه ومكمِّله ربَّ الأرباب، ويجاور حضرتَه ويلتذّ بمنادميه حينئذ ومجاوريه، وهم سكان ملك الملكوت وقطّان عالَم الجبروت. مكاشفة اخرى في سرّ الصلاة وروحها من جهة اشتمالها على ظاهر جسماني وباطن نوراني إعلم أنّ الصلاة عبارة عن تشبّه ما للنفس الإنسانية بالأشخاص الكريمة الإلٰهية في تحريكها للأجرام الفلكيّة، فما أشدّ شباهة الإنسان حين التشغّل بالصلاة الكاملة بتلك الأشخاص الكريمة بأرواحها الملكيّة، في تعبّدها الدائم، وركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها طلباً للثواب السرمدي، وتقرّباً الى المعبود الأحدي. ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله): **" الصلاةُ معراجُ المؤمن. وقال: الصلاةُ عِماد الدين ".** وأصل الدين، تصفية الروح عن الكدورات الشيطانيّة والهواجس النفسانيّة، والصلاة الحقيقية هي التعبّد للمبدإ الأعلى والمعبود الأعظم، والخير الأشراف، والتعبّد في الحقيقة، عرفان الحقّ جلّ مجده، والعلم بآياته بالسرّ الصافي والقلب النقيّ والنفس الفارغة. فسرّ الصلاة التي هي عماد الدين؛ هو العلم بوحدانيّة الله، ووجوب وجوده وتنزه ذاته، وتقدُّس صفاته، وإِحكام أفعاله، ونفاذ أمره في خَلْقه، وجريان قضائه في قدَره، وقلمه في لوحه، وتعلّق عنايته ورحمته بعباده، وإنزال كتبه على رسُله، ورجوع العباد في معادهم اليه، يوم مثول الأرواح والنفوس بين يديه، وقيام صفوف الملائكة والروح لديه. مع الإخلاص له بالعبوديّة. وأعني بالإخلاص؛ أن يعبد الله بلا مشاركة أحدٍ، وأن يعلمَ ذاتَه وصفاته وأفعاله بحيث لا يبقى للكثرة فيه مَشْرَعاً، ولا للاضافة اليه مترعاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن فَعل هذا فقد أخلص وصلّى، وما ضلّ وما غوى، ومن لم يفعل هكذا فقد افترى وعَصى، والله أجلّ من ذلك وأعلى وأغنى. مكاشفة اخرى في مبدأ وجوب هذا التعبد الروحاني إن هذه الصلاة قد وجبَت على سيّدنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) في ليلة مباركة، قد صعَد الى العالَم العلوي، وتجرّد عن بدنه، وتنزّه عن أهله، ولم يبق معه من آثار الحيوانيّة شهوة، ولا من لوازم الطبيعة قوّة، ولا من الدواهي النفسانيّة بقيّة. فناجىٰ ربَّه بقلبه وروحه عند طرح قالبه وبدنه في آخر منازل الجسميّة، فقال - كما رُوي عنه (صلّى الله عليه وآله):- **" إنّي وجدتُ لذّة غريبة في ليلتي هذه، فأعطني يا ربّ هُدىً، ويسِّر عليَّ طريقاً يوصِلني كلّ وقت الى لذّتي، فأمره الله بالصلاة فقال: يا محمد، المصلّي مناج ربه ".** ولا يخفى على العاقل المتأمّل، انّ مناجاة الله لا تكون بالأعضاء البدنيّة، ولا بالألسُن الجمسانيّة، لأن هذه المكالمة إنما تصلح لمن يحويه مكان وتقترن به حركة وزمان، أما الواحد المقدّس الخارج عن عالَم المحسوس والحسّ الذي لا يحيط به مكان ولا يحويه زمان، ولا يعتريه تجدّد وتغيّر، ولا يشار اليه بجهة من الجهات، ولا يختلف حكمه في صفة من الصفات، فكيف يعاينه الإنسانُ المشكَّل المجسّم المحدود بجسمه، المقيّد المحصور بحسب قوله وفعله وشعوره وحسّه؟ وكيف يناجي في هذا العالَم المركّب الخروب، من لا يعرف حدود جهاته ولا يرى جناب صفاته. فإنّ الوجود المطلق عن عالَم المثل والمحسوسات، بل المرتفع عن إمكان الأرواح والعقليّات، غائب عن الحواسّ، غير مشار إليه بالأخماس، ولا يدرك بالإلماس، ومن عادة الجسم والجسمي، أن لا يناجي ولا يجالس الا من يراه بالبصَر، ويحسّه بالحس، ويدركه بإحدى الخمس. وإذا لم ينظر إليه ولم يشاهده يعده غائباً، ويكون بفقده عن المشاعر خائباً. فمن كان خارجاً عن هذا الباب، مقدّساً عن طرفي هذا النفي والإثبات جميعاً، وعن المداخلة والمزايلة رفيعاً، فمناجاته بإحدى الظواهر والآلات أمحل المحالات، وأفحش الخرافات الموهومات. فاذن قوله **" المصلّي مناجٍ ربه "** محمولٌ على عرفان النفوس العرّافة العلاّمة المجرّدة عن جهات الجسم والمكان، وحوادث الحركة والزمان. فهم يشاهدون الحقّ مشاهدةً عقلية، ويبصرون الإلٰه ويبصرونَه بصيرة نوريّة، ويسمعون كلامَه سماعاً قلبيّاً روحانياً. تفريع فعلىٰ هذا ظهر انّ الصلاة الحقيقيّة هي التي تليق أن يمدح الله بها المؤمنين المتّقين المهتدين بأنوار معارف هذا القرآن، وهي التي تنهى عن فحشاءِ القوّة الشهويّة، ومنكَر القوّة الغضبية، وبغي القوّة الوهمية، ويدفع آفات هذه الثلاث التي أولاها كالبهائم، ووسطاها كالسباع، وأُخراها كالشياطين. وذلك لأنها كما علمت، مكالمةٌ عقليّة مع الله عند مشاهدة قلبيّة له، أو هي التضرّع بالنفس الناطقة نحو الله الحقّ والموجود المطلق، وجعلها بمنزلة يدٍ باسطةٍ إليه تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولأصحاب العلوم الظاهرة من هذا حظٌّ ناقصٌ، وإن ارتفعوا عن منزل الأنعام قليلاً، وارتفعوا عن درجة العوام يسيراً، وللمحقّقين قِسمٌ وافرٌ ونصيب كامل من هذا البحر الزاخر، ولهم قرّة أعين في الصلاة أخفيت عن أعين الناس، ومن كان حظّه أكمل، فثوابه أجزل. فالعاقل الحكيم، يتأمّل سلوك طريق التعبّد والمداومة على الصلاة، ويلتذّ بمناجاة ربّه لا بشخصه، وينطقه لا بنُطِقه، ويبصره لا ببَصرِه، ويحسّه لا بحسِّه. وأما الجاهل اللئيم، المغرور الممكور، المشعوف بما عنده من القشور، الطالب في مناجاته للذّات عالم الزور، المتوجّه الى تحصيل المنزلة والجاه عند أصحاب القبور، ومن آثر الهوى واتّبع الشيطان، وانحرف عن الحقّ والهدى، حرّم الله عليه لذّة مناجاته، كما ورَد في أخبار داود على نبيّنا وعليه السلام: يا داود إنّ أدنى ما أصنع بالعالَم إذا آثرَ شهوتَه على محبّتي، أن احرم عليه لذيذ مناجاتي. ومثل هذا الخبر ما ذكره مالك بن دينار من قوله: قرأت في بعض الكتب انّ الله عز وجل يقول: إنّ أهون ما أصنع بالعالَم اذا أحبّ الدنيا أن اخرج مناجاتي من قلبه. **{ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور }** [النور:40]. قوله جل اسمه: وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) الرِزْق في كلام العرب، الحظّ مطلقاً قال تعالى:**{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }** [الواقعة:82]. أي حظكم ونصيبَكم. والعرْف خصّصه بما ينتفع به الحيوان، يؤكل أو يستعمل، وقيل: هو ما يُملك، وهو باطلٌ. لأن الإنسان قد يقول: اللّهم ارزقني ولداً صالحاً، وزوجةً صالحةٍ. وهما مما ليسا بمملوكين له. وكذا يقول: اللّهم ارزقني عقلاً أعيشُ به. والعقل ليس بمملوك. وأيضاً البهيمةُ لها رزق ولا يكون لها ملك. وقيل: هو عبارة عن تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، وهذا مذهب أبي الحسين البصري وسائر المعتزلة، ولهذا ذهبوا الى أن الحرامَ لا يكون رزقاً، وذلك لأنّهم استحالوا من الله أن يمكّن من الحرام، بدليل أنّه منع من الانتفاع بالحرام، وأمر بالزجْر عنه، وبما ذكره صاحب الكشّاف في هذه الآية من قوله: " إسناد الرزق الى نفسه للإعلام بأنّهم ينفقون الحلال الطلْق الذي يستأهل أن يضاف الى الله ويسمّى رزقاً منه ". وبقوله تعالى:**{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً }** [يونس:59]. إذ قد بينّ انّ من حرّم رزق الله فهو مفترٍ عليه، فثبت انّ الحرام لا يكون رزقاً. وبما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن رجلاً قال له: **" إنّ الله كتَب عليَّ الشقوة أفلا أراني أرزق إلا من دَفّي بكفّي، فأذَنْ لي في الغناء من غير فاحشةٍ؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبتَ يا عدوّ الله، لقد رزَقك الله طيّباً، فاخترتَ ما حرّم الله عليكَ من رزقِه مكان ما أحلّ الله لك من حلالِه، أم إنّك لو قلتَ بعد هذه النوبةِ، ضربتُك ضرباً وجيعاً ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والجواب: أمّا عن الأول، فبأنّ المنع الشرعي للكل عن الحرام، لا يناقض السياق القدَري لبعض الأشخاص إليه، وتحقيق هذا المقام يحتاج الى مسلك آخر غير علم الكلام. وأما عن الثاني: فبأنّ إسناد الرزق الى الله على سبيل التشريف والتحريض على الإنفاق، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً، كما يقال: يا خالق العرشِ والكرسي، [ولا يقال] يا خالق الكلاب والخنازير، وكقوله:**{ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ }** [الإنسان:6]. فخصّ العباد بالمتّقين وإن الكفّار من العباد. وأما عن الثالث: فبأنّ الذمّ للمشركين لأجل انّهم حرّموا ما أحلّ الله من الرزق. وأما عن الرابع: فبأنّ الخبر حجّة عليكم لا لكم، لأنّ قوله (صلّى الله عليه وآله): **" فاخترتَ ما حرّم الله عليكَ من رزقه "** ، صريحٌ في أنّ الرزقَ قد يكون حراماً. واستدلّ بعض الأشاعرة: بأنّ الحرام لو لم يكن رزقاً، لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقاً، وليس كذلك لقوله تعالى:**{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** [هود:6]. وأقول: هذا الاستلال ضعيف، لمنع تحقّق مادة النقض، إذ ما من حيوان إلاّ وله رزقٌ من الحلال ولو في بعض الأوقات، كما عند كونه في بطن أمّه. والحقّ أنّ النزاع في هذه المسألة يرجع الى محض اللغة وهو: أن الحرام هل يسمّى رزقاً أمْ لا؟ ولا مجال للدليل العقلي في الألفاظ. وأصل الإنفاق، إخراج المال من اليد، ومنه نفقَ المبيع نفاقاً إذا كثُر المشتَرون له، ونفقتِ الدابّة إذا خرجت روحُها، ومنه نافق الفأرة لأنها تخرج منها، ومنه النفق في قوله تعالى:**{ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ }** [الأنعام:35]. وفي الكشّاف: انّ " أنفقه وأنفده " أخَوان، و " نفق ونفد " واحد، وكلّما جاء مما فاؤه نون وعينُه فاء، فدالٌّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمّلت. تنبيه في قوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فوائد لطيفة: إدخال " من " التبعيضيّة صيانة لهم عن الإسراف، وكفّاً عن التبذير المنهيّ عنه، وتقديم المفعول للاهتمام به كأنّه قال: ويخصّون بعض المال للتصدّق به، والمحافظة على رؤوس الآي، وإطلاق الانفاق حتّى يشمل الزكاة وغيرها. ومن فسّر الإنفاق بالزكاة، فقد ذكر أفضل أنواعه وما هو الأصل فيه، وإنّما وقَع التخصيص بها لاقترانه بما هو شقيقها. ولا يخفى انّ الإنفاق منه واجب ومنه مندوب. والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة وهي قوله تعالى في آية الكنز:**{ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }** [التوبة:34]. وثانيها: الإنفاق على النفس والأهل ومَن تجِب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب، فهو ما سوى ما ذكَرناه لقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ }** [المنافقون:10] وأراد به الصدقة، بدليل قوله تعالى:**{ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }** [المنافقون:10]، فجميع هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية، لأن كل ذلك سببٌ لاستحقاق المدح، فالأوْلىٰ أن يراد به الإنفاق من جميع المعارف التي منحهم الله بها من النعَم الظاهرة والباطنة، والماليّة والعلميّة، يؤيّده قوله (صلّى الله عليه وآله): **" إنّ علْماً لا يقال به، ككنزٍ لا ينفق منه "** ولهذا المعنى ذكر بعض المحقّقين في تفسيره: وممّا خصصناهم به من أنوار المعارف يفيضون. واعلم أنّ الرزق كلّه من قِبَل الله لا من قِبَل غيره، لأنه من ضروريّات بقاء الإنسان والحيوان. فهو مقدر بتقدير الله، مضمونٌ بضمانه، والبرهان عليه من طريق العقل: أنّه تعالى يعلمُ ذاتَه، وما توجبه ذاتُه على الترتيب الأقدم فالأقدم. وهكذا الى أدنى المراتب، فهو قد عقل جميع الموجودات من جهة عقله لذاته، لأنّ عقله لذاته علّة لعقل ما يقتضيه ذاتُه وإن كان بالقصد الثاني، وكل ما يعقله لا بدّ وأن يوجده، لأنّ علمَّه علمٌ فِعْلي لأجل كون علمه عين ذاته، فقد ترتب وجود جميع الموجودات عن علمه بذاته، وبما توجبه ذاته من المبدَعات والكائنات، لأن الله تعالى علم وجود الكلّ من ذاته، فكما انّ تعقله لذاته لا يجوز أن يتغيّر، فكذلك تعقّله لكل ما يترتّب عن ذاته. فكل ما يعقل وجوده عن ذاته وعن عقله لذاته، لا يجوز أن يتغيّر، بل يجب وجود كلّ ذلك على الوجه الذي عقله، ووجود أنواع الحيوانات وبقاؤها متعقَّل له تعالى بلا شكّ فيه ولا خلاف من أحد من العقلاء، وخصوصاً وجود النوع الإنساني وبقاؤه، فيجب وجود هذا النوع وبقاؤه، وكذا سائر الأنواع الحيوانيّة المتوالدة. ولمّا كان وجودُ النوع إنّما يبقى مستحفظاً، إذا لم يمكن لواحد من أعداده الديمومة الشخصيّة بتعاقب أشخاصه، وبلوغ كلّ شخص منها الى كماله الذي يمكن به أن يَلِدَ شخصاً آخر مثله، وبلوغه الى ذلك الكمال لا يمكن إلاّ ببقائه مدّة يصل فيها اليه، وبقاؤه تلك المدّة لا يمكن إلاّ بما به قوام حياة البدن من الرطوبات الغريزيّة التي هي أبداً في التحلّل والذوبان والنقصان، بواسطة استيلاء الحرارات الداخليّة والخارجيّة عليها، فيحتاج في تحلّلها وذوبانها ونقصانها كلّ لحظة الى البدل، وهو الرزق الصوري، فقوام الحياة البدنيّة بالرزق. ولمّا تقرّر أنّه تعالى يعقل وجودَ الكلّ من ذاته، وينال أسبابها وعللها من ذاته، ووجود ما يعقله من ذاته واجب، ويعقل بقاء النوع الإنساني ببقاء الأشخاص وتناسلهم، ويعقل تناسلَهم ببقاء كلّ شخص مدّة، ويعقل بقاء كلّ شخص مدّة بما به قوام حياته وهو الرزق، والرزق إنّما يكون من النبات والحيوان كالخبز واللحم والفواكه والحلوىٰ، فوجب أن يكون الرزق مضموناً بتقدير الرؤوف الرحيم، ولذلك قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }** [الذاريات:22 - 23]. فقد علم أنّ الرزق، سواء كان حلالاً بحسب الشرع، أو حراماً، أو غيرهما، كرزق سائر الدوابّ، واجب من قِبَل الله وجوباً عقليّاً كما قال:**{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** [هود:6]. حكاية في هذا الباب ذكر في كتاب إخوان الصفا، أنّ بعض الخلفاء العباسيين رأى شيخاً سقّاء في داره فقال له: كم تعدّ من الخلفاء؟ قال: كثير، فقال له شبه المتعجّب: ما بالكم طوال الأعمار ونحن قصارها؟ قال له السقّاء: لأنّ أرزاقَكم تجيء مثل أفواه القِرب، وأرزاقنا تجيء مثل قطر الأجفان، فاستحسن الخليفةُ وأمر له بجائزة أغناه بها عن صنعه. ثمّ سأل عنه بعد حينٍ، فقيل: ماتَ فقال: صدقَ لما جاءه الرزقُ مثل أفواه القِرب قصُر عمرُه، وهكذا الحكم والقياس، وقد جعل الله لكلّ إنسان نصيباً من السعادة وقسطاً من النعيم، وجعلَ له قِسطا في الدنيا وقسطاً في الآخرة، كما قال تعالى:**{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }** [الرعد:8]. وقال:**{ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }** [الحِجر:21]. فمقدار ما يأخذ الإنسان نصيباً وحظاً من النعيم والتلذّذ في الدنيا، فبذلك المقدار ينقص حظّه ونصيبه من نعيم الآخرة. وهذا وإن كان إقناعيّاً، فهو ممّا يحكُم به صاحبُ الحدسِ الصحيح بضربٍ من الشواهد والآثار، وإليه الإشارة بقوله تعالى:**{ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }** [الأحقاف:20] و:**{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }** [الشورى:20]. قال النبي (صلّى الله عليه وآله) **" نَفَثَ روحُ القدسِ في روعي إنّ نفْساً لن تَموتَ حتّى تستكملَ رزقها ألا فاتّقوا الله واجْمِلوا في الطلب "** وقال امير المؤمنين (عليه السلام): اعلموا علماً يقيناً أنّ الله لم يجعل للعبد وإن عظُمتْ حيلتُه وقويَت مكيدتُه واشتدّت طلبته، أكثر مما سمّى له في الذكر الحكيم. تذكرة فيها تبصرة [الرزق وأقسامه] إعلم أنّ الرزق عند أهل الحقّ، هو ما يتقوّى به الشخص وينمو ويزيد في تجوهره، سواء كان من الجواهر الجسمانية، أو الروحانية، فللأرواح أيضاً أغذية كما للأبدان. وغذاء كلّ موجود من جنسه ومما يشابهه، فكما انّ غذاءَ الأبدان من جنسها وهو نيل المطعومات المحسوسة، فغذاء العقول الإنسانيّة إدراك العلوم العقليّة، إذ بها حياة تلك العقول، وبها تكمل وتزيد، وبفَقدها تموت وتهلك، وبحسب نقصانها تذبل وتضعف، والى الرزق المعنوي العلمي وقعت الإشارة في قوله تعالى:**{ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ }** [طه:13]. ولهذا المعنى أوّلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللبن بالعلم، قال الفتح الموصلي: أليس الرجل إذا منع عنه الطعام والشراب يموت؟ قالوا: بلى، قال: كذلك القلوب إذا منع عنها الحكمة والعلم ثلاثة أيّام تموت، وغذاء الملائكة التسبيح والتقديس، وغذاء الفلكيّات بما يرد عليها من الواردات والأنوار العلويّة المتجدّدة على الاتّصال بواسطة حركاتها المتّصلة المستمرّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكذا غذاء كلّ قوة من القوى الباطنة والظاهرة، بنيل ما يُشببها وإدراك ما يناسبها، فغذاءُ الوهم الموهومات، وغذاء الخيال المتخيّلات، وغذاء قوّة الباصرة إدراك الأنوار الحسّية، وغذاء الجنّ بالنسيم والأرواح العَبِقة وسماع الأصوات، وعلى هذا القياس، فما من قوّة إلاّ ولها رزق صوريٌّ أو معنويٌّ من جنسها، وبه تحصل لذّتُها وبما يضادّه ألمُها. وتحقيق هذا المقام من شمول رازقيّته تعالى لجميع الموجودات العلويّة والسفليّة والروحيّة والجسميّة والأخرويّة والدنيويّة، مما يتوقّف على الأصول التي وقع الاثبات لها في كتبنا الحكميّة: كالشواهد الربوبيّة وغيرها فليرَاجع إليها من أراد الإطلاع على هذا المطلب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي/ الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ)
{ (3) الَّذِيِنَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ }: بما غاب عن حواسهم من توحيد الله ونبوة الأنبياء وقيام القائم والرجعة والبعث والحساب والجنّة والنار وسائر الامور التي يلزمهم الايمان بها مما لا يعرف بالمشاهدة وإنما يعرف بدلائل نصبها الله عز وجل عليه. { وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ }: باتمام ركوعها وسجودها وحفظ مواقيتها وحدودها وصيانتها مما يفسدها أو ينقصها. { وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ }: من الأموال والقوى والأبدان والجاه والعلم. { يُنْفِقُونَ }: يتصدقون يحتملون الكلّ ويؤدون الحقوق لأهاليها ويقرضون ويسعفون الحاجات ويأخذون بأيدي الضعفاء يقودون الضرائر وينجونهم من المهالك ويحملون عنهم المتاع ويحملون الرّاجلين على دوابهم ويؤثرون على من هو أفضل منهم في الإيمان على أنفسهم بالمال والنفس ويساوون من كان في درجتهم فيه بهما ويعلّمون العلم لأهله ويروون فضائل أهل البيت عليهم السلام لمحبّيهم ولمن يرجون هدايته. وفي المعاني والمجمع والعياشي عن الصادق عليه السلام: ومما علّمناهم يبثون. { (4) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ }: من القرآن والشّريعة. { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }: من التوراة والانجيل والزّبور وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المنزلة. { وَبِاْلآخِرَةِ } أي الدار التي بعد هذه الدنيا التي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل مما عملوه وعقاب الأعمال السيئة بمثل ما كسبوه. { هُمْ يُوقِنُونَ }: لا يشكونَ. { (5) أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ }: على بيان وصواب وعلم بما أمرهم به. { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }: النّاجون مما منه يوجلون الفائزون بما يؤملون. { (6) إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللّهِ }: وبما آمن به هؤلاء المؤمنون. { سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ }: خوّفتهم. { أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }: أخبر عن علمه فيهم. { (7) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ }: وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته وأوليائه إذا نظر إليها بأنهم الذين لا يؤمنون، في العيون عن الرضا عليه السلام قال الختم: هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال عزّ وجلّ**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }** [النساء: 155]. { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ }: غطاء وذلك أنّهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلّفوه وقصّروا فيما اريد منهم جهلوا ما لزمهم الإيمان به فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه فان الله عز وجل يتعالى عن العيث والفساد وعن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه. { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }: يعني في الآخرة العذاب المعد للكافرين في الدنيا أيضاً لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه على طاعته أو من عذاب الاصطلام ليصيره إلى عدله وحكمته. أقول: الاصطلام بالمهملتين الاستيصال والاستصلاح إنما هو يصح لمن لم يستحكم ختمه وغشاؤه وكان ممن يرجى له الخير بعداً وهو تنبيه من الله له واتمام للحجة وإن لم ينتفع هو به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
فقوله تعالى { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } يحتمل وجوهاً عديدة من الاعراب فنقول فى بيانها { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } امّا صفة للمتّقين او بدل او عطف بيان او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف فهذه خمسة { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } جملة فعلية معطوفة على الصّلة او جملة اسميّة معطوفة على الصّلة او مستأنفة او حاليّة فهذه اربعة مضروبة فى الخمسة { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } عطف على المتّقين او على الّذين يؤمنون بالغيب وما فى " ما انزل اليك " موصولة اسميّة او موصوفة او مصدريّة وما انزل من قبلك بثلاثة اوجه فى لفظ ما معطوفة على ما انزل اليك او ما انزل من قبلك جملة حاليّة او مستأنفة ولفظ " ما " نافية او استفهاميّة فهذه احد وعشرون مضروبة فى الاربعين و " بالاخرة " عطف على ما انزل اليك وجملة { هم يوقنون } حال او مستأنفة او بالاخرة متعلّق بيوقنون والجملة حال او مستأنفة او معطوفة على الصّلة فهذه خمسة مضروبة فى الثمانمائة والاربعين الحاصلة من ضرب الاحد والعشرين فى الاربعين والحاصل من الضّرب اربعة آلاف ومائان 4200 وعليها فاولئك الاولى بدل او عطف بيان للّذين الاوّل او الثّانى و { على هدىً من ربّهم } حال مفرداً او جملة مستأنفة بتقدير مبتدء { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانية عطف على { أُوْلَـٰئِكَ } الاولى و { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } جملة حاليّة او مستأنفة او { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } جملة معطوفة على على { هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } او حاليّة او مستأنفة وهم ضمير الفصل او مبتدء فهذه اربعة وستّون مضروبة فى الاربعة الالاف والمأتين والحاصل من الضرب مأتان وثمانية وستّون الفاً وثمانمائة 268800، او على الاربعة الالاف والمئتين { أُوْلَـٰئِكَ } الاولى مبتدء والجملة حال او مستأنفة وعلى هدىً خبره { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانية عطف عليها عطف المفرد وهم المفلحون جملة حاليّة او مستأنفة او اولئك هم المفلحون جملة معطوفة على جملة اولئك على هدىً او حال او مستأنفة والضّمير للفصل او مبتدئان فهذه ستّة عشر مضروبة فى الاربعة الالاف والمئتين والحاصل من الضّرب سبعة وستّون الفاً ومائتان 67200 او على الاربعة الالاف والمئتين اولئك الاولى مبتدأ والجملة حال او مستأنفة وعلى هدى من ربّهم حال { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانية عطف عليه وهم المفلحون خبره والضّمير للفصل او مبتدأ ثانٍ فهذه اربعة مضروبة فى السّابق والحاصل ستّة عشر الفاً وثمانمائةٍ 16800، او نقول الّذين يؤمنون بالغيب على الخمسة وممّا رزقناهم ينفقون على الاربعة والّذين الثّانى مبتدأ والجملة حال او مستأنفة وبما انزل اليك وما انزل من قبلك على الاحد والعشرين { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } على الخمسة فهذه ايضاً اربعة آلاف ومائتان 4200، وعليها فاولئك الاولى خبره وعلى هدىً خبر بعد خبر او حال او مستأنف بتقدير مبتدأ واولئك الثّانية عطف على الاولى عطف المفرد وهم المفلحون حال او مستأنفة او اولئك الثّانية مبتدأ والجملة معطوفة على جملة { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ } او على، { عَلَىٰ هُدًى } او حال او مستأنفة والضّمير على الوجهين فهذه ثلاثون وجهاً مضروبة والحاصل مائة وستّة وعشرون الفاً 126000 او على الاربعة الالاف والمأتين اولئك الاولى بدل او عطف بيان للّذين الثّانى و { عَلَىٰ هُدًى } خبر الّذين الثّانى { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانى عطف على { أُوْلَـٰئِكَ } الاوّل او على { ٱلَّذِينَ } الثّانى وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثّانى مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبره والجملة معطوفة على جملة الّذين يؤمنون بما انزل او على على هدىً او حال او مستأنفة فهذه اربعة وعشرون والحاصل من الضرب مائة الف وثمن مئة 100800، او على الاربعة الالاف والمئتين اولئك الاولى بدل او عطف بيان و { على هدىً } حال او مستأنف { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانية عطف عليها عطف المفرد وهم المفلحون خبر { ٱلَّذِينَ } الثّانى والضّمير بالوجهين فهذه ثمانية مضروبة والحاصل ثلاثة وثلاثون الفاً وستّمائة 33600، او على الاربعة الالاف والمئتين { أُوْلَـٰئِكَ } الاولى مبتدءٌ ثانٍ و { عَلَىٰ هُدًى } خبره والجملة خبر الّذين الثّانى واولئك الثّانية عطف على الّذين الثّانى او على اولئك او على على هدى عطف المفرد وهم المفلحون بالوجهين او { اولئك هم المفلحون } بالوجهين فى الضّمير جملة معطوفة على جملة الّذين وخبره او على جملة { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } او على، على هدىً او حال او مستأنفة او اولئك الاولى مبتدأ ثانٍ وعلى هدىً بالوجهين واولئك الثّانية عطف على اولئك الاولى او على الّذين الثّانى وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبر اولئك الاولى والجملة خبر الّذين الثّانى فهذه اربعة وعشرون مضروبة والحاصل مائة الف وثمانمائة 100800، او نقول الّذين الاوّل مبتدء والجملة حال او مستأنفة { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } على الاربعة والّذين الثّانى عطف على الاوّل و { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } على الاحد والعشرين { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } على الخمسة فهذه ثمانمائة واربعون 840 وعليها فاولئك الاولى خبره وعلى هدى على الثلاثة واولئك الثّانية عطف على المتّقين او على الّذين او على اولئك الاولى عطف المفرد وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثّانية مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبره والجملة عطف على جملة الّذين وخبره او على { اولئك عَلَىٰ هُدًى } او على { عَلَىٰ هُدًى } او حال او مستأنفة فهذه ثمانية واربعون مضروبة فى الثمانمائة والاربعين والحاصل اربعون الفاً وثلاثمائة وعشرون 40320، او على الثمانمائة والاربعين اولئك الاولى بدل او عطف بيان وعلى هدىً خبر الّذين واولئك الثّانية عطف على الّذين او على اولئك او على، على هدىً وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثّانية مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبره والجملة عطف على جملة الّذين وخبره او على { عَلَىٰ هُدًى } او حال او مستأنفة فهذه ثمانية وعشرون مضروبة والحاصل ثلاثة وعشرون الفاً وخمسمائة وعشرون 23520، او على الثمانمائة والاربعين اولئك الاولى بدل او عطف بيان وعلى هدىً حال او مستأنف او اولئك على هدىً مبتدأ وخبر وحال او مستأنف واولئك الثّانية عطف على الّذين او على اولئك الاولى وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبره فهذه اربعة وعشرون مضروبة والحاصل عشرون الفاً ومائة وستّون 20160، او نقول الّذين الاوّل مبتدأ والجملة حال او مستأنفة { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } على الاربعة والّذين الثّانى مبتدء والجملة حال او معترضة { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } على الاحد والعشرين { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } على الخمسة فهذه الف وستّمائة وثمانون 1680، وعليها فاولئك الاولى خبر المبتدأ الثّانى وعلى هدىً خبر الاوّل واولئك مفردا عطف على المبتدء الاوّل او الثّانى او الخبر الاوّل او الثّانى وهم المفلحون بالوجهين، او اولئك هم المفلحون بالوجهين فى الضّمير جملة معطوفة على الجملة الاولى او الثّانية او الخبر الاوّل او الثّانى او حال او مستأنفة فهذه ثلاثة وثلاثون الفاً وستّمائة 33600 او على الالف والسّتمائة والثّمانين اولئك الاولى بدل او عطف بيان للّذين الثّانى وعلى هدىً خبر الّذين الثّانى واولئك الثّانى عطف على الّذين الاوّل او الثّانى او على اولئك الاولى او على على هدىً وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبر الاوّل فهذه ستّة وعشرون الفاً وثمانمائة وثمانون 26880، او على الالف والسّتمائة والثّمانين اولئك مبتدأ ثانٍ وعلى هدىً خبره والجملة خبر الّذين الثّانى واولئك الثّانية عطف على الّذين الاوّل والثّانى او على جملة اولئك على هدىً او على على هدىً او على اولئك نفسه وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبر الّذين الاوّل فهذه ستّة عشر الفاً وثمانمائة 16800، واذا جمعت المجموعات الحاصلات حصل ثمانمائة وخمسة وسبعون الفاً ومائتان وثمانون 875280، ويجرى كلّ فى مجموع الوجوه المحتملة فى { الۤمۤ } الى قوله للمتّقين وهى ثلاثة عشر الف الف ومائة وعشرون الفاً وستّمائة وثمانية 13120608، واذا ضرب ذلك المجموع فى هذا المجموع يحصل احد عشر الف الف الف الف واربعمائة واربعة وثمانون الف الف الف ومئتان وخمسة آلاف الف وسبعمائة وسبعون الفاً ومئتان واربعون وهذه ارقامه، 11484205770240. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذه هى الوجوه الشّايعة الّتى لا شذوذ لها ولا ندور ولا غلق فيها، وامّا الوجوه الضّعيفة الّتى فيها امّا ضعف بحسب المعنى او غلق بحسب اللّفظ او يورث التباساً فى المعنى وقد رأيت بعض من تعرّض لوجوه الاعراب ذكر اكثرها وترك اكثر هذه الوجوه القويّة الشّائعة فهى ايضاً كثيرة تركناها وكذا تركنا الوجوه الّتى فيها شوب تكرارٍ مثل كون الاحوال مترادفة ومتداخلة وقد ذكرنا هذه الوجوه فى الآية الشّريفة مع التزامنا فى هذا التّفسير الاختصار وعدم التّعرض لتصريف الكلمات ووجوه الاعراب والقراءات تنبيهاً على سعة وجوه القرآن بحسب اللّفظ، الدّالة على سعة وجوهه بحسب المعنى الّتى تدلّ على سعة بطون القرآن وتأويله، وبعد ما عرفت انّ الانسان حين الانسلاخ من هذا البنيان يشاهد او يتحقّق بمراتب العالم الّتى هى بوجهٍ حقائق القرآن وبوجهٍ مراتب الانسان، ويظهر من تلك الحقائق بحكم اتّباع الدّانى للعالى واقتضائه من حظوظ العالى وافاضة العالى على الدّانى واجابته لاقتضاء الدّانى واستدعائه على بشريّته ومداركها اجمالا او تفصيلا صور مناسبة لتلك الحقائق وتلك المدارك وكلمات وحروف كذلك منقوشة على الواح او مسموعة مدركة بآلة السّمع او البصر الخياليّتين او الجسمانيّتين وانّ " الۤمۤ " وكذا سائر فواتح السّور اشارة الى تلك الحقائق ولا يمكن التعبير عمّا يشار بها اليه الاّ بالامثال، وما ورد فى تفسيرها ليس الاّ امثالاً مناسبة لتلك الحقائق موافقة لشاكلة المخاطب سهل عليك معرفة انّ: تحقيق كون جميع الكتب المدوّنة حقّه وباطله صور الكتاب الحقيقىّ الّذى هو حقيقة القرآن قوله تعالى { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } اشارة الى تلك الحقائق وانّ الاتيان باسم الاشارة البعيدة لعظمة تلك الحقائق وبعدها غاية البعد عن ادراك الابصار والبصائر وانّ الحصر المستفاد من تعريف المسند على تقدير كون ذلك الكتاب مبتدأ وخبراً انّما هو باعتبار انّ تلك الحقائق حقيقة الكتاب الّذى كتبه الرّحمن بالاقلام الالٰهيّة على الالواح السّماويّة او الأرضيّة العينيّة وانّ سائر الكتب المدوّنة الالٰهيّة او غير الالٰهيّة صور شؤن ذلك الكتاب ونازلته لكنّ الكتب الحقّة المدوّنة فى العلوم الشّائعة الشّرعيّة وغير الشّرعيّة وفى العلوم الغير الشّائعة من العلوم الغريبة بأنواعها صور شؤن تلك الحقائق الّتى تترائى فى المرآة المستقيمة الصّافية والكتب الغير الحقّة المدوّنة فى العلوم الباطلة الشيطانيّة بأنواعها وفنونها شؤنها المتراءاة فى المرايا المعوّجة الكدرة الّتى لا تترائى الصّور فيها الاّ بخلاف ما هى عليه وتفسير ذلك الكتاب بالقرآن كما ورد عن الامام (ع) انّه قال يعنى القرآن الّذى افتتح بـ " الۤمۤ " هو ذلك الكتاب الّذى أخبرت به موسى (ع) ومن بعده من الانبياء (ع) وهم أخبروا بنى اسرائيل انّى سأنزله عليك يا محمّد (ص) باعتبار انّ القرآن هو الكتاب الجامع لصور جميع شؤن تلك الحقائق، وهذا الخبر يدلّ على جعل ذلك الكتاب خبراً لـ " الۤمۤ " وقد سبق، او خبراً لمحذوف ولم نذكره فى الوجوه السّابقة؛ وتفسيره بمحمّد (ص) او علىّ (ع) باعتبار انّهما متحقّقان بتلك الحقائق، وتفسيره بالرّسالة او النبوّة او الولاية باعتبار ظهور تلك الحقائق بجميع شؤنها او ببعضها فيها وكذلك تفسيره بالصّدر والقلب والرّوح من حيث انتقاشها بصور تلك الحقائق، وما ورد من تفسيره بكتاب علىّ (ع) يمكن ان يراد به مكتوب كتبه علىٌّ (ع) بعلويّته فانّ جملة ما سوى الله مكتوب علويّة علىّ (ع)، وان يراد به كتاب نزل من الله على محمّد (ص) فى علىّ (ع) وخلافته، وان يراد كتاب هو علىّ (ع) على ان يكون الاضافة بيانيّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وروى عن الصّادق (ع) انّ الكتاب علىٌّ (ع) لا شكّ فيه. تحقيق الكتاب ومصاديقه ولفظ الكتاب مصدر يطلق على ما من شأنه ان ينطبع بنفسه كالصّور المنطبعة فى الموادّ او بصورته كالالفاظ المنطبعة بصورها الكتبيّة فى شئ آخر وعلى الصّورة المنطبعة وعلى ما يرتسم فيه الصّور باعتبار ارتسام الصّور فيه فالالفاظ الموضوعة لارتسام صورها فى الصّحائف والصّور المكتوبة والصّحائف المرتسمة فيها الصّور تسمّى كتاباً، والصّور الطبيعيّة والموادّ المنطبعة فيها الصّور تسمّى ايضاً كتاباً، والنّفوس الحيوانيّة والنّفوس الانسانيّة والفلكيّة ومحالّها كتاب، والنّفوس المتعلّقة بالاجساد المثاليّة والاجساد المثاليّة كتاب، والصّور العلميّة الحاصلة فى النّفوس السّفليّة او العلويّة ونفس تلك النّفوس من حيث حصول العلوم فيها كتاب، والرّذائل والخصائل الحاصلة فى النّفوس؛ ونفس تلك النّفوس من حيث حصول الاخلاق فيها كتاب، والعلوم الفائضة على العقول والعقول كتاب، والاسماء الالٰهيّة ولوازمها الظّاهرة فى مقام الواحديّة والفيض المنبسط الّذى هو محلّ ظهور الاسماء والصّفات كتاب، والتعيّنات الامكانيّة والوجودات المتعيّنة بتلك التعيّنات كتاب، كما قيل بالفارسيّة: | **بنزد آنكه جانش درتجلّى است** | | **همه عالم كتاب حق تعالى است** | | --- | --- | --- | وقد كثر اطلاق الكتاب فى الآيات والاخبار على مراتب وجود العالم، وعلى بنى آدم، وعلى الصّدر المستنير بنور الرّسالة، وعلى أحكام الرّسالة، وعلى القلب المستنير بنور النّبوّة، وعلى احكام النّبوّة، وعلى الرّوح المستنير بنور الولاية، وعلى آثار الولاية. تحقيق معنى الكلام والكلام مصدر لم يستعمل فعله لانّ الكلام مجرّداً لم يستعمل فى معنى التكلّم بل استعمل من باب قتل وضرب بمعنى جرح والمستعمل بمعنى التكلّم كلّم من باب التّفعيل وتكلّم من باب التفعّل وكالم من المفاعلة وتكالم من التفاعل، وقيل هو اسم مصدر بمعنى التّكلّم لكنّه فى العرف العامّ صار اسماً للحاصل بالتّكلّم وفى عرف النحاة صار اسماً للمركّب المفيد من الكلمات. الفرق بين الكتاب والكلام والفرق بين الكتاب والكلام بالنّسبة الى ما صدر من المبادئ العالية اعتبارىّ محض فانّ الفيض المقدّس المسمّى بفعل الحقّ تعالى واضافته الاشراقيّة ونفس الرّحمن ومشيئة باعتبار ظهور الصّفات والاسماء ولوازم الاسماء به اذا لوحظ نسبته الى الحقّ الاوّل تعالى وقيامه به قيام الفعل بالفاعل كان كلاماً ومتكلّميّةً له تعالى، واذا لوحظ شيئيّته فى نفسه ومغايرته له تعالى وبينونته منه كان كتاباً له تعالى، وهكذا الحال فى العقول والنّفوس وعالم المثال وعالم الطّبع فانّها بالنّسبة اليه تعالى كلام وكتاب بتوسط المشيئة الّتى هى من الله كنفس الانسان من الانسان، ومن مراتب الممكنات كنفس الانسان من مخارج الحروف ولذا سميّت بنفس الرّحمن، وكلّ مرتبةٍ من مراتب الوجود بالنّسبة الى عاليها كلام وكتاب بالاعتبارين، والانسان بمراتبه العالية نظير المراتب العالية للعالم، وامّا بمقامه البشرىّ فنفسه المتكيّف بكيفيّة الحروف بتوسّط تقطيعه بمخارج الحروف بسبب عدم ظهور استقلاله ونفسيّته كلاميّته ظاهرة وكتابيّته خفيّة، ومكتوبه لظهور بينونته واستقلاله كتابيّته ظاهرة وكلاميّته خفيّة، ونظير هذين عالم الارواح وعالم الطّبع بالنّسبة الى الله تعالى لاختفاء البينونة هناك وظهورها هاهنا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا لنفى الجنس او لنفى الفرد الشّائع على اختلاف القراءتين والرَّيب والرّيبة القلق والاضطراب فى النّفس عن الانقياد لامر معلومٍ او مظنونٍ او مشكوكٍ وتبادر معنى الشكّ واستعماله فيه لكونه فى الاغلب مع الشّكّ، ولانّه اذا كان مع العلم والظّنّ يستعقب الشّكّ كما ورد: **" لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا "** ، والمراد منه هاهنا معناه الحقيقىّ، او الشّكّ والضمير المجرور راجعٌ الى الكتاب او الى " الۤمۤ ". اعلم انّ الكتاب هنا كما مرّت الاشارة اليه عبارة عن الحقائق المشهودة له (ص) حين الانسلاخ عن البشريّة والاتّصال بالعوالم العالية المشار اليها بـ " الۤمۤ " او المأخوذ منها " الۤمۤ " وتفسيره بالقرآن المفتتح بـ " الۤمۤ " وبعلىّ (ع) او بما نزل فى علىّ (ع) يعنى بالولاية وآثارها او بالنّبوّة او الرّسالة وأحكامهما لكون المذكورات نازلة تلك الحقائق وظهورها. تحقيق انّ الانسان ما لم يخرج من اسر نفسه لا يدرك من القرآن الاّ اللّفظ والعبارة والانسان ما لم يخرج من اسر نفسه وهواها ولم يبلغ حدّ التّسليم والاستماع الّذى هو اولى درجات العلم بوجهٍ، وثانيتها بوجهٍ، اوحدّ التّحقيق والغنى عن التّقليد مشار اليهما بقوله تعالى**{ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }** [ق: 37] لا يمكن له ادراك تلك الحقائق ولا ادراك نازلتها وظهورها فلا يمكن له ادراك القرآن ولا النّبوّات والرّسالات والولايات من حيث انّها ظهور تلك الحقائق ونازلتها، بل لا يدرك من القرآن الاّ الصوت والعبارة او النّقش والكتابة ولا يتصوّر من معانيه الاّ ما هو الموافق لشأنه المناسب لمقامه لا ما هو العناوين الالٰهيّة للحقائق العالية كما قال تعالى**{ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ }** [الواقعة: 79] ولا يدرك من خلفاء الله الاّ مقامهم البشرىّ ولا من دعاويهم الاّ ما هو الموافق لادراكاته الشيطانيّة وشؤنها البهيميّة والسبعيّة لا مقاماتهم العالية وأخلاقهم الملكوتيّة وأوصافهم الالٰهيّة ولهذا نسبوا الانبياء الى ما نسبوهم فاللّفظ المسموع من القرآن والنّقش المبصر منه ان كان لفظ القرآن ونقشه بان لا يكون المتكلّم بالقرآن متكلّماً بلسانه ولم يكن الكاتب كاتباً بيده فالشّيطان يخلّيهما من معانيهما ويجعل فيهما معانى اُخر موافقة له حين السّماع والابصار؛ وهذا احد وجوه تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء هم الّذين يقال فيهم: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ } ويسمعونه ويبصرونه { بِأَيْدِيهِمْ } وأسماعهم وأبصارهم { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } وسمعت اذانهم وابصرت عيونهم { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والشّكّ والارتياب من جنود الجهل والنّفس، والعلم والانقياد من جنود العقل والقلب، اذا تمهّد هذا فنقول: من لم يخرج من أسر نفيه لا يدرك الكتاب فى مرتبةٍ من مراتبه، ومن خرج من أسر نفسه لا يقع منه شكٌّ وارتياب فيما أدرك من الكتاب، فالشّاكّون فى الكتاب شكّهم راجعٌ الى مدركاتهم لا الى الكتاب، فما وقع فيه الشّكّ غير الكتاب، وما هو الكتاب لا يقع فيه شكٌّ وريبة، فصحّ نفى جنس الرّيب او جميع افراده من الكتاب من غير حاجةٍ الى ارتكاب تضمينٍ او تقديرٍ او تقييدٍ بمعنى لا ينبغي الرّيب بتضمين الابتغاء او تقديره، او لا ريب للعاقل بالتّقدير، او للمتّقين بتقييده بالظّرف. تحقيق معنى الهداية { ٰ هُدًى } الهدى كالتّقى مصدرٌ بمعنى اراءة الطّريق مصاحبة للايصال اليه او الى المقصود، او غير مصاحبةٍ سواء عدّى الى المفعول الثّانى بنفسه او بالّلام او بلفظ الى، وسواء كانت الهداية من الله او من الخلق، وسواء تعلّقت بنفس الطّريق او بالمقصود، وامّا الهداية من الله اذا تعلّقت بشئٍ اىّ شيئ كان مطلقة عن المهدىّ اليه فالمراد هدايته الى طريق كماله المطلوب منه، والكمال المطلوب من الانسان هو حصول الولاية المطلقة ثمّ النّبوّة المطلقة ثمّ الرّسالة المطلقة، وطريقه الى هذا الكمال هو طريقه من نفسه الانسانيّة الّتى يعبّر عنها بالصّدر منشرحاً بالكفر او بالاسلام، او غير منشرحٍ بشئ منهما الى قلبه ومنه الى روحه وهكذا الى الولاية المطلقة، ولمّا كان هذا الطّريق مختفياً عن الابصار مسدوداً بالتّعيّنات النّفسيّة وكان المرور عليه اختياريّاً والانسان فى بيداء النّفس ضالاًّ فى بدو حاله ظانّاً انّ الكمال المطلوب منه هو الوصول الى المشتهيات النّفسيّة واستكال القوى الحيوانيّة والشّيطانيّة مبغضاً لما سوى مظنونه اقتضت الحكمة البالغة الالٰهيّة والرّحمة التّامّة الرّبوبيّة ان يبعث الى النّوع من ينبّههم عن ضلالهم، وانّ ما وراء مظنونهم هو الكمال المطلوب منهم، وانّ ما ظنّوه كمالاً سمومٌ مهلكةٌ وشبّاك الشّيطان، وانّ فى الوادى سباعاً مترصّدةً ضلالهم مغتنمةً ضياعهم، ويحذّرهم عن الوقوف فيه وعن ترصّد السّباع لهم وعن حبائل الشّيطان حتّى يتنبّهوا ويأخذوا حذرهم ويتأهّبوا للخروج منه ويطلبوا الطّريق ومن يدلّهم عليه؛ حتّى يبعث بعد ذلك عليهم من يرفع موانعهم بالرّفق ويريهم طريق كمالاتهم ويذهب بهم الى غاياتهم، وتلك الاراءة وهذا الاذهاب تسمّى هداية، والرّسول وخليفته لمّا كان كلّ منهما ذا شأنين شأن الرّسالة وبه يقع التّنبيه والانذار المذكوران، وشأن الولاية وبه يقع الاذهاب والاراءة المزبوران كان كلّ منهما بوجهٍ منذراً وبوجهٍ هادياً، وحصر شأن الرّسول فى الانذار فى قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ انّما انت منذر }** ؛ مع انّه امام الكلّ فى الكلّ للاشارة الى شأن الرّسالة وانّ المخاطب هو الرّسول بما هو رسول لا بما هو ولىّ او نبىٌّ، والاّ فهو بولايته صاحب الهداية المطلقة وكلّ الهادين مقتبسون منه، وبنبوّته صاحب الشأنين فالرّسول بما هو رسول منذرٌ والولىّ بما هو ولىّ هادٍ، والنّبىّ صاحب الشأنين والهداية من الله لا تتعلّق الاّ بمن أنذر واتّقى فاذا أخذ هدى هاهنا مطلقاً بحسب اللّفظ او مقيّداً بقوله للمتّقين كان المقصود واحداً. تحقيق معنى التقوى ومراتبها والتّقوى والتّقى والتّقاة مصادر من الوقاية واذا نسبت الى الله او الى سخطه او الى المحرّمات او اطلقت فالمراد منها التحفّظ عمّا ينافى او يضرّ حصول الكمالات او الكمالات الحاصلة الانسانيّة؛ ولها مراتب عديدة بعضها قبل الاسلام، وبعضها بعد الاسلام وقبل الايمان، وبعضها بعد الايمان بمراتبها الى الفناء التامّ الذّاتىّ، فأولُ مراتبها الانزجار عن مساوى النّفس ودواعيها المنافية للعاقلة وهى مقام الاستغفار، وثانيها الانصراف عنها وطلب الخلاص منها بالفرار وهى مقام التّوبة، وثالثُها الرّجوع فى الفرار الى خلفاء الله ووسائله بينه وبين خلقه وهى مقام الانابة؛ وهذه الثّلاثة مقدّمة على الاسلام واليها اشار تعالى بقوله حكاية عن قول بعض أنبيائه مع أممهم:**{ وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ }** [هود: 52]؛ وتقييد التّوبة بقوله " اليه " اشارة الى المرتبة الثالثة، واذا اسلم الانسان على يد نبىٍّ (ص) او خليفته (ع) وقبل منه احكامه القلبيَّة من أوامره ونواهيه حصل له مرتبة رابعة من التّقوى الّتى هى التحفّظ عن مخالفة قوله بامتثال اوامره ونواهيه، والخامسة الانزجار عن الوقوف على ظاهر الاوامر وطلب بواطنها وروحها وطلب من يدلّه على بواطنها، وهاتان بعد الاسلام وقبل الايمان؛ وهذه التّقوى هى تقوى العوامّ وتنقسم بوجهٍ الى تقوى العوامّ من الحرام، وتقوى الخواصّ من الشبهات، وتقوى الاخصّ من المباح، واذا وجد الطالب من يدلّه على روح الاعمال وتاب على يده توبة خاصّة وآمن بالبيعة الخاصّة الولايّة واستبصر بباطنه وبرذائله وخصائله حصل له مرتبة أخرى من التّقوى وهى التّحفّظ من الرّذائل باستكمال الخصائل، واذا تطهّر قلبه من الرّذائل وتحلّى بالخصائل تمثّل امامه ودخل بيت قلبه وحينئذٍ يشاهد فى وجوده فاعلاً الٰهيًّا وفاعلاً شيطانيّاً فيظنّ انّ فى الوجود الاهين فيقع فى ورطة الاشراك والثّنويّة ويرى وجوداً لنفسه ووجوداً لشيخه داخلاً فى مملكته فيظنّ انّه حالّ فى وجوده فيقع فى ورطة الحلول، او يرى وجوداً واحداً هو ذاته وامامه فيقع فى ورطة الاتّحاد، وان ساعده التّوفيق واتّقى نسبة الافعال الى الشّيطان ورأى الفعل مطلقاً من الرّحمن فى المظهر الالهىّ او الشّيطانىّ وحصّل ووجد معنى لا حول ولا قوّة الاّ بالله والتذّ به حصل له مرتبة أخرى من التّقوى هى التحفّظ من نسبة الافعال الى غير الله والخروج من الاشراك الفعلىّ الى التّوحيد الفعلىّ، واذا تفطّن بانّ الاوصاف الوجوديّة كالافعال نسبتها الى الله بالصّدور والوجوب والى غيره تعالى بالظّهور والقبول؛ وانّ الكلّ مظاهر اوصاف الله وحصّل ووجد معنى الحمد لله والتّذ به حصل له مرتبة أخرى من التّقوى هى التحفّظ عن رؤية نسبة الاوصاف الى غيره تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | بيان سرّ ظهور بعض الشطحات من السّلاك وفي هذه المرتبة قد يتجلّى الله على المؤمن بصفة الواحديّة فلا يرى لشيئٍ ذاتاً ولا صفة مع بقاء انانيّةٍ ما لنفسه فيقع فى ورطة الوحدة الممنوعة، ويظنّ انّ الوجود واحد والموجود واحد وبعد الافاقة يعتقد ذلك ويتفوّه به ويقع فى الاباحة والالحاد لو لم يكن له شيخ او لم يرجع الى شيخه ولا يعدّ الرّسل وشرائعهم حينئذٍ فى شيئٍ بل يستهزء بهم وبها، وقد يتجلّى بصفة الصّمديّة عليه فيظهر الانانيّة منه والاستغناء من كلّ شيئ حتّى من الله وهكذا، ففى هذه المرتبة من التّقوى والمرتبة السّابقة ورطات مهلكة وعقبات موبقة ان لم يكن المؤمن فى تربية شيخ او لم يرجع اليه واستغنى منه أعاذنا الله وجميع المؤمنين منها وفى هاتين المرتبتين يظهر جميع ما يظهر من السّلاك من الشطحات الممنوعة؛ واكثر الغالين نشأ غلوّهم من هاتين المرتبتين، واكثر المتشيّخة المغرورين من هاتين استدرجوا وهلكوا من حيث ظنّوا انّهم وصلوا واستغنوا عن الشيخ المكمّل والحال انّهم فى هذه الاحوال أشدّ احتياجاً منهم الى الشيخ فى غير هذه الاحوال، وبالجملة مهالك مراتب التّوحيد الفعلىّ والوصفىّ الى الخروج الى التّوحيد الذّاتىّ اكثر من ان يحيط بها البيان او يحصيها تحرير الاقلام، واذا تفطّن بأنّ المتحقّق بالذّات هو الحقّ الاوّل تعالى شأنه وانّ سائر مراتب الوجود اعتبارات محضّة وتعيّنات اعتباريّة ناشئة من مراتب سعة تلك الحقيقة وانقلب بصره فلا يرى فى دار الوجود الاّ الوجود الحقّ المنزّه عن كلّ تعيّن واعتبار وحصّل ووجد معنى لا الٰه الاّ الله بل معنى لا هو الاّ هو، والتّذ به حصّل له مرتبة أخرى من التّقوى وهى آخر مراتب التّقوى فانّه لا يبقى للسّالك بعد هذه عينٌ ولا اثر حتّى يتصوّر له فعل ووصف وتقوى، فان ادركته العناية الالهيّة بموهبة البقاء بعد الفناء والصّحو بعد المحو وشهود الحقّ فى الخلق والتّشبّه بالرّحمن باعطاء الله له فضيلة الاحسان لتكميل العباد وتكثير جنوده عوضاً لما اقرض الله من الجنود والاعوان فى جهاد الاعداء فى سبيله تمّ له السّلوك وصار نبيّاً او خليفته، ولمّا لم يكن مراتب التّقوى الّتى قبل الاسلام من مراتب حقيقة التّقوى لانّ الانسان ما لم يدخل فى دين الاسلام ولم يتعلّم ما يضرّه فى تحصيل كما له من عالم وقته لا يدرى اىّ شيئ يضرّه حتّى يتّقى منه، ولمّا كان المراتب الباقية منقسمة الى ثلاثة اقسام؛ التّقوى الّتى بعد الاسلام وقبل الايمان، والّتى بعد الايمان وقبل التّقوى عن نسبة الصّفات الى غير الله تعالى، والتّقوى عن رؤية صفة وذات غيره تعالى اسقط التّقوى الّتى قبل الاسلام وذكر الاقسام الثلاثة الباقية فى قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } تحقيق قوله تعالى { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }** [المائدة: 93] اى اسلموا فانّ المراد بالايمان هنا الايمان العامّ الّذى هو الاسلام كما سيجيئ تحقيقه وتفصيله، ولم يقل { ليس على الّذين اتّقوا وآمنوا } للاشارة الى انّ الّتى قبل هذا الايمان ليست من التّقوى { وعملوا الصالحات } والمراد بعمل الصالحات العمل بالاحكام الشّرعيّة القالبيّة جناحٌ فيما طعموا { اذا ما اتّقوا } اى اتّقوا بالتّقوى الّتى بعد الاسلام وقبل الايمان وآمنوا بالايمان الخاصّ الّذى يحصل بالبيعة الخاصّة الولاية ويدخل به بذر الايمان فى القلب وبه يتمسّك بالعروة الوثقى الّتى هى حبل من النّاس مضافاً الى التمسّك بالعروة التّكوينيّة الّتى هى حبل من الله { وعملوا الصالحات } الّتى هى اعمالهم القلبيّة مضافة الى اعمالهم القالبيّة { ثم اتّقوا } بمراتب التّقوى الّتى بعد الايمان وقبل التّقوى عن نسبة الصّفات الى غير الله { وآمنوا } شهوداً اى أيقنوا عين اليقين بانّ الافعال كلّها منه جارية على مظاهره اللّطفية والقهريّة ولم يقل وعملوا الصّالحات لما ذكر من انّ هذه التقوى تطهير عن الرّذائل وتحفّظ عن نسبة الافعال الى غير الله فلا يرون فعلاً لانفسهم حتّى ينسب الاعمال اليهم لكن بقى بعدُ نسبة الصّفات الى الذّوات الامكانية ونفس الذّوات الامكانيّة فى انظارهم { ثم اتّقوا } عن نسبة الصّفات الى غيره تعالى وعن رؤية الذّوات الامكانيّة فى جنب ذاته حتّى عن رؤية ذواتهم وعن رؤية اتّقائهم ويعبّر عن الاتّقاء عن رؤية التّقوى بفناء الفناء فلا يبقى حينئذٍ عنهم فعل ولا صفة ولا ذات فلا يبقى ايمان ولا عمل لهم ولذا لم يأت بهما بعد هذه التّقوى وقال { احسنوا } اشارة الى البقاء بعد الفناء فانّ الباقى بعد الفناء فعله على الاطلاق احسان لا غير، وفى الخبر: المتّقون شيعتنا؛ والمراد بالتّقوى فى الخبر التّقوى عمّا يخرج من الطّريق الانسانىّ او ينافى السّلوك عليه، وغير المؤمن بالايمان الخاصّ لمّا لم يكن على الطّريق لا يتصوّر له تقوى بهذا المعنى ولمّا لم يكن لغير الشيعة بهذا المعنى تقوىً صح حصر المتّقى فى الشيعة. ونعم ما قيل: | **هرجه كَيرد علّتى علّت شود** | | **كفر كَيرد سلّتى ملّت شود** | | --- | --- | --- | تحقيق الايمان ومراتبه { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } الايمان لغة التّصديق والاذعان واعطاء الامان وانفاذ الامان وجعله آمناً من الخوف والايتمان، وشرعاً يطلق على البيعة الاسلاميّة وقبول الدّعوة الظاهرة وعلى ما بعد التّوبة من اجزاء البيعة وعلى الحالة الحاصلة بالبيعة العامّة من كون البائع مقرّاً بالاصول الاسلاميّة قابلاً للفروع وعلى الحالة الشبيهة بالحالة الحاصلة بالبيعة الاسلاميّة من كون الانسان مقرّاً وقابلاً كالبايع حين عدم الوصول الى البيعة، ويطلق على ارادة البيعة والاشراف عليها وهذه بعينها معانى الاسلام الّذى هو مقابل الايمان الحقيقىّ ومقدّمته، ويطلق على البيعة الخاصّة الايمانيّة وقبول الدّعوة الباطنة، وعلى ما بعد التوبة من اجزاء البيعة وعلى الحالة الحاصلة بالبيعة الخاصّة الولويّة من كون البائع مقرّاً بالتّوحيد والرّسالة والولاية وقابلاً للاحكام القلبيّة مضافة الى الاحكام القالبيّة، وعلى الحالة الشبيهة بالحالة المزبورة من الاقرار والقبول المذكورين من دون بيعة حين عدم الوصول الى البيعة، ويشبه ان يكون اطلاقه على معانى الاسلام مجازاً لسلبه عنها فى قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا }** [الحجرات: 14]؛ من حيث انّهم بايعوا البيعة العامّة الاسلاميّة قل لهم يا محمّد لم تؤمنوا حتّى تنبّههم على انّ الايمان امر آخر يقتضى بيعة أخرى فلم يقفوا على ظاهر الاسلام وحتّى يطلبوا ويجدوا من يدلّهم على الايمان ولكن قولوا اسلمنا لانّ البيعة العامّة والاقرار بالاصول الاسلاميّة وقبول الاحكام القالبيّة ان كانت موافقة لما فى القلب كانت اسلاماً وان لم تكن موافقة للقلب لم تكن اسلاماً ايضاً ولذا قال { قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } ولم يقل ولكن اسلمتم، { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ } اى البذر الّذى يدخل بسبب البيعة الايمانيّة فى القلوب { فِي قُلُوبِكُمْ } وما لم يدخل فى قلب الانسان بذر الايمان الّذى بسببه يصدق اسم الايمان وان لم يكن الموصوف باسم الايمان متّصفاً بحقيقته الّتى هى شأن من حقيقة الانسان لم يصدق عليه أنّه مؤمن، { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بالوفاء بالعهد الّذى أخذه رسوله (ص) فى البيعة الاسلاميّة وامتثال اوامره ونواهيه بظاهرهما لا يلتكم من اعمالكم شيئاً وهذا يدلّ على كفاية البيعة العامّة فى النّجاة ان كان البايع صادقا فى بيعته، وعلى انّ من مات فى زمان الرّسول على البيعة العامّة كان مغفوراً لا محالة، وفى قوله تعالى**{ يمنّون عليك ان اسلموا قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ }** [الحجرات:17] تصريح بانّ المسمّى بالاسلام غير الايمان وانّ الاسلام مقدّمة للايمان وبه يرى طريق الايمان وفى الاخبار تصريحات بمغايرة الاسلام للايمان وانّ الاسلام قبل الايمان وانّ الثواب على الايمان، والاسلام لا يفيد الاّ حفظ الدّماء وجواز المناكحة وصحّة التّوارث، والايمان بمعناه الشّرعىّ يناسب كّلاً من معانيه اللّغويّة والمراد به هاهنا ان كان الظّرف صلة له معنى التّصديق او الاذعان وفيما روى عن مولانا الصّادق (ع) انّ المراد بالغيب هنا ثلاثة اشياء يوم قيام القائم (ع) ويوم الكرّة ويوم القيامة من آمن بها فقد آمن بالغيب وهذا بعينه هو معنى قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ }** [إبراهيم: 5] دلالة على كونه صلة ليؤمنون، وان كان مستقرّاً حالاً من الفاعل والمعنى الّذين يؤمنون حال كونهم فى الغياب من الله او الآخرة او متلبّساً بالغيب يمكن ان يراد معناه الشّرعىّ او كلّ واحد من معانيه اللّغويّة سوى اعطاء الامان وانفاذ الامان. تحقيق الصّلاة ومراتبها { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } اعلم انّ الانسان كما مرّ ذو مراتب كثيرة وادنى مراتبه مرتبة القالب الجسمانىّ وبعدها مرتبة نفسه الّتى يعبّر عنها بالصّدر وبالقلب ايضاً وبعدها مرتبة قلبه الّتى هى بين النّفس والرّوح، وبعدها مراتب الاخر، وفى كلّ مرتبةٍ له صلاة وصلاته القالبيّة فى الشّريعة المحمديّة (ص) الافعال والاذكار والهيئات المخصوصة المعلومة لكلّ من دخل فى هذا الدّين بالضّرورة وصلاة قلبه الّذى هو صدره الذّكر المخصوص المأخوذ من صاحب الاجازة، والفكر المخصوص المأخوذ من قوّة الذّكر او من تعمّل المفكّرة، والمراد بالفكر ما هو مصطلح الصوفيّة زمن التّوجّه الى الامام كما ورد وقت تكبيرة الاحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحداً من الائمّة نصب عينيك وصلاة القلب الّذى هو بين النّفس والرّوح مشاهدة معانى اذكار الصّلاة ومشاهدة الاحوال والشؤن المشار اليها بأطوار الصّلاة وصلاة الرّوح معاينة هذه وهكذا، ومعنى اقامة الصّلاة جعل صلاة القالب متّصلة بصلاة الصدر وصلاة الصّدر متّصلة بصلاة القلب، وهكذا سواء كان الاقامة بمعنى الاقامة عن اعوجاج او عن قعود، او بمعنى اقامة حدود الصّلاة فانّ اعظم حدودهما حدودها الطّوليّة فانّها بالنّسبة الى الحدود العرضيّة كالرّوح بالنسبة الى القالب فصلاة القالب كقالب الانسان والصّلاة الذّكريّة القلبيّة الجسمانيّة كالرّوح البخار من الانسان الّذى هو مركب القوى والمدارك الحيوانيّة، والصّلوة الفكريّة الصدريّة كالبدن المثالىّ من الانسان، والصّلاة القلبية الرّوحانيّة كروح الانسان، فكما انّ الانسان بدون المراتب الباطنة ميتة عفنة تؤذى قرينها كذلك الصّلاة القالبيّة بدون مراتبها الباطنة جيفة عفنة مؤذية؛ وقد ورد **" ربّ مصلٍّ والصّلاة تلعنه ".** تحقيق استمرار الصّلاة والزّكاة للانسان تكويناً واعلم ايضاً انّ الانسان خلق ذا قوّة وفعليّة من اوّل خلقة مادّته الى مرتبته الاخيرة الّتى هى بالفعل من كلّ جهة وليس فيها قوّة فالنّطفة لها فعليّة النّطفة وقوّة العلقة قريبة وقوّة المضغة والجنين والطّفل الانسانى وهكذا بعيدة، وما لم ينقص من فعليّة النّطفة شيئٌ لم يحصل من فعليّة العلقة شيئ ويحصل بالاتّصال والاستمرار فعليّة العلقة بقدر نقصان فعليّة النّطفة الى ان صار العلقة بالفعل من جهة كونها علقة ثمّ يصير فعليّة العلقة فى النقصان وفعليّة المضغة فى الحصول والازدياد وهكذا جميع المراتب فانّ فعليّة كلّ مرتبة موقوفة على نقصان سابقتها او فنائها، وهذا النقصان والفناء زكاة الانسان تكويناً، وذلك الحصول والازدياد صلاته تكويناً لانّ الزّكاة اعطاء فضول المال وتطهير باقيه، وهذا ايضاً كذلك والصّلاة جلب الرّحمة وطلبها والازدياد المذكور جلب للرّحمة الّتى هى كمالات الانسان واستجماعٌ لها، ولمّا كان التّكليف موافقاً للتّكوين وحسن الاعمال الاختياريّة بكونها مطابقة للافعال التّكوينيّة لم يبعث نبىّ قط الاّ بتشريع الصّلاة والزّكاة وجعلهما اصلاً وعماداً لتمام الاعمال الشّرعيّة الفرعيّة لكن وضعهما وصورتهما فى الشّرائع مختلفة غير متوافقة، وتقديم الصّلاة فى هذه الآية وفى سائر الآيات على الزّكاة امّا لتقدّمها طبعاً لانّ اسقاط ما فى اليد موقوف على وجدان غيره او طلب الافضل منه والصّلوة كما علمت وجدان او طلب للكمال المفقود بعد الاتّصاف بكمال موجود، فما لم يطلب الانسان كمالاً آخر لا يترك كمالاً حاصلاً وقيل بالفارسيّة: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **تا نبيند كود كى كه سيب هست** | | **او بياز كَنده را ندهد زدست** | | --- | --- | --- | او لانّ الصّلاة اشرف والاهتمام بها اتمّ لانّها طلب ووجدان، والزّكاة ترك وفقدان. { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } انفق من باب الافعال من نفق ماله اى نفد لكن خصّص بانفاق المال فيما ينتفع به وتقديم الظّرف للاهتمام ومراعاة رؤس الاى وللحصر كأنّه اراد ان يشير الى انّ الاموال قد تحصل بامرنا ومن الوجه الّذى قرّرناه لتحصيلها، وقد تحصل بأمر الشّيطان ومن الوجه الّذى نهينا عنه، وقد تحصل بشركة الشّيطان، وكذا العلوم والقوى والشّؤن والنّيّات والخيالات المتولّدة فى عالم الانسان وانّ المؤمن لا يوجد فى ملكه الاّ ما رزقناه لانّه لو أراد الشّيطان ان يداخله فى تحصيل ما له تذكّر فاذا هو يبصر ويتّقى فلا ينفق الاّ ما رزقناه، ولهذا الوجه عدل عن قوله يؤتون الزّكاة وكأنّك تفطّنت ممّا اسلفنا بتعميم ما رزقهم الله وتعميم الانفاق فانّ الانفاق الاختيارىّ للانسان من اوّل بلوغه بل من اوّل زمان تمرينه الى آخر مقام الاطلاق والخروج من التعيّنات، وروى عن الصّادق (ع) انّ معناه وممّا علّمناهم يبثّون، وهذا بيان لاحد وجوه المرزوق والانفاق بحسب اقتضاء المقام، وادخال من التبعيضيّة للاشعار الى التوسّط فى الانفاق وانّه لا ينبغى انفاق الجميع كما لا ينبغى التّقتير وعدم الانفاق. { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } ان كانت الباء للسّببيّة صحّ ارادة كلّ من المعانى الشّرعية واللّغويّة من الايمان وان كانت صلة للايمان فمعناه التّصديق او الاذعان والمراد بما انزل اليه جملة ما نزل اليه من القرآن والاحكام، او خصوص ما نزل فى ولاية علىّ (ع) من القرآن، او خصوص ما نزل من حقيقة الولاية على قلبه؛ هذا اذا كان ما موصولة او موصوفة، واذا كانت مصدريّة فالمعنى الايمان بنفس الوحى وانزال الكتاب من دون اعتبار المنزل. { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } من الشّرايع والكتب او من التنصيص على ولاية الاوصياء او من الولايات النّازلة على الانبياء من علويّة علىّ (ع) هذا ان كان ما انزل من قبلك معطوفاً على ما انزل اليك، وان كان جملة حاليّة ولفظة ما نافية او استفهاميّة فالمعنى وما أنزل، ما أنزل اليك من الشّرايع والقرآن او الولاية من قبلك، او اىّ شيئ أنزل من قبلك على معنى الانكار اى ليس ما أنزل اليهم بشيئ فى جنب ما أنزل اليك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- | { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الايقان اتقان العلم بحيث لا يعتريه شكّ وارتياب ولا يشوبه تقليد واعتياد والحصر المستفاد من تقديم الضّمير سواء كان مسنداً اليه او للفصل اشعار بانّ الايقان الّذى هو من صفات العقلاء مختصّ بهؤلاء الموصوفين بما ذكر دون غيرهم فانّهم أصحاب النّفوس الّتى ليس من شأنها الاّ الظّنّ والشّكّ والرّيبة، وعلومهم ان كانت برهانيّة فهى ظنونٌ ولا يخلو من شوب ريبة وتقليد وعادة، وتقديم الظّرف على تقدير كونه معمولاً ليوقنون لا على تقدير جعله عطفاً على بما أنزل لمراعاة رؤس الاٰى وللحصر مشاراً به الى انّ هؤلاء الموصوفين بالاوصاف السّابقة المختصّ بهم اليقين ليس علمهم وايقانهم الاّ متعلّقاً بالآخرة لانّهم جعلوا الآخرة نصب أعينهم وغاية هممهم فلا يلتفتون الى غيرها حتّى يتعلّق يقينهم به بخلاف غيرهم فانّهم جعلوا الدّنيا نصب أعينهم ونبذوا الآخرة وراء ظهورهم فلا تعلّق لعلمهم النّفسانىّ بالآخرة لانّ علومهم مقصورة على الدّنيا وعلى ما يلزم العيشَ فيها فتكون نفسانيّة غير ايقانيّة يعلمون ظاهراً من الحياة الدّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ذلك مبلغهم من العلم؛ وقد قيل بالفارسيّة: | **اندر اين سوراخ بنّائى كَرفت** | | **در خور سوراخ دانائى كَرفت** | | --- | --- | --- | | **جون بى دانش نه بهرروشنى است** | | **همجو طالب علم دنياى دنيست** | | **طالب علم است بهرعام وخاص** | | **نى كه تايابد ازاين عالم خلاص** | | **همجو موشى هرطرف سوراخ كرد** | | **جونكه نورش راند ازدركَشت سرد** | والآخرة تأنيث الآخر كان فى الاصل وصفاً والتّأنيث باعتبار الموصوف الّذى هى الدّار ثم غلب عليه الاسميّة، واطلاق الآخرة على عالم الغيب باعتبار انّها للانسان بعد الدّار الدّنيا ومتأخّرة عنها، فان كان المراد بالغيب المبدء والعوالم العالية فى سلسلة النّزول؛ وبالآخرة العوالم المتأخّرة فى سلسلة الصّعود يعنى المعاد فالكلام تأسيس، وان كان المراد بالغيب مطلق العوالم العالية مبدءً ومعاداً فالكلام مبتنٍ على ذكر الخاصّ بعد العامّ وكان الكلام باعتبار ذكر الايقان بعد الاسمان تأسيساً ايضاً. { أُوْلَـٰئِكَ } العظماء المذكورون بالاوصاف العظام { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } بحيث انّهم حاكمون على وصف الهدى لا أنّهم محكومون به فالاتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضار المسند اليه بأوصافه المذكورة ليكون كالعلّة للحكم وللاشارة الى بُعد مرتبتهم لعظمتهم، وان كان { ٱلَّذِينَ } الاولى او الثّانية مبتدأ فتكرير المبتدأ باسم الاشارة يفيد الحصر، وان كانتا تابعتين للمتّقين فكون الجملة جواباً لسؤالٍ ناشئٍ عن المقام يقتضى الحصر فانّه بعد ذكر المتّقين وكون الكتاب هادياً لهم وذكر اوصافهم الجميلة صار المقام مقام ان يقال: ما لهم من الله، وبما امتازوا من غيرهم فقال: اولئك امتازوا عن غيرهم بكونهم على هدىً اهدى اليهم من ربّهم دون غيرهم، والحصر فى القرين الثّانى قرينة للحصر هاهنا. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } تكرار المبتدأ للاشارة الى امتيازهم بكلّ من الصّفتين على حيالهما لا بجمعهم بينهما، وتوسيط العاطف للاشارة الى انّ كّلاً من الوصفين غير الآخر، ولو اتى بالجملة الثّانية مجرّدة عن العاطف لتوهّم انّ الثّانية تأكيد للاولى وانّ الوصفين متّحدان او متلازمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ الَّذِين } نعت للمتقين مقيد له، أعنى لمنعوته الذى هو بعض المتقين، إن فسرنا التقوى بترك ما لا ينبغى مترتبة عليه ترتب التحلية بالحاء المهملة، وهو التزيين بالأشياء الجميلة على التحلية، وهى التجريد من الأوساخ والأصداء، وترتب النفس فى الشئ على تصقيله، أو نعت للمتقين موضح له، إن فسرنا التقوى بما يعم فعل الطاعة وترك المعصية، لاشتمال التقوى على الإيمان والصلاة والزكاة، وهن أصل الأعمال والحسنات وأعمال القلب والبدن والمال، وعليهن يترتب سائر الطاعات وتجنب المعاصى غالباً، قال الله تبارك وتعالى**{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }** وقال صلى الله عليه وسلم **" الصلاة عماد الدين "** قال **" والزكاة قنطرة الإسلام "** أخرج البيهقى فى شعب الإيمان مرفوعاً بسند منقطع **" الصلاة عماد الدين "** ، وأخرج أبونعيم شيخ البخارى عن بلال بن يحيى مرفوعاً **" الصلاة عماد عمود الدين "** وهو مرسل، وقال إن رجاله ثقاة، وأخرج الطبرانى فى الكبير، والبيهقى فى شعبه مرفوعاً بسند ضعيف **" الزكاة قنطرة الإسلام "** وأخرج عمروس ابن فتح رحمه الله عن على عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فى خطبته **" ألا إنه لا صلاة لمانع الزكاة، لا صلاة لمانع الزكاة، والمتعدى فيها كمانعها "** وروى الربيع عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال **" لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة ولا ضوء له، ولا صلاة ولا وضوء لمن لا صوم له، ولا صوم له إلا بالكف عن محارم الله ".** أو الذين نعت للمتقين على طريق المدح، فهو التقوى صلته مدح لما تضمنه بعض المتقين من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق مما رزقهم الله، وإنما يجعل الإنفاق الذى هو غير زكاة مما تضمنه بواسطة باعتبار أنها للمحاذرة عن النار بكل ما أمكن، ولأن التقوى تستتبع الأعمال الصالحة، ولك أن تقول التقوى الإيمان بالغيب، وتضمنت الصلاة والزكاة ونحوهما من الواجبات فقط، وخص ذلك بالذكر إظهاراً لتفضيلها على سائر ما يدخل تحت التقوى، أو الذين مفعول لأمدح أو لأعنى، أو خبر لمحذوف، أى هم الذين، ويجوز أن يكون الذين مبتدأ خبره**{ أولئك على هدى من ربهم }** وإذا جعلناه نعتاً للمتقين، فالوقف على المتقين حسن، وكذا باقى الأوجه، إلا إذا جعلناه مبتدأ فالوقف على المتقين كاف، لأنه لو فصل عنه لفظاً فقد وصل به معنى، قاله السعد، وقال القاضى تام، والأرجح أن يكون نعتاً للمتقين، كأنه قيل المتقين المتصفين بأنهم { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب } الإيمان فى اللغة التصديق، والماضى أمن بهمزة فألف فميم مفتوحة، فالهمزة للتعدية، والألف بدل من الهمزة التى هى فاء الفعل الثلاثى، بوزن أفعل كأكرم، لأن مصدره إفعال بكسر الهمزة لا بوزن فاعل بفتح العين، إذ لم يكن مصدره فعالا بالكسر كان المصدق بكسر الدال صير المصدق بفتحها أمناً من أن يكذبه أو يخالفه، فالأصل أن يقول آمنت الغيب وآمنت النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، أى صيرتهما آمنين من أن أكذبهما أو أخالفهما، بالتعدية بالهمزة المزيدة، ولكن عدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف بالقلب واللسان، أو بالقلب، أو باللسان دون القلب، فى حالة الكذب، ولو كان المشهور عندنا معشر الإباضية الوهبية أنه لا يدخل الإنسان فى التوحيد إلا باعتقاد وإقرار باللسان جميعاً، وقد يطلق بمعنى الوثوق، فالهمزة للصيرورة نحو أمنت زيداً أى صيرته ذا أمن من أن يكذبنى، يقول ناوى السفر ما آمنت أن أحد صحابة، أى ما أثق أن أظفر بمن أرافقه، وذلك إما على تضمين آمنت بالشىء بمعنى استوثقت، واطمأن قلبى إلى وجوده وصحته، وإما على أن الواثق صار ذا أمن به لم يدخله ريب من جانبه، وتلك الوجوه كلها حسنة فى الآية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن قلت كيف يصح أن يقال صيرت الغيب آمناً، من أن أكذبه، وإنما الأمن يكمن فيمن يمكن منه الخوف؟ قلت يصح ذلك مجازاً شبه التكذيب به بمنازعة إنسان ومعاداته بجانب المباعدة فى كل، أو لمنافرة المستلزم ذلك لخوفه، وإن قلت الإيمان التصديق حقيقة والاعتراف مجازاً، فإذا عدى بالباء علمنا أنه ضمن معنى الاعتراف، فيلزم اجتماع الحقيقة والمجاز، قلت المشهور منعه، وأجازه الشافعى وغيره، مع أنه لا يتعين ذلك، لجواز أن نقول إنه مستعمل فى حقيقته دالا على محذوف مؤدى للمعنى المجاز، أى مصدقين حال كونهم معترفين بالغيب، كما يقال أحمد الله إليك، أى أحمده منهياً حمده إليك، فإن حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقى مع معنى آخر يناسبه، من غير أن يقال إنه موضوع لهذا المعنى الآخر على ما يفيده كلام السعد، بل يشير الفعل إلى ذلك المعنى، بواسطة دلالة المقام على تقدير ما يؤدى ذلك المعنى، ولك أن تقول حقيقة التضمين استعماله فى ذلك المعنى الآخر مجازاً، مع تلويح إلى المعنى الأصلى بواسطة التزام أو نحوه، هذا ما سمح به خاطرى ولى فى ذلك أبحاث. والإيمان فى الشرع تارة يطلق على التصديق، بما علم بالضرورة أنه من دين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كنفى الشركة عن الله سبحانه وتعالى، وإثبات النبوة والرسالة والبعث والجزاء. ومعنى كون ذلك معلوماً بالضرورة أنه مشهور، حتى كأنه أمر ضرورى لا يحتاج إلى كسب، ثم ما لوحظ إجمالا كالملائكة والكتب والرسل، كنفى الإيمان به إجمالا، وما لوحظ تفصيلا كجبريل وموسى والإنجيل، اشترط الإيمان به تفصيلا، حتى إن من لم يصدق بمعين من ذلك فهو مشرك، كذا ذكر بعض الشافعية وهو حق كما نقول معشر الإباضية الوهبية، إلا أن جمهورنا يوجب معرفة جبريل وآدم، ولا يمهل المكلف إلى ورود معرفتهما عليه، كما لا نمهله نحن ولا قومنا فى معرفة النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، ولا يشرك الإنسان بإنكار نبى لم يتواة، وتارة يطلق على مجموع الاعتقاد والإقرار أو العمل بمقتضى ذلك فمن أخل بالاعتقاد وحده و به وبالعمل فهو مشرك، من حيث الإنكار منافق أيضاً، من حيث إنه أظهر ما ليس في قلبه، ومن أخذ بالإقرار وحده، أو بالإقرار والعمل، فهو مشرك عند جمهورنا وجمهور قومنا، وقال القليل إنه إذا أخل بالإقرار وحده مسلم عند الله من أهل الجنة، وإن أخل به وبالعمل ففاسق كافر كفر نعمة، ونريد باسم آخر له وهو لفظ منافق، وإن أخل بالعمل فقط فمنافق عندنا فاسق ضال كافر كفراً دون شرك، غير مؤمن الإيمان التام، وقالت المعتزلة خارج عن الإيمان غير داخل فى اسم الكفر، سواء كفر الشرك وما دونه، وروى الإيمان إقرار باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، وقيل هو كلام من بعض السلف، واختلفوا - الخوارج - وهم الذين خرجوا عن ضلالة على، فقالت الإباضية الوهبية وسائر الإباضية فيمن أخل بواحد من الثلاثة ما تقدم من إشراكه بترك الاعتقاد أو بترك الإقرار، وينافق بترك العمل، ويثبتون الصغيرة، وقال الباقون كذلك وأنه لا صغيرة، ومذهب المحدثين أن انضمام العمل والإقرار إلى الاعتقاد على التكميل لا على أنه ركن، ونحن نقول انضمامهما إليه ركن وهما جزء ماهيته، وقيل شرط خارج عن الماهية لا ينتفع به بدونهما، وأن ماهيته هى التصديق بالقلب فقط، وأما الإقرار فلإشهار دين الله - تبارك وتعالى - وتعظيمه والدعاء إليه، ونفى أحكام المشركين عن نفسه، وأما العمل فلوجوب الصدق، فمن لم يعمل فقد كذب اعتقاده، وإقراره إن أقر وخرج عن عبادته من أقر له واعترف له، واعتقد أنه عبده، وعلى كلا القولين من أن الإقرار والعمل شرطان، أو شطران لماهية الإيمان يكفى إقراره وعمله فى خلوة عن حضور أحدى، وزعمت الكرامية أن الإيمان هو التلفظ بالشهادتين، سواء طابقه الاعتقاد أم لا، فإن طابقه نجا ولو لم يعمل، وإلا فهو مخلد فى الناس من غير أن يسموه مشركاً، فعندهم التلفظ ينفى اسم الشرك باطناً كما ينفيه ظاهراً، ولا ينفى حكمه وهو الجزاء بالنار إن لم يطابقه الاعتقاد، ويبطل قولهم ما وردت به لغة العرب والقرآن والسنة أن الإيمان تصديق بالقلب وإذعانه، وقال أبو حنيفة وبعض الأشاعرة الإيمان تصديق بالحنان وإقرار باللسان، لأن التصديق لما اعتبر بكل من اللسان والحنان، كان كلا منهما جزءاً من ماهية الإيمان، ولكن تصديق القلب ركن لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط لنحو خرس أو إكراه، وهو موافق لما نقوله معشر الإباضية الوهبية، غير أنا نقول إن العمل جزء من ماهية الإيمان، لكن لا يخفى أنه جزء من ماهية الإيمان التام لا من مطلق الإيمان، بدليل انه لا نحكم بالشرك على من ترك العمل، قال الإيمان باق فيمن ترك العمل، ولكنه لا ينفيه، فمطلق الإيمان تركت ماهيته عندنا بالاعتقاد والإقرار فقط، ورجح بأن الله - جل وعلا - ذم المعاند أكثر من الجاهل المقصر، ويجاب بأن الذم للإنكار والعناد لا لمجرد عدم الإقرار، وقيل الاعتقاد فقط، وأما الإقرار فلما مر من إشهار الدين والدعاء إليه ونفى أحكام الشرك ونحو ذلك، وللعبادة والثواب والتوكيد، ويدل له إضافة الإيمان إلى القلب مثل | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وقلبه مطمئن بالإيمان }** ولم يؤمن قلبه،**{ ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم }** وعطف العمل الصالح عليه فى مواضع لا تحصى، ونطق اللسان من العمل الصالح وقرنه بالمعاصى كالاقتتال والقتل والظلم فى نحو**{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا }** **{ كتب عليكم القصاص فى القتلى }** **{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }** مع ما فى ذلك من قلة التغير عن معناه اللغوى، ومن قربه إليه وبدل لذلك تعديه بالباء، فإنه يتبادر منه التصديق، وبدله له إنا إذا رأينا من أحد أمارة المؤمنين حكمنا بإيمانه، وأزلنا عنه حكم الشرك، وكذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلم أن الإيمان فى القلب، وأنه بأى علامة كشف عنه حكمنا به، سواء كشف عنه اللسان أو غير اللسان، ولست فى ذلك قاصد لمخالفة أصحابنا رحمهم الله، ولكن ذكرت ما أدى إليه اجتهادى. وأما أحاديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا... إلخ " فقد يستدل بها على أن الإقرار جزء من ماهية الإيمان، لكن قد يقال إن النطق إنما هو شرط لإجراء أحكام الإسلام، بدليل أنه رتب عليه حقن الدماء والأموال إلا بحق دون النجاة فى الآخرة، بل وكل أمرهم إلى الله عز وجل، فإن خالف اعتقادهم نطقهم أو عملهم أو طابق فهو العالم بذلك المجازى عليه، وإن قلت لا يتصور لمعتقد ألا يقر، قلت يتصور لأنه يمكن أن يصلى بسورة ليس فيها تصريح بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، مع الفاتحة، وأن يسلم من التحيات قبل أن ينطق بذلك، بل لو لم يتصور له ذلك فى حال فالكلام عليه قبل تلك الحال، غير أن جمهورنا كما علمت إلا قليلا جدا، وجمهور قومنا أيضاً يقولون لا إيمان بلا إقرار، ومن لم يشترط الإقرار فهل يحكم بإيمانه بدون أن يحكم بمعصيته بعد الإقرار أو لا يحكم بمعصيته؟ قولان لمن لا يشترط الإقرار، بل قال النووى تلميذ ابن مالك صاحب الألفية والتسهيل فى العربية، والحديث والتفسير فى شرح مسلم أن أهل السنة من المحدثين والفقهاء، والمتكلمين، اتفقوا على أن من آمن بقلبه ولم ينطق بلسانه مع قدرته أن مخلداً في النار، ولكن يرده ما ثبت أن لكل واحد من مالك وأحمد والشافعى وأبى حنيفة قولا بأنه مؤمن عاص بترك التلفظ، بل ذكر ابن حجر كالكمال بن الهمام وغيره أن جمهور الأشاعرة وبعض محققى الحنفية، أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فحسب، حتى زعم بعضهم أنه لو أجريت عليه لنطقه بلسانه وهو كافر باطناً، كنكاح مسلمة، وأخذ ميراث قريب مسلم ثم زال كفره القلبى، احتمل حل الوطء وأخذ الإرث لقيام التلفظ به لإجراء الأحكام عليه، والصواب عدم حل النكاح إلا بعد تجديده، وإنما حلله بعد التجديد، مع أنه زان بها إذ جامعها وهو مشرك، للأثر الوارد المشرك الزانى بامرأة، إن أوله سفاح وآخره نكاح، غير أن المرأة هنا مسلمة، لكنها لم تدخل على نية الزانى بل غرها بتوحيد لسانه، فيجوز لها العود إليه بنكاح جديد، لأنها لا يصدق عليها أنها زانية، وإسلامه هو جب لما صدر منه فى شركه، والصواب أيضاً عدم أخذه الإرث المذكور، وذلك لأنا إنما لم نؤاخذه بما فى باطنه أولا لعدم ظهوره لغيره، وأما بالنسبة له فهو كظاهره ونظيره الحكم بشاهدى زور فى النكاح، فإنه لا يحل لمن علم بالزور العمل بقضية ذلك الحكم عندنا وعند جمهور قومنا، وهو الصواب الموافق للكتاب والسنة، واتفق من لا يشترط الإقرار ولا يجعله شرطاً، على أنه لا ينفعه اعتقاده إلا إن نوى أنه متى طولب بالإقرار أو حضر له أمر لازم متوقف على الإقرار أقر، فإن طولب أو حضر ذلك فامتنع أو اعتقد أنه لا يقر إذا طولب أو حضر ذلك، فهو مشرك كما لو سجد لصنم أو استخف بنبى أو بالكعبة، أو حضر ذلك فهو مشرك كما لو سجد لصنم أو استخف بنبى أو بالكعبة، أو نحو ذلك من المكفرات، واستشكل الحكم بكفره بأحد هذه المذكورات مع كونه مصدقاً بقلبه لما يلزم عليه أن تعريف الإيمان بالتصديق غير مانع لصدقه على هذا، مع انتفاء الإيمان عنه، وجوابه يعلم من تقرير مهمات يتعين التفطن لها، وهى أنهم اختلفوا فى التصديق بالقلب الذى هو تمام مفهوم الإيمان عند الأشعرية، أعنى أنه ماهية الإيمان أو جزء مفهومه عند غيرهم كما هو عند أصحابنا، أعنى أنه جزء الماهية والجزء الآخر الإقرار، فقيل هو من باب العلوم والمعارف، ورد بأنا نقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقيقة رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، قال الله تبارك وتعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }** **{ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبأن الإيمان مكلف به والتكليف إنما يقع بالأفعال الاختيارية، والعلم بصدق مدعى النبوة عن وجود سببه، وهو مشاهدة المعجزة حاصل قهرا عليه. وقال إمام الحرمين وأبو الحسن الأشعرى إنه كلام النفس، وإن المعرفة شرط فيه، إذ المراد بكلام النفس الاستسلام الباطن، والانقياد لقبول الأوامر والنواهى، وبالمعرفة إدراك مطابقة دعوى النبى - صلى الله عليه وسلم - للواقع، أى تجليها للقلب وانكشافها له، وذلك الاستسلام إنما يحصل بعد حصول هذه المعرفة، ويحتمل أن كلا من هذين المذكورين ركن، فلا بد من المعرفة إن جعلناها شرطاً أو ركناً، ومن ضم الاستسلام لها لما من ثبوتها مع الكفر، وقهراً على النفس، وأما تعلق التكليف بها مع ثبوتها قهراً فى قوله تعالى**{ فاعلم أنه لا إله إلا الله }** فانما أريد به تحصيل أسبابها من القصد إلى النظر فى آثار القدرة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وتوجيه الحواس إليها، وترتيب المقدمات المأخوذة من ذلك على الوجه المؤدى إلى المقصود، وظاهر كلام شارح المقاصد أنه لا يكتفى بذلك العلم القهرى، بل لا بد من تحصيله بعد بطريق الاستدلال، ورد بأن حصول الاستسلام الباطن بعد حصول العلم القهرى حصول للمقصود إليه، فالوجه الاكتفاء بحصول القهرى المنضم إليه الاستسلام، والتكليف بتعاطى الأسباب مغن عن استحصاله بتعاطى أسبابه، إنما هو لمن لم يحصل له ذلك العلم القهرى، وأخذ بعضهم من أنه لا بد من ضم الاستسلام إلى المعرفة، أن مفهوم الإسلام لغة الذى هو هذا الاستسلام جزء من مفهوم الإيمان، وأطلق بعضهم اسم المرادف عليها. والأظهر كما قال بعض المحققين إنهما متلازمان مفهومان، فلا يعتبر شرعاً فى الخارج إيمان بلا إسلام، ولا عكسه وأن التصديق قول للنفس مغاير للمعرفة وإن نشأ عنها، إذ هو لغة لنسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل وهو فعل وهى ليست فعلا، بل من قبيل الكيف، فكل منها ومن الاستسلام خارج عن مفهوم التصديق لغة وإن اعتبر شرعاً فى الإيمان، ثم اعتبارهما فيه شرعاً إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعاً أو شرطان لاعتباره، وهو الراجح، لأن الأول يلزمه نقل الإيمان عن معناه اللغوى إلى معنى شرعى، والنقل خلاف الأصل فلا يصار إليه بغير دليل، بل الدليل على خلافه، لأنه كثير فى الكتاب والسنة طلبه من العرب، ولم يستفسر من أجاب إليه عن معناه اللغوى ووقوع استفساره عن بعضهم، إنما هو عن متعلقه بدليل أن جبريل عليه السلام لما سأل عنه أجابه - صلى الله عليه وسلم - بذكر المتعلق، إذ قال **" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره "** ففسره بما يتعلق به، ولم يفسر لفظه، بل أعاد لفظه بقلبه أن تؤمن لأنه كان معروفاً عندهم لا نزاع فيه أنه لغة مطلق التصديق، وشرعاً تصديق بأمور خاصة وهى المعلومة من الدين بالضرورة، فهو تصديق بها بمعنى اللغوى، ويدل لذلك حديث الشيخ عامر - رحمه الله - فى الإيضاح فى كتاب الكفارات فى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" الأمة التى أراد سيدها أن يعتقها عن دين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جاءتك فأت بها " فأتاه بها فقال لها " من ربك ومن أنا؟ " فقالت الله ربى وأنت محمد رسول الله، فقال " إنها مؤمنة " "** فإنه يتبادر أنه إذا أراد أن يختبر هل هى مؤمنة؟ فلما قالت ذلك أخبر أنها مؤمنة، أى أنها مؤمنة قبل نطقها من قبل أن تأتى مثلا، ولم يقل لها إنها قد آمنت الآن، بل أخبر بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت، فأفاد ذلك أنه قد حصل لها اسم مؤمنة بما فى قلبها بلا نطق، وما أفادنا نطقها إلا معرفة حالها وغير هذا محتمل، لكن غير متبادر. وانتفاء الإيمان بانتفاء المعرفة والاستسلام لا يستلزم جزئيتهما لمفهومه شرعاً، لجواز كونهما شرطين له شرعاً فظهر أنه يمكن ثبوت التصديق لغة بدونهما، وإن هذا الثبوت يمكن مجامعة الكفر له، إذ لا مانع عقلا أن يصدق جبار نبياً ويقتله، لنحو حمق أو غاية هوى، فقتله لا يدل على انتفاء التصديق به من أصله، كما ظنه بعض الأئمة من أصحابنا ومن قومنا، بل يدل على أن ما عنده من التصديق غير منج له شرعاً من النار، ورأيت الله سبحانه وتعالى التلبس بالإيمان لازماً لا ينفك عنه وهو سعادة الأبد، وعلى ضده شقاوته وهى لازم الكفر شرعاً، وأنه اعتبر فى ترتيب لازم الإيمان وجود أمور بعدما يترتب لازم الكفر، فمنها تعظيمه - سبحانه وتعالى - وتعظيم أنبيائه وكتبه وملائكته، وترك السجود لنحو الصنم والاستسلام باطناً لقبول أوامره ونواهيه الذى هو معنى الإسلام لغة، فلو كان رجل مصدقاً بوحدانية الله سبحانه وتعالى ورسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبكل ما يجب التصديق به مجملا أو مفصلا، ثم سجد لصنم فهو باق على ذلك التصديق فى قلبه لم ينقص منه شيئاً، فبالظاهر نقول إنه غير مشرك، وسجوده للصنم منزل منزلة سائر الكبائر التى يفعلها تشهياً إذا اعتقد تحريم ذلك، وبالتحقيق نقول إنه مشرك ناقض لإيمانه وتصديقه، لأنه إذا سجد للصنم ورآه أهلا لأن يسجد له فقد جعل لله شريكاً، ولو اعتقد تحريم الإشراك والسجود لغيره، وإن سجد له عبثاً ففعله كبيرة نفاق، وقيل شرك، واتفق أهل الحق والأشاعرة والحنفية أنه لا يعتبر إيمان بلا إسلام ولا عكس ذلك، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر إذا أخذ بالمعنى الحقيق لهما، ولكنا أهل الحق والحنفية خالفنا الأشاعرة، إذ حكمنا بتكفير بعض الناس بأقوال وأفعال، ووافقنا محققو الأشاعرة كتعمد صلاة بلا وضوء، ودوام ترك سنته استخفافاً بها واستقباحها، كإحفاء الشارب وجعل طرف العمامة تحت الحلق، فمن قصد الاستخفاف بالسنة أشرك مطلقاً، ومن فعل خلافها بلا استخفاف نافق وكفر كفر نفاق، وهو كفر نعمة إذا كانت غير واجبة، ومن أنكر ما هو من الدين وليس علمه ضرورياً، بل فيه خفاء، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، فلا كفر لإنكاره عند الشافعية، وكفره الحنفية إن علم ثبوته قطعاً، أو ذكر له أهل العلم أنه قطعى فاستمر على جحوده، وكفره أصحابنا مطلقاً لأنه يعذر عندهم فى جهل ما هو موسع، ما لم يدخل فيه بخلاف الحق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واعلم أن الإيمان والإسلام متلازمان مفهوماً، فلا ينفك أحدهما عن الآخر، وإن اختلف المفهومان أو مترادفان فلا يوجد شرعاً إيمان من غير إسلام ولا عكسه عند التحقيق، وأن الإسلام يطلق أيضاً على الأعمال فى الشرع، كما يطلق على الانقياد لغة وشرعاً، وأن الإيمان يطلق عليهما شرعاً باعتبار أنه يتعلق بهما، فحيث ورد ما يدل على تغايرهما كما فى حديث **" إن جبريل قال يا محمد أخبرنى عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، ثم قال فاخبرنى عن الإيمان، قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره "** وكما فى قوله تعالى**{ قالت الأعراب آمنا }** إلخ الآية، فهو باعتبار أصل مفهومهما، فأصح تفسير فى الآية قول ابن عباس وغيره إنهم آمنوا باطناً وظاهراً، ولكن كان إيمانهم ضعيفاً، ويدل على هذا قوله تعالى**{ وإن تطيعوا الله ورسوله }** إلى آخره الدال على أن معهم من الإيمان ما خرجوا به عن الشرك، فيؤخذ من الآية أنه يجوز نفى الإيمان عن ناقص الإيمان، باعتبار الكمال، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم **" لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن "** أى لا يزنى وهو مؤمن إيماناً كاملا، بل ناقصاً فحينئذ يقال له آمن ولا يقال مؤمن، كما نفى عنه فى الحديث اسم مؤمن، لأنه يوهم كمال إيمانه إلا بقيد، فيجوز مؤمن ناقص الإيمان، ووافقنا على ذلك محققو المتسمين بأهل السنة، قال على بن محمد بن إبراهيم البغدادى الخازن المختار عند أهل السنة أن من لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة والزكاة والحج، ونحو ذلك من أركان الدين، لا يسمى مؤمناً لقوله صلى الله عليه وسلم **" لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن "** ، فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان.. انتهى. بخلاف لفظ الإسلام فإنه لا يفنى بانتفاء ركن من أركانه وبانتفاء ما عدا الشهادتين، فترى أصحابنا بعدما ينفون اسم مسلم عن صاحب الكبيرة، قد يسمونه مسلماً بمعنى موحد، لأن نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرة ظاهرة بخلاف نفى الإيمان، فحيث ورد نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرة ظاهرة بخلاف نفى الإيمان، فحيث ورد ما يدل على اتحادهما كقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين... }** الآية، فباعتبار تلازم المفهومين أو ترادفهما، ولذلك قال كثير إن المؤمن والمسلم كالفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، وإن قرن بينهما مغايراً كما قال أحمد بن حنبل خبراً مرفوعاً الإسلام علانية والإيمان فى القلب، وإذا وقع تفسير الإيمان بالأعمال، فباعتبار إطلاقه على متعلقاته لما مر من أنه تصديق بأمور مخصوصة، ومنه**{ وما كان الله ليضيع إيمانكم }** اتفقوا على أن المراد به هنا الصلاة. ومنه حديث وفد عبد القيس **" هل تدرون ما الإيمان؟ قالوا لا، قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمساً من المغنم "** ففسر فيه الإيمان بما فسر به الإسلام فى حديث جبريل السابق، فاستفدنا منهما إطلاق الإيمان والإسلام على الأعمال شرعاً، باعتبار أنهما متعلق مفهوميهما المتلازمين، وهما التصديق والانقياد، وقد صح حديث **" الإيمان بضع وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان "** ، رواه أصحابنا بإسقاط بضع، ورواه البخارى ومسلم، وقد يطلق الإسلام على التصديق والعمل معاً كقوله تعالى**{ إن الدين عند الله الإسلام }** وحديث مسند أحمد **" أى الإسلام أفضل؟ قال الإيمان "** وخبر ابن ماجه **" ما الإسلام؟ قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أنى رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها حلوها ومرها "** وقد أطلق الإيمان كذلك كما روى الإيمان اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وذلك توسع وتجوز، واتفقوا على أنه يستفاد من الأسماء الشرعية زيادة على أصل الوضع، فالإيمان لغة مطلق التصديق، وشرعاً تصديق بأمور مخصوصة، فسمى الإيمان والإسلام لغة غيره شرعاً، والراجع إثبات الحقائق الشرعية، فتلك الزيادة ضارب مع الأصل موضوعاً شرعياً، ومن نفى ذلك قال هى لغات على وضعها اللغوى، وإنما الشرع تصرف فى شروطها وأحكامها، ثم إنه لا يخفى أن الحق معنا فى قولنا إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نفاق وهو كفر نعمة موحد إيمانه ناقص، لا كما زعمت المرجئة أنه مؤمن كامل الإيمان، ولا كما زعمت المعتزلة أنه لا كافر ولا مؤمن، فإن أرادوا لا مؤمن إيماناً كاملا ولا كافر كفر شرك، فقد صدقوا وإن أرادوا نفى اسم الكفر عنه مطلقاً كذبتهم آثار وأحاديث جمعتها فى بعض ما من الله به على من التأليف، وذكر الشيخ يوسف بن إبراهيم - رحمه الله - فى ترتيب مسند الربيع بن حبيب - رحمه الله - كثيراً منها، ولا كما قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية إنه لا يسمى باسم كافر أصلا، ووافقنا محققوهم على أنه يسمى به على معنى كفر النعمة، ولا كما زعمت الصفرية من أنه مشرك، ولا كما زعم بعض الصفرية أنه مشرك بالمعصية مطلقاً، ولو لم تكن كبيرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واعلم أن الوحدانية وسائر صفاته تعالى الذاتية قديمة، والإيمان مخلوق قطعاً، لأنه قول واعتقاد أو اعتقاد أو كلاهما وعمل، وإنما القديم وبعض متعلقاته وهو الصفات الذاتية وهى مراد من قال غير مخلوق، فالخلاف لفظى نسب الأول لجمع من الحنفية وأبى حنيفة، والثانى الآخرين منهم وأحمد وجماعة من المحدثين وأبى الحسن الأشعرى، والله أعلم. ومنع أبو حنيفة وأصحابه أنا مؤمن إن شاء الله، وإنما يقال أنا مؤمن حقاً، وأجازه آخرون. قال السبكى هو وأكثر السلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم الشافعية والمالكية والحنابلة، ومن المتكلمين الأشعرية وسفيان الثورى، وذكر النووى فى شرح مسلم عن أكثر المتكلمين من الشافعية أنه لا يقال أنا مؤمن مقتصراً عليه، بل يضم إليه إن شاء الله، وعن الأوزاعى وغيره التخيير وهو حسن صحيح إذ من أطلقه نظر إلى أنه جازم فى الحال، ومن قال إن شاء الله قال إما للتبرك أو للجمل بالخاتمة، فإن من شك فى إيمانه كافر، وقد صرح بإن شاء الله فما هو قطعى، كقوله تعالى**{ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله }** تعليما وتأديبا للعباد فى صرف المشيئة إلى الله تعالى، ووجه بعضهم تقييده بإن شاء الله بأنه يوهم عدم الجزم بالإيمان، وعدم الجزم به كفر وبأنه قد تعتاد نفسه التردد فتميل إلى الشك، ويجاب بأنه لا إيهام مع القرائن ولا ميل إلى الشك، مع اعتقاده التبرك عند النطق بإن شاء الله، وإن غفل عن اعتقاد التبرك ولم يعتقد شكا فهو باق على إيمانه، فإن الإيمان باق فى حال النوم والسكر والإغماء والجنون، والغفلة والنوم والموت، كبقاء نحو النكاح وسائر العقود فى هذه الأحوال. قال بعض أصحابنا الدين والإسلام والإيمان مختلفة المفهوم متحدة المعانى، فلا يوجد بالتحقيق أحدها دون الآخر، ويدل عليه حديث جبريل السابق، وفى الوضع والسؤالات أنها مترادفة، وقيل متباينة، وقيل متلازمة مرتبطة، والتحقيق أنها تستعمل تارة مترادفة وتارة متباينة، ويطلق كل على ما يطلق عليه الآخر، فإذا أطلق الدين على الأحكام الشرعية، مثل أن يحكم على كذا بالحل وعلى كذا بالتحريم، والإيمان على التصديق، والإسلام على الانقياد والامتثال، فقد تباين اللفظ والمعنى والمحل، واستعمل الإسلام عاما والإيمان خاصا فى قوله تعالى**{ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين }** فمعنى قوله من المؤمنين من المصدقين حقيقة التصديق والعمل لازمه ومرتب عليه لاجزاءه، ومعنى قوله من المسلمين من المصدقين العاملين، ففيهما تداخل أدخل الإيمان تحت الإسلام، وتحتمل الآية الترادف ومن ذلك قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين }** يحتمل هذا أيضاً التداخل المذكور، والترادف، ومن التداخل ما روى فى حديث سعيد **" أنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى رجلا ولم يعط الآخر، فقال له سعيد يا رسول الله تركت فلاناً فلم تعطه وهو مؤمن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أومسلم؟ فقال سعيد هو مؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم أومسلم؟ "** يريد صلى الله عليه وسلم هل هو بعد كونه مؤمناً مسلم أم مؤمن غير مسلم؟ فأراد الإسلام العام للإيمان لمعنى التصديق والعمل، وأراد بالإيمان التصديق. وسعيد لم يفهم ذلك منه، ومن التداخل أيضاً حديث **" " أى الأعمال أفضل؟ فقال الإسلام " أى أعمال القلب والجوارح فقيل " أى الإسلام أفضل؟ فقال الإيمان " "** أى التصديق، فجعل الإيمان جزءاً من الإسلام داخل تحت عمومه، ومن التداخل بنى الإسلام على خمس على أن يوحد الله تعالى، الحديث، فالتوحيد اعتقاد الوحدة واعتقادها تصديق، فهو الإيمان، وأما اللسان فترجمان، ففى الحديث جعل الإيمان داخلا تحت الإسلام خاصاً تحت عمومه، واستعمل الإيمان مرادفاً للإسلام العام المذكور أيضاً، حين سئل عن الإيمان مرة أخرى. فأجاب بهذه الخمس، فإذا اعتبرت هذا الحديث الأخير مع الإسلام المستعمل خاصا فى العمل، وجدت الإيمان عاما والإسلام خاصا، ومن تخالفهما قوله تعالى**{ قالت الأعراب آمنا }** .. الآية قيل أراد بالإيمان التصديق بالقلب، وأراد بالإسلام الاستسلام باللسان والجوارح، إنه ثم لا شك عندى أن الإيمان محله القلب، لأنه التصديق، ولقوله صلى الله عليه وسلم **" الإيمان ها هنا "** وأشار إلى صدره، وقوله تعالى**{ كتب فى قلوبهم الإيمان }** ونحو ذلك مما مر غير أنه يختلف، هل يقبل منه ذلك ويثاب عليه أو لا؟ إلا إن أقر، وهل الإقرار شرط أو شطر فى الشرع، أو لا شرط ولا شطر؟.. وهل هو حقيقة عرفية شرعية فى الاعتقاد فقط، أو فيه مع الإقرار، أو فيهما مع العمل، أو هو موضوع بالاشتراك لكل من ذلك؟ والله أعلم. ومذهبنا أن الإيمان يزيد وينقص فى ذاته، ويزيد وينقص بزيادة ما يؤمن به، وعدم زيادته ونسيان ما أمن به، فكلما كثر إمعان النظر فى الأدلة والبراهين قوى الإيمان، وكلما قل ذلك ضعف، فإذا قوى كان كمن يشاهد محسوساً وصدق به، وإذا ضعف كان كمن يصدق بشىء غائب، وكلما عثر على شىء مما يؤمن به فآمن به قد زاد إيمان له بعد إيمان، وإذا نسيه فقد نقص عنه هذا الإيمان الذى زاد، ويدل لذلك قول ربنا تبارك وتعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً }** وقول أبينا إبراهيم الخليل عليه السلام**{ ولكن ليطمئن قلبى }** فقد تعرض شبهة لإنسان فيترك الإيمان ببعض ما آمن به مما يجب الإيمان به فيكفر. ووافقنا على ذلك بعض محققى قومنا، وقال بعض قومنا إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعى يزيد وينقص، وأنكر أكثر متكلميهم زيادته ونقصانه، وقالوا متى قيل الزيادة والنقص، كان شكا وكفراً، وكذا قال أبو حنيفة وأتباعه، واختاره إمام الحرمين صاحب الورقات فى أصول الفقه وغيره من الأشاعرة، قال النووى عليه أكثر المتكلمين وأثبتها جمهور الأشاعرة، قال النووى وهو مذهب السلف والمحدثين، قال الفخر الرازى وغيره الخلاف مبنى على أن الطاعة إن أخذت فى مفهوم الإيمان فإنه يقبل الزيادة والنقص وإلا فلا، لأنه اسم للتصديق الجازم مع الإذعان، وهذا لا يتغير بضم طاعة ولا معصية، ورد بأن القائلين بهما مصرحون بأنه مجرد التصديق أو التصديق والإقرار، وحملهم على ذلك ظواهر الكتاب والسنة، نحو**{ فزادتهم إيمانا }** **{ ليزدادوا إيماناً }** ولا مانع من قبول التصديق لهما، لأن اليقين الأخص الذى هو أخص من التصديق متفاوت القوة، ألا ترى إلى ما بين أجلى البديهيات ككون الواحد نصف الاثنين، وأخفى النظريات القطعية ككون العالم حادثاً عالم السماوات والأرض، ولا خلاف فى أن تصديقنا ليس كتصديق أبى بكر، وتصديقه ليس كتصديق الأنباه، ومانع الزيادة والنقص نقول لا تمنعها إلا بالنسبة لذات التصديق دون آثاره الخارجة، وتفاوت اليقين السابقة ليس تفاوتاً فى شدة وضعف، بل فى ظهور الكشاف أو تقدم أو تأخر، ويقول زيادته فى الأدلة هى زيادة إشراقه فى القلب، وثمراته كدوام حضوره بتوالى أشخاصه، ويقول الإيمان عرض لا يبقى زمانين، بل يتجدد حضوره وتواليها الاستمرار شهود موجبة مع شهود الجلال والكمال، وهذا يخص كماله بالإنبياء، ويشاركهم أكابر المؤمنين فى نوع منه، فثبت لهم إعداد من الإيمان لا تثبت لغيرهم، وقضية ذلك أن استمرار حضور الجزم زيادة قوة فى ذاته، وليس كذلك عند المانع، ومن أثبتهما وأراد هذا فالخلاف لفظى لاتفاق الفريقين على ثبوت التفاوت فى الإيمان بهذا الأمر المعين، فبقى الخلف هل هذا المعين داخل فى ماهية التصديق أو خارج عنها ولا عبرة به، لأنه ليس خلافاً فى نفس التفاوت، قال النووى قال محققو أصحابنا المتكلمين يعنى الشافعية نفس التصديق لا يقبلهما، والإيمان الشرعى يقبلهما يزيادة ثمراته وهى الأعمال ونقصها، قال وفى هذا توفيق بين ظواهر لنصوص التى جاءت بالزيادة واللغة وهو حسن ولكن الأظهر - والله أعلم - أن نفس التصديق يزيد لكثرة النظر، ويظاهر الأدلة إذ لا يمكن إنكار إن إيمان المصدقين أقوى من إيمان نحو المؤلفة. والله أعلم. قال ابن أبى مليكة أدركت ثلاثين صحابياً كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحد يقول إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل، رواه البخارى وقد قال الله عز وعلا لإبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى }** فهو كمن علم ببستان فى غاية النضرة والخضرة، فنازعته نفسه فى مشاهدته، فإنها لا تسكن ولا تطمئن إلا إن شاهدته، فطلب بذلك سكون قلبه عن المنازعة إلى رؤية تلك الكيفية التى طلب رؤيتها، وأنه طلب العلم البديهى بعد العلم الاستدلالى. والله أعلم. والغيب فى الأصل مصدر بمعنى الغيبوية والخفاء، وأخرج عن ذلك واستعمل بمعنى اسم الفاعل، كأنه قيل يؤمنون بالشىء الغائب، وهو البعث ورضا الله سبحانه وتعالى وسخطه، والجنة والنار والملائكة، والقضاء والقدر ونحو ذلك. فالباء للتعدية متعلقة بيؤمنون، ويجوز أن يكون فى الآية وما أشبهها وصفاً من أول الأمر أصله، غيب بفتح الغين وكسر الياء مشددة، حذفت الياء المتحركة وبقيت المدغمة، فهو قبل التخفيف يوزن فيعل بفتح الفاء وإسكان الياء وكسر العين، أو بوزن فعيل بفتح فكسر وإسكان، ووقع القلب المكانى كما قيل فى سيد وميت ولين وهين ونحو ذلك، والمراد بالغائب الذى يؤمنون به ما لا يدركه حس كما مر التمثيل به أنفاً، ولا تقتضيه بدلالة العقل، سواء كان عليه دليل كالأمثلة المذكورة أو لم يكن، وهو المراد بقوله تعالى**{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو }** ويجوز كون الغيب باقياً على المصدرية، والباء بمعنى مع تتعلق بمحذوف حال، أى يؤمنون ملتبسين بالغيب، أى بالغيبة والخفاء، أو بمعنى فى تتعلق بيؤمنون، والمعنى على هذين الوجهين أنهم يؤمنون حال غيبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، كما يؤمنون حال حضورهم، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، ويجوز على الوجهين كون الغيبة عما يؤمن به، بفتح الميم، قال ابن مسعود رضى الله عنه والذى لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية، رواه الحاكم وصححه، ويجوز كون أراد بالغيب الخفاء كما ذكر، والباء بمعنى فى كما ذكر، لكن المعنى يؤمنون فى قلوبهم لا فى ألسنتهم فقط، وهو بمعنى الغائب الذى هو القلب، أى يؤمنون بالقلب لا باللسان فقط، لكن يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم، فالباء للآلة، ويبعد أن تجعل الهمزة للتعدية والباء للسببية، أى يؤمن نفسه من عذاب الله بسبب الغيب، إذ صدق به وتفسير الغيب على العموم السابق هو ما ظهر لى، وبه قال ابن عباس وقيل الغيب الله تعالى، وقيل القرآن، وقيل الآخرة، وقيل الوحى، وقيل القدر، ويحتمل أن يريد أصحاب هذه الأقوال التمثيل، والقول بالقرآن صادق بالعموم، لاشتماله على جميع ما يؤمن به. { وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ } يأتون بالصلوات الخمس قائمة معتدلة، راغبين فيها كالإنسان الحسن الصورة المنتصب المعتدل، بأن تكون بطهارة وخشوع وإتمام وفى وقتها لا قبل ولا بعد، ولا فى وقتها الضرورى، ولا يأتون بها معوجة كالإنسان المعوج المنتكس، بأن تكون بلا طهر، أو بلا خشوع، أو بنقر أو التفات، أو فى غير وقتها، أو بتهاون بها، سواء صليت فى وقتها أو فى وسطه أو فى الجزء الضرورى منه، فإنما الحقيق بالمدح والثواب من يأتى بها قائمة معتدلة كما وصفت، لأنه هو الذى أتى بحدودها الظاهرة والباطنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فهو المخلص، وإنما يقبل من الأعمال ما كان مخلصاً ومن يرائى بها لم يصدق عليه أنه خاشع، فهو غير مخلص، وكذا من كدرها بنو تهاون أو التفات أو عدم الطهر، فيكون قد شُبهت الصلاة المحافظ عليها بإنسان منتصب القامة معتدلا حسناً مرغوباً فيه، قال الله تعالى**{ ولقد كرمنا بنى آدم }** **{ لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم }** ورمز إلى ذلك التشبيه بإثبات لازم الإنسان لها وهو الإقامة، فإن الله جل وعلا قد جعل الإنسان معتدلا منتصباً مطلقاً، وإنما زدت فى الشبه كونه حسناً مرغوباً فيه لقرينة المقام أنها لا تشبه بإنسان خسيس، فتلك استعارة مكنية، ويجوز أن يشبه الإتيان بالصلاة على وجهها يجعل الشىء من إنسان أو غيره قائماً، فاستعير لذلك الإتيان لفظ الإقامة بمعنى الإتيان، فاشتق منهم مقيم بمعنى يأتى بها على وجهها، فتلك استعارة تبعية، وإنما خصصت المشبه به بقيام، لأن الشىء ينتفع به غالباً إذا كان قائماً، وبالقيام يكون الانتفاع العظيم، ويجوز أن يكون يقيمون الصلاة بمعنى يديمونها من قولك أقمت السوق، أى جعلتها قائمة، أى نافقة فإنها إذا كانت نافقة طال مدتها، وإذا كسدت انقطعت وزالت، ففى ذلك استعارة بالكناية إذ شبه الصلاة بالسوق تشبيهاً غير مصرح ورمز إليه بذكر لازم السوق وهو الإقامة بمعنى التصيير نافقة أو استعارة تبعية إذ شبه الإتيان بالصلاة على وجهها بإنفاق السوق المسمى بالإقامة، فسمى ذلك بلفظ الإقامة، واشتق منه يقيم بمعنى يأتى بها على وجهها، وتسمية إنفاق السوق إقامة مجاز وقد أجيز بنا مجاز على مجاز أو هى حقيقة عرفية، والجامع بين الصلاة والسوق الرغبة فى كل لإيصاله إلى فائدة، ويجوز أن يكون يقيمون بمعنى يتشمرون لها من غير فتور ولا توان ولا تهاون ولا تقصير فى أمر من أمورها، يقال قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد، وضده قعد عن الأمر وتقاعد شبه التهيؤ لأداء الصلاة بالقيام بأمر من الأمور الدنيوية التى يجتهد فيها لا بأمر من الأمور مطلقاً، لأن الصلاة من الأمور المطلقة، فلو كان كذلك لم تحتج إلى التشبيه، ويجوز أن يقال شبه الإتيان بالصلاة على وجهها بإقامة جسم ثقيل بعد امتداده على الأرض، أو بالقيام به فى الأرض على استواء القامة، ويجوز أن يكون يقيمون الصلاة بمعنى يؤدونها، فسميت تأديتها باسم بعض تأديتها، وذلك البعض هو الوقوف فيها كما تسمى الصلاة بالركوع أو بالسجود الذى هو بعضها، وإن قلت اشترط غير واحد فى البعض الذى يسمى الكل باسمه أن تكون له مزية اختصاص فى مقام الكلام، قلت نعم ولا مانع من أن يكون لمتعدد من أبعاضه مزية تقصد مزية هذا فى الكلام، ومزية ذلك فى كلام آخر، فيقصد للقيام فى الصلاة مزية للتعب فى القيام، وكونه على صورة المتهىء للخدمة، فتسمى تأديتها باسم القيام، ويقصد فى كلام آخر مزية للركوع وللسجود لما فيهما من ظهور الخضوع، فتسمى تأديتها باسم أحدهما، وقيد فى كلام آخر مزية للقراءة، لأن القرآن كلام الله جل وعلا، ولأنه المقيد للحلال والحرام والواجب وغيره، والمشعر بوجوب الصلاة فتسمى باسم القرآن، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويقصد فى كلام مزية الدعاء لتضمنه ما يشتهى الإنسان، فتسمى باسم القنوت والصلاة اسم للفظ التصلية الذى هو مصدر غير مستعمل، ويطلق لفظ الصلاة أيضاً على المعنى الذى يحصل من المعنى المصدرى، ووزن صلاة فعلة بفتح الفاء والعين واللام، وأصل صلوة بفتح الصاد واللام والواو، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، ولكون أصلها واواً كتبت واواً كما كتبت ألف الزكاة واواً لكون أصلها واوا، غير أنى أكتبه بالألف على أصل قاعدة الخط لأجل البيان، وهذا فى غير المصحف، وأما فيه فلا يجوز مخالفة مصاحف عثمان، وقد أذكرنى هذا المحل شأن فتح ما قبل تاء التأنيث غالباً تحقيقاً أو تقديراً، حتى إن عامة العرب والأعراب وعامة من يتكلم بكلامهم بعد فساد لسانهم يكتفون بفتح ما قبل هاء التأنيث عنها، ويسقطونها، ويقولون فى النعجة نعج، وفى البقرة بقر، وفى النخلة نخل، بإسقاط تاء التأنيث وإثبات ما فتح قبلها أو بإبدالها هاء للوقف، أو فى الوصل الجارى مجراه بصوت ضعيف، ثم لما زاد لسانهم فساداً اضمحلت كلها، ويقولون فى فاطمة فاطم، وفى عائشة عيش بعين وياء وشين، وفى حنة حن بإسقاط التاء فى ذلك كله وإثبات فتح ما قبلها، وذلك فى لغتنا البربرية أيضاً، فإذا كتب ذلك أحداً وكتب نحو فافه أو لاله، فليكتبه بهاء منقوطة نقطتين أو غير منقوطة، لأن ذلك الأصل. وقد أبقوا الفتحة دليلا عليها فلا إيهام بإثبات الهاء فى الخط، ومن لم يعرف أن الفتحة دليل عليها فكذلك يكتب له الكاتب بإثبات الهاء، لأن ذلك منه جهل بالمعنى عدم علمه بالهاء ودليلها، وقد جرى الكتب بها ولم يقع إيهام فى ذلك، ولا توهم من جاهل ولا من غيره، فذلك علة من تقدمنا فى كتب ذلك بالهاء، والله أعلم. وأيضاً إذا لم يكتب نحو نعجة وبقرة بالتاء توهم القارئ والسامع أن المراد ثلاث فصاعداً، فيقع فى أكل أموال الناس بالباطل، وأيضاً إذا كتبت قولهم عيش ونعج عائشة ونعجة كان حكاية بالمعنى والحكاية بالمعنى جائزة واردة فى القرآن والسنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال ابن هشام والشيخ خالد فى الجملة يجوز حكايتها على المعنى، فتقول فى حكاية زيد قائم قائم زيد، وإن كانت الجملة ملحونة حكيت بلا لحن على الأصح صوتاً عن ارتكاب اللحن، ولئلا يتوهم أن اللحن نشأ من الحاكى، فعلى هذا إذا قال شخص جاء زيد بالجر وأردت حكاية كلامه، قلت قال فلان جاء زيد بالرفع ولكنه خفض زيداً لتنبيه بالاستدراك على لحنه وإلا لتوهم أنه نطق به على الصواب، وعلى القول الثانى نقول قال فلان جاء زيد وتجر زيداً مراعاة للفظه. انتهى. قال بعض من حشا عليهما التصحيف فى ذلك كاللحن وهو تغيير الحروف، وإن زعم زاعم مكابر لعقله وجاحد للظاهر أن ذلك لفظ عجمى يحكى، كما يقال قلنا إن العجمى يجوز تعريبه كما نص عليه فى التصريح وغيره فبطل ادعاء بعض أن أصل أحد لا يجوز، لكن ذلك البعض من عامة الناس، مع أن ذلك ليس جله عجمياً فبطل ادعاء ذلك العامى خطأ السلف الذين يكتبونه بالتاء ويصلحونه، وتعريب العجمى كثير فى القرآن والسنة وكلام العرب، بل نقول أيضاً يدل على أنه ليس ذلك بربريا النطبق به بلا تاء تأنيث فى أوله وآخره، فإن لغة البربر يجتمع فيها فيما كان مؤنثاً تاء تأنيث أوله وآخره، الأولى مفتوحة والأخيرة ساكنة، وذلك فى أسماء الأجناس، ولغة العرب لا تجتمع فيها علامتا تأنيث، فتبين أن نحو قولك نعج بقر عربى ملحون فجاز تعريبه. وسميت الصلاة الشرعية صلاة لاشتمالها على الصلوات اللغوية وهى الدعاء، كقول المصلى**{ اهدنا الصراط المستقيم }** وقوله**{ ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }** أو لتحريك الصلاة فيها وهو عرق فى أعلى الفخذ وفى المقعدة، وفى الحيوان صلوان بفتح اللام تثنية صلاة سميت تلك العبادة صلاة لأن المصلى يحركهما فيها بالركوع والسجود، ولأن أول ما يعلم به القائم المصلى من القائم المطلق تحريك الصلوين بالركوع، أعنى أنه يتحرك بهما للركوع فيظهر ركوعه، ولانه أول ولو كان لا يريان والألف على الوجهين منقلبة واواً، ولذلك كتبت واو على لفظ المفخم، أعنى الناطق بالواو، فإن لفظ الواو ساكنة أو متحركة سكوناً ميتاً أو حيا، فأى حركة أغلظ من لفظ الألف، فإن نطقك بالواو أغلظ منه بالألف، هكذا أفهم كلام القاضى، وقرره، وقال الشيخ زكرياء مراده إمالة الألف إلى مخرج الواو فهو ضد الترقيق بمعنى ترك هذه الإمالة لا ضد الإمالة المطلقة وهو تركها، ولا ضد الترقيق بمعنى إخراج اللام من أسفل اللسان، فالتفخيم على ثلاثة أوجه، والجمهور على أن الصلاة الشرعية مأخوذة من الصلاة بمعنى الدعاء، وهو الصحيح، واختار الزمخشرى أنها من الصلاة وإن قلت اشتهر لفظ صلى فى الصلاة الشرعية لا فى الدعاء أو تحريك الصلوين فكيف ينقل من الدعاء أو تحريكهما؟ قلت لا مانع من كون المنقول إليه فوق المنقول منه فى الشهرة ولا سيما مع تخالفهما شرعاً ولغة، وإن قلت معنى تحريك الصلوين أشهر من الدعاء المعبر عنه بلفظ الصلاة فكيف تنقل الصلاة الشرعية من الدعاء ما هو أشهر؟ قلت لا مانع من النقل ما هو غير أشهر وذلك لقصد مناسبة لها مزية، مع أنا لا نسلم أن الصلاة بمعنى تحريكهما أشهر من الصلاة بمعنى الدعاء، بل الأمر بالعكس، وإن قلت كيف يسمى الداعى مصلياً مع أنه لا يحرك صلويه، قلت لا نسلم أن الصلاة بمعنى الدعاء منقولة من الصلاة بمعنى تحريك الصلوين، بل وضعت لفظة الصلاة للدعاء، كما وضعت لتحريكهما، ولئن سلمنا لنقولن سمى الداعى مصلياً تشبيهاً له فى فى تخشعه بالراكع الساجد المحرك صلويه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن أراد المحافظة على الصلاة فليكتب إحدى وستين آية يذكر فيها الصلاة أول ساعة الخميس والقمر بثلث المشترى، وإن كتبه فى شرفه أو بيته خالياً من النحوس فأجود بزعفران وماء ورد ومسك، ويمحوها بماء المطر ويصبه فى زجاجة، وكلما سمع الأذان نام وتوضأ وشرب منها يسراً وقرأ الآيات فى الطريق سراً فى نفسه حتى ينقضى الماء. ولا يكتب قوله تعالى**{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى }** وقوله جل وعلا**{ فويل للمصلين }** ونحو ذلك. { وَمِّمَا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ينفقون مما رزقهم الله النفقة الواجبة كالزكاة وإقراء الضيف الواجب، وتنجية المضطر ونفقة من لزمته نفقته، وأداء ما وجب من الكفارات ونحو ذلك، ونفقة التطوع فى وجوه الأجر، ويحتمل أن يريد النفقة الواجبة مطلقاً ويدل له، إنما ذكر قبل ذلك وما ذكر بعده فى الآية كله واجب، ويحتمل أن يريد أداء الزكاة اقتصارا فى الذكر على أفضل أنواع الإنفاق، ويدل له اقترانه بالصلاة، وقد كان معلوماً أن الصلاة والزكاة أختان، إلا أن يقال المراد بالصلاة الواجبة وغير الواجبة، قيل ويحتمل أن يراد الإنفاق من جميع ما رزقهم الله من أنواع الأموال، ومن العلم وقوة البدن والجاه وفصاحة اللسان، ينفعون بذلك عيال الله سبحانه وتعالى على الوجه الجائز، وقيل المعنى ومما خصصناهم به أنوار معرفة الله جل وعلا يفيضون، وهذا القول الذى قبله أظنهما للصوفية أو لمن يتوصف، وليس تفسير الصوفية عندى مقبولا إذا خالف الظاهر، وكان تكلفاً أو خالف أسلوب العربية، ولا أعذر من يفسر به ولا أقبل شهادته وأتقرب إلى الله تعالى ببغضه والبراءة منه، فإنه لو كان فى نفسه حقاً لكن جعله معنى للآية أو للحديث خطأ، لأنه خروج عن الظاهر وأساليب العرب الذين يتخاطبون بها وتكلف من التكلف الذى يبغضه الله، فإن القولين وإن ناسبهما قوله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إن علماً لا يقال به ككنز لا ينفق منه "** الذى رواه ابن أبى شيبة وقوله صلى الله عليه وسلم **" مثل الذى يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذى يكنز الكنز ثم لا ينفق منه "** الذى رواه الطبرانى فى الأوسط، لكن لا يصحان تفسيراً للآية، إذ لا يتبادر ذلك ولا يجرى على أسلوب العرب، والقول الأخير أبعد، وأنا أعد اعتقادى ذلك نوراً ومعرفة أفاضها الله الرحمن الرحيم على، وقد أقبل القول الذى قبله لأنه قريب من أسلوب العرب، وقليل التكلف، والصحيح أن المراد النفقة الواجبة وغير الواجبة من المال، وقد أذكرنى هذا المحل بواقعة حال، هى خفاء معنى قوله صلى الله عليه وسلم **" ملعون من سئل بالله بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله ثم لم يعط ما لم يسأل هجراً "** رواه الطبرانى عن ابن موسى فى الكبير وهو مذكور فى صحيحى الذى من الله على الرحمن الرحيم بتأليفه، الذى ألفته بحول الله وقوته، لتتم به مع مسند الربيع بن حبيب - رحمه الله - الفائدة، وكثرة سؤال الطلبة عن معناه، وقد ألفت فى تفسيره تأليف تطول وستدلال. وأقول هنا بطريق الاختصار وترك الاستدلال المراد فيه بالمسائل والمسئول نوع من السائلين والمسئولين مخصوص. أما السائل فهو من يسأل بوجه الله ليعطيه من لا يسمح بالإعطاء فيعطيه كارهاً مقهوراً فيكون السائل بمنزلة الغاصب، ومن جملة من يأكل أموال الناس بالباطل، أو من يسأل على صفة يعطى بها، وليست فيه كادعاء فقر أو نسب أو غرامة أو كتابة أو إرادة نكاح أو ادعاء عيال أو نحو ذلك مما ليس فيه، أو من يسأل تكاثراً عن ظهر غنى على القول بكفره، أو من يسأل معصية من العاصى أن يفعلها المسئول فى نفسه أو فى السائل أو فى غيرهما، أو فى ماله أو مال السائل أو غيرهما، كتعد فى زكاة كإعطائها غير أهلها أو فى عرض أحدهم، أو معنى لعنه شتمه بأن يقال ملح ملحف حريص يسألنا بالله فنعطيه أجبنا أو كرهنا، أو من سأل عن صفة من صفات الله فلم يجد جواباً بحق فإنه كافر كفر شرك على مشهور المذهب، والذى عندى أنه لا يكفر ولا يكفر من خطرت فى قلبه أو سمعها ولم نعلم حكمها، بل يعتقد أنه تعالى ليس كمثله شىء والباء بمعنى عن أو فى، أى فى شأن صفة من صفات الله ووجه الله أهو الله، وأما المسئول فهو من سأله مضطر محتاج فلم يعطه. وقد وجد أن يعطيه وجل الإعطاء أو سأله الإمام العدل أو نائبه الزكاة فمنع أو سئل الحق الواجب عليه فمنع كنفقة من تجب نفقته، وإقراء الضيف الواجب، أو سئل عن صفة من صفات الله فلم يعط الجواب لجهله، أو لكتم العلم فإنه يكفر عن المشهور كما مر كفر شرك، إذا جهل ما سئل عنه منها أو خطر فى قلبه أو سمعه، ولم يعلم حكمه ولا يكفر عندى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والباء فى هذا الوجه بمعنى عن أو فى أى فى شأن صفة من صفات الله ووجه الله هو الله، أو معنى لعن السائل إبعاده عن ساحة الزهاد وإدخاله فى نوع الحريصين، إذا بذل وجه الله سبحانه فى شىء، ومعنى لعن المسئول كذلك إذا اختار غير الله على الله وإن قلت نجدهما ملعونين بأحد المعانى السابقة، سواء ذكر السائل اسم الله أو لم يذكر، قلت نعم لكن خص ذكر الله - جل وعلا - لأنه أشد أيقاعاً فى اللعنة على أوجهها فى المعانى السابقة، وذلك كله ما لم يسأل هجراً لبناء يسأل للفاعل الذى هو السائل، أو المفعول الذى هو المسئول، فنفرض كل مسألة لا يجوز للسائل أن يسألها إنها هى الهجر، فلا يكون المسئول فيها ملعوناً إذا رده، فمن الهجر السؤال عن ظهر غنى، والسؤال بصفة غير ثابتة للسائل، وسؤال المعصية ونحو ذلك فافهم، ومن الهجر أن يسأله ليلقيه فى مشقة العطاء أو الكفر تعنيتاً، فإذا عرف منه هذا لم يجب عليه الإعطاء ولو اضطر السائل إذا عرف منه ذلك القصد، ومن أراد الإطالة فى ذلك فعليه بتأليفى الذى أفردته فيه. والله أعلم. وإن قلت الرزق عندنا معشر الإباضية الوهبية وعند غيرنا ما مكن الله جل وعلا الحيوان من الانتفاع به، سواء كان حلالا أو حراماً، أو شبهة، وسواء كان مأكولاً أو مشروباً أو غيرهما، وسواء كان الحيوان إنساناً أو غيره، فهل تقول إن الله - جلا وعلا - مدحهم على الإنفاق ولو من حرام؟ قلت لا نقول مدحهم على الإنفاق من حرام، بل إنما ينفقون من حلال، وبه مدحهم، ويدل على هذا وصفه إياهم بالاتقاء، فهم ينفقون الحرام والشبهات، فكيف يتناولهما حتى ينفقوهما؟ فوصفه إياهم بالإيمان بما نزل إلى سيدنا محمد وغيره صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء، وقد حرم عليهم فى ذلك ما هو حرام من مال أو غيره، فكيف يتملكون الحرام وينفقونه، وقوله سبحانه وتعالى**{ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون }** ونحو ذلك من الأدلة النقلية أو العقلية، وخالفتنا المعتزلة فى ذلك فقالوا إن الحرام لا يسمى رزقاً، قلت يبطل قولهم بأنه لا شك أن من غصب شيئاً فأكله أما أكل رزقه وهو الصواب وإنما يعاقب على كسبه بالغصب، وما أكل رزق غيره فيلزمه أن يكون قد غلب قضاء الله، إذ قضاه رزقاً لغيره فأكله هو، فإن قالوا بهذا كفروا، وإن قالوا قضاه الله رزقاً لغيره ثم صيره رزقاً لغيره فقط شبهوه بخلقه وقالوا إنه تبدو له البدوات فيكفروا، والحق أن الله جل وعلا قضاه رزقاً لأكله وإن كان مالا انتفع به مالكه وغاصبه فقد قضاه جل وعلا رزقاً لكل منهما فى مدة مخصوصة، ويبطل قولهم أيضاً إنه قد يتقوت الإنسان طول عمره بحرام أو فى بعض عمره فيلزمهم أن يكون فى ذلك قد عاش بلا رزق من الله وهو خلاف قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها }** ويبطله أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو ابن قرة **" لقد رزقك الله طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله "** رواه ابن ماجه وغيره، من حديث صفوان بن أمية هكذا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - **" فجاءه عمرو بن قرة فقال يا رسول الله إن الله قد كتب على الشقوة فلا أرانى أرزق إلا من دفر بكفى، فأذن لى فى الغنى من فاحشة. فقال " لا إذن لك ولا كرامة، كذبت أى عدو الله لقد رزقك الله حلالا طيباً... إلخ "** وحجة المعتزلة أن الله سبحانه يستحيل أن يمكن من الحرام، إذ منع الناس من الانتفاع به، وأمر بالزجر عنه، وأسند الرزق هنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم منفقون الحلال الخالص، لأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح. وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم لقوله**{ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا }** ويرد عليهم بما ذكرنا آنفاً، وأن الله سبحانه وتعالى لم يمكنهم من الحرام رضا به، ولكن خلق الحرام وسبق القضاء بأكله وتناوله، ويؤخذ على كسبهم وتناولهم فى الأكل وغيره. ونقول إسناد الرزق إلى نفسه للتعظيم والتحريض على الإنفاق، والمراد تعظيم الرزق، والتحريض على الإنفاق من الحلال. واختصاص الرزق فى الآية بالحلال لقرينة أنه لا يمدح الإنفاق من الحرام. وليس إسناد الأشياء التى لا تجوز إلى الله تعالى بممنوع ولا بقبيح، إذا أسندت إليه على جهة أنه خالق لها، فإنه هو الخالق لها لحكمة. وإنما القبيح تناول المكلف لها. والله أعلم. وقد قدم قوله { وما رزقناهم } على قوله { ينفقون } مع أنه متعلق به للاهتمام، أعنى على طريق العرب فى الاهتمام. ولست أريد أن الله - جل وعلا - يوصف بالاهتمام. وأيضاً قدمه لأن أواخر الآى نون قبلها مدة فلو أخره لكان هذه ميماً، والميم لو قربت من النون قد تغنى عنها، لكن لا مدة قبلها. ومن للتبعيض ونكتتها الكف بسط اليد بالإنفاق كل البسط. وذلك إنما ينهى عنه الإنسان إذا أدى به إلى الانقطاع كبقاء بلا ثوب يصلى به ويستر عورته أو إلى طمع فى الناس أو سؤالهم أو تضرر عظيم بجوع أو عطش أو إلى الإعراض عن الورع عند حضور الطعام مثلا، لشدة الحاجة إليه، أو إلى تضييع من لزمته نفقته، أو إلى معصية ما، أو فى معصية أو بإهمال نية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد تصدق أبو بكر وغيره من الصحابة بما عنده كله أجمع، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرزق فى اللغة الحظ، كقوله تعالى**{ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون }** والإنفاق الصرف أو الإخفاء بالإذهاب، ألا ترى نافقاء اليربوع؟ والنفق الذى هو السرب فى الأرض؟ ونفاق السوق وهو ذهاب ما فيها بشرائه؟ رغبة فيه بل غالب ما فيه دون وفاء دال على الذهاب، والخروج كالنفث فانه إخراد ريق قليل أو ريح قليلة، وكالنفل فإنه التبرع بما عندك وكالنفار والنفاد، فإنه الوصول من جانب لآخر والنفود وهو انقضاء الشىء ضد البقاء**{ ما عندكم ينفد وما عند الله باق }** وكالنفف فانه السرب يذهب فيه الشىء ويخفى، وكالنفخ فإنه إخراج صوت وريح من فم أو أنف، وكالأنف من الشىء وهو التكبر عن الشىء والخروج عنه، وكالنفس فإنه خروج ريح من أنف. والنفس التوسع وهو خروج عن الضيق وكالنفظ والنقط وغير ذلك بل لو قيل كل لفظ فيه نون وفاء كذلك لصح، لكن بعض بظهور وبعض بتأويل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } في قلوبهم وألسنتهم لا فيها فقط { بِالْغَيْبِ } بذى الغيب أو الغائب، وهو الله، جل جلاله، وما أخبر عنه مما سيكون في الدنيا أو الآخرة، أو كان ولم يشاهدوه أو آمنوا بذلك، وهم في غيب عنه { وَيُقِيمُونَ الصَّلَٰوةَ } يأتون بها في وقتها المختار، لا الضرورى إلا لعذر بطهارة، وخشوع وإخلاص، وترك ما يكره حتى كأنها كجسم مستقيم لا عوج فيه، أو كسوق أقيمت ورغب فيها، وذلك مستتبع لإقامة صلاة النفل إلا أنه لاعقاب عليها، وقال الجمهور: المراد صلاة الفرض، وعليه ابن عباس، ومثل هذا اللفظ حقيقة شرعية عن معنى لغوى مجاز لغوى؛ كما هو المشهور، وقال الباقلاني مجاز، وقال المعتزلة حقيقة شرعية مخترعة، وليست منقولة عن معان لغوية { وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ } طعاما أو دراهم أو ثيابا، أو دواب، أو عقارا، أو غير ذلك من الحلال، إذ لا مدح بإنفاق الحرام، لأن التصرف فيه وإمساكه كفر { يُنْفِقُونَ } في طاعة الله، كإنفاق من تجب نفقته من أهل ورحم وتنجية مضطر، وضيف وإنفاق الزكاة، وكإنفاق تطوع، وكإنفاق نفسه بنية أن يتقوى على العبادة وأن ينفر عن مال الناس، قيل، إن أريد بالتقوى في قوله، المتقين، اتقاء المشرك فالذين... الخ صفة مخصصة. أو ترك ما لا بأس به مخافة أن يقع في اليأس فمادحة، كما فى حديث الترمذى عنه صلى الله عليه وسلم: **" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما فيه بأس ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
معنى الإِيمان وأثره: الإِيمان هو أساس الهداية، ومصدر التقوى وينبوع الفضائل، وأصله التصديق نحو قوله عز وجل:**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا.. }** [يوسف: 17]، ومأخذه من الأمن، لأن المصدق آمن مُحدثه التكذيب، والإِيمان بالغيب هو نقطة الافتراق بين أصحاب الفطر السليمة والنفوس الزكية والعقول الراسخة والأفكار الواعية، الذين يتصلون بما وراء هذا العالم المحسوس، ويدركون أنه محاط بقوة تقهره وإرادة تدبره، وأن الوجود لا ينحصر فيما تدرك الحواس، وأن الحياة ليست مقيدة بهذه الرحلة العابرة على ظهر الأرض، وبين الذين تكدرت فطرهم، وأظلمت نفوسهم، واضطربت عقولهم، وانغلقت أفكارهم، فلم يفهموا تفسيرا للوجود إلا ما وقعت عليه حواسهم المحدودة، ولا معنى للحياة إلا هذه الرحلة التي يقطعونها على ظهر الأرض، وهم الماديون المنحبسون في مضائق المادة؛ الذين سدوا على أنفسهم منافذ التفكير، وحالوا بين عقولهم ومسارح الاعتبار، فلا يتجاوزون حدود الحواس إلا في محيط الاكتشافات بالأجهزة التي هي في حقيقتها امتداد للحواس. ويتضح بهذا الفارق بين الطائفتين، فالمؤمنون بالغيب ينطلقون بأرواحهم وعقولهم وقلوبهم في فسيح ملكوت الله الواسع، ويرون أن هدف الحياة أسمى من أن يكون من أجل شهوات الدنيا والتنافس على حطامها والتناحر على منافعها، بينما الذين يكذبون بالغيب لا يعرفون هدفا في الحياة إلا إرضاء العواطف المضطربة، وإشباع الغرائز المنهومة، ومن هنا يختلف سلوك الطائفتين، وتختلف موازين الأمور بينهما، فالمؤمنون بالغيب يلمحون في كل شيء المبدأ والمصير، فيحرصون على أن تكون أعمالهم كلها خالصة لِمُبْدِئِهم تعالى، ومنطبقة على المقاييس التي أنزلها، ومؤمنة لمصيرهم في الدار الآخرة. ومن ثم كان الإِيمان بالغيب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها العمل الاسلامي وينطلق منها المسلم في اتجاهه إلى ربه في جميع مجالات الحياة. فالأنظمة كلها في الإِسلام يجب أن يكون بناؤها على هذه القاعدة، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية. كما أن جميع التصورات والأفكار الإِسلامية لا تنشأ إلا عنها، ولا ترتكز إلا عليها، وبهذا تعلمون سبب تصدير صفات المتقين في هذه الآية بالإِيمان بالغيب، ولا ينبغي أن يفوتنا الحديث عن وضع كل من كلمتي الإِيمان والغيب: أما الإِيمان؛ فقد ذكرت لكم في أول هذا الحديث أنه مأخوذ من معناه اللغوي وهو التصديق، ولوحظ هذا المعنى في الحقيقة الشرعية لهذه الكلمة، غير أن الشرع قد يطلقها على العقيدة وحدها، كما يستفاد من حديث جبريل - عليه السلام - في أركان الإِيمان، وهو: **" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله "** ، وعلى هذا المعنى يحمل الإِيمان عندما يعطف عليه العمل الصالح، وقد يطلقها عليها وعلى ما تستلزمه من صالح العمل، وتدل على ذلك صفات المؤمنين المبينة في القرآن كقوله تعالى في فاتحة سورتهم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }** [المؤمنون: 1 - 11]. وقوله في سورة الأنفال:**{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }** [الأنفال: 2 - 4]. وقوله في سورة الحجرات:**{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ }** [الحجرات: 15]. إلى غيرها من الآيات الواصفة للمؤمنين الكاشفة لخصال الإِيمان، وهي تدل على أن الإِيمان الصحيح هو ما اقترن به العمل الصالح، واجتناب المحرمات، ويؤكد هذا إطلاق إسم الإِيمان على بعض الأعمال كما في قوله تعالى:**{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }** [البقرة: 143] أي صلاتكم. وروى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" الإِيمان بضع وستون شعبة أعلاها كلمة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ".** ومن أمعن في أصول الإِيمان وأركانه التي أتى بها حديث جبريل، يجدها تقتضي الاستقامة في الدين باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه والاقتصار على ما أباحه ومراقبة النفس مع ذلك مراقبة دقيقة لئلا تزل عن هذا المنهج السوي، ذلك لأن الإِيمان بالله وبصفاته وبأفعاله يستلزم حبه على ما أنعم، ورجاء بره وفضله، وخشية عقوبته ومكره، وهي كلها حوافز إلى طاعته، واجتناب معصيته، والإِيمان بملائكته يقتضي استشعار أعمالهم ووظائفهم، ومنها مراقبة الإِنسان وتسجيل أعماله وأقواله،**{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }** [ق: 18]،**{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }** [الانفطار: 10 - 12]. ومن شأن ذلك التيقظ والمراقبة الدقيقة للنفس حذرا من تورطها، وتسجيل السيئات عليها، وحرصا على الأعمال الصالحة التي ينقلب بها الملائكة الى ربهم وهم يشهدون بها. والإِيمان بالكتب يفضي إلى اتباع هداها، والانتفاع بمراشدها. والإِيمان بالرسل يؤدي إلى حسن الاقتداء، وجميل التأسي بهم. والإِيمان باليوم الآخر أكبر داع إلى توطين النفس على الخير لتزوده لذلك اليوم؛ الذي يكون فيه كل أحد رهين عمله. والإِيمان بقضاء الله وقدره من مقتضياته تعلق النفس بالله وحده، وتوطنها على ما يصيبها من مكاره الدنيا. من ذلك تجد الجم الغفير من علماء السلف يقولون إن الايمان ليس محصورا في الاعتقاد وإنما يصدق عليه مع ما يقتضيه من صادق القول وصالح العمل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا القول هو الذي درج عليه أصحابنا ونقله عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، ونقله أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم، وروي بإسناد صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإِيمان قول وعمل. وذكر ابن كثير في تفسيره أن الشافعي وأحمد بن حنبل وأبا عبيدة وغير واحد حكوا الإِجماع عليه وهذا هو الإِيمان المطلوب شرعا، وهو الذي يترتب عليه الفوز بنعيم الآخرة والنجاة من عقابها. وذلك معنى الفلاح في قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } ، ولا ينافي ما ذكرنا أنه يقصد بالإِيمان تارة الاعتقاد وحده، فإن الاعتقاد هو منشأ العمل كما ذكرت، ومن هنا كان الاقتران بينهما في كثير من الآيات وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية في الدلالة على حقيقة الإِيمان الشرعي المطلوب، من ذلك ما أخرجه الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "** ، فإن في هذا الحديث ما لا يخفى من كون الانصاف من النفس للغير من جوهر الإِيمان، وهو يقتضي استقامة التعايش الاجتماعي بين المؤمنين. وفي حديث أنس أيضا عند الشيخين: **" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإِيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار "** ، وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: **" والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده "** ، ورواه عن أنس - رضي الله عنه - في الصحيح مرفوعا بلفظ: **" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "** ، ومن البدهي أن المحبة تستلزم متابعة المحبوب في أمره ونهيه، فمحبة الله ومحبة رسول صلى الله عليه وسلم لا تتحققان إلا بامتثال أمرهما والانتهاء عن نهيهما، وإذا كانت ثم أقوال لأصحاب الفرق في جوهر الإِيمان تخالف ما ذكرته، فإن المعول في فهم معناه وتجلية حقيقته على نصوص الكتاب والسنة، ثم على أقوال أسلاف الأمة الذين كانوا أغزر علما وأعمق فهما، وأقرب عهدا بزمن الرسالة. وفيما ذكرته من ذلك غني عن الاطالة. وبناء على ما سلف من أن الايمان الشرعي يطلق على الاعتقاد الصحيح، ويطلق عليه مع اقترانه بصادق القول وصالح العمل، اختلف المفسرون في المراد بالإِيمان هنا، فعن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بيؤمنون؛ يصدقون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أخرجه ابن جرير عنهما. وروي عن الربيع بن أنس أن المراد به يخشون. وعن الزهري أن المراد به العمل. وأتبع ذلك ابن جرير قوله: " الإِيمان كلمة جامعة للإِقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإِقرار بالفعل. وإذا كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القول أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب قولا واعتقادا وعملا ". وحكى ابن كثير عن بعض المفسرين أن المراد بإيمانهم بالغيب تساوي غيبهم وشهادتهم في الإِيمان بخلاف المنافقين الذين أخبر الله عنهم بقوله:**{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }** [البقرة: 14]، وقوله:**{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** [المنافقون: 1]. وعليه فقوله بالغيب حال من الضمير في يؤمنون، وهو يتفق مع تفسير الايمان بالخشية أو العمل وتفسيره بالخشية مستوحى من قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }** [الملك: 12]، وقوله:**{ مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ }** [ق: 33]. مفهوم الغيب وأثره: وأما الغيب فما غاب عن علمك، واختلف المفسرون في كونه هنا صفة للمؤمن أو المؤمن به. وعلى الأول فقوله بالغيب حال من الضمير في يؤمنون - كما سبق - أي يؤمنون غائبين ومتعلق الإِيمان غير مذكور لعلمه من سائر الأدلة، واستدل له الزمخشري في كشّافه بما أخرجه سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم وصححه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ.. إلى قوله.. ٱلْمُفْلِحُونَ } ، ومن هذا الباب قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:**{ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }** [يوسف: 52]. وعلى الثاني فالغيب هو متعلق الإِيمان، واختلف فيه، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه ما جاء منه - أي من الله جل ثناؤه -. أخرجه عنه ابن جرير وأخرج عنه وعن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن الغيب ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن لم يكن تصديقهم بذلك من قِبَل أصل كتاب أو علم كان عندهم، وهذا مبني على أن هذا الوصف خاص بمؤمني العرب كما سيأتي. وأخرج ابن جرير أيضا عن زر بن حبيش قال: الغيب؛ القرآن، والظاهر أنه يعني بذلك ما حواه القرآن من أمور غيبية. وعن قتادة أن المراد به الجنة والنار والبعث بعد الموت ويوم القيامة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعن الربيع بن أنس أنه قال: الذين يؤمنون بالغيب آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه وآمنوا بالحياة بعد الموت. وقيل: الغيب؛ القضاء والقدر. وقيل: كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. وقيل: هو الله سبحانه، وضعّفه ابن العربي. وأنت تدري أن مفهوم الغيب يصدق على كل ما غاب عن الحواس، سواء اهتدى إليه الإِنسان بعقله أو دله عليه دليل الوحي، فيدخل في ذلك كل ما ذكره المفسرون، كما يدخل فيه كل ما دل عليه القرآن أو تواترت به السنة من أخبار الأمم البائدة، وأحوال الأحداث المستقبلة، فإن الإِيمان به إيمان بغير محسوس، بل يدخل فيه التصديق بالعبادات المشروعة المعلومة من طرق الأخبار الثابتة والعمل بها، بدليل ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن تويلة بنت أسلم قالت: **" صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيليا فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أولئك قوم آمنوا بالغيب " ".** وما أخرجه البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب، قال: **" كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أنبئوني بأفضل أهل الإِيمان إيمانا، فقالوا: يا رسول الله؛ الملائكة، قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها، قالوا: يا رسول الله؛ الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوة. قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها. قالوا: يا رسول الله؛ الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء. قال: هم كذلك، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة. قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإِيمان إيمانا " ".** وبما أن الإِيمان بالغيب المطلوب هو الإِيمان العميق الأثر، القوي التأثير، الذي يقود صاحبه إلى مناهج الخير والصلاح، ويبعد به عن مسالك الشر والفساد، وليس الايمان التقليدي الذي لا أثر له في سلوك صاحبه، ولا تأثير له على وجدانه ومشاعره، وصف الله سبحانه هؤلاء المؤمنين بصفات تدل على التزامهم موجب الإِيمان، وتكييف حياتهم بمقتضاه، وذلك بتصديق الإِيمان بالعمل. إقام الصلاة أول صفات المؤمن: وأول ما وصفوا به من الأعمال التي يلتزمونها تصديقا لايمانهم: إقام الصلاة، لأن الصلاة هي عمود الدين وإمام الواجبات العملية، والمحافظة عليها ركن من أركان الاسلام، ولأجل ذلك تتابع التأكيد عليها في القرآن حتى في أوائل السور نزولا، واقترنت بالترغيب والترهيب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ففي سورة العلق - وهي أول ما أنزل - يقول تعالى:**{ أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ }** [العلق: 9 - 10]، وأمر بها سبحانه في سورة المزمل التي كان نزولها في أوائل العهد المكي، وذلك في قوله:**{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }** [المزمل: 20]. وبيّن أن المهتدين بالكتاب أول صفاتهم العملية وأبرزها إقام الصلاة كما في هذه السورة، وفي سورة النمل في قوله:**{ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ }** [النمل: 2 - 3]، ومثل ذلك في سورة لقمان في قوله:**{ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ }** [لقمان: 3 - 4]. وبيّن تعالى صفات نصرة الله من العبد التي تؤدي إلى نصرة الله للعبد، وصدَّرها بإقام الصلاة في قوله:**{ ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ }** [الحج: 41] (الآية). وذكر إسماعيل - عليه السلام - فوصفه بقوله:**{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِٱلصَّـلاَةِ وَٱلزَّكَـاةِ }** [مريم: 55]. وذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال:**{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ }** [الأنبياء: 73]. وعندما وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض في قوله:**{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ.. }** [النور: 55] (الآية)، أتبع ذلك قوله:**{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }** [النور: 56]، تنبيها على أن أول أسباب النصر على الأعداء والاستخلاف في الأرض؛ إقام الصلاة، وفي سورة " المؤمنون " صدرت صفاتهم بالخشوع في الصلاة، واختتمت بالمحافظة عليها، في قوله تعالى:**{ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ }** [المؤمنون: 1 - 2] - إلى قوله -**{ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }** [المؤمنون: 9]. وذكر تعالى المؤمنين أيضا في سورة الأنفال، فكان أول ما ذكر من صفاتهم العملية إقام الصلاة، وذلك في قوله:**{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }** [الأنفال: 2 - 3]. وشرط في تحقق الأخوة الدينية إقام الصلاة، حيث قال:**{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ }** [التوبة: 11]. وفيه أيضا دليل على أن توبة الكافر مشروطة بإقام الصلاة، لأن الاسلام يتحقق بها، وكذلك مسالمة المؤمنين، كما يدل على ذلك قوله سبحانه:**{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ }** [التوبة: 5]، وعلى ذلك نص حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا كانت صفات المؤمنين تبدأ غالبا بإقام الصلاة فإن صفات المشركين والمنافقين تصدر بتضييعها، كما في قوله تعالى:**{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً }** [مريم: 59]. وقوله في ذكر ما يكون من تساؤل بين أهل الجنة وأهل النار:**{ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ }** [المدثر: 40 - 47]، فانظر كيف ذكروا أول ما ذكروا من أعمالهم التي سلكتهم في سقر، تركهم الصلاة، وقدموا ذلك على تكذيبهم بالدين، ففي هذا ما يكفي لأن يكون رادعا عن التهاون بالصلاة وباعثا على المحافظة عليها، وبجانب هذه الآيات المبينة لشأن الصلاة وقدرها في الاسلام وأثرها في النفس والمجتمع، وما تضمنته من وعد على إقامتها ووعيد على التفريط فيها، تضافرت كذلك روايات جمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعلق بالصلاة وأدائها، منها حديث ابن عمر الذي مر آنفا، وحديث في أركان الاسلام عند أحمد والشيخين، وحديث عائشة - رضي الله عنها - عند الربيع - رحمه الله - مرفوعا: **" لكل شيء عمود وعمود الدين الصلاة وعمود الصلاة الخشوع ".** وأخرج الربيع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" لا إيمان لمن لا صلاة له.. "** ، وروى الربيع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة "** ، ورواه الجماعة إلا البخاري والنسائي عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعا بلفظ: **" بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة "** ، وروى أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم وصححه النسائي والعراقي عن بريدة قال: **" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر " "** ، وروى أحمد بإسناد رجاله ثقات، والطبراني في الكبير والأوسط عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوما فقال: **" من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأُبَيْ بن خلف "** وذكر بعض العلماء مناسبة لذكر هؤلاء الأربعة دون غيرهم من الكفار، وهي أن مضيع الصلاة إما أن يكون ملكا فيشغله عنها ملكه، أو غنيا فيشغله عنها ماله، أو وزيرا فتشغله عنها وزارته، أو تاجرا فتشغله عنها تجارته، فإن كان ملكا حشر مع فرعون، وإن كان غنيا حشر مع قارون، وإن كان وزيرا حشر مع هامان، وإن كان تاجرا حشر مع أُبي بن خلف - وهو أحد تجار مكة الذين حاربوا الله ورسوله وقاوموا دينه وصدوا عن سبيله -. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وروى الربيع بن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخير الصلاة فقال: **" تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم يتحدث حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان ثم يقوم فينقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا "** ، وأخرج الجماعة إلا البخاري وابن ماجة معناه عن أنس أيضا، وفي حديث أنس كذلك عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؛ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط "** قالها ثلاثا. أثر الصلاة في تهذيب النفوس: وإذا كانت العبادات المتنوعة التي شرعت في الإِسلام ذات أثر عميق في الإِصلاح النفسي والاجتماعي، وتنوير الفكر، وتهذيب الأخلاق، وإمداد العقيدة بالطاقات التي تمكنها من الهيمنة على العقل والقلب والروح والجسم والعواطف والغرائز، فإن الصلاة أعمق أثرا وأغزر عطاء، ولذلك شرعت متكررة في كل يوم دون غيرها، وهي بهذا التكرار تسد جانبا مهما من الفراغ الروحي، ذلك لأن للروح مطالب كمطالب الجسم، وقد هيأ الله سبحانه لكل منهما مطالبه بحسب مقتضى ضرورته إليها، فالجسم الحي أحوج ما يكون إلى الهواء فالماء فالطعام فالدواء، وكل ما كانت الحاجة إليه أدعى كان أيسر من غيره، فالهواء أيسر من الماء، والماء أيسر من الطعام، والطعام أيسر من الدواء، وذلك مثل مطالب الروح، وهي العبادات المشروعة، فما كانت الضرورة إليه أبلغ كانت ممارسته أيسر، ومن هنا كرر وجوب الصلاة في اليوم، وجعلت أيسر من سائر العبادات كالصيام والزكاة والحج. حكمة مشروعية الصلاة: ومعرفة حكمة مشروعية الصلاة موقوفة على إخبار الشارع الحكيم تعالى عنها، وفي كتاب الله المبين وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يغنينا عن التخمين في ذلك، فإذا تأملنا آي الذكر الحكيم وطالعنا مدونات السنة النبوية خرجنا بدليل قاطع على أن الصلاة إنما شرعت لذكر الله تعالى الذي يترتب عليه محق السيئات وتثبيط العزائم عنها، وتقوية عزائم الخير، وتواصل قلوب المؤمنين برباط الايمان، وذلك فيما إذا حافظ عليها العبد وأداها على النهج المشروع، ومن الآيات الواضحة في ذلك قوله تعالى:**{ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت: 45]، وقوله:**{ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ }** [طه: 14]، وقوله:**{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ }** [المعارج: 19 - 23]، وفي هذه الآيات الأخيرة بيان أن الصلاة بما لها من سلطان روحي وأثر نفسي تأتي على خصال جبلية مذمومة فتجتثها من نفس مَن داوم عليها، وهي وإن كانت مشتركة مع سائر أعمال البر في ذلك، كما يشهد به عطف هذه الأعمال عليها فهي أبعد أثرا منها، بدليل تقديمها عليها والتنويه بها مرة أخرى في نهاية سردها في قوله عز وجل: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }** [المؤمنون: 9]، بل يشير ذلك إلى أنها سور للأعمال الصالحة جميعا. وفي سورة الماعون شاهد على أن التهاون بالصلاة منشأ لأعمال الشر، ذلك أن الله عز وجل ذكر فيها التكذيب بالدين ودّع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين، ثم أتبع ذلك قوله:**{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ }** [الماعون: 4 - 5]، والسياق يقتضي أن يقول فويل لهم ولكن عدل عن ذلك فأتى بالاسم الظاهر مكان الضمير، وكان هذا المظهر المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، للدلالة على أن السهو عن الصلاة هو باب هذه الموبقات كلها، ويشهد لذلك العطف بالفاء التي تقتضي ربط ما بعدها بما قبلها، ورب قائل يقول: إذا كانت الصلاة مشروعة لتزكية النفس - حسب ما قلت - فما بال كثير من الناس يحافظون عليها في مواقيتها ويؤدونها مع الجماعات كما أمر بها، ومع ذلك ليس لها أي أثر نفسي عليهم فلا تردعهم عن المنكرات، ولا تمنعهم من الدنايا، ولا تبعثهم إلى الصالحات؟ والجواب عن هذا التساؤل أن الصلاة المؤثرة هي الصلاة المؤداة بحسب ما شرعت روحا وشكلا بحيث تشعر القلب عظمة الخالق المعبود وعظم منته وإحاطة علمه وقدرته، وشدة بطشه ونقمته، وسعة ثوابه ورحمته، فيستشعر بها المصلي افتقاره إلى المعبود، واستغناء المعبود عنه، وذلك داع إلى تحري مرضاته فيما يصدر عنه فعلا وتركا، أما الصلاة الخالية من هذه الروح فهي صلاة ميتة بعيدة عن هذه المزايا، لا يحصل منها أي أثر نفسي أو اجتماعي. وقد أجاد الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده إذ قسم الصلاة إلى عادة وعبادة، فالعادة هي صلاة أكثر العوام، فإن أحدهم وهو في طور الرشد والعقل إذا قام يصلي لم تختلف صلاته عنها في طور طفولته عندما كان يحاكي أباه فيها، والعبادة هي هيكل وروح، فالهيكل ما شرع من الأقوال والأفعال الظاهرة فيها المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، فهي لا تعدو أن تكون بمثابة الجسم الميت الذي لا حراك له ولا جدوى منه ما لم تقترن بروحها، وروحها الخشوع الذي يوصل القلب والعقل بالله عز وجل. الخشوع روح الصلاة: ومن ثم كان الفلاح منوطا بالخشوع كما في قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } ، وقد نص حديث عائشة - رضي الله عنها - السالف الذكر على أن الخشوع هو عمودها. ولكون المحافظة على الصلاة الشرعية المستكملة لأركانها الظاهرة والباطنة هو من أعظم الواجبات الدينية، تضافرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتشنيع والوعيد على من يفرط في أي شيء من واجبات الصلاة، كأولئك الذين يحولون أبصارهم فيها تارة إلى الميمنة وأخرى إلى الميسرة، ويرفعون رؤوسهم إلى الأعلى مرة ويطأطئونها أخرى غير مبالين بآداب المناجاة التي يقتضيها المقام واستغناء المناجى وافتقار المناجي، وأولئك الذي يختلسون منها الركوع والسجود والطمأنينة، ويبدلون هيآتها، ومما ورد في ذلك حديث أبي هريرة، قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث؛ عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب "** وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، وكان إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه وكان بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما، وإذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقب الشيطان، وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختتم الصلاة بالتسليم. وروى الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه نهى المصلي أن يقعي في صلاته إقعاء الكلب، وأن ينقر فيها نقر الديك أو يلتفت فيها التفات الثعلب أو يقعد فيها قعود القرد. قال الربيع: إقعاء الكلب أن يفرش ذراعيه ولا ينصبهما، وقعود القرد أن يقعد على عقبيه وينصب قدميه، قال: ومن فعل شيئا من هذه الوجوه الأربعة فعليه إعادة الصلاة. وروى أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود **" عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفت في الصلاة، قال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد "** وروى الترمذي وصححه عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" " إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة.. "** (الحديث). وروى أحمد والنسائي وأبو داود عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه ".** وروى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" لينتهين أقوام عن رفع رؤوسهم في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم "** ، وروى من طريقه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة - واشتد ذلك عليه حتى قال - لينتَهُنَّ عن ذلك أو لتُخْطَفَنَّ أبصارهم "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ، **" وروى أحمد والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ارجع فصَلِّ فإنك لم تصل " ، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " ، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: " إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " "** وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده "** ، وروى أحمد وابن ماجة عن علي بن شيبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود "** ، وروى أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لا تجزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود "** ، وروى أحمد والبخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم. صفة الصلاة الصحيحة: وبالجملة فإن الأدلة متضافرة على أن الصلاة الصحيحة المقبولة عند الله هي الصلاة المصحوبة بالطمأنينة والسكينة، المقترنة بروحها ومصدر سلطانها - وهو الخشوع - وبدون ذلك لا يكون لها على النفس سلطان ولا في الحياة أثر، فإنها تُعد ميتة لا تغني شيئا ولا تحيي قلبا، وأذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فأمعن فكرك فيما تقوله في صلاتك مستحضرا معانيه، مستشعرا عظمة الله المعبود الذي أنت واقف بين يديه، تجد كل كلمة تلفظ بها دافقة بمعنى حيوي يسري في نفسك كما تسري الروح في جسمك، وأول ما تنطق به التكبير، وبه تدخل في صلاتك، وهو يسكب في نفسك شعورا بأن كل ما في الوجود - وإن عظم شأنه وعلا قدره عند الخلق - هو صغير حقير بجانب كبرياء الله تعالى وعظمته، إذ ليس من المعقول أن يقارن بين الخالق والمخلوق، وبين القديم والحادث، وبين الباقي والفاني، فالمخلوق مهما أوتي من قوة أو سلطان فهو نسبي في حدوده لا يوازي شيئا بجانب قوة الله المطلقة، وسلطانه المهيمن على الوجود، وإذا استشعرت هذه الحقيقة كان لها أثر نفسي عليك؛ لأنك إما أن تكون من ذوي القدر والمكانة عند الناس بمنصبك، أو مالك، أو جاهك ووجاهتك، وإما أن تكون من الذين تتجاوزهم الأنظار ولا زنة لك عند الناس لضعفك المادي، ولضعة قدرك بينهم، فإن كنت من الصنف الأول، كان نطقك بتكبير الله عز وجل كافيا في تنبيه قلبك الغافل، وإيقاظ بصيرتك النائمة بأنك لا مزية لك على غيرك من الناس، فأنتم جميعا متساوون في الضعف، والفقر، والذلة والمسكنة أمام الله، وليس ما أوتيته - مما تظنه أو يظنه غيرك مزية وعلوا لقدرك - إلا ابتلاء من الله تعالى مالك الملك ذي الطَّول والحول الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويهب النعمة من يشاء، ويسلبها ممن يشاء، وله ما آتى وما نزع، وبيده ما وهب وما سلب، فيكون لك من ذلك دواء لغرورك، وكبح لشرورك، لأنك تستشف بهذا الشعور عيوبك المتنوعة، سواء ما كان خاصا بك أو كان مشتركا بينك وبين الناس، وتدرك أنك واحد من العباد المفتقرين إلى الله لا مزية لك بينهم، ولا فضل لك عليهم إلا بقدر ما تتقي ربك، وتتقرب إليه بالتذلل والخضوع والخشية والخشوع، وذلك ينافي ما أنت فيه من الغرور والاستكبار والتطاول على الناس بما ابتلاك الله به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن كنت من الصنف الثاني كان شعورك بما يوحيه التكبير كافيا لأن يرفع من قدرك، فلا ترضى أن تنزل منزلة المهانة والذلة بين الناس بسبب فقرك أو ضعفك، فإنهم مثلك، وكلكم في الضعف سواء، ولئن كان بعضهم أوتي ما لم تؤته من أسباب القوة ووسائل النعيم في الحياة الدنيا؛ فإن ذلك لا يعدو أن يكون ظلا زائلا، وخيالا عابرا، وإذا أنت تقربت إلى الله بصالح الأعمال، واستمسكت بعروة التقوى كنت أجدر منهم بالعزة، وأولى منهم بالكرامة، وهذا الشعور نفسه كفيل بتحرير نفسك من الذل لغير الله وجعلك تقصر خضوعك على مقام الربوبية، فما أعظم هذه التربية النفسية للمصلين، سواء كانوا من الفريق الأول أو الثاني. وإذا شرعت في التلاوة وافتتحتها بالاستعاذة عملا بقول الله تعالى:**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ }** [النحل: 98]، شعرت أنك تلجأ إلى حمى الله المنيع هروبا من الشيطان ووساوسه ومكائده، وفي ذلك ما يوقظ نفسك لما يريد بك الشيطان من سوء، وما يقصدك به من إضلال، فهو عدوك الذي لا ينفك عن الكيد لك؛ حتى يرديك في الجحيم إن لم يتداركك الله بلطفه، ويعصمك منه بحوله، وهذا يقتضي أن لا يكون لجوؤك إلى الله لجوءا قوليا فحسب، بل لجوءا قلبيا وعمليا بحيث تُستنفَد طاقتك في مقاومة مكائد إبليس بالطاعات التي تؤهلك للدخول في حمى الله، أما إذا قلت ذلك بلسانك فحسب، وكان قلبك وجوارحك في قبضة الشيطان، لم يغنك هذا القول شيئا، وإنما يكون مثلك مثل الأسير في قبضة عدوه لا يستطيع الانفلات منه، وهو مع ذلك يدعي بلسانه أنه هارب من ذلك الأسر، ولاجىء إلى حمى أحد الملوك، وكيف يكون لمثله اللجوء وقد أحاطت به حبال الأسر، ومنعته من قصده قيود القهر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإذا نطقت بالبسملة استشعرت عظمة الموقف الذي أنت واقفه، وقدر العمل الذي أنت عامله، فإنك واقف بين يدي الله، وعامل باسمه، ومن شأن ذلك أن يوحي إليك أنه لا اعتداد بشيء ما لم يكن لله تعالى خالصا، فإذا قلت { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } شعرت بفيض من نعم الله تعالى يغمر جوانبك ويملأ وجودك ووجود كل شيء، فإن كون الحمد محصورا في الله سبحانه دليل على أنه مصدر كل نعمة، وهذا داع إلى قطع حبال التعلق بغيره تعالى؛ لأجل تحقيق منفعة أو دفع مضرة، ويؤكد ذلك وصفه بأنه رب العالمين، فهو مشعر بخضوع كل ما في الوجود لعزه وسلطانه، وافتقار كل كائن إلى فضله وإحسانه، فما من ذرة في الكون إلا وهي واقعة تحت حيطة قدرته، معلنة بلسان حالها افتقارها إلى فضله ومنته، وشعورك بذلك يقوي صلتك به تعالى بحيث لا ترى غيره أهلا لأن يرجى أو يتقى، كما يستدعي أن تكون في أحوالك المتقلبة، وتصرفاتك المتنوعة تتحرى مرضاته، وتجانب سخطه، ولا ريب أن قلبك - في مثل هذا الموقف الذي تتجلى فيه آيات توحيده تعالى، وتشاهد شواهد عظمته وجلاله - تغمره الدهشة وتمتلكه الهيبة، غير أنك إذا قلت { الرحمن الرحيم } أحسست بالسكينة تسري في نفسك، وتمتزج بدهشتك، وبالطمأنينة تزاحم الهيبة في قلبك، فتتعادل فيه كفتا الخوف والرجاء، لأنك تستشعر أن ربوبيته تعالى - مع جلاله الباهر وسلطانه القاهر - هي ربوبية رحمة وإنعام وفضل وإحسان، ويقوي هذا التعادل إذا ما قلت: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } واستشعرت خطورة ذلك الموقف الذي تَمْثُل فيه بين يدي رب العالمين، وقد تجردت من كل ما خولته في الدنيا، وقطعت جميع علائقك بأحبابك ونصرائك فيها، لتعرض عليك أعمالك السيئة والحسنة فلا يخفى منها خافية، وأنت بين الجنة والنار، أولاهما عن يمينك والثانية عن شمالك، لا تدري إلى إيهما منقلبك والله بك محيط لا مهرب لك عنه، ولا نصير لك دونه، وفي شعورك بهذا تقوية لعزائم الخير في نفسك، وكبح لعزائم الشر التي يمليها عليك هواك. فإذا قلت { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، أحسست بتضاعف الهيبة، لأنك انتقلت إلى خطاب الله تعالى خطاب الحاضر، ومضمون الخطاب نفسه يستلزم منتهى الخضوع والوصول إلى أقصى حد في التواضع، لأن معنى خطابك تقديم عبادتك إليه تعالى وهو غني عنك وعنها، وإنما هي وظيفتك التي لأجلها خلقك، ورفع قدرك بما بسط لك من نعمه وسخر لك من خلقه، فقيامك بها إنما هو شرف لنفسك ومنفعته عائدة إليك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا الخطاب منك يقتضي عدة أمور، منها: صدق المقال، وإخلاص السريرة، وتعظيم المقام، والاستمرار على الخضوع المطلق للمعبود، وطاعته الدائبة، والعطف والرحمة بعباده. فإن الله علمك في هذا الخطاب أن تشرك نفسك مع غيرك من عباده العابدين، ولم يعلمك أن تخاطبه بصيغة فردية، التي تقتضي استقلالك عنهم، وفي هذا ما يقتضي وحدة الأمة المؤمنة القائمة بعبادة ربها، وحدة عامة في الشعور والإِحساس، وفي القول والعمل، وفي المبادىء والأهداف، وفي الآلام والآمال. فإذا قلت: { وإياك نستعين } شعرت بقيمتك عند خالقك، إذ لم يجعل بينك وبينه وسائط تستعين بها في طلب محبوب أو اتقاء مخوف، كما أنه لم يجعل بينك وبينه وسائط تعبدها دونه، فالعبادة والاستعانة خاصتان به تعالى وذلك فيما لم يجعل الله التعاون فيه بين الناس من سنن كونهم ونواميس حياتهم - كما تقدم تفصيله في تفسير الفاتحة الشريفة - وفي شعورك بهذا تخليص لك من التشبث بالأوهام، كالضراعة إلى الموتى في القبور، أو الى الأشجار والأحجار، أو العيون والأنهار، أو الجن والشياطين، في طلب فكاك من معضلة أو وصول إلى هدف. فإذا قلت: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، شعرت أنك أمام طريقين: طريق الهداية والاستقامة المؤدي إلى نعمة الله تعالى بالتوفيق والفوز بالرضوان، وهو الذي وفق الله لسلوكه عباده الصالحين من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحُسن أولئك رفيقا. وطريق الضلال والانحراف المؤدي إلى غضب الله وعقوبته، وتتشعب منه مسالك لا تحصى كلها ملتوية مطموسة المعالم، وهو طريق الفريق الآخر الذي نكب عن صراط الحق، وتعرض لغضب الخالق سبحانه. وفي هذا الشعور ما يدعو إلى التبصر في مسالك الحياة والدؤوب على اتباع الحق، واجتناب الباطل، ويدعو إلى الترابط المديد بين أهل الحق، أسلافهم وأخلافهم، فلا تخرج أجيالهم عن كونها حلقات متواصلة في سلسلة واحدة. وهكذا شأن الخاشع في صلاته في كل ما يتلوه من القرآن وما يكرره من تكبير وتسبيح وتعظيم، وجميع حركاته من قيام وقعود وركوع وسجود. فإذا أدى صلاته على هذا النحو خرج منها طاهر الروح، زكي النفس، نقي الوجدان، مرهف الحس، مهذب الأخلاق. فإذا خاض من بعد غمار الحياة وكاد يتلوث من جديد بدخانها وغبارها، عاد إلى هذا المعين الفياض فارتمى فيه وتطهر من أوضاره وتخلص من أكداره، وهكذا تتكرر العملية في اليوم والليلة خمس مرات، فضلا عن الرواتب والنوافل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد صور رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأثر النفسي للصلاة وتطهيرها باطن الانسان من الأرجاس المعنوية في صورة المحسوس المألوف - وهو الطهارة الحسية - حيث قال صلى الله عليه وسلم: **" أرأيتم لو أن على باب أحدكم نهرا جاريا غمرا ينغمس فيه كل يوم وليلة خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس "** ، وهو مثل أراد به صلى الله عليه وسلم إفهام العقول وتقريب المعاني، فإن النفس آلَفُ للمحسوس وأدرك لحقيقته، وإلا فشتان بين نقاء الظاهر ونقاء الباطن، وطهارة الجسم وطهارة الروح. معنى الإِقامة ومغزاه: والذي يلاحظ أن الأمر بالصلاة في القرآن لم يأت بلفظ صلوا، وكذلك الثناء لم يكن للمصلين من غير اقتران بذكر إقامة الصلاة، أو المحافظة والمداومة عليها، بل نجد أن الأمر أكثر ما يكون بإقامة الصلاة، وقد يأتي بلفظ المحافظة عليها كما في قوله عز من قائل:**{ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ.. }** [البقرة: 238]، وكذلك الثناء يختص بالمقيمي الصلاة والمحافظين عليها، والمراد بكل من إقامة الصلاة والمحافظة عليها؛ الإِتيان بها مستكملة جميع أركانها وهيئاتها وآدابها الظاهرة والباطنة، بل مدلولهما الحقيقي توفية الصلاة حقها والقيام بكل لوازمها. والدليل على أن ذلك هو المراد بالإِقامة قوله تعالى:**{ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ }** [المائدة: 68] أي حتى توفوهما حقهما من العلم والعمل، وقوله تعالى:**{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }** [المائدة: 66]، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن الصلاة التي أُمر بها الناس، والتي أثنى الله بها على عباده المؤمنين؛ هي الصلاة التامة الأركان، المستوفية الشروط، المعتدلة الهيئات، الممتزجة بروحها وهي الخشوع. وذكر أئمة التفسير وجوها في معنى الإِقامة غايتها واحدة، وإن اختلفت ألفاظها باختلاف أنظار قائليها. أحدها: أن المراد بها الإِتيان بها مستوية، كالجسم القائم الذي لا انحناء فيه. ثانيها: أنها بمعنى المداومة عليها؛ من قولهم قام على الشيء إذا داوم عليه، واستدل له بقوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ }** [المعارج: 23]، وقوله:**{ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }** [المؤمنون: 9]. ثالثها: أنها مأخوذة من إقامة السوق؛ إذا أعد لها الإِعداد التام، حتى تصير رائجة الزبائن؛ لأنها بالمحافظة التامة عليها تكون كالبضاعة النافقة التي تتجه إليها الأنظار ويتنافس فيها التجار، بخلاف ما إذا أهملت، ومنه قول الشاعر: | **وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا** | | **حتى تقيم الخيل سوق طعان** | | --- | --- | --- | وقول آخر: | **أقامت غزالة سوق الطعان** | | **لأهل العراقَين حولا قميطا** | | --- | --- | --- | وقول غيره: | **أقمنا لأهل العراقين سوق الضـ** | | **ـراب فخاسوا وولوا جميعا** | | --- | --- | --- | رابعها: أن إقامتها عبارة عن استجماع الهمة وتحريك العزيمة لأدائها؛ من قولهم قام بالشيء إذا اشتدت به همته، وبالغ بالعناية بإتمامه، ويقال في الضد: قعد عن الشيء أو نام عنه، إذا استخف به، ولم يتمم لوازمه، ومن المعلوم أن القيام في العمل لا يكون إلا لداعي الاهتمام به، كقيام الخطيب في خطبته فإنه دليل على اهتمامه بما يتحدث به وحرصه على وصوله إلى مسامع الحاضرين، وولوجه إلى أذهانهم، وامتزاجه بأفهامهم، وكذلك قيام الصانع في صنعته، وهكذا، ويدل كذلك على صعوبة ما يمارسه القائم من القول أو العمل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثَم وجه آخر؛ وهو أن ذكر الإِقامة جاء تنويها بالقيام في الصلاة، لأنه ركن من أركانها، وجزء مهم من أعمالها، ولاحظ عليه قطب الأئمة - رحمه الله - في الهيميان بأن الجزء الذي يذكر عن الكل يلزم أن يكون جزءا مهما، وكل من الركوع والسجود أدل على الخضوع وأقرب إلى الخشوع من القيام، فكيف يذكر دونهما مع قصد الصلاة نفسها، وأجاب عن هذه الملاحظة بأن للقيام في الصلاة أهمية لا تقل عن أهمية الركوع والسجود، لأنه يدل على غاية الامتثال ومنتهى التذلل. ومثله فيها مثل ما يكون من المحكومين أمام الحاكمين، والمرؤوسين أمام الرؤساء، ومن هنا أمر الله تعالى بالقيام بين يديه في قوله:**{ قُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ }** [البقرة: 238] وذلك في الصلاة قطعا. وما ذكرته أولا من تفسير إقام الصلاة معناه محكي عن بعض السلف، فقد أخرج ابن جرير عن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: المراد " بيقيمون الصلاة " أنهم يقيمونها بفروضها، وروي عنه من طريق الضحاك أنه قال: إقام الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإِقبال عليها فيها، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة: أن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، ولا يعد هذا اختلافا بينهم لأنه ناشىء عن اختلاف مقامات السؤال بحسب أنظار المجيبين إلى أحوال السائلين، أو إلى الظروف الملابسة لسؤالهم، وقد تقدم أن مثل هذا لا يعد خلافا. وأكثر المفسرين على أن المراد بالصلاة هنا الصلوات المفروضة لأنها هي التي يتوقف عليها الفلاح، كما في حديث الأعرابي: **" أفلح إن صدق "** ، ونسب ذلك ابن جرير إلى الضحاك، ونسب أيضا إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا مانع من دخول صلاة النفل فيها تبعا، نظرا إلى أن من صفات المتقين المسابقة إلى كل ما يقربهم إلى الله كما شأنهم، وكما يدل عليه وصفهم في القرآن. معنى الصلاة لغة واصطلاحا: وأصل الصلاة عند العرب الدعاء، ومنه قول الشاعر: | **تقول بنتي وقد قربت مرتحلا** | | **يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا** | | --- | --- | --- | | **عليك مثل الذي صليت فاغتمضي** | | **نوما فإن لجنب المرء مضطجعا** | وقول غيره: | **وقابلها الريح في دنها** | | **وصلى على دنها وارتسم** | | --- | --- | --- | وقول الأعشى: | **لها حارس لا يبرح الدهر بيتها** | | **وإن ذبحت صلى عليها وزمزما** | | --- | --- | --- | ويرى ابن جرير أن الصلاة نقلت من هذا المعنى اللغوي إلى معناها الشرعي - وهو العبادة المخصوصة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، المشتملة على القيام والقعود والركوع والسجود مع التلاوة والتسبيح والتعظيم - لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله لعمله مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته؛ تعرض الداعي بدعائه ربه لاستنجاح حاجاته وسؤله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وذهب بعض المفسرين إلى أنها مأخوذة من اللزوم من قولهم: صليَ النار. ومنه قوله تعالى:**{ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً }** [الغاشية: 4] وذلك لأن المصلي يلازم العبادة حسب ما أمره الله، وقيل: هي مأخوذة من تصلية العود بالنار لأجل تقويمه وتليينه، لأن المصلي يقوِّم نفسه بخشوعه وخضوعه في الصلاة، وذهب الزمخشري إلى أنه مأخوذ من الصلا وهو عرق في الظهر يفترق عند عجم الذنب فيكتنف جانباه الوركين، ويسميان الصلوين، وهذا لأن المصلي يحرك صلويه في ركوعه وسجوده، وتابعه على رأيه جم غفير، غير أن الفخر الرازي بالغ في انتقاد قول الزمخشري، مدعيا أن كلامه يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة، وذلك لأن لفظ الصلاة من أعظم الألفاظ شهرة، وأكثرها دورانا على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء عن الاشتهار فيما بين أهل النقل، ولو جوز أن يكون ذلك أصل مسمى الصلاة، ثم خفي واندرس حتى صار لا يعرف إلا عند الآحاد، لكان مثله جائزا في سائر الألفاظ، ولو جوز مثل ذلك لما جاز القطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ يتبادر إلى الأذهان من المعاني، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول ذات معان أخر، وهي المرادة منها، ولما بطل ذلك بالإِجماع بطل الاشتقاق الذي ادعاه الزمخشري. وتعقبه ابن عاشور بأنه لا مانع من أن يكون لفظ المشهور منقولا من معنى خفي لأن العبرة في الشيوع بالاستعمال، وأما الاشتقاق فبحث علمي، وعضد ذلك بقول البيضاوي واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه وأيد ابن عاشور قول الزمخشري بأن الصلاة مأخوذة من الصلا بما معناه أن كتابة الصلاة في المصاحف بالواو تشير إلى اشتقاقها من الصلا، إذ لو لم تقصد الاشارة إلى ذلك لما كان وجه لكتابته بالواو، وإنما ذلك نظير صنيعهم في كتابة الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى أصلها، وانتقد ابن عاشور توجيه الزمخشري في كشافه كتابتها بالواو بأنها ورادة على لفظ المفخم، أي لغة تفخيم اللام من حيث لم يصنع مثل ذلك في غيرها من اللامات المفخمة. وقيل: هي مأخوذة من المصلي في حلبة السباق، وهو يأتي بعد المجلي، وقد روعي في هذا الأخذ مجيئها تالية للركن الأول من أركان الاسلام، والمجلي هو الأول من الخيل في حلبة السباق، والمصلي الذي يليه، لأنه يأتي ورأسه بين صلوي سابقه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولا يتبادر من هذه الآراء إلا الأول وهو أنها مأخوذة من الصلاة التي هي الدعاء، لأن كلا من الداعي والمصلي لاجىء إلى الله عز وجل، راج منه الفوز بالمطلوب والوصول إلى المحبوب، وأرى أن سائر الأقوال لا تخلو من تكلف، وإذا كانت كتابة الصلاة في المصاحف بالواو تشير - حسبما يقول ابن عاشور - إلى أصل اشتقاقها فإن هذا لا يدل على صحة هذا الاشتقاق بحيث لا ينازع فيه، فإن الكتابة لا تعدو أن تكون اصطلاحا ناشئا عن اجتهاد بعض السابقين، وقد تابعهم عليه من جاء بعدهم، وذلك لا يقتضي أن ما اصطلحوا عليه حجة قاطعة في بيان أصول الاشتقاق، ولو كان الأمر كذلك لاتفقت كلمة مفسري السلف على ما تقتضيه هذه الاشارة المزعومة من أن الصلاة من الصلا، وقد علمت مما تقدم أن آراءهم تخالف ذلك، ولعل الزمخشري لم يسبق إلى المذهب الذي اختاره، فكيف يكون أمر اصطلحوا عليه دليلا على خلاف ما ذهبوا إليه؟ وقد أجاد الأستاذ الإِمام في قوله: الصلاة إظهار الحاجة والافتقار إلى المعبود بالقول أو العمل، وهو المراد بقولهم: الصلاة معناها الدعاء، لأن إظهار الحاجة إلى العظيم الكريم ولو بالفعل فقط، التماس للحاجة واستدرار للنعمة أو طلب لدفع النقمة، أرأيتم أولئك الذين يقفون بين أيدي الملوك ناكسي رؤوسهم حاني ظهورهم، وتارة يقعون على أقدامهم يقبلونها، أليس الباعث على هذا العمل إما خوف من عقوبة يطلبون به دفعها وإما حذر على نعمة يتقون سلبها ورفعها فيلتمسون بقاءها ويرجون زيادتها ونماءها؟ هذه الصلاة كانت توجد عند بعض الجاهليين وهم الذين كانوا يعرفون بالحنيفيين والحنفاء، وعند بعض أهل الكتاب - ثم قال - والصلاة بالمعنى الذي ذكرناه قد ظهر في الإِسلام في أفضل أشكاله، وهو تلك الصلاة التي فرضها الله على المسلمين، فإن هذه الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم على النحو الذي جاءت به السنة المتواترة من أفضل ما يعبر به عن الإِحساس بالحاجة إلى المعبود، وشعور الأنفس بعظمته لو أقامها المصلون وأتوا بها على وجهها. ومما ذكره تتضح لك المناسبة بين الصلاة التي هي الدعاء والصلاة التي هي العبادة المعروفة، ولذلك أطلق عليها اسمها. والصلاة مصدر صلَّى، والأصل في نحوه مما جاء على وزن (فعَّل) وهو معتل اللام أن يكون مصدره على وزن تفعلة، كزكّى تزكية، ونمى تنمية، ولكن خولف هذا الأصل هنا لئلا تلتبس هذه العبادة المقدسة بالتصلية بالنار إن جاءت على لفظها، حتى أن بعض كبراء أئمة اللغة زعم أنه لم يستعمل في كلام العرب لفظ التصلية بمعنى الصلاة، وليس كذلك، فقد نقل بعضهم استعماله بهذا المعنى وهو نادر، ومنه قول الشاعر: | **تركت القيان وعزف القيان** | | **وأدمنت تصلية وابتهالا** | | --- | --- | --- | وفي نقل الصلاة وأمثالها من الحقائق الشرعية عن أصولها اللغوية مجال واسع لمناقشات علماء أصول الفقه وغيرهم، فمن أراد الاطلاع على ذلك فليرجع إلى الكتب الخاصة بهذه الفنون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الإِنفاق ركيزة من ركائز الإِيمان: وبعد تثنية وصف المتقين بإقام الصلاة ثلّث بالإِنفاق من رزق الله، وقد تتابعت هذه الصفات حسب أهميتها وترتبها الواقعي، فالايمان بالغيب - كما سبق - هو القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الأعمال الصالحة وتنبثق منها الفضائل، وهو صفة لازمة للمتقين لا تنفك عنهم في جميع الأحوال، والصلاة هي إمام الأعمال البدنية، وأقواها في تهذيب النفس وتقويم السلوك، وأجداها في إمداد العقيدة لما فيها من التذكير بالله وسلطانه وإحسانه - كما تقدم تفصيله - وهي أكثر الوظائف اليومية للمسلم تكررا. والإِنفاق من رزق الله هو الركن المالي الاجتماعي من أركان هذا الدين، وبه يتم تماسك المجتمع وترابط الأمة، لأن الله تعالى اقتضت حكمته أن لا يستقل أحد من الناس بمصالحه الحيوية، مهما أوتي من بسطة في الجسم وسعة في الرزق ونبوغ في التفكير، وبالانفاق من رزق الله من عباده الأغنياء على إخوانهم الفقراء يحصل بينهم التعاون الذي يترتب عليه التعايش السلمي والاستقرار النفسي والاجتماعي، وقبل حديثي عن الانفاق يحسن أن أتحدث عن الرزق من حيث مفهومه اللغوي والديني. معنى الرزق لغة واصطلاحا: الرزق مأخوذ من رزق يرزق رَزْقا - بالفتح - إذا أعطى، وهو بالكسر إسم للشيء الذي يرزق ويحصل به الانتفاع، وقيل: هو مصدر أيضا وهو عند أهل اللغة بمعنى النصيب أو الحظ كما في قوله تعالى:**{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.. }** [الواقعة: 82] أي حظكم التكذيب، وروى ابن السكيت عن أزد شنؤه أنه بمعنى الشكر وحمل عليه الآية، وروي عن بعضهم أن الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل. وأبطله الفخر نظرا إلى أن الله أمر عباده أن ينفقوا مما رزقهم في قوله:**{ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم }** [البقرة: 254] فلو كان الرزق هو المأكول لما أمكن إنفاقه، وحكى الفخر عن جماعة بأن الرزق هو ما يُملّك، وأبطله أيضا لجواز أن يقول الانسان اللهم ارزقني ولدا صالحا، وامرأة صالحة، وعقلا يسوسني إلى الخير، مع أنه ليس من المعقول أن يملك أحد عقله، كما أنه ليس من المشروع أن يملك ولده أو امرأته. وفيما قاله نظر، لأن من الظاهر أن المراد من قول القائل أن الرزق هو ما يؤكل ويستعمل، ما جرت العادة بأكله واستعماله، ولا يلزم أن يكون المرزوق هو الذي يأكله أو يستعمله، وإنما يكفي في اعتباره مرزوقا إياه؛ تمكنه من أكله أو استعماله. وقول القائل اللهم ارزقني ولدا صالحا أو امرأة صالحة أو عقلا أعيش به، لا ينافي أن يكون المرزوق مالكا لرزقه، لأن الملك إما أن يكون ملك عين، أو ملك منفعة، ولا يشك أحد أن الانسان مالك للمنفعة التي تحصل له من ولده أو امرأته أو عقله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | نعم يصح أن يعترض بجواز ما ذكره على القول السابق، واختلف علماء الشرع في تعريف الرزق، فقال أبو الحسين البصري: هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به. وذهب بعض الأشاعرة إلى أنه؛ ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به، سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك. وقيل: هو اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به، وعلى هذا فالرزق قاصر على ما يطعم دون سائر المنافع. والأقرب شمول الرزق لكل ما ينتفع به، بدليل جواز قول القائل: اللهم ارزقني ولدا صالحا أو امرأة صالحة أو مسكنا واسعا. وحصر الرزق في المطعومات مما لم يقم عليه دليل، بل الدليل قائم على خلافه، فإن الله قال في قارون:**{ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ }** [القصص: 76] ثم حكى الحوار الذي كان في شأنه بين الذين أوتوا العلم والذين يريدون الحياة الدنيا، وقفى ذلك حكاية قولهم بعد هلاكه:**{ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ }** [القصص: 82] وهم يشيرون بذلك إلى ما أوتيه قارون من الكنوز. وعندما ذكر الله تعالى أحكام المواريث في سورة النساء قال:**{ وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ }** [النساء: 8] مع أن المقسوم لا يلزم أن يكون مما يتغذى به. وقال تعالى:**{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ }** [الطلاق: 7]، والنفقة غير محصورة في صنوف الأغذية، وقال تعالى:**{ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ }** [الرعد: 26]، وقال:**{ وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ }** [الشورى: 27] ومن الظاهر أن البسط لا يكون في المطعومات وحدها. وظاهر كلام ابن عاشور أن الرزق مخصوص بالإِنسان دون غيره من أنواع الحيوان، ويتضح ذلك من تعريفه للرزق حيث قال: والرزق ما يناله الإِنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته، وحاجاته، وينال بها ملائمه. وقد زاد ذلك وضوحا قوله من بعد: وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء، فهو على المجاز كما في قوله تعالى:**{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** [هود: 6] وقوله:**{ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً }** [آل عمران: 37] وقوله:**{ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ }** [يوسف: 37]. وإن تعجب فعجب إدراجه الآيتين الأخيرتين فيما مثل له من إطلاق الرزق - مجازا حسب قوله - على غير ما أوتيه الجنس البشري، فإن الضمير في قوله تعالى: { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } عائد إلى مريم - عليها السلام - والخطاب في قوله: { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } إنما هو لصاحبي السجن اللذين دخلاه مع يوسف الصديق - عليه السلام -، والجميع من الجنس البشري. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ونحن لا نسلم لهذه المجازية التي يدعيها في هاتين الآيتين وفيما قبلهما، فإن حمل الألفاظ على المجاز لا يكون إلا مع القرائن الصارفة لها عن حقائقها. وإذا عرفت أن الغاية من الرزق هي المنفعة أدركت أن الحيوان مرزوق حقيقة لأنه ينتفع برزقه، على أن قوله سبحانه: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } ، يدخل في عموم مدلوله الإِنسان؛ لصدق مفهوم الدابة لغة على كل ما يدب على الأرض، وإذا كان إطلاق الرزق على منافع الانسان حقيقة وعلى منافع الحيوان مجازا، لزم أن يكون لفظه في الآية حقيقة ومجازا في آن واحد، وهو مردود عند أهل التحقيق، ويؤكد أن الرزق ليس من اختصاص الإِنسان قوله تعالى:**{ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ }** [العنكبوت: 60]. ومذهبنا ومذهب الأشاعرة وجمهور الأمة أن الرزق يشمل الحلال والحرام، كما تقدم ذكره في التعريف المنسوب إلى بعض الأشاعرة، وهذا لأن الحل والحرمة إنما هما بالنظر إلى العبد المرزوق لا إلى الرب الرازق، وخالفهم المعتزلة؛ فزعموا أن الرزق لا يكون إلا حلالا محضا، وهو مبني على قاعدتهم في وجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله - تعالى الله عن ذلك - ولعل ابتناء قولهم هذا على هذه القاعدة الفاسدة هو الذي شجع خصومهم على التشنيع عليهم في هذه المسألة. ورأي الامام ابن أبي نبهان - رحمهما الله - أنها ليست من مسائل الأصول، فلا تشنيع عنده على المخالف فيها، والظاهر أنه لم يلتفت إلى تلك القاعدة التي قامت عليها، واحتجت المعتزلة لقولها بدلائل من الكتاب والسنة، ومدلول الكلمة نفسها. أما الكتاب فقد استدلوا منه بقوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وهو مدح لعباده المتقين بإنفاقهم من رزقه، وهو لا يمدحهم بإنفاق الحرام، وبقوله عز وعلا: { أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } ولا يأمر بالإِنفاق من الحرام، وبقوله سبحانه:**{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ }** [يونس: 59]. وأما السنة فقد استدلوا بما أخرجه ابن ماجة وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان ابن أمية، قال: **" جاء عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله؛ إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله، لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " ".** وأما مدلول الكلمة فمن حيث إن الله عز وجل منع عباده من الحرام وتوعدهم عليه وأمر بزجرهم عنه، لا يصح أن يقال إنه رزقهم إياه كما لا يقال رزق السلطان جنده مالا وقد منعهم من أخذه، وأجيب عن تمسكهم بالآيات بأن الاسم قد يخص ببعض أفراد مدلولاته في الاستعمال لأجل التنويه والتشريف كما في قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }** [الحجر: 42]، وقوله:**{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ }** [الانسان: 6]، فقد خص لفظ العباد في الآيتين بالمتقين، وإن كان بحسب مدلوله يشمل المتقين والفجار فإن الكل عباده عز وجل، وإنما خص بالمتقين في الآيتين تشريفا لهم وتنويها بقدرهم، وكذلك إطلاق الرزق في الآيات التي تعلق بها المعتزلة على الحلال وحده، إنما هو من هذا الباب ومنه قول الداعي: يا خالق العرش والكرسي والشمس والقمر، دون يا خالق الخنازير والكلاب، مع أن الكل من خلقه تعالى. وأما الحديث فهو أدل على خلاف ما ذهبوا إليه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: **" فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه "** دليل على دخول الحرام في ضمن الرزق. وأجيب عما استدلوا به من مدلول الكلمة اللغوي بأن المفاهيم اللغوية لا تخضع للمقاييس العقلية، فلا دخل لأدلة العقل في التسميات. هذا وقد استدل أصحابنا والجمهور لما ذهبوا إليه بقوله عز وجل: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }. مع تصور إمكان أن يعيش الانسان على الحرام طيلة حياته، وذلك بأن ينشأ طفلا مع اللصوص وقطاع الطرق يطعمونه مما ينهبون، حتى إذا بلغ الحُلم ودخل في دور التكليف صنع صنيعهم وعاش عيشتهم إلى أن لقي الله فإنه يلزم على مذهب المعتزلة أن يكون مثل هذا لم يصب من رزق الله شيئا، وهو مما تبطله الآية. ويرى الإِمام الألوسي أن هذا الاستدلال ليس بشيء، وأن للمعتزلة أن ينفكوا عن هذا اللزوم باعتبار أن الرزق غير قاصر على الغذاء، بل يشمله ويشمل غيره من المنافع الجسدية والروحية، مع استحالة أن يعيش الانسان من غير أن يصيب منفعة محللة منذ ولادته إلى موته، لا مصّة ثدي ولا رشفة ماء ولا نسمة هواء، ولا نظرة سارة ولا وصولا إلى بغية، ولو قدر وقوع ذلك لساغ أن يقال إن ذلك مباح في حقه لقوله تعالى:**{ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ }** [البقرة: 173]. وللمعتزلة أن يعترضوا غيرهم بمن عاش يوما ثم مات قبل أن يتناول حلالا أو حراما وما يتوجه إليه من جواب يمكنهم أن يجيبوا به أيضا على أن الآية الكريمة لا تدل على أن الله يوصل إلى كل أحد ما ينتفع به، فإن الواقع يدل على خلافه، بل تدل على أنه عز وجل يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به، فإذا حصل إعراض من أحد عن الحلال إلى الحرام، لم يكن ذلك قادحا في تحقق كون الله رازقا له، ولقائل أن يقول إن معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية، فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها، كما أن قول القائل كل دابة تذبح بالسكين؛ لا يقتضي شمول السمك لعدم اتصافه بالمذبوحية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولأجل هذه الايرادات التي تتجه إلى استدلال الجمهور؛ اختار الألوسي أن يكون الاستدلال بالاجماع المنعقد قبل ظهور المعتزلة وخلافهم على أن آكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام، وأنت تدري أن الإِجماع يحتاج إلى ثبوت النقل بصحة وقوعه، والظاهر أن هذه المسألة لم تُثَرْ عند السلف إلا بعد ظهور المعتزلة بجدلهم الكلامي، فدعوى الاجماع غير مسلمة فيها، ولأجل قوة أدلة الفريقين أجنح إلى ما رآه الإِمام ابن أبي نبهان من أنها مسألة فرعية يسوغ فيها الاجتهاد، وإنما عُدَّت عند الأكثرين من الأصول لملاحظة القواعد الاعتزالية التي يمكن بناؤها عليها، كالقول بوجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الله - كما تقدم - والقول بالتحسين والتقبيح العقليين. ولولا ملاحظة هاتين القاعدتين الفاسدتين؛ واحتمال بناء المعتزلة مذهبهم في هذه المسألة عليهما، لما اعتبرت هذا الخلاف إلا لفظيا. على أننا نجد من وافق المعتزلة فيها من غيرهم؛ كالجصاص صاحب كتاب أحكام القرآن. ولا خلاف بين الجميع في أن الانفاق المشار إليه في الآية، والمأمور به في كثير من آي الكتاب، هو الانفاق من الرزق الحلال المحض، فإن الله سبحانه لا يأمر بالإِنفاق من الحرام ولا يمدح به، وقد جاء في الحديث التنبيه على أن الصدقة المقبولة لا تكون إلا من الحلال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: **" لا يقبل الله صدقة من غلول "** وقوله: **" إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ".** والإِنفاق: جعل الشيء نافقا، والنفاق كالنفاد: هو خروج المال من يد إلى يد. والإِنفاق الشرعي: هو إخراج المال أو جزء منه في السبل التي أمر الله سبحانه بإخراجه فيها، وهو آية من آيات صدق الإِيمان، فإن كثيرا ممن يدعون الإِيمان قد يقضون أوقاتهم في ضروب من العبادات البدنية، فإذا عرضت مسألة الإِنفاق وطولبوا به قبضوا أيديهم عنه لضيق صدورهم منه، ولذلك تكرر في كتاب الله وصف المؤمنين الصادقين بالإِنفاق من فضل الله. كما في قوله تعالى:**{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ }** [الحجرات: 15]. الحض على الإِنفاق يوسع دائرة الخير: كثيرا ما اقترن الحض على الإِنفاق في سبيل الله بالوعد أو الوعيد، نحو قوله تعالى:**{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }** [البقرة: 245]. وقوله:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ }** [البقرة: 254]. وقوله:**{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [المنافقون: 10]. ومن حيث إن المال قوام الحال، تتوقف عليه مصالح النفس وترتبط به شئون الحياة، كان الانفاق المأمور به الذي مدح الله به عباده المتقين، هو لبعض المال لا لكل المال، وذلك واضح في هذه الآية، فقد قال تعالى فيها: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ولم يقل وما رزقناهم ينفقون، ونحوه قوله سبحانه: { أَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ }. وهذا هو المنهج المعتدل بين الافراط والتفريط، فلا تبذير ولا تقتير في الانفاق الشرعي. أفاد ذلك الزمخشري وتابعه جل المفسرين، وخالفهم أبو السعود حيث رأى أن دخول من على الموصول للتنبيه على أن إنفاق بعض المال كاف في جعل المنفق من المتصفين بالهداية المستحقين للفلاح. وذكر أن ما قاله الزمخشري وتابعه عليه غيره مخصوص بمن لم يصبر على مشقة الفقر وإلا فلا مانع شرعا من التصدق بجميع المال، كما فعل الصديق - رضي الله عنه - ولم ينكره عليه النبي صلى الله عليه وسلم بما هو عليه من الصبر وما وقر في قلبه من الإِيمان. ومن ثم لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإِسراف، أجاب: لا إسراف في الخير. والنكتة التي نبه عليها الزمخشري المشار إليها بمن يدل على قصدها ما أمر الله سبحانه به في غير هذه الآية من الاعتدال في الانفاق بين طرفي التفريط والافراط، وذلك في قوله:**{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }** [الاسراء: 29]. وهو مسلك اقتصادي وسط بين التبذير والتقتير، وهو الأليق بالتوجيه العام للناس، أما مسلك الصديق - رضي الله عنه - فهو مسلك لا يليق إلا بالقلة النادرة من الذين عزفوا عن الدنيا نهائيا، فلم يفتحوا عليها أبصارهم ولم تمل إلى شيء من حطامها قلوبهم، وحكم هؤلاء ووصفهم لا ينسحبان على عامة المؤمنين { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ }. واختلف في الإِنفاق المقصود هنا، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه زكاة الأموال، أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق، ويعني ذلك أن الانفاق النفلي غير مقصود هنا، وهو يتفق مع قوله الذي أخرجه عنه المذكورون أن المراد بالصلاة الصلوات الخمس، ويحتمل أن يكون استناده على اقتران الانفاق بالصلاة في الآية. ومن المعلوم أن الصلاة شقيقة الزكاة، ولا تذكر غالبا إلا مقترنة بها. وروى ابن جرير عن الضحاك، قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن المثبتات الناسخات. وروى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - وآخرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النفقة المقصودة هنا هي نفقة الرجل على أهله وذلك قبل أن تنزل الزكاة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واختار ابن جرير أنها شاملة لجميع النفقات بما في ذلك النفقات الواجبة، كالزكاة والانفاق على العيال. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنها النفقة في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله، وأخرج مثله ابن المنذر عن سعيد بن جبير، وصدر القطب - رحمه الله - في هيميانه القول بشمول هذا الانفاق للنفقات الواجبة، كالزكاة وإقراء الضيف بشمول هذا الانفاق للنفقات الواجبة، كالزكاة وإقراء الضيف الواجب وتنجية المضطر، ونفقة من لزمتهم نفقته، وأداء ما وجب من الكفارات، ونحو ذلك، ونفقات التطوع في وجوه الأجر، وهو يتفق في ذلك مع الفخر الرازي الذي نص في تفسير الآية على شمول هذا الانفاق لنوعيه الواجب والمندوب، ومن دواعي الاستغراب أن يقول ذلك الفخر في تفسير هذا الانفاق الذي مُدح به المؤمنون مع أنه نفسه حصر الصلاة - التي مُدحوا بإقامتها في هذه الآية نفسها - في الصلوات المفروضة كما تقدم. وابن عطية لا يعد الاختلاف عن السلف في هذا خلافا، وإنما يحمله على قصد التمثيل بحسب ملاءمة الظروف التي تحيط بهم حال السؤال، ويرى الألوسي احتمال ذلك، وحكى عن بعضهم أنه عد ذلك خلافا. ويرى العلامة ابن عاشور أن الانفاق على النفس والعيال لا يدخل فيما مدحوا به، لأنه مما تدعو إليه الجبلة وتقتضيه الضرورة، فلا يعتني الدين بالتحريض عليه، وهو يتفق في رأيه هذا مع الامام محمد عبده، ويضيف الامام إلى ذلك بأن ما تعورف على تسميته بالجود والكرم كقري الضيوف ابتغاء عوض كالشهرة والجاه أو الأنس بالأصحاب، لا يعد من الانفاق المقصود هنا، ورأيهما لا يتفق مع ما ثبت من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الانفاق على العيال، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ".** وروي من طريق ثوبان مرفوعا: **" أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ".** قال أبو قلابة - وهو أحد رجال سند هذا الحديث -: وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم. وقد جاء في الحديث الصحيح في تعداد ما يثاب عليه المرء مع حسن النية: **" حتى ما تجعله في في امرأتك ".** والانفاق على النفس مطلوب من المسلم للتقوى على طاعة الله وكفها عن المحارم، فلا ريب أنه مما يثاب عليه مع هذه النية الحسنة، وأما إكرام الضيف فهو من الواجبات المالية الاجتماعية، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "** ، وإذا لابسه الرياء وحب السمعة أحبطا ثوابه، ومثلهما معه كمثلهما مع سائر الواجبات، ولا ينقص ذلك في قيمة الواجب ولا يقلل من أجره مع إخلاص النية في أدائه. وأنت إذا تدبرت ما شرعه الاسلام من النفقات الخاصة والعامة المنظمة وغير المنظمة، أدركت أن الآية شاملة لها جميعا، سواء المفروض منها والمندوب، فالخاص منها ما وجب لأناس مخصوصين كالعيال. والعام ما كان لعامة المحتاجين، وفي سائر السبل الخيرية، والمنظم منها الزكاة التي خصصها الله لأصناف مخصوصين من الناس في أصناف مخصوصة من المال، مع بلوغه مقادير معينة، وبنسب معينة. وغير المنظم سائر النفقات الواجبة التي لا تقدر إلا بقدر الحاجة، وهي أيضا تدخل في ضمن المفروض مع عدم سداد العوز بدونها، كما يدل على ذلك قول الله تعالى في بيان أعمال البر: { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ } ، حيث ذكر الزكاة من بعد ذكر إيتاء المال لذوي القربى إلى آخره معطوفة عليه، ومن شأن العطف التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن الحقوق المالية المذكورة في الآية قبل الزكاة خارجة عنها، وهو الذي يدل عليه حديث فاطمة بنت قيس عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إن في المال حقا سوى الزكاة "** وهو وإن أعل بأبي حمزة ميمون الأعور القصاب، فإن له ما يعضده عند ابن ماجة، كما أن صريح الآية واضح في الدلالة على هذا المعنى، وفي هذا المقام مباحث أرى إرجاءها إلى أن أصل إن شاء الله بعونه سبحانه وتوفيقه إلى تفسير آية البر من هذه السورة. الإِنفاق في سبيل الله يعالج الشح والأثرة: والاسلام بما شرعه من الانفاق يعالج النفس البشرية التي من طبعها حب المال، والرغبة في الاستكثار منه، فإنها إذا أرسل لها العنان في هذه الرغبة تجاوزت جميع الحدود، واستخفت بكل الواجبات الأسرية والاجتماعية، وأصبح همها الوحيد ما تكسبه من مال تستكثر به على الآخرين، ولن تبالي في هذه الحالة في الوطء على كل القيم والفضائل، وقطع جميع الوشائج والأواصر، ما دام في ذلك تحقيق لرغبتها الجامحة، وإرواء لظمئها الملتهب، وفي مثل هذه الحالات تنضب العواطف وتغور مشاعر الرحمة، ويغلظ الاحساس في الانسان، وتستعر البغضاء والعداوات حتى بين الأقرباء الأدنين، فلا والد يعطف على ولده، ولا ولد يوقر والده، كما هو الشأن السائد في المجتمعات التي تعبد المادة، وتقدس الثروة، وفي هذا الانفاق علاج لهذا المرض الفتاك، فهو يرهف الحس، ويفجر مشاعر الرحمة وعواطف الاحسان بين ذوي القربى خاصة، وسائر الناس عامة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والله تعالى قدير على إغناء كل أحد حتى يستقل بمصالحه عن غيره، ولكنه أراد بما طبع عليه النفوس من الاحتياج إلى الغير، وأمر به من التعاون بين الناس، تربية الضمير الانساني وتمتين العلاقات بين أفراد الجنس البشري، وإنما انحراف الناس عن هذا المنهج المستقيم الواضح هو السبب في وجود العداوات في القلوب، وتأجج الأحقاد في الصدور، وتحول الانسان إلى سبع ضارٍ لا يبالي بمن يفتك به ما دام ذلك يحقق رغبته، وليس شيء أسرع في اشتعال نار الفتنة بين الناس من حب المال، فكم من ولد استعجل وفاة والده، أو قريب استطال حياة قريبه فسقاه السم الزعاف، أو استخدم أية وسيلة في القضاء على حياته، وما الغاية من ذلك إلا حيازة تركته والتنعم بثروته. ومن استقرأ التاريخ البشري لم يجد عدالة في الاقتصاد أو غيره كعدالة الاسلام، دين الله الحق الذي كفل لكل إنسان حقه، فإن جميع الأنظمة البشرية التي عاشتها الانسانية في أطوارها المتقلبة وعصورها المختلفة لم تكن إلا مصدر شقاء وبلاء، فقد اكتوى الفقراء والبؤساء بسعيرها اللاهب، ولم تمتد منها يد عادلة لتنتزع من الطبقات الغنية ما احتكرته من حقوق الناس، ومن أمثلة ذلك ما ذكرته المصادر التاريخية أن وادي النيل في العهود القديمة كان ينتج من المحصولات الزراعية أضعاف ما كان يحتاج إليه مواطنوه، ولكن لم تكن تنصب فوائدها إلا في خزائن الأغنياء والطبقات المستعلية من الناس، بينما الجماهير الكادحة تكتوي بنار المسغبة، وتتقلب على رمضاء المآسي، وقد أدى الحال في المجاعة المشهورة في الأسرة الثانية عشرة أن باع الفقراء نفوسهم للأغنياء من أجل الحصول على لقمة العيش، وحدث عن مثل ذلك في ممالك كل من بابل، وفارس واليونان، بل ثبت أن في مملكة اليونان كان الأغنياء يذبحون الفقراء ذبح الأغنام لأتفه الأسباب، وفي أثينا نفسها كان الفقراء يباعون مع الماشية والأرض، ووقع مثل ذلك في مملكة الرومان، وفي هذا ما يكفي دليلا على أن شهوة المال إذا استحكمت في النفس جعلت صاحبها يتخطى جميع حدود الانسانية، ويتجاوز ما طبع الله عليه البشر من العطف والرقة والحنان، وهذا هو سر تحذير الله تعالى من احتكار طائفة مخصوصة من الناس رؤوس الأموال، وذلك في قوله، بعد تبيان أحكام الفيء وقسمه:**{ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ }** [الحشر: 7]. وإذا جهل الانسان أو تجاهل تاريخ الظلم المالي في العصور البشرية الغابرة السحيقة، فما عليه إلا أن يفتح عينيه على الأنظمة المالية السائدة في العالم اليوم والتي هي نتيجة الأطوار الاقتصادية التي مر بها الانسان، ففي العالم اليوم نظامان ماليان خطيران، كل منهما يلتهم حقوق الانسان بأتونه المستعر، وهما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، وما الفرار من أحدهما إلى الآخر إلا فرار من جهنم إلى الجحيم، ولست أتحدث عنهما عن خبر قرأته أو سمعته، وإنما أتحدث عن مشاهد رأيتها ومآسٍ أحسستها، تتفطر منها الكبد ويذوب منها الفؤاد، فقد كنت في زيارة لدولة اشتراكية شيوعية، فشاهدت عيناي جماهير الشعب تساق بعصي الذل والهوان، ليس لأحد منهم اختيار في مأكله أو مشربه أو ملبسه أو عمله أو مسكنه أو حركته وتنقلاته، وإنما يأكل كل أحد ما يشتهى له من قوت لا ما يشتهيه، في الوقت الذي يعين له لا في الوقت الذي يعينه بنفسه، وقل مثل ذلك في مشربه ومسكنه وعمله، ولا يحق لأحد أن ينتقل من مدينة إلى أخرى باختياره، وإنما ذلك إذا اختير له، ولم تكد هذه المشاهد المؤلمة تتوارى عني حتى واجهت مشاهد أخرى في دولة رأسمالية لا تقل عما قبلها إيلاما، وإنما الفارق بين السابقة واللاحقة تنوع أسلوب القهر والظلم، فبينما كنت أشاهد العمارات الضخمة التي كأنما تعانق السحاب، وتناغي النجوم، وهي ملك لأفراد من الناس، إذا بي أشاهد أفواجا من بني الانسان قد أعوزهم المأوى الذي يقيهم لفح الصيف وقسوة الشتاء، ولم يجدوا إلا أن يأووا إما إلى القوارب في البحر، أو إلى الكهوف في الجبال، أو إلى هياكل السيارات المتحطمة، أَوَلا يكفي ذلك دليلا على أن الانسان يفقد كل ما يحتاج إليه من عطف بني جنسه ورحمتهم وحنانهم وإحسانهم في غير ظل الاسلام دين الحق والعدل؟ إن الاسلام لا يقتصر في الانفاق على المحرومين ومواساتهم على الحض فقط، ثم يكل ذلك إلى مروءات الأغنياء وضمائرهم، وإنما يجعل الانفاق ركنا أساسيا من أركانه، لا يكتمل دونه بنيانه، ولأجل ذلك نجد الحض على الانفاق واردا في آيات نزلت في مرحلة مبكرة من تاريخ الدعوة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن أمثلة ذلك ما في سورة المزمل التي هي من أوائل السور المكية نزولا، ففيها الأمر الصريح بإيتاء الزكاة في قوله تعالى:**{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً }** [المزمل: 20]. وفي هذا دليل على أن الزكاة فرضت قبل الهجرة بزمن طويل، وليس كما يقول جل العلماء إنها لم تفرض إلا بالمدينة بعد الهجرة، وقد اشتهر ذلك بينهم حتى أصبح من المسلمات. وإنما يتضح من خلال دراسة آيات الانفاق في القرآن الكريم أن فرضيتها اقترنت بفرضية الصلاة، أو جاءت بعدها بقليل، وإنما كانت بادىء الأمر غير منظمة، وقد كانت موكولة إلى ضمائر الأغنياء وسخائهم، مع تتابع الأمر الاجمالي بها إلى أن قامت دولة الاسلام على تربة دار الهجرة الزكية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فبينت مقاديرها وفصّلت أحكامها، ولنا في هذا المقام وقفة مع الدكتور يوسف القرضاوي في قوله: " والملاحظ في السور المكية عن الزكاة أنها لم توردها بصيغة الأمر الدال على الوجوب دلالة مباشرة، ولكنها أوردتها في صورة خبرية، باعتبارها وصفا أساسيا للمؤمنين والمتقين والمحسنين، الذين يؤتون الزكاة، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين خصهم الله بالفلاح وأولئك هم المفلحون، كما أخبر أن تركها من خصائص المشركين الذين لا يؤتون الزكاة ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن هذا الاطلاق غير مسلم، بدليل ما ذكرناه آنفا من النص الصريح في الأمر بها في آخر آية من سورة المزمل المكية، ومثلها في سورة الأنعام قوله تعالى:**{ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }** [الأنعام: 41]، وفي سورة الاسراء:**{ وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ }** [الاسراء: 26]. والسورتان مكيتان أيضا. وأما ما استند إليه الدكتور القرضاوي من قول بعضهم إن آية المزمل نزلت بالمدينة فلا يدفع ما قلناه؛ لأنه قول قائل، وهو كغيره من الأقوال يفتقر إلى ما يسنده من الدليل، ولا دليل له إلا ما اشتهر من أن فرضية الزكاة كانت بالمدينة ولم تكن بمكة، والآيات المكية المصرحة بذكر الزكاة المادحة لمن آتاها، والمتوعدة لمن فرط فيها، ترد على هذه الشهرة، ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة فصلت:**{ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ }** [فصلت: 6- 7]، وفي سورة النمل:**{ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ }** [النمل: 2 - 3]، وفي سورة لقمان:**{ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ }** [لقمان: 3 - 4]، وفي سورة المؤمنون:**{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ }** [المؤمنون: 4]، ومثله ما في سورة الذاريات وهو قوله:**{ وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ }** [الذاريات: 19]، وقوله في سورة المعارج:**{ وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ }** [المعارج: 24 - 25]، فإنه من المعلوم أن الحق المقصود هو الزكاة وجميع هذه السور مكية. هذا؛ وفي وصف المشركين في سورة فصلت بأنهم لا يؤتون الزكاة، إيماء إلى أن تركها ليس من صفة المؤمنين، وكفى ذلك داعيا لذوي العقول السليمة إلى المثابرة إلى أدائها، والمحافظة عليها، ومنذرا لمن استخف بحقها وتهاون في أدائها، والزكاة إنما هي جزء من الانفاق الواجب كما سلف. وفرض الانفاق في الاسلام مبني على اعتبار ما بأيدي الأغنياء - من الأموال - مال الله سبحانه، وما هم إلا مستخلفون فيه، ومؤتمنون عليه، والدلالة على ذلك واضحة في قوله تعالى:**{ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ }** [النور: 33]، وقوله:**{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ }** [الحديد: 7]. والشعور بذلك يمنع الغني إذا مد يده إلى الفقير بشيء من المال من الاستعلاء والاستكبار، كما أنه يحمي الفقير حين يمد يده لتناول حقه من الغني من الذلة والانسكار، فالمعطي لم يعط إلا من مال الله، الذي منّ الله عليه به، وأوجب عليه الانفاق منه، والآخذ لم يأخذ إلا حقه الشرعي الذي فرضه الله له مما جعله تعالى في أيدي الأغنياء من المال، فلا منّ ولا إيذاء، ولا استعلاء ولا استكبار من قبل المعطي، ولا ذلة ولا انكسار ولا خضوع ولا استخذاء من قبل الآخذ، وهذه المبادىء القيمة هي التي أسعدت الأمة المسلمة عندما حرصت على تطبيقها، وكانت لها مخلصا من محن الفقر ولأواء الفاقه، حتى بلغ الحال في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه - أن كان المسئولون عن الزكاة يجهدون في البحث عن الفقراء الذين يستحقونها فلا يجدونهم، حتى أمر عمر أن يزوج منها العزَّاب، وأن يُبنى بها بيوت للذين لا يملكون مساكن، ولم تكن نعمة هذه المبادىء خاصة بالمسلمين، بل نعم بها أهل الذمة في ظل دولة الاسلام، فقد أُغنوا بالزكاة عندما لم يوجد فقراء من أهل ملة التوحيد، ولو أن المسلمين اليوم - مع ما تحت أيديهم من الثروات التي منّ الله عليهم بها - أخذوا بهذه المبادىء، لبهروا العالم بأسره، ولما استطاعت لسان أن تنال من حرمة الاسلام أو تجرح كرامة المسلمين، ولكن تهاونهم بأمر الله، واستخفافهم بحقوقه، واندفاعهم وراء شهوات أنفسهم، هو الذي أوقفهم موقف الذلة والهوان بين الأمم، فمزقت كرامتهم الألسن، واستخفت بأقدارهم الأعين، ذلك لأنهم فتحوا على أنفسهم الثغور بتبذيرهم الجنوني لما أفاء الله عليهم من رزق، ووهبهم من فضل، في الفساد والدناءات، حتى أغنوا أعداءهم بأموالهم المتدفقة في دور البغاء ونوادي القمار وجميع أماكن اللعنة ومجامع الشرور. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | يجري ذلك كله وجماهير من أبناء الاسلام لا تجد ما يسد عوزها من لقمة العيش الخشن، وأطمار الثياب البالية، أما آن لهؤلاء الغارقين في سكرة الهوى أن يفيقوا من سكرتهم، ويدركوا ما يهددهم من خطر لا يبقي ولا يذر - والعياذ بالله -؟ أما آن لهذه الأمة أن تستدرك فائتها، وتعيد كرتها فتستحق أن تسود في الأرض بما جاء به دينها من مبادىء الرحمة التي تعتبر الانسانية اليوم في أمَس الحاجة إليها؟ أما آن لها أن تثبت للعالم بأسره أن سعادة النفس البشرية لا تكون إلا في ظل الاسلام الحنيف؟ إنني من منطلق النصح الديني الذي فرضه الله على عباده وجعله من صميم دينهم، أناشد كبراء هذه الأمة وأهل الحل والعقد فيها، أن ينظروا في مغبة حالها، ويسعوا لتخليصها من قيود المهانة التي ترسف فيها، ووطأة الذل التي تئن تحتها، وليس لذلك طريق إلا اتباع هدى الله الذي جاء به كتابه الكريم، ومثله رسوله العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولست أنسى هنا ما ذكره الداعية الكبير الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي في كتابه القيم " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " ، فبعد أن أسهب في بيان الأمراض المتفشية في العالم الاسلامي عامة، والعربي خاصة، قال: وقد اعتاد العرب - لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية - حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإِسراف والتبذير والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير؛ جوع وعري وفقر فاضح، يرى الناظر مناظره الشائنة في عواصم البلاد العربية، فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلا، فبينما هنالك رجل عنده فضول الثياب، وزائد الطعام والشراب، لا يعرف كيف يستهلكه، إذا ببدوي لا يعرف قوت يومه وكسوته. وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع، إذا بفوج من النساء والأطفال عليهم ثياب سوداء قد أصبحت خيوطا من طول اللبس، يعدو لأجل فلس أو قرص. فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة، وبين الأكواخ الفقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة. وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق، لا تقفها دعاية ولا قوة، وإذا لم يسد النظام الاسلامي في بلاده بجماله واعتداله، يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره، عقابا من الله كرد فعل عنيف. والسيد أبو الحسن الذي سال قلمه بهذه العبارات الدافقة بهذه المعاني البليغة، كان ينظر إلى حالة العرب حينما سجل هذه العبارات منذ ثلث قرن من الزمان، فيستشف منها ما ينتظرهم من مستقبل سيء حافل بالثورات والقلق والاضطراب، نتيجة اعتناق السفهاء والأوغاد المبادىء الهدامة التي لا تبقي ولا تذر، كرد فعل لما عليه المترفون من الانحلال والفساد، ومنع حقوق الناس في مال الله الذي بأيديهم، وتبذيره في غير حدود في شهواتهم وملذاتهم، وقد أرسل كلماته هذه نذيرا صارخا لعلها تصادف قلبا واعيا وسمعا صاغيا، لكن كان - مع الأسف - كمن ينفخ في رماد ويصرخ في واد. وقد وقع فعلا ما كان يحذره ويحذِّر منه، وما زالت هذه الأمة إلى اليوم تعاني من ويلات الاضطراب والقلق في كثير من أنحاء البلاد. فمتى تصحو من سكرتها؟! ويثوب إليها رشدها، عسى أن يكون ذلك يوما قريبا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | | | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
صفة للمتقين قبل، فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة. وفي «شرح المفتاح الشريفي» إن حمل المتقي على معناه الشرعي ـ أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيآت ـ فإن كان المخاطب جاهلاً بذلك المعنى كان الوصف كاشفاً وإن كان عالماً كان مادحاً وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصاً، واستظهر كون الموصول مفصولاً قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما قبله وإن فهم ضمناً فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الارتباط، والاستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى، والوقف على**{ الْمُتَّقِينَ }** [البقرة:2] تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول. والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقاً وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى:**{ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ }** [الشعراء: 111] وبالباء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله» الحديث، قالوا: والأول باعتبار تضمينه معنى الإذعان والثاني باعتبار تضمينه معنى الاعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر ما لم يقترن به الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية أيضاً كما في «الأساس» ويفهم مجازيته ظاهر كلام «الكشاف» وأما في الشرع فهو التصديق بما علم مجيء النبـي صلى الله عليه وسلم به ضرورة تفصيلاً فيما علم تفصيلاً وإجمالاً فيما علم إجمالاً وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم اختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار؟ فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمناً شرعاً فيما بينه وبين الله تعالى ويكون مقره/ الجنة لكن ذكر ابن الهمام أن أهل هذا القول اتفقوا على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه الإقرار أتى به فإن طولب ولم يقر فهو كفر عناد، وذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه الله وغالب من تبعه إلى أن الإقرار وما في حكمه كإشارة الأخرس لا بد منه فالمصدق المذكور لا يكون مؤمناً إيماناً يترتب عليه الأحكام الأخروية كالمصلي مع الرياء فإنه لا تنفعه صلاته ولعل هذا لأنه تعالى ذم المعاندين أكثر مما ذم الجاهلين المقصرين وللمانع أن يجعل الذم للإنكار اللساني ولا شك أنه علامة التكذيب أو للإنكار القلبـي الذي هو التكذيب، وحاصل ذلك منع حصول التصديق للمعاند فإنه ضد الإنكار وإنما الحاصل له المعرفة التي هي ضد النكارة والجهالة، وقد اتفقوا على أن تلك المعرفة خارجة عن التصديق اللغوي وهو المعتبر في الإيمان نعم اختلفوا في أنها هل هي داخلة في التصور أم في التصديق المنطقي فالعلامة الثاني على الأول وأنه يجوز أن تكون الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصوراً وأن التصديق المنطقي بعينه التصديق اللغوي ولذا فسره رئيسهم في الكتب الفارسية (بكر ويدن) وفي العربية بما يخالف التكذيب والإنكار وهذا بعينه المعنى اللغوي ويؤيده ما أورده السيد السند في «حاشية شرح التلخيص» أن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة إلا أنه يرد أن المعنى المعبر عنه (بكر ويدن) أمر قطعي وقد نص عليه العلامة في «المقاصد» ولذا يكفي في باب الإيمان التصديق البالغ حد الجزم والإذعان مع أن التصديق المنطقي يعم الظني بالاتفاق فإنهم يقسمون العلم بالمعنى الأعم تقسيماً حاصراً إلى التصور والتصديق توسلاً به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه التي منها القياس الجدلي المتألف من المشهورات والمسلمات ومنها القياس الخطابـي المتألف من المقبولات والمظنونات، والشعري المتألف من المخيلات فلو لم يكن التصديق المنطقي عاماً لم يثبت الاحتياج إلى هذه الأجزاء وهو ظاهر وصدر الشريعة على الأخير فإن الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصديق قطعاً فإن كان حاصلاً بالقصد والاختيار بحيث يستلزم الإذعان والقبول فهو تصديق لغوي وإن لم يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنه جدار مثلاً فهو معرفة يقينية وليس بتصديق لغوي فالتصديق اللغوي عنده أخص من المنطقي، وذهب الكرامية إلى أن الإيمان شرعاً إقرار اللسان بالشهادتين لا غير، والخوارج والعلاف وعبد الجبار من المعتزلة إلى أن كل طاعة إيمان فرضاً كانت أو نفلاً، والجبائي وابنه وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل منها، والقلانسي من أهل السنة والنجار من المعتزلة ـ وهو مذهب أكثر أهل الأثر ـ إلى أنه المعرفة بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قيل: وسر هذا الاختلاف، الاختلاف في أن المكلف هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما؟ والحق أن منشأ كل مذهب دليل دعا صاحبه إلى السلوك فيه، وأوضح المذاهب أنه التصديق ولذا قال يعسوب المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه إن الإيمان معرفة والمعرفة تسليم والتسليم تصديق، ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى:**{ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ }** [المجادله: 22] وقوله تعالى:**{ وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ }** [الحجرات: 14] وقوله تعالى:**{ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ }** [النحل: 106] وقوله صلى الله عليه وسلم: **" اللهم ثبت قلبـي على دينك "** حيث نسبه فيها وفي نظائرها الغير المحصورة إلى القلب فدل ذلك على أنه فعل القلب وليس سوى التصديق إذ لم يبين في الشرع بمعنى آخر فلا نقل وإلا لكان الخطاب بالإيمان خطاباً بما لا يفهم ولأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل واحتمال أن يراد بالنصوص الإيمان اللغوي فهو الذي محله القلب لا الإيمان الشرعي فيجوز أن يكون الإقرار أو غيره جزءاً من معناه يدفعه أن الإيمان من المنقولات الشرعية بحسب خصوص المتعلق ولذا بين صلى الله عليه وسلم متعلق دون معناه فقال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" أن تؤمن بالله وملائكته "** الحديث/ فهو في المعنى اللغوي مجاز في كلام الشارع والأصل في الإطلاق الحقيقة، وأيضاً ورد في عطف الأعمال على الإيمان كقوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ }** [البقرة: 277] والجزء لا يعطف على كله**{ تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ }** [القدر: 4] على أحد الوجهين بتأويل الخروج لاعتبار خطابـي وتخصيصها بالنوافل بناء على خروجها خلاف الظاهر وكفى بالظاهر حجة، وأيضاً جعل الإيمان شرط صحة الأعمال كقوله تعالى:**{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ }** [ طه: 112] مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء لنفسه إذ جزء الشرط شرط، وأيضاً ورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى:**{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ }** [الحجرات: 9] مع أنه لا يتحقق للشيء بدون ركنه، وأيضاً ما ذكرناه أقرب إلى الأصل إذ لا فرق بينهما إلا باعتبار خصوص المتعلق كما لا يخفى. وقد أورد الخصم وجوهاً في الالزام، الأول: أن الإيمان لو كان عبارة عن التصديق لما اختلف مع أن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشبهه إيمان العوام بل ولا الخواص، الثاني: أن الفسوق يناقض الإيمان ولا يجامعه، بنص**{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ }** [الحجرات: 7] ولو كان بمعنى التصديق لما امتنع مجامعته، الثالث: أن فعل الكبيرة مما ينافيه لقوله تعالى:**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** [الأحزاب: 43] مع قوله تعالى في المرتكب:**{ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ }** [النور: 2] ولو كان بمعنى التصديق ما نافاه، الرابع: أن المؤمن غير مخزي لقوله تعالى:**{ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ }** [التحريم: 8] وقال سبحانه في قطاع الطريق:**{ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }** [المائدة: 33] فهم ليسوا بمؤمنين مع أنهم مصدقون. الخامس: مستطيع الحج إذا تركه من غير عذر كافر لقوله تعالى:**{ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [آل عمران: 97] مع أنه مصدق، السادس: من لم يحكم بما أنزل الله مصدق مع أنه كافر بنص**{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ }** [المائدة: 44] السابع: أن الزاني كذلك بنص قوله صلى الله عليه وسلم: **" لا يزني الزاني وهو مؤمن "** وكذا تارك الصلاة عمداً من غير عذر وأمثال ذلك، الثامن: أن المستخف بنبـي مثلاً مصدق مع أنه كافر بالإجماع. التاسع: أن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيّمَةِ }** [البينه: 5] والدين هو الإسلام لقوله تعالى:**{ إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ }** [آل عمران: 19] والإسلام هو الإيمان لأنه لو كان غير لما قبل من مبتغيه لقوله سبحانه:**{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }** [آل عمران: 85] العاشر: أنه لو كان هو التصديق لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا وقت صدوره منه كما في سائر الأفعال مع أن النائم والغافل يوصفان به إجماعاً مع أن التصديق غير باق فيهما، الحادي عشر: أنه يلزم أن يقال لمن صدق بآلهية غير الله سبحانه مؤمن وهو خلاف الإجماع، الثاني عشر: أن الله تعالى وصف بعض المؤمنين به عز وجل بكونه مشركاً فقال:**{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }** [يوسف: 106] ولو كان هو التصديق لامتنع مجامعته للشرك، سلمنا أنه هو ولكن ما المانع أن يكون هو التصديق باللسان كما قاله الكرامية كيف وأهل اللغة لا يفهمون من التصديق غير التصديق باللسان؟. وأجيب عن الأول بأن التصديق الواحد وإن سلمنا عدم الزيادة والنقصان فيه من النبـي والواحد منا إلا أنه لا يمتنع التفاوت بين الإيمانين بسبب تخلل الفعلة والقوة بين أعداد الإيمان المتجددة وقلة تخللها أو بسبب عروض الشبه والتشكيكات وعدم عروضها، وللنبـي الأكمل الأكمل صلى الله عليه وسلم. | **وللزنبور والبازي جميعا** | | **لدى الطيران أجنحة وخفق** | | --- | --- | --- | | **ولكن بين ما يصطاد باز** | | **وما يصطاده الزنبور فرق** | وعن الثاني بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن الفسوق لا يجامع الإيمان فإنه لو قيل حبب إليكم العلم وكره إليكم/ الفسوق لم يدل على المناقضة بين العلم والفسوق وكون الكفر مقابلاً للايمان لم يستفد من الآية بل من خارج ولئن سلمنا دلالة الآية على ما ذكرتم إلا أن ذلك معارض بما يدل على عدمه كقوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ }** [الأنعام: 82] فإنه يدل على مقارنة الظلم للايمان في بعض، وعن الثالث بأنا لا نسلم أن فعل الكبيرة مناف للايمان**{ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱللَّهِ }** [النور: 2] على معنى لا تحملنكم الشفقة على إسقاط حدود الله تعالى بعد وجوبها، وعن الرابع بأن ما ذكر من الآيتين ليس فيه دلالة لأن آية نفي الخزي إنما دلت على نفيه في الآخرة عن المؤمنين مطلقاً أو أصحابه صلى الله عليه وسلم وآية القاطع دالة على الخزي في الدنيا ولا يلزم من منافاة الخزي يوم القيامة للايمان منافاته للايمان في الدنيا، وعن الخامس بأنا لا نسلم كفر من ترك الحج من غير عذر**{ وَمَن كَفَرَ }** [آل عمران: 97] ابتداء كلام أو المراد من لم يصدق بمناسك الحج وجحدها ولا يتصور مع ذلك التصديق، وعن السادس بأن معنى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم }** [المائدة: 44] الآية من لم يصدق أو من لم يحكم بشيء مما نزل الله أو المراد بذلك التوراة بقرينة السابق، وعن السابع بأنه يمكن أن يقال معنى: «لا يزني الزاني وهو مؤمن» أي آمن من عذاب الله أي إن زنى والعياذ بالله فليخف عذابه سبحانه وتعالى ولا يأمن مكره أو المراد لا يزني مستحلاً لزناه وهو مؤمن أو لا يزني وهو على صفات المؤمن من اجتناب المحظورات، وهذا التأويل أولى من مخالفة الأوضاع اللغوية لكثرته دونها وكذا يقال في نظائر هذا، وعن الثامن بأنا لا ننكر مجامعة الكبائر للايمان عقلاً غير أن الأمة مجمعة على إكفار المستخف فعلمنا انتفاء التصديق عند وجود الاستخفاف مثلاً سمعاً والجمع بين العمل بوضع اللغة وإجماع الأمة على الإكفار أولى من إبطال أحدهما، وعن التاسع بأن الآية قد فرقت بين الدين وفعل الواجبات للعطف وهو ظاهراً دليل المغايرة، سلمنا أن الدين فعل الواجبات وأن الدين هو الإسلام لكن لا نسلم أن الإسلام هو الإيمان وليس المراد بغير الإسلام في الآية ما هو مغاير له بحسب المفهوم وإلا يلزم أن لا تقبل الصلاة والزكاة مثلاً بل المغاير له بحسب الصدق فحينئذ يحتمل أن يكون الإسلام أعم وهذا كما إذا قلت من يبتغ غير العلم الشرعي فقد سها فإنك لا تحكم بسهو من ابتغى الكلام، وظاهر أن ذم غير الأعم لا يستلزم ذم الأخص فإن قولك غير الحيوان مذموم لا يستلزم أن يكون الإنسان مذموماً، وعن العاشر بأنه مشترك الإلزام فما هو جوابكم فهو جوابنا على أنا نقول التصديق في حالة النوم والغفلة باق في القلب والذهول إنما هو عن حصوله والنوم ضد لإدراك الأشياء ابتداء لا أنه مناف لبقاء الإدراك الحاصل حالة اليقظة، سلمنا إلا أن الشارع جعل المحقق الذي لا يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي حتى كان المؤمن اسماً لمن آمن في الحال أو في الماضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب، وعن الحادي عشر بأن عدم تسمية من صدق بآلهية غير الله مؤمناً إنما هو لخصوصية متعلق الإيمان شرعاً فتسميته مؤمناً يصح نظراً إلى الوضع اللغوي ولا يصح نظراً إلى الاستعمال الشرعي، وعن الثاني عشر بأن الإيمان ضد الشرك بالاجماع وما ذكروه لازم على كل مذهب ونحن نقول إن الإيمان هناك لغوي إذ في الشرعي يعتبر التصديق بجميع ما علم مجيئه به صلى الله عليه وسلم كما تقدم فالمشرك المصدق ببعض لا يكون مؤمناً إلا بحسب اللغة دون الشرع لإخلاله بالتوحيد والآية إشارة إليه. وقولهم أهل اللغة لا يفهمون الخ مجرد دعوى لا يساعدها البرهان نعم لا شك أن المقر باللسان وحده يسمى مؤمناً لغة لقيام دليل الإيمان الذي هو التصديق القلبـي فيه كما يطلق الغضبان والفرحان على سبيل الحقيقة لقيام الدلائل الدالة عليها من الآثار اللازمة للغضب والفرح ويجري عليه أحكام الإيمان ظاهراً ولا نزاع في ذلك وإنما النزاع في كونه مؤمناً عند الله تعالى والنبـي صلى الله عليه وسلم ومن بعده كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بالشهادتين كانوا يحكمون بكفر المنافق فدل على أنه لا يكفي في الإيمان فعل اللسان/ وهذا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وكأنه لهذا اشترط الرقاشي والقطان مواطأة القلب مع المعرفة عند الأول والتصديق المكتسب بالاختيار عند الثاني، وقال الكرامية: من أضمر الإنكار وأظهر الإذعان وإن كان مؤمناً لغة وشرعاً لتحقق اللفظ الدال الذي وضع لفظ الإيمان بإزائه إلا أنه يستحق ذلك الشخص الخلود في النار لعدم تحقق مدلول ذلك اللفظ الذي هو مقصود من اعتبار دلالته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هذا وبعد سبر الأقوال في هذا المقام لم يظهر لي بأس فيما ذهب إليه السلف الصالح وهو أن لفظ الإيمان موضوع للقدر المشترك بين التصديق وبين الأعمال فيكون إطلاقه على التصديق فقط وعلى مجموع التصديق والأعمال حقيقة كما أن المعتبر في الشجرة المعينة ـ بحسب العرف ـ القدر المشترك بين ساقها ومجموع ساقها مع الشعب والأوراق فلا يطلق الانعدام عليها ما بقي الساق فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة والأعمال بمنزلة فروعها وأغصانها فما دام الأصل باقياً يكون الإيمان باقياً وقد ورد في الصحيح **" الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "** وقريب من هذا قول من قال إن الأعمال آثار خارجة عن الإيمان مسببة له ويطلق عليها لفظ الإيمان مجازاً ولا مخالفة بين القولين إلا بأن إطلاق اللفظ عليها حقيقة على الأول مجاز على الثاني وهو بحث لفظي والمتبادر من الإيمان هٰهنا التصديق كما لا يخفى. والغيب مصدر أقيم مقام الوصف وهو غائب للمبالغة بجعله كأنه هو وجعله بمعنى المفعول يرده كما في «البحر» أن الغيب مصدر غاب وهو لازم لا يبنى منه اسم مفعول وجعله تفسيراً بالمعنى لأن الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع أو فيعل خفف كقيل وميت ـ وفي «البحر» ـ لا ينبغي أن يدعى ذلك إلا فيما سمع مخففاً ومثقلاً، وفسره جمع هنا بما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل، فمنه ما لم ينصب عليه دليل وتفرد بعلمه اللطيف الخبير سبحانه وتعالى كعلم القدر مثلاً، ومنه ما نصب عليه دليل كالحق تعالى وصفاته العلا فإنه غيب يعلمه من أعطاه الله تعالى نوراً على حسب ذلك النور فلهذا تجد الناس متفاوتين فيه، وللأولياء نفعنا الله تعالى بهم الحظ الافر منه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن هنا قيل: الغيب مشاهدة الكل بعين الحق فقد يمنح العبد قرب النوافل فيكون الحق سبحانه بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ويرقى من ذلك إلى قرب الفرائض فيكون نوراً فهناك يكون الغيب له شهوداً والمفقود لدينا عنده موجوداً ومع هذا لا أسوغ لمن وصل إلى ذلك المقام أن يقال فيه أنه يعلم الغيب**{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }** [النمل: 65]. | **وقل لقتيل الحب وفيت حقه** | | **وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل** | | --- | --- | --- | واختلف الناس في المراد به هنا على أقوال شتى حتى زعمت الشيعة أنه القائم وقعدوا عن إقامة الحجة على ذلك والذي يميل إليه القلب أنه ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام وهو الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لأن الإيمان المطلوب شرعاً هو ذاك لا سيما وقد انضم إليه الوصفان بعده وكون ذلك مستلزماً لإطلاق الغيب عليه سبحانه ضمناً والغيب والغائب ما يجوز عليه الحضور والغيبة مما لا يضر إذ ليس فيه إطلاقه عليه سبحانه بخصوصه فهذا ليس من قبيل التسمية على أنه لا نسلم أن الغيب لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور وبعض أهل العلم فرق بين الغيب والغائب فيقولون الله تعالى غيب وليس بغائب ويعنون بالغائب ما لا يراك ولا تراه وبالغيب ما لا تراه أنت، ولا يبعد أن يقال بالتغليب ليدخل إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم به صلى الله عليه وسلم إذ ليس بغيب بالنسبة إليهم أو يقال الإيمان به عليه الصلاة والسلام راجع إلى الإيمان برسالته مثلاً إذ لا معنى للإيمان/ به نفسه معرى عن الحيثيات. ورسالته غيب نصب عليها الدليل كما نصب لنا وإن افترقنا بالخبر والمعاينة أو أنه من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازاً كبنو فلان قتلوا فلاناً أو المراد أنهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة فاستوى عندهم المشاهد وغيره. واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد أن هؤلاء المتقين يؤمنون بالغيب أي حال الغيبة عنكم كما يؤمنون حال الحضور لا كالمنافقين الذين**{ .. إِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }** [البقرة: 14] فهو على حد قوله تعالى:**{ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ }** [يوسف: 52] ويحتمل أن يقال حال غيبة المؤمن به، ففي «سنن الدارمي» عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الحرث بن قيس قال له عند الله نحتسب ما سبقتمونا إليه من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن مسعود عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه والذي لا إله إلا هو ما من أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ الۤمۤ \* ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 1-2] إلى قوله:**{ ٱلْمُفْلِحُونَ }** [البقرة: 5] ولا يلزم من تفضيل إيمان على آخر من حيثية تفضيله عليه من سائر الحيثيات ولا تفضيل المتصف بأحدهما على المتصف بالآخر فإن الأفضلية تختلف بحسب الإضافات والاعتبارات وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، ويا ليت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سكن لوعة الحرث بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم مرفوعاً **" نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بـي ولم يروني "** وما كان أغناه رضي الله تعالى عنه عما أجاب به إذ يخرج الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن هذا العموم الذي في هذه الآية كما يشعر به قراءته لها مستشهداً بها، وبه قال بعض أهل العلم وأنا لا أميل إلى ذلك وقيل المراد بالغيب القلب أي يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والباء على الأول للتعدية وعلى الثاني والثالث للمصاحبة وعلى الرابع للآلة وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبـي بكر بترك الهمزة من { يُؤْمِنُونَ } وكذا كل همزة ساكنة بل قد يتركان كثيراً من المتحركة مثل**{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ }** [البقرة: 225] و**{ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ }** [آل عمران: 13] وتفصيل مذهب أبـي جعفر طويل وأماأبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل**{ يهيِّىء لَكُمْ }** [الكهف: 16] و**{ نبئهم }** [الحجر: 51] و**{ ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ }** [الإسراء: 14] فإنه لا يترك الهمزة فيها وروي عنه أيضاً الهمز في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء الفعل نحو { يومنون } و { لا يواخذكم } واختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل مذهب يطول ذكره. { وَيُقِيمُونَ } من الإقامة يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى:**{ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَىْء حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ }** [المائدة: 68] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ومعنى { يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ } يعدلون أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أو لها مع الآداب والسنن من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ويداومون من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك بالإقامة لأن القيام بعض أركانها فهذه أربعة أوجه، وفي الكلام على الأولين منها استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل، وبيان ذلك في الأول أن يشبه تعديل الأركان بتقويم العود بإزالة اعوجاجه فهو قويم تشبيهاً له بالقائم ثم استعير الإقامة من تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني كتعديل أركان الصلاة على ما هو حقها، وقيل الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني بل التقويم في المعاني كالدين والمذهب أكثر/ فلا حاجة إلى الاستعارة ولا يخفى ما فيه فإن المجازية ما لا شبهة فيها دراية ورواية وذاك الاستعمال مجاز مشهور أو حقيقة عرفية، وفي الثاني: بأن نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن الحال والظهور التام فاستعمل القيام فيه والإقامة في إنفاقها ثم استعيرت منه للمداومة فإن كلاً منهما يجعل متعلقه مرغوباً متنافساً فيه متوجهاً إليه وهذا معنى لطيف لا يقف عليه إلا الخواص إلا أن فيه تجوزاً من المجاز وكأنه لهذا مال الطيبـي إلى أن في هذا الوجه كناية تلويحية حيث عبر عن الدوام بالإقامة فإن إقامة الصلاة بالمعنى الأول مشعرة بكونها مرغوباً فيها وإضاعتها تدل على ابتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها ونفاقها على توجه الرغبات إليها وهو يستدعي الاستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة، وفي الثالث: بأن القيام بالأمر يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التشمر فأطلق القيام على لازمه، وقد يقال بأن قام بالأمر معناه جدّ فيه وخرج عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير فكأنه قام بنفسه لذلك وأقامه أي رفعه على كاهله بجملته فحينئذ يصح أن يكون فيه استعارة تمثيلية أو مكنية أو تصريحية ويجوز أن يكون أيضاً مجازاً مرسلاً لأن من قام لأمر على أقدام الإقدام ورفعه على كاهل الجد فقد بذل فيه جهده، وفي الرابع: بأن الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة وإيجادها كلها فعل القيام وهو الإقامة لأن فعل الشيء فعل لأجزائه أو العلاقة الجزئية لأن الإقامة جزء أو جزئي لمطلق الفعل ويجوز أن يكون هناك استعارة لمشابهة الأداء للإقامة في أن كلاً منهما فعل متعلق بالصلاة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإلى ترجيح أول الأوجه مال جمع لأنه أظهر وأقرب إلى الحقيقة وأفيد وهو المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن جرير وابن أبـي حاتم من طرق عنه ولعل ذلك منه عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حمل لكلام الله سبحانه وتعالى على أحسن محامله حيث إنه المناسب لترتيب الهدى الكامل والفلاح التام الشامل وفيه المدح العظيم والثناء العميم ولا يبعد أن يقال باستلزامه لما في الأوجه الأخيرة وتعين الأخير كما قيل في حديث: **" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام "** لا يضر في أرجحية الأول في الكلام القديم إذ يرد أنه لو أريد ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلاً عن أبلغ الكلام ولكل مقام مقال فافهم. والصلاة في الأصل عند بعض بمعنى الدعاء ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائماً فليصل "** وهي عند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان لأنها دعاء بالألسنة الثلاثة الحال والفعل والمقال، والمشهور في أصول الفقه أن المعتزلة على أن هذه وأمثالها حقائق مخترعة شرعية لأنها منقولة عن معان لغوية والقاضي أبو بكر منا على أنها مجازات لغوية مشهورة لم تصر حقائق وجماهير الأصحاب على أنها حقائق شرعية عن معان لغوية. وقال أبو علي ورجحه السهيلي الصلاة من الصلوين لعرقين في الظهر لأن أول ما يشاهد من أحوالها تحريكهما للركوع واستحسنه ابن جني وسمى الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشعه بالراكع الساجد. وقيل أخذت الصلاة من ذاك لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلى من الخيل للآتي مع صلوى السابق وأنكر الإمام الاشتقاق من الصلوين مستنداً إلى أن الصلاة من أشهر الألفاظ فاشتقاقها من غير المشهور في غاية البعد وأكاد أوافقه وإن قيل إن عدم الاستشهار لا يقدح في النقل وقيل من صليت العصا إذا قومتها بالصلي، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره وباطنه مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار وهي فعله/ - بفتح العين - على المشهور وجوز بعضهم سكونها فتكون حركة العين منقولة من اللام وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكوة ونجاة ومناة وصلاة وزكاة وحياة حيث كن موحدات مفردات محلات باللام وعلى رسم المضاف منها كصلاتى بالألف وحذفت من بعض المصاحب العثمانية، واتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ قال الجعبري: ووجه كتابة الواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة عنه واو وهو اتباع للتفخيم وهذا معنى قول ابن قتيبة بعض العرب يميلون الألف إلى الواو ولم أختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة وهي الصلوات الخمس كما قاله مقاتل أو الفرائض والنوافل كما قاله الجمهور والأول هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وادعى الإمام أنه هو المراد لأنه الذي يقع عليه الفلاح لأنه صلى الله عليه وسلم لما بين للأعرابـي صفة الصلاة المفروضة قال: **" والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابـي إن صدق "** والرزق بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به. وقيل إنه يعم غيره كالنبات وبالكسر اسم منه ومصدر أيضاً على قول. وقيل أصل الرزق الحظ ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به وبمعنى الملك وبمعنى الشكر عند أزد. واختلف المتكلمون في معناه شرعاً فالمعول عليه عند الأشاعرة ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به سواء كان حلالاً أو حراماً من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك والمشهور أنه اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به ويلزم على الأول أن تكون العواري رزقاً لأنها مما ساقه الله تعالى للحيوان فانتفع به وفي جعلها رزقاً بعد بحسب العرف كما لا يخفى، ويلزم أيضاً أن يأكل شخص رزق غيره لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل إلا أن الآية توافقه إذ يجوز أن يكون الانتفاع من جهة الإنفاق على الغير بخلاف التعريف الثاني إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده والمعتزلة فسروه في المشهور تارة بما أعطاه الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه وتارة بما أعطاه الله تعالى لقوامه وبقائه خاصة، وحيث إن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معناه وأنه لا رازق إلا الله سبحانه وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام وما يستند إلى الله تعالى عز وجل عندهم لا يكون قبيحاً ولا مرتكبه مستحقاً ذماً وعقاباً قالوا إن الرزق هو الحلال، والحرام ليس برزق وإلى ذلك ذهب الجصاص منا في كتاب «أحكام القرآن» وعندنا الكل منه وبه وإليه | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ }** [النساء: 78] ولا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله تصير الأمور والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالاختيار نعم الأدب من خير رأس مال المؤمن فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام:**{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }** [الشعراء: 80] وقال تعالى:**{ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }** [الفاتحة: 7] فالحرام رزق في نفس الأمر لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه والدليل على شمول الرزق له ما أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان بن أمية قال:« **" جاء عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله إن الله قد كتب عليَّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال صلى الله عليه وسلم: لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله تعالى رزقاً حلالاً طيباً فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله "** وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل قوله عليه الصلاة والسلام «فاخترت» الخ كونه رزقاً لمن أحل له فيسقط الاستدلال لقيام الاحتمال خلاف الظاهر جداً. ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى وجه الأرض دليل والطعن في السند لا يقبل من غير مستند وهو مناط الثريا كما لا يخفى والاستدلال على هذا المطلب كما فعل البيضاوي وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقاً لم يكن المتغذى/ به طول عمره مرزوقاً وليس كذلك لقوله تعالى:**{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [هود: 6] ليس بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق الانتفاع دون الانتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء انتفاعاً محللاً لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلاً والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا إن ذلك ليس محرماً بالنسبة إليه**{ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ }** [البقرة: 173] وأيضاً لهم أن يعترضوا بمن عاش يوماً مثلاً ثم مات قبل أن يتناول حلالاً ولا حراماً وما يكون جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به فإذا حصل الإعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا، وأيضاً قد يقال: معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية فالاتصاف أن هذا لا يصلح دليلاً، والأحسن الاستدلال بالاجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعاً صفصفا. والإنفاق الإنفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الإنفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضاً في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الإنفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال ابن القيم في «بدائع الفوائد» فذهب ابن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده، ويفهم كلام البعض ـ وهو من الغرابة بمكان ـ أن الغاصب أيضاً يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد واقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيراً ينبغي أن يثاب عليه**{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ \* وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }** [الزلزله:7ـ8] ولا يرد على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم **" لا يقبل الله صدقة من غُلُول "** وقوله: **" إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً "** لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلاً بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق. وقد اختلف في الإنفاق هٰهنا فقيل ـ وهو الأولى ـ صرف المال في سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه. وعن ابن عباس الزكاة، وعنه وعن ابن مسعود نفقة العيال، وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد. ولعل هذه الأقوال تمثيل للمنفق لا خلاف فيه، وبعضهم جعلها خلافاً ورجح كونها الزكاة المفروضة باقترانها/ بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن ومن التبعضية حينئذ مما لا يسئل عن سرها إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال وأما إذا كان المراد بالإنفاق مطلقه الأعم مثلاً ففائدة إدخالها الإشارة إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في اتصاف المنفق بالهداية والفلاح ولا يتوقف على إنفاق جميع المال وقول مولانا البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنه للكف عن الإسراف المنهي عنه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرع مرارة الإضافة وإلا فقد تصدق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله ولم ينكره عليه صلى الله عليه وسلم لعلمه بصبره واطلاعه على ما وقر في صدره، و(من) هٰهنا لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإسراف قال لا إسراف في الخير، وقيل النكتة في إدخال (من) التبعضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام فأدخلت إيذاناً بأن الانفاق المعتد به ما يكون من الحلال وهو بعض من الرزق. و(ما) في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة والأول أولى فالعائد محذوف، واستشكل بأنه إن قدر متصلاً يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب وإن قدر منفصلاً امتنع حذفه إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا لغرض وإذا حذفت فاتت الدلالة عليه، وأجيب على اختيار كل. أما الأول: فبأنه لما اختلف الضميران جمعاً وإفراداً جاز اتصالهما وإن اتحدا رتبة كقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **لوجهك في الإحسان بسط وبهجة** | | **أنا لهماه قفو أكرم والد** | | --- | --- | --- | وأيضاً لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدراً لزوال القبح اللفظي، وأما الثاني: فبأن الذي يمنع حذفه ما كان منفصلاً لغرض معنوي كالحصر لا مطلقاً كما قال ابن هشام في «الجامع الصغير» وأشار إليه غير واحد وكتبت (من) متصلة بما محذوفة النون لأن الجار والمجرور كشيء واحد وقد حذفت النون لفظاً فناسب حذفها في الخط قاله في «البحر» وجعل سبحانه صلات { ٱلَّذِينَ } أفعالاً مضارعة ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكره البعض مشعر بالتجدد والحدوث مع ما فيه هنا من الاستمرار التجددي وهذه الأوصاف متجددة في المتقين واسم الفاعل عندهم ليس كذلك، ورتبت هذا النحو من الترتيب لأن الأعمال إما قلبية وأعظمها اعتقاد حقيقة التوحيد والنبوة والمعاد إذ لولاه كانت الأعمال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء أو قالبية وأصلها الصلاة لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام وهي عمود الدين ومعراج الموحدين والأم التي يتشعب منها سائر الخيرات والمبرات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: **" وجعلت قرة عيني في الصلاة "** وقد أطلق الله تعالى عليها الإيمان كما قاله جمع من المفسرين في قوله تعالى:**{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ }** [البقرة: 143] أو مالية وهي الإنفاق لوجه الله تعالى وهي التي إذا وجدت علم الثبات على الإيمان وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدماً الأهم فالأهم والألزم فالألزم لأن الإيمان لازم للمكلف في كل آن والصلاة في أكثر الأوقات والنفقة في بعض الحالات فافهم ذاك والله يتولى هداك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. يتعين أن يكون كلاماً متصلاً بقوله**{ للمتقين }** البقرة 2 على أنه صفة لإرْدَاف صفتِهم الإجمالية بتفصيلٍ يعرف به المراد، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوَّه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين، فقد كانوا قبل الهجرة صِنفاً مؤمنين وصنفاً كافرين مصارحين، فزاد بعد الهجرة صنفان هما المنافقون وأهل الكتاب، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفُّوا مع المنافقين وظاهَروا المشركين. وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هُدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله**{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون }** البقرة 4 الخ. فالمثنيُّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة، فوائل بن حجر مثلاً لما جاء من اليمن راغباً في الإسلام هو من المتقين، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعاً في الملك هو من غير المتقين. وفريق آخر يجيء ذكره بقوله**{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك }** البقرة 4 الآيات. وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة، ولذلك وصفهم بقوله { يؤمنون بالغيب } أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصِّلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدُّد إيذاناً بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن. وجوز صاحب «الكشاف» كونه كلاماً مستأنفاً مبتدأ وكون**{ أولئك على هدى }** البقرة 5 خبره. وعندي أنه تجويز لما لا يليق، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما، وإلا كان تقصيراً من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن. والغيب مصدر بمعنى الغيبة**{ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب }** يوسف 52**{ ليعلم الله من يخافه بالغيب }** المائدة 94 وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة | **كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتيني** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي الحديث **" دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة "** والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحاً بأنه واقع أو سيقع مثل وجودِ الله، وصفاتِه، ووجودِ الملائكة، والشياطين، وأشراطِ الساعة، وما استأثر الله بعلمه. فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفاً مستقراً فالوصف تعريض بالمنافقين، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية، كانت الباء متعلقة بيؤمنون، فالمعنى حينئذٍ الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك. وفي حديث الإيمان **" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره "** وهذه كلها من عوالم الغيب. كان الوصف تعريضاً بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا**{ هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد }** سبأ 7 فجَمَع هذا الوصف بالصراحة ثناءً على المؤمنين، وبالتعريض ذماً للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب، وذماً للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر، وسيُعْقَب هذا التعريضُ بصريح وصفهم في قوله**{ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم }** البقرة 6 الآيات. وقوله**{ ومن الناس من يقول آمنا بالله }** البقرة 8. ويؤمنون معناه يصدقون، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية، فأصل آمن تعدية أَمِن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمناً ثم أطلقوا آمن على معنى صدَّق ووَثِق حكَى أبو زيد عن العرب «ما آمنت أَنْ أجد صحابةً» يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر، فصار آمن بمعنى صدَّق على تقدير أنه آمن مُخبِرَه من أن يُكذِّبه، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كَذِب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه، ثم صار فعلاً قاصراً إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمْن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب، ثم إنهم يضمنون آمن معنى أَقر فيقولون آمن بكذا أي أقر به كما في هذه الآية، ويضمنونه معنى اطمأَن فيقولون آمن له**{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم }** البقرة 75. ومجيء صلة الموصول فعلاً مضارعاً لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفاً، أي لايطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة. وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلِّغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما مَن يعتقدُ أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسموْن بالدُّهْريين الذين قالوا | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ما يهلكنا إلا الدهر }** الجاثية 24 وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجودَ الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك. والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجىء عند قوله تعالى**{ وما هم بمؤمنين }** البقرة 8. { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ }. الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام، عدى إليه بالهمزة الدالة على الجعل، والإقامة جعلها قائمة، مأخوذ من قامت السوق إذا نَفَقَت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر. قال أيمن ابن خرَيم الأنطري | **أقامت غزالةُ سُوقَ الضِّرابْ لأَهل العراقَين حَوْلاً قميطاً** | | | | --- | --- | --- | وأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازاً على النشاط في قولهم قام بالأمر، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب، وقالوا في ضده ركدت ونامت، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسباً لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائماً، وأحسب أن تعليق هذا الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل 20**{ وأقيموا الصلاة }** وهي ثالثة السور نزولاً. وذكر صاحب الكشاف وجوهاً أُخر بعيدة عن مساق الآية. وقد عبر هنا بالمضارع كما وقع في قوله { يؤمنون } ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا من قبل نزول الآية، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاءوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغداً، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها الآن أو غداً وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم. وقد حصل من إفادة المضارع التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح. والصلاة اسم جامد بوزن فَعَلة محرَّك العين صَلَوة ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول الأعشى | **تقول بنتي وقد يَمَّمتُ مُرتحلا يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصاب والوجَعا عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغْتمضِي جَفْنا فإن لجنبِ المرء مضطَجَعا** | | | | --- | --- | --- | وورد بمعنى العبادة في قول الأعشى | **يُراوِح من صلوات المَلِيـك طَوْراً سُجوداً وطَوراً جُؤَاراً** | | | | --- | --- | --- | فأما الصلاة المقصودة في الآية فهي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود وتسليم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال ابن فارس كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونقلت ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات، ومما جاء في الشرع الصلاة وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هاته الهيأة قال النابغة | **أو دُرةٌ صَدفيَّةٌ غَوَّاصُها بَهِجٌ متى يَرَها يُهلِّ ويسجدِ** | | | | --- | --- | --- | وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت ا هـ. قلت لا شك أن العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فقال**{ ربنا ليقيموا الصلاة }** إبراهيم 37 وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيأة مخصوصة، وسمَّوا كنيستهم صَلاة، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دَفن النعمان بن الحارث الغساني | **فآب مُصلُّوه بعين جلية وغودِر بالجولان حزمٌ ونايل** | | | | --- | --- | --- | على رواية مصلوه بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان، إذ قد كان منتصراً ومنه البيت السابق. وعرفوا السجود قال النابغة | **أو درة صدفية غَوَّاصها بَهِج متى يَرَها يُهلِّ ويسجدِ** | | | | --- | --- | --- | وقد تردد أئمة اللغة في اشتقاق الصلاة، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر ويفترق عند عَجْب الذنب فيكتنفه فيقال حينئذٍ هما صَلَوان، ولما كان المصلي إذا انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أَنِفَ من كذا إذا شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق الجمل وقولهم تنمر فلان، وقولها «زَوجي إذا دَخل فَهِدْ وإذا خَرج أَسِدْ» والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد القول به ضعيفاً لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد. وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلّى الفرس إذا جاء معاقباً للمجلى في خيل الحلبة، لأنه يجىء مزاحماً له في السبق، واضعاً رأسه على صَلاَ سابقه واشتقوا منه المصلّى اسماً للفرس الثاني في خيل الحلبة، وهذا الرأي في اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذْ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك. وما أورده الفخر في «التفسير» أنّ دعوى اشتقاقها من الصلْوَيْن يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل، فإذا جوزنا أنه خَفِي واندرس حتى لا يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا ا هـ يَرُده أنه لا مانع من أن يكون لفظ مشهور منقولاً من معنى خفي لأنه العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي «واشتهارُ هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه». | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل. وأما قول الكشاف وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة. ومصدر صلَّى قياسه التصلية وهو قليل الورود في كلامهم. وزعم الجوهري أنه لا يقال صلَّى تصلية وتبعه الفيروزابادي، والحق أنه ورد بقلة في نقل ثعلب في «أماليه». وقد نقلت الصلاة في لسان الشرع إلى الخضوع بهيأة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد. والقول بأن أصلها في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية، وأن الشرع لم يستعمل لفظاً إلا في حقيقته اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها. وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات. وقال صاحب «الكشاف» الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان. والحق أن هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية. { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }. صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجاً إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه { الذين يؤمنون بالغيب } ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به. ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالاً لأمر الله بذلك. والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وَينال بها مُلائَمه، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتني به ذلك من النقدين، قال تعالى**{ وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه }** النساء 8 أي مما تركه الميت ــــ وقال**{ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا }** الرعد 26 وقال في قصة قارون**{ وآتيناه من الكنوز }** إلى قوله**{ ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر }** القصص 76 ـــ 82 مراداً بالرزق كنوزُ قارون وقال**{ ولو بسط الله الرزق لعباده لبَغوا في الأرض }** الشورى 27 واشْهَرُ استعماله بحسب ما رأيتُ من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز، كما في قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها }** هود 6 وقوله**{ وجد عندها رزقاً }** آل عمران 37 وقوله**{ لا يأتيكما طعام ترزقانه }** يوسف 37. والرزق شرعاً عند أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدمُ النقل إلا لدليل، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير مُلتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيباً وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم. وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلْق المفاسد والشرور وتقديرهما، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال، ومسألة السعر، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب. والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يُرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس. وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دَعَا الدينُ إلى نفعه. وفي إسناده فعل رزقنا إلى ضمير الله تعالى وجعْل مفعوله ضميرَ الذين يؤمنون تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقاً لصاحبه هو حق خاص له خَوَّله اللَّهُ إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجُهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مريَة في أنها حقه مثلُ انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجنْي الثمار والتقاطِ ما لا مِلْك لأحدٍ عليه ولا هو كائنٌ في ملك أحد، ومثلُ خدمتِه بقوته من حَمل ثقل ومشى لقضاء شؤون من يؤجره وانحباس للحراسة، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يَملكها وله حق الانتفاع بها كالخَبْز والنسج والتَّجْر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة، أو مما أعطاه إياه مالِكُ رزقٍ مِن هبات وهدايا ووصايا، أو أذِن بالتصرف كإحياءِ الموات، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونِه أحقَّ الناس به كالإرث. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وتملك اللُّقطة بعد التعريف المشروط، وحق الخمس في الركاز. فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى { مما رزقناهم }. وليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسْع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت «إن أبا سفيان رجل مِسِّيكٌ فهل أنفق من الذي له عيالَنا فقال لها «لاَ إلا بالمعروف» أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة. وتقديم المجرور المعمولِ على عامله وهو { ينفقون } لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزَّة على النفس كقوله تعالى**{ ويطعمون الطعام على حبه }** الإنسان 8، مع رعي فواصل الآيات على حَرف النون، وفي الإتيان بِمنْ التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعاً هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجاً، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين. فالواجب منه ما قَدرت الشريعة نُصُبَه ومقاديره من الزكاة وانفاقِ الأزواج والأبناءِ والعبيدِ، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير، ولم يشرع الإسلامُ وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره. وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعارَ المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خُوَيصَّة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب. أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى إِنه يَتلقَى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي مُحسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية، ولأن الزكاة أداء المال وقد عُلم شح النفوس قال تعالى**{ وإذا مسه الخير منوعاً }** المعارج 21 ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
قوله تعالى { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. عبر في هذه الآية الكريمة بـ " من " التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله. ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه. ولكنه بين في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها، وذلك كقوله**{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ }** البقرة 219، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور. ومنه قوله تعالى**{ حَتَّىٰ عَفَوْاْ }** الأعراف 95 أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم. وقال بعض العلماء العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع. ومنه قول الشاعر | **خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب** | | | | --- | --- | --- | وهذا القول راجح إلى ما ذكرنا، وبقية الأقوال ضعيفة. وقوله تعالى**{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ }** الإسراء 29 فنهاه عن البخل بقوله**{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ }** الإسراء 29. ونهاه عن الإسراف بقوله**{ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ }** الإسراء 29 فيتعين الوسط بين الأمرين كما بينه بقوله**{ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }** الفرقان 67 فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير، وبين البخل والاقتصاد. فالجود غير التبذير، والاقتصاد غير البخل. فالمنع في محل الإعطاء مذموم، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } ، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضاً وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } وقد قال الشاعر | **لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما فإنها فلتات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما** | | | | --- | --- | --- | وقد بين تعالى في مواضع أخر أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك، إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله، كقوله تعالى**{ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ }** البقرة 215 الآية - وصرح بأن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله**{ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً }** الأنفال 36 الآية - وقد قال الشاعر | **إن الصنيعة لا تعد صنيعةً حتى يصاب بها طريق المصنع** | | | | --- | --- | --- | فإن قيل هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد على الحاجة الضرورية، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا، وذلك في قوله**{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }** الحشر 9. فالظاهر في الجواب - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعاً. وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة، كنفقة الزوجات ونحوها، فتبرع بالإنفاق في غير واجب وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم **" وابدأ بمن تعول "** ، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم ما لهم، فلا يجوز له ذلك، والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقاً من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال. وأما على القول بأن قوله تعالى { ومما رزقناهم يُنْفِقون } يعني به الزكاة. فالأمر واضح، والعلم عند الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير الوجيز/ الواحدي (ت 468 هـ)
{ الذين يؤمنون }: يُصدِّقون { بالغيب }: بما غاب عنهم من الجنَّة والنَّار والبعث. { ويقيمون الصَّلاة }: يُديمونها ويحافظون عليها، { وممَّا رزقناهم }: أعطيناهم ممّا ينتفعون به. { ينفقون }: يُخرجونه في طاعة الله تعالى. { والذين يؤمنون بما أُنزل إليك } نزلت في [مؤمني] أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن، { وما أنزل من قبلك } يعني: التَّوراة، { وبالآخرة } يعني: وبالدَّار الآخرة { هم يوقنون }: يعلمونها علماً باستدلالٍ. { أولئك } يعني: الموصوفين بهذه الصِّفات. { على هدىً }: بيانٍ وبصيرةٍ { من ربِّهم } أَيْ: من عند ربِّهم، { وأولئك هم المفلحون }: الباقون في النَّعيم المقيم. { إنَّ الذين كفروا }: ستروا ما أنعم الله عزَّ وجلَّ به عليهم من الهدى والآيات فجحدوها، وتركوا توحيد الله تعالى { سواء عليهم }: معتدلٌ ومتساوٍ عندهم { أأنذرتهم }: أعلمتهم وخوَّفتهم [ { أم لم تنذرهم } ] أم تركت ذلك { لا يؤمنون } نزلت في أبي جهلٍ وخمسةٍ من أهل بيته، ثمَّ ذكر سبب تركهم الإيمان، فقال: { ختم اللَّهُ على قلوبهم } [أَيْ: طبع الله على قلوبهم] واستوثق منها حتى لا يدخلها الإيمان، { وعلى سمعهم } [أَيْ: مسامعهم حتى لا ينتفعوا بما يسمعون، { وعلى أبصارهم }:] على أعينهم { غشاوة } غطاءٌ فلا يبصرون الحقَّ، { ولهم عذابٌ عظيمٌ } مُتواصل لا تتخلَّله فُرجةٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)
ثم نعتهم، فقال سبحانه: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، يعنى يؤمنون بالقرآن أنه من الله تعالى جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بما فيه، { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } المكتوبة الخمس، يعنى يقيمون ركوعها وسجودها فى مواقيتها، { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } من الأموال { يُنْفِقُونَ } [آية: 3]، يعنى الزكاة المفروضة نظيرها فى لقمان، فهاتان الآيتان نزلتا فى مؤمنى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والمهاجرين. ثم ذكر مؤمنى أهل التوراة، عبدالله بن سلام وأصحابه، منهم: أسيد بن زيد، وأسد بن كعب، وسلام بن قيس، وثعلبة بن عمر، وابن يامين، واسمه سلام، فقال: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } ، يعنى يصدقون { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } يا محمد من القرآن أنه من الله نزل، { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } على الأنبياء، يعنى التوراة والإِنجيل والزبور، { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [آية: 4]، يعنى يصدقون بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، ثم جمعهم جميعاً، فقال سبحانه: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [آية: 5]. فلما سمع أبو ياسر بن أخطب اليهودى بهؤلاء الآيات، قال لأخيه جدى بن أخطب: لقد سمعت من محمد كلمات أنزلهن الله على موسى بن عمران، فقال جدى لأخيه: لا تعجل حتى تتثبت فى أمره، فعمد أبو ياسر وجدى ابنا أخطب، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وحيى بن أخطب، وسعيد بن عمرو الشاعر، وأبو لبابة بن عمرو، ورؤساء اليهود، فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم، فقال جدى للنبى صلى الله عليه وسلم: يا أبا القاسم، أخبرنى أبو ياسر بكلمات تقولهن آنفاً، فقرأهن النبى صلى الله عليه وسلم، فقال جدى: صدقتم، أما { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ، فنحن هم، وأما { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } فهو كتابك، { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، فهو كتابنا، { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ، فأنتم هم قد آمنتم بما أنزل إليكم وإلينا، وآمنتم بالجنة والنار، فآيتان فينا وآيتان فيكم. ثم قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ننشدك بالله أنها نزلت عليك من السماء، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: **" أشهد بالله أنها نزلت علىَّ من السماء "** ، فذلك قوله سبحانه فى يونس:**{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ }** [يونس: 53]، يعنى ويستخبرونك أحق هو؟ قل: { إِي وَرَبِّيۤ } ، ويعنى بلى وربى إنه لحق. فقال جدى: لئن كنت صادقاً، فإنكم تملكون إحدى وسبعين سنة، ولقد بعث الله عز وجل فى بنى إسرائيل ألف نبى كلهم يخبرون عن أمتك ولم يخبرونا كم تملكون حتى أخبرتنا أنت الآن، ثم قال جدى لليهود: كيف ندخل فى دين رجل منتهى ملك أمته إحدى وسبعون سنة، فقال عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه: وما يدريك أنها إحدى وسبعون سنة؟ فقال جدى: أما ألف فى الحساب فواحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون سنة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال جدى: هل غير هذا؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " نعم، { الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } " [الأعراف: 1، 2]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فقال جدى: هذه أكبر من الأولى، ولئن كنت صادقاً، فإنكم تملكون مائتى سنة واثنتين وثلاثين سنة، ثم قال: هل غير هذا؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " { الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } " [هود: 1]، فقال جدى: هذه أكبر من الأولى والثانية، وقد حكم وفصل، ولئن كنت صادقاً، فإنكم تملكون أربعمائة سنة وثلاثاً وستين سنة، فاتق الله ولا تقولن إلا حقاً، فهل غير هذا؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " { الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } " [الرعد: 1]، فقال جدى: لئن كنت صادقاً، فإنكم تملكون سبعمائة سنة وأربعاً وثلاثين سنة، ثم إن جدى قال: الأن لا نؤمن بما تقول، ولقد خلطت علينا، فما ندرى بأى قولك نأخذ، وأيما أنزل عليك نتبع، ولقد لبست علينا حتى شككنا فى قولك الأول، ولولا ذلك لاتبعناك. قال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أن ما أنزل على أنبيائنا حق، وأنهم قد بينوا لنا ملك هذه الأمة، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول، ليجمعن له هذه السنون كلها، ثم نهضوا من عنده، فقالوا: كفرنا بقليله وكثيره، فقال جدى لعبد الله ابن سلام وأصحابه: أما تعرفون الباطل فيما خلط عليكم؟ فقالوا: بلى نعرف الحق فيما يقول، فأنزل الله عز وجل فى كفار اليهود بالقرآن**{ الۤمۤ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ }** الذى لا يموت،**{ ٱلْقَيُّومُ }** يعنى القائم على كل شىء،**{ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ }** يا محمد**{ بِٱلْحَقِّ }** لم ينزل باطلاً،**{ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }** يقول سبحانه: قرآن محمد يصدق الكتب التى كانت قبله،**{ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ }** يعنى لبنى إسرائيل من الضلالة، ثم قال عز وجل:**{ وَأَنْزَلَ ٱلْفُرْقَانَ }** [آل عمران: 1-4]، يعنى قرآن محمد بعد التوراة والإنجيل، يعنى بالفرقان المخرج من الشبهات والضلالة، نظيرها فى الأنبياء،**{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ }** [الأنبياء:48]، يعنى المخرج. وفى البقرة:**{ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ }** [البقرة:185].**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ }** اليهود كفروا بالقرآن، يعنى هؤلاء النفر المسلمين وأصحابهم،**{ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ }** فى ملكه وسلطانه،**{ ذُو ٱنْتِقَامٍ }** [آل عمران: 4] من أهل معصيته. وأنزلت أيضاً فى اليهود فى هؤلاء النفر وما يحسبون من المتشابه،**{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ }** [آل عمران: 7]. فأما المحكمات، فالآيات الثلاث اللاتى فى الأنعام:**{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }** إلى قوله سبحانه:**{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }** [الأنعام: 151-153]، فهن محكمات ولم ينسخهن شئ من الكتاب، وإنما سمين أم الكتاب؛ لأن تحريم هؤلاء الآيات فى كل كتاب أنزله الله عز وجل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }** يعنى: { الۤمۤ } { الۤمۤصۤ } ، { الۤرَ } ، { الۤمۤر } ، شبهوا على هؤلاء النفر من اليهود كم تملك هذه الأمة من السنين، { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } ، يعنى ميل عن الهدى، وهم هؤلاء اليهود،**{ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ }** يعنى الكفر،**{ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ }** يعنى منتهى كم يملكون. يقول الله عز وجل:**{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }** يعنى كم تملك هذه الأمة من السنين،**{ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ }** يعنى عبدالله بن سلام وأصحابه،**{ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ }** يعنى بالقرآن كله،**{ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }** [آل عمران: 7] يعنى من كان له لب أو عقل. ثم قال ابن صلام وأصحابه:**{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا }** كما أزغت قلوب اليهود**{ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا }** إلى الإسلام،**{ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ }** [آل عمران: 8]. فآيتان من أول هذه السورة نزلتا فى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، والآيتان اللتان تليانهما نزلتا فى مشركى العرب، وثلاث عشرة آية فى المنافقين من أهل التوراة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ القطان (ت 1404 هـ)
الذين يصدّقون بما غاب عنهم علمُه، كذات الله تعالى وملائكته، والدار الآخرة وما فيها من بعث ونشور، وحساب، وجنة ونار. ويقيمون الصلاة: يؤدون الصلاة المفروضة علهيم خاشعين لله، وقلوبهم حاضرة لمراقبة خالقهم. واقامة الصلاة توفية حقوقها وإدامتها. وقد أمر الله تعالى باقامة الصلاة، وطلب ان تكون تامة وافية الشروط، فقال: { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } ، و { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ }.. هذا يعني أنهم يوفونها حقها. وعندما ذم المنافقين قال:**{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ }** [الماعون:4-5] وفي ذلك تنبيه على أن المصلّين كثير، والمقيمين قليل. وقد نوه القرآن كثيراً بالصلاة وحثّ على اقامتها في كثير من الآيات، لأثرها العظيم. في تهذيب النفوس والسموّ بها الى الملكوت الأعلى. وسيأتي تفصيل ذلك في كثير من الآيات... { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } الرزق كل ما يُنتفع به من المال والثمار والحيوان وغيره. والإنفاق العطاء.. يعطون من أموالهم التي رزقهم إياها الله الى المحتاجين من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم. وكذلك ينفقون في سبيل الله للجهاد وفي الدفاع عن الوطن، ولبناء المساجد والمدارس والمستشفيات. ومساعدة كل مشروع فيه نفع للناس. فكما أن الله يرزقهم يجب عليهم أن ينفقوا، لأن الدنيا أخذ وعطاء. والواقع اليوم أن كثيراً من الناس قد بات همهم جمعَ المال وتكديسه، فأولئك ليسوا من المتقين. وآية الانفاق هنا أن يكون في وجه الخير ونفع الناس، اما على الترف والمباهاة وفي طريق السفه فإن الانفاق تبذير ممجوج يمقته الله، وعلى المسلمين ان يوقفوه ولو كان ذلك عن طريق العنف. ان أموال الله التي في يد المسلمين هي لكافّتهم بالخير، لا لقلتهم بالضلالة. والمتقون هم الذين يؤمنون بالقرآن الذي أوحي اليك، وبما بينتَ لهم من الدين وما فيه من أحكام وحدود. والإنزال هنا هو الوحي من العليّ القدير. وكذلك يؤمنون بما أُنزل من قبلك على الرسل الكرام من التوراة والانجيل والزبور والصحف. وبهذا يمتاز الاسلام عن غيره ويفضُله. لأن المسلم الحق يؤمن بجميع الديانات السماوية وجميع الأنبياء والرسل. { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } اليقين حقيقةُ العلم. أيقن الأمرَ وبالأمر، تحققه. والذين يصدّقون حق اليقين بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، فهم يؤمنون بها ايماناً قاطعاً لا تردد فيه. فهذه صفات المؤمن الحق. الايمان بالغيب. مع التقوى. وإقامْ الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافاً وشعوراً بالإخاء. وسعة الضمير لموكب الايمان العريق المتلاحق بالوحي، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن بنبيّ صاحب رسالة، ثم اليقين باليوم الآخر بلا تأرجح في هذا اليقين. الهدى: التوفيق والرشاد. والفلاح: الفوز والنجاة. إن الذين تقدمت صفاتهم في التقوى والايمان بالغيب والعطاء وتصديق جميع الرسل والاديان السماوية واليقين بالآخرة هم المهتدون الظافرون برضى الله وهداه وأولئك هم أهل الفلاح والفوز والنجاة. هذه صورة من ثلاث صور استعرضها القرآن لثلاث فئات: الاولى التي تقدَّم وصفها هي جماعة المؤمنين، وقد وصفهم الله تعالى في آيتين. والثانية: الكافرون الجاحدون، وقد وصفهم تعالى ايضا في آيتين. والفئة الثالثة: المنافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية. بهذا يتبين لنا ان الناس أمام القرآن ثلاث طوائف تقدمت الطائفة المؤمنة.اما الثانية فهي: أأنذرت أم لم تنذر.. الآيتان 7،6. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ ٱلصَّلاةَ } { رَزَقْنَاهُمْ } (3) - وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لاَ يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ (الغَيْبِ) فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ. وَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِهَا وَيُتِمُّونَ - بِخُشُوعٍ تَامٍّ، وَحُضُورِ قَلْبٍ - رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَتِلاوَتَهَا، وَيُنْفِقُونَ ممَّا رَزَقَهُمُ اللهُ في وُجُوهِ الخَيرِ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. الغَيْبُ - هُوَ مَا غَابَ عَنْ حِسِّ الإِنسْانِ، أَوْ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ الإِنسَانِ كَذَاتِ اللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ. الإِيمانُ - هُوَ تَصْدِيقٌ جَازِمٌ يَقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ واستِسلامِهَا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
بعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا الكتاب - وهو القرآن الكريم -**{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2].. أي أنَّ فيه المنهج والطريق لكل مَنْ يريد أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية.. أراد أن يعرفنا صفات هؤلاء المتقين ومَنْ هم.. وأول صفة هي قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ.. } [البقرة: 3]. ما هو الغيب الذي جعله الله أول مرتبة في الهدى.. وفي الوقاية من النار ومن غضب الله؟. الغيب هو كل ما غاب عن مدركات الحس. فالأشياء المُحَسَّة التي نراها ونلمسها لا يختلف فيها أحد.. ولذلك يقال: " ليس مع العين أين ".. لأن ما تراه لا تريد عليه دليلاً.. ولكن الغيب لا تدركه الحواس.. إنما يدرك بغيرها. ومن الدلالة على دقة التعريف أنهم قالوا أن هناك خمس حواس ظاهرة هي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس.. ولكن هناك أشياء تدرك بغير هذه الحواس. لنفرض أن أمامنا حقيبتين.. نفس الشكل ونفس الحجم. هل تستطيع بحواسك الظاهرة أن تدرك أيهما أثقل من الأخرى؟. هل تستطيع الحواس الخمس أن تقول لك أي الحقيبتين أثقل؟.. لا.. لابد أن تحمل واحدة منهما ثم تحمل الأخرى لتعرف أيهما أثقل. بأي شيء أدركت هذا الثقل؟.. بحاسة العَضَل.. لأن عضلاتك أُجهدت عندما حملت إحدى الحقيبتين، ولم تجهد عندما حملت الثانية.. فعرفت بالدقة أيهما أثقل.. لا تقل باللمس لأنك لو لمست إحداهما ثم لمست الأخرى لا تعرف أيهما أثقل.. إذن فهناك حاسة العضل التي تقيس بها ثقل الأشياء. ولنفرض أنك دخلت محلاً لبيع القماش، وأمامك نوعان من قماش واحد.. ولكن أحدهما أرق من الآخر.. بمجرد أن تضع القماشين بين أناملك تدرك أن أحدهما رقيق والآخر أكثر سمكاً.. بأي حاسة أدركت هذا؟ ليس بحاسة اللمس ولكن بحاسة البينة وحكمها لا يخطىء. وعندما تشعر بالجوع.. بأي حاسة أدركت أنك جوعان؟.. ليس بالحواس الظاهرة، وكذلك عندما تظمأ.. ما هي الحاسة التي أدركت بها أنك محتاج إلى الماء.. وعندما تكون نائماً.. أي حاسة تلك التي توقظك من النوم.. لا أحد يعرف. إذن هناك ملكات في النفس وهي الحواس الظاهرة.. وهناك إدراكات في النفس.. وهي حواس لا يعلمها إلا خالقها.. لذلك عندما يأتي العلماء ليضعوا تعريفاً للنفس البشرية نقول لهم: ماذا تعرفون عن هذه النفس؟!.. إنكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا.. ولكن هناك أشياء داخل النفس لا تعرفونها.. هناك إدراكات لا يعلم عنها الإنسان شيئاً، وهي إدراكات كثيرة ومتعددة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . لذلك يخطئ مَنْ يقول إن ما لا يدرك بالحواس البشرية الظاهرة هو غيب.. لأن هناك ملكات وإدراكات متعددة تعمل بغير علم منا. لو أُعْطِيَ لطالب تمرين هندسي فحلَّه وأتى بالجواب.. هل نقول: إنه عَلِمَ غيباً؟.. لأن حَلَّ التمرين كان غيباً عنه ثم وصل إليه.. لا.. لأن هناك مقدمات وقوانين أوصلته الى هذا الحل.. والغيب بلا مقدمات ولا قوانين تؤدي إليه، وهل عندما تعلن الأرصاد الجوية أن غداً يوم مطير شديد الرياح.. أتكون قد عَلمَتْ غيباً؟.. لا.. لأنها أخذت المقدمات ووصلت بها إلى نتائج وهذا ليس غيباً. وإذا جاء أحد من الدجالين وقال لك إن ما سرق منك عند فلان.. أيكون قد علم الغيب؟.. لا.. لأنه يشترط في الغيب ألا يكون معلوماً لمثلك.. وما سرق منك معلوم لمثلك.. فالسارق والذي بيعت له المسروقات يعرفان من الذي سرق، وما الذي حدث.. والشرطة تستطيع بالمقدمات والبصمات والبحث أن تصل إلى السارق ومَنْ اشترى المسروقات.. وإذا جاءك دجال من الذين يسخرون الجن.. والمعروف أن الجن مستور عنا يمتاز بخفة الحركة وسرعتها.. والله سبحانه وتعالى يقول عن الشيطان:**{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.. }** [الأعراف: 27]. فقد يكون هذا المستعان به من الجن قد رأى شيئاً.. أو انتقل من مكان إلى آخر.. فيعرف شيئاً لا تعرفه أنت.. هذا لا يكون غيباً لأنك جهلته، ولكن غيرك يعلمه بقوانينه التي خلقها الله له.. والعلماء الذين يكتشفون أسرار الكون.. أيقال إنهم أطلعوا على الغيب؟.. لا.. لأن هؤلاء العلماء اكتشفوا موجوداً له مقدمات فوصلوا إلى هذه النتائج فهو ليس غيباً. ولكن ما هو الغيب؟. هو الشيء الذي ليس له مقدمات ولا يمكن أن يصل إليه علم خَلْقٍ من خلق الله حتى الملائكة.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى حينما عَلَّمَ آدم الأسماء كلها وعرضهم على الملائكة قال جل جلاله:**{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ \* قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ \* قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }** [البقرة: 31-33]. والجن أيضا لا يعلم الغيب.. ولذلك عندما مات سليمان عليه السلام.. وكان الله سبحانه وتعالى قد سَخَّرَ له الجن لم تعلم الجن بموته إلا عندما أكلت دابة الأرض عصاه.. واقرأ قوله تبارك وتعالى:**{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [سبأ: 14]. إذن فالغيب هو ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.. واقرأ قول الحق جل جلاله:**{ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً \* إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }** [الجن: 26-27]. وهكذا فإن الرسل لا يعلمون الغيب.. ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمهم بما يشاء من الغيب ويكون هذا معجزة لهم ولمَنْ اتبعوهم. وقمة الغيب هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى.. والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر.. كل هذه أمور غيبية، وحينما يخبرنا الله تبارك وتعالى عن ملائكته ونحن لا نراهم.. نقول ما دام الله قد أخبرنا بهم فنحن نؤمن بوجودهم.. وإذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر.. فما دام الله قد أخبرنا فنحن نؤمن باليوم الآخر.. لأن الذي أخبرنا به هو الله جل جلاله.. آمنت به أنه إله.. واستخدمت في هذا الإيمان الدليل العقلي الذي جعلني أؤمن بأن لهذا الكون إلهاً وخالقاً.. وما يأتيني عن الله حيثية الإيمان به أن الله سبحانه وتعالى هو القائل. ولا بد أن نعرف أن وجود الشيء مختلف تماماً عن إدراك هذا الشيء.. فأنت لك روح في جسدك تهبك الحياة.. أرأيتها؟.. أسمعتها؟.. أذقتها؟.. أشممتها؟.. ألمستها؟.. الجواب طبعاً لا.. فبأي وسيلة من وسائل الإدراك تدرك أن لك روحاً في جسدك؟ بأثرها في إحياء الجسد.. إذن، فقد عرفت الروح بأثرها، والروح مخلوق لله.. فكيف تريد وأنت عاجز أن تدرك مخلوقاً في جسدك وذاتك وهو الروح بآثارها.. أن تدرك الله سبحانه وتعالى بحواسك. ونحن إذا آمنا بالقمة الغيبية وهو الله جل جلاله.. فلابد أن نؤمن بكل ما يخبرنا عنه وإن لم نَرَه.. ولقد أراد الله تبارك وتعالى رحمة بعقولنا أن يقرب لنا قضية الغيب فأعطانا من الكون المادي أدلة على أن وجود الشيء، وإدراك هذا الوجود شيئان منفصلان تماماً. فالجراثيم مثلاً موجودة في الكون تؤدي مهمتها منذ بداية الخلق.. وكان الناس يشاهدون آثار الأمراض في أجسادهم من ارتفاع في الحرارة وحمى وغير ذلك وهم لا يعرفون السبب.. فلما ارتقى العلم وأذن الله لخلقه أن يروا هذا الوجود للجراثيم.. جعل الله العقول قادرة على أن تكتشف المجهر.. الذي يعطينا الصورة مكبرة.. لأن العين قدرتها البصرية أقل من أن تدرك هذه المخلوقات الدقيقة.. فلما اكتشف العلم المجهر.. استطعنا أن نرى هذا الجراثيم.. ونعرف أن لها دورة حياة وتكاثر إلى غير ما يكشفه الله لنا من علم كلما تقدم الزمن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إن عدم قدرتنا على رؤية أي شيء لا يعني أنه غير موجود.. ولكن آلة الإدراك - وهي البصر - عاجزة عن أن تراه، لأنه غاية في الصغر، فاذا جئت بالمجهر كبَّر لك هذا الميكروب ليدخل في نطاق وسيلة رؤيتك وهي العين.. ورؤيتنا للجراثيم والميكروبات ليست دليلاً على أنها خُلقت ساعة رأيناها.. بل هي موجودة تؤدي مهمتها.. سواء رأيناها أو لم نرها. فلو حدثنا أحد عن الميكروبات والجراثيم قبل أن نراها رؤية العين.. هل كنا نصدق؟.. والله سبحانه وتعالى ترك بعض خلقه غير مدرك في زمنه لبعض حقائق الكون ليرتقي الإنسان ويدرك بعد ذلك، وكان المفروض أنه يزداد إيماناً عندما يدرك وليعرف الخلق بالدليل المادي أن ما هو غيب عنهم موجود وإن كنا لا نراه. والله تبارك وتعالى قد أعطانا من آياته في الكون ما يجعلنا ندرك أن لهذا الكون خالقاً.. فالشمس والقمر والنجوم والأرض والإنسان والحيوان والجماد لا يستطيع أحد أن يدَّعي أنه خلقهم.. ولا أحد يمكن أن يدَّعي أنه خلق نفسه أو غيره. ولا يمكن لهذا الكون بهذا النظام الدقيق أن يوجد بالصدفة لأن الصدفة أحداث غير مرتبة أو غير منظمة.. ولو وجد هذا الكون بالصدفة لتصادمت الشمس والقمر والنجوم والأرض ولاختل الليل والنهار. ولكن كل ما في الكون من آيات يؤكد لنا أن هناك قوة هائلة هي التي خلقت ونظمت وأبدعت، فإذا جاءنا رسول يبلغنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الكون فلابد أن نصدقه. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ.. } [البقرة: 3].. والصلاة هي إدامة ولاء العبودية للحق تبارك وتعالى وهي لا تسقط عن الإنسان أبداً.. فالإنسان يصلي وهو واقف، فإن لم يستطع يصلي وهو جالس. فإن لم يستطع، فيصلي وهو راقد.. ولا تسقط الصلاة عن الإنسان من ساعة التكليف إلى ساعة الوفاة كل يوم خمس مرات. ويقول الحق تبارك وتعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3].. وحين نتكلم عن الرزق يظن كثير من الناس أن الرزق هو المال.. نقول له لا.. الرزق هو ما ينتفع به. فالقوة رزق، والعلم رزق، والحكمة رزق، والتواضع رزق.. وكل ما فيه حركة للحياة رزق.. فإن لم يكن عندك مال لتنفق منه فعندك عافية تعمل بها لتحصل على المال.. وتتصدق بها على العاجز المريض.. وإن كان عندك حلم.. فإنك تنفقه بأن تقي الأحمق من تصرفات قد تؤذي المجتمع وتؤذيك.. وإن كان عندك علم فأنفقه لتعلِّم الجاهل.. وهكذا نرى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3] تستوعب جميع حركة الحياة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ }: " الذين " يَحْتمل الرفعَ والنصبَ والجرَّ، والظاهرُ الجرُّ، وهو من ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه نعتٌ للمتقين، والثاني: بدلٌ، والثالث: عطفُ بيان، وأمَّا الرفعُ فمن وجهَيْنِ، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ على معنى القطع، وقد تقدَّم. والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: أولئك الأولى، والثاني: أولئك الثانية والواوُ زائدةٌ. وهذان القولان رديئان مُنْكَران لأنَّ قولَه: " والذين يؤمنون " يمنع كونَ " أولئك " الأولى خبراً، ووجودُ الواوِ يمنع كونَ " أولئك " الثانية خبراً أيضاً، وقولُهم الواوُ زائدةٌ لا يُلْتفَتْ إليه. والنصبُ على القطع، و " يؤمنون " صلةٌ وعائدٌ، وهو مضارعٌ، علامةُ رفعهِ النونُ، لأنه أحدُ الأمثلةِ الخمسةِ. والأمثلةُ الخمسةُ عبارةٌ عن كل فعلٍ مضارعٍ اتصلَ به ألفُ اثنين أو واوُ جمع أو ياءُ مخاطبةٍ، نحو: يؤمنان تؤمنان يؤمنون تؤمنون تؤمنين. والمضارعُ معربٌ أبداً، إلا أن يباشرَ نونَ توكيدٍ أو إناثٍ، على تفصيلٍ يأتي إن شاء الله تعالى في غضونِ هذا الكتاب. وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي، فالهمزة في " أَمِنَ " للصيرورة نحو: أَعْشَبَ المكانُ أي: صار ذا عشبٍ، أو لمطاوعةِ فَعَّلَ نحو: كَبَّ فَأَكَبَّ، وإنما تعدَّى بالباء لأنه ضُمِّن معنى اعترف، وقد يتعدَّى باللام كقوله تعالى:**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }** [يوسف: 17]**{ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ }** [يونس: 83] إلا أنَّ في ضمنِ التعدية باللام التعديةَ بالباء، فهذا فَرْقُ ما بين التعديتين. وأصلُ " يُؤْمِنون ": يُؤَأْمِنُون بهمزتين، الأولى: همزةُ أَفْعَل، والثانيةُ: فاء الكلمةِ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو: أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو: أنا أُكرم. الأصل: أُأَكْرِمُ بهمزتين، الأولى: للمضارَعةِ، والثانيةُ: هَمزَةُ أَفْعل، فحُذِفَت الثانيةُ لأنَّ بها حَصَل الثِّقَلُ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أَوْلَىٰ بالمحافظةِ عليه، ثم حُمِل باقي البابِ على ذلك طَرْداً لِلْبابِ، ولا يجوز ثبوتُ همزةِ أَفْعَل في شيء من ذلك، إلا في ضرورة كقوله: | **112ـ فإنَّه أَهْلٌ لأِنْ يُؤَكْرَما** | | **........................** | | --- | --- | --- | و " بالغيبِ " متعلِّق بيؤمنون، ويكون مصدراً واقعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ المفعولِ. وفي هذا الثاني نظرٌ لأنه مِنْ غابَ وهو لازمٌ فكيف يُبْنَى منه اسمُ مفعولٍ حتى يَقَعَ المصدرُ موقعَه؟ إلا أن يقال إنه واقعٌ موقعَ اسمِ المفعولِ من فَعَّل مضعفاً متعدياً أي المغيَّب وفيه بُعْدٌ. وقال الزمخشري: " يجوز أن يكون مخفَّفاً من فَيْعِل نحو: هَيْن من هيِّنٍ، ومَيْت من مَيِّت " ، وفيه نظرٌ لأنه لا ينبغي أن يُدَّعى ذلك فيه حتى يُسمَعَ مثقلاً كنظائره، فإنها سُمِعَتْ مخفَّفةً ومثقَّلةً، ويَبْعُد أن يقالَ: التُزِم التخفيفُ في هذا خاصةً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال فيتعلَّقَ بمحذوف أي: يُؤْمِنُون ملتبسينَ بالغَيْب عن المؤمِنِ بهِ، والغيبُ حينئذٍ مصدرٌ على بابه. وهمزةُ يُؤْمِنُون -وكذا كلُّ همزةٍ ساكنةٍ- يجوز أن تُدَيَّر بحركةِ ما قبلها فَتُبْدَلَ حرفاً/ مجانساً نحو: راس وبير ويُؤمن، فإن اتَّفق أن يكونَ قبلها همزةٌ أخرىٰ وَجَبَ البدلُ نحو إيمان وآمن. و " يُقيمون " عطفٌ على " يُؤمنون " فهو صلةٌ وعائدٌ. وأصلُه يُؤَقْوِمُونَ حُذفت همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون، فاستُثْقِلَتْ الكسرةُ على الواوِ فَفُعِل فيه ما فُعِل في " مستقيم " ، وقد تقدَّم في الفاتحة. ومعنى يُقيمون: يُدِيمون أو يُظْهِرون، قال الشاعر: | **113ـ أَقَمْنا لأهلِ العِراقَيْنِ سوقَ الـ** | | **ـطِعانِ فخاموا وولَّوْا جميعاً** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **114ـ وإذا يُقال أتيتُمُ لم يَبْرحوا** | | **حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعانِ** | | --- | --- | --- | و " الصلاةَ " مفعول به ووزنُها: فَعَلَة، ولامها واو لقولهم: صَلَوات، وإنما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفاً، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ وهما: عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنْب، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه، ومنه المُصَلِّي في حَلْبة السباق لمجيئِه ثانياً عند صَلَوَي السابق. والصلاةُ لغةً: الدعاءُ، قال: | **115ـ تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحَلا** | | **يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصَابَ والوَجَعا** | | --- | --- | --- | | **عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغتمضي** | | **يوماً فإنَّ لجَنْبِ المَرْءِ مُضطجَعَا** | | --- | --- | --- | أي: مثلُ الذي دَعَوْتِ، ومثلُه: | **116ـ لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها** | | **وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عليها وَزَمْزَما** | | --- | --- | --- | وفي الشرع: هذه العبادةُ المعروفة، وقيل: هي مأخوذةٌ من اللزوم، ومنه: " صَلِيَ بالنار " أي لَزِمَها، [قال]: | **117ـ لم أَكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ اللـ** | | **ـهُ وإني بحَرِّها اليومَ صالي** | | --- | --- | --- | وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنار أي قوَّمْتُه بالصِّلاء وهو حَرُّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأنَّ المُصَلِّي يُقَوِّم نفسه، قال: | **118ـ فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ** | | **فما صَلَّىٰ عَصاكَ كمُسْتديمِ** | | --- | --- | --- | ذكر ذلك جماعةٌ أَجِلَّة وهو مُشْكِلٌ، فإن الصلاة مِنْ ذواتِ الواوِ وهذا من الياء. و { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } جارٌّ ومجرور متعلِّق بـ " يُنْفِقون " ، و " ينفقون " معطوفٌ على الصلة قبله، و " ما " المجرورةُ تحتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ اسماً بمعنى الذي، ورزقناهم صلتُها، والعائدُ محذوفٌ، قال أبو البقاء: " تقديره: رزقناهموه أو رزقناهم إياه " ، وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشْكالٌ، لأنَّ تقديرَه متصلاً يلزم منه اتصال الضمير مع اتحاد الرتبة، وهو واجبُ الانفصال، وتقديرُه منفصلاً يمنع حذفَه؛ لأنَّ العائدَ متى كان منفصلاً امتنع حَذْفُه، نصُّوا عليه، وعَلَّلوه بأنه لم يُفْصَلْ إلا لِغَرضٍ، وإذا حُذِفَ فاتَتِ الدلالةُ على ذلك الغرضِ. ويمكن أن يُجاب عن الأولِ بأنه لمَّا اختلَفَ الضميران جَمْعاً وإفراداً وإن اتَّحدا رتبةً جاز اتصالُه، ويكون كقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **119ـ وقد جَعَلَتْ نفسي تَطيبُ لِضَغمَةٍ** | | **لِضَغْمِهماها يَقْرَعُ العظمَ نَابُها** | | --- | --- | --- | وأيضاً فإنه لا يلزمُ مِنْ مَنْعِ ذلك ملفوظاً به مَنْعُه مقدَّراً لزَوالِ القُبْح اللفظي. وعن الثاني بأنه إنما يُمنع لأجلِ اللَّبْس الحاصلِ ولا لَبْسَ هنا. الثاني: يجوز أن يكونَ نكرةً موصوفةً، والكلامُ في عائِدها كالكلامِ في عائِدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً. الثالث: أن تكونَ مصدريةً، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعول أي: مرزوقاً، وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ قال: " لأنَّ الفِعْلَ لا يُنْفَقُ " من أنَّ المصدر مرادٌ به المفعولُ. والرزقُ لغةً: العطاءُ، وهو مصدرٌ، قال تعالى:**{ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً }** [النحل: 75]، وقال الشاعر: | **120ـ رُزِقْتَ مالاً ولم تُرْزَقْ منافِعَه** | | **إنَّ الشقيَّ هو المَحْرُوم ما رُزِقا** | | --- | --- | --- | وقيل: يجوز أن يكونَ " فِعلاً " بمعنى مَفْعول نحو: ذِبْح ورِعْي، بمعنى مذبوح وَمَرْعِيّ. وقيل: الرزق بالفتح مصدرٌ، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة الشكر ومنه:**{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }** [الواقعة: 82] وسيأتي في موضعه]، ونفق الشيء نَفِد، وكلُّ ما جاء ممَّا فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ فدالٌ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمَّلت، قال الزمخشري، وهو كما قال نحو: نَفِد نَفَق نَفَر نَفَذ نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل، وَنَفق الشيءُ بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَت الدابَّةُ: ماتَتْ نُفوقاً: والنفقَةُ: اسمُ المُنْفَق. و " مِنْ " هنا لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أُخر: بيانُ الجنس:**{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ }** [الحج: 30]، والتعليل:**{ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ }** [البقرة: 19]، والبدلُ:**{ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ }** [التوبة: 38]، والمجاوزةُ:**{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ }** [آل عمران: 121]، وانتهاء الغاية قريبٌ منه، والاستعلاءُ:**{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ }** [الأنبياء: 77]، والفصلُ:**{ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ }** [البقرة: 220]، وموافقةُ الباءِ وفي:**{ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ }** [الشورى: 45]،**{ مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ }** [فاطر: 40]، والزيادةُ باطِّراد، وذلك بشرطين: كون المجرورِ نكرةً والكلامِ غيرَ موجَبٍ، واشترط الكوفيون التنكيرَ فقط، ولم يَشْترط الخفشُ شيئاً. والهمزةُ في " أَنْفَقَ " للتعدية، وحُذِفَتْ من " ينفقون " لِما تقدَّم في**{ يُؤْمِنُونَ }** [البقرة: 3]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
الإيمان في اللغة يُطلق على التصديق المحض كما قال تعالى:**{ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ }** [التوبة: 61]، كما قال إخوة يوسف لأبيهم:**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }** [يوسف: 17]، وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال:**{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }** [الشعراء: 227]. فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب أكثر الأئمة وحكاه الشافعي وأحمد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار كثيرة أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة، ومنهم من فسره بالخشية:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }** [الملك: 12]، والخشيةُ خلاصة الإيمان والعلم:**{ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ }** [فاطر: 28]. وأما الغيب المراد هٰهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، فقال أبو العالية: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وجنته ولقائه، وبالحياة بعد الموت فهذا غيبٌ كله. وقال السُّدي عن ابن عباس وابن مسعود: الغيبُ ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن. وقال عطاء: من آمن بالله فقد آمن بالغيب. فكل هذه متقاربة في معنى واحد والجميع مراد. روى ابن كثير بسنده عن عبد الرحمٰن بن يزيد أنه قال: " كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بَيِّناً لمن رآه، والذي لا إلـٰه غيره ما آمن أحدٌ قط إيماناً أفضلَ من إيمانٍ بغيب، ثم قرأ: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ - إلى قوله - ٱلْمُفْلِحُونَ }. وفي معنى هذا الحديث ما رواه أحمد عن (ابن محيريزٍ) قال: قلت لأبي جمعة حدثْنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدثك حديثاً جيداً: **" تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال يا رسول الله: هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال: نعم، قومٌ من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني "** وفي رواية أُخرى عن صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذٍ (رجاء بن حيوة) رضي الله عنه، فلما انصرف خرجنا نشيِّعه فلما أراد الانصراف قال: إنَّ لكم جائزة وحقاً، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: هات رحمك الله، قال: **" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومعنا معاذ ابن جبل عاشر عشرة - فقلنا يا رسول الله: هل من قومٍ أعظم منا أجراً؟ آمنا بك واتبعناك، قال: " ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين، يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً، أولئك أعظم منكم أجراً " ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } قال ابن عباس إقامة الصلاة: إتمامُ الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها. وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها. وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى: | **لها حارسٌ لا يبرح الدهرَ بيتَها** | | **وإن ذبحت صلَّى عليها وزمزما** | | --- | --- | --- | وقال الأعشى أيضاً: | **عَليكِ مثل الذي صليتِ فاغتمضي** | | **نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً** | | --- | --- | --- | يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظهر؛ ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود بشروطها المعروفة وصفاتها المشهورة. { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قال ابن عباس: زكاة أموالهم. وقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نفقةُ الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وقال قتادة: فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوارٍ وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها. واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات. قال ابن كثير: كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكيل عليه، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب، فكلٌ من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخلٌ في قوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } فيه قولان: يؤمنون بالأمور المغيبات كالآخرة وغيرها، فالغيب على هذا بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كعدل، وإما تخفيفاً في فعيل: كمَيْت، والآخر: يؤمنون في حال غيبهم، أي باطناً وظاهراً، وبالغيب: على القول الأوّل: يتعلق بيؤمنون، وعلى الثاني: في موضع الحال، ويجوز في الذين: أن يكون خفضاً على النعت، أو نصباً على إضمار فعل، أو رفعاً على أنه خبر مبتدأ { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } إقامتها: علمها من قولك: قامت السوق، وشبه ذلك، والكمال: المحافظة عليها في أوقاتها، بالإخلاص لله في فعلها، وتوفية شروطها، وأركانها وفضائلها، وسننها، وحضور القلب الخشوع فيها، وملازمة الجماعة في الفرائض والإكثار من النوافل. { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فيه ثلاثة أقوال: الزكاة لاقترانها مع الصلاة، والثاني: أنه التطوّع، والثالث: العموم. وهو الأرجح: لأنه لا دليل على التخصيص. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }؛ أي بالبعثِ والحساب والجنَّة والنار. وقيل: (الغَيْب) هو اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } ، أي الصَّلواتِ الخمسِ بشرائطها في مواقيتِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }؛ يعني الزكاةَ؛ وهو الأظهرُ؛ لأن اللهَ تعالى قَرَنَ بين الصلاةِ والزكاة في مواضعَ كثيرةٍ، وإقامةُ الصلاة طهارةُ الأبدان؛ وإعطاءُ الزكاة طهارةُ الأموال. وبالأموالِ قِوَامُ الأبدانِ، وقد قيلَ: هو نفقةُ الرجُلِ على أهلهِ. قيل: لَمَّا نزلَ قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } الآيةُ، قالتِ اليهودُ: نحنُ نؤمنُ بالغيب ونقيمُ الصلاة وننفقُ مما رزقَنَا اللهُ؛ فأنزلَ الله تعالى: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَْ } ، والذي أُنزل إليه القرآنُ والذي أُنزل مِن قبله التوراة والإنجيلُ وسائر الكتب المنَزَّلة؛ فَنَفَرُوا من ذلك. فإنْ قيلَ: لِمَ قالَ: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ، ولَم يَقُلْ يؤمنونَ؟ قِيْلَ: لأنَّ الإيقانَ توكيدُ الإيْمانِ؛ واليقينُ بالآخرةِ يقينُ خبرٍ ودلالةٍ، ومعنى الآية: وبالدار الآخرة هم يعلمونَ ويستيقنون أنَّها كائنةٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
وقوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } الآية. " الذين ": اسم مبهم ناقص لا بد له من صلة وعائد، وهو مبني في الجمع والواحد لمشابهة الحروف، ولأنه بعض اسم، فإن ثَنَّيْتَهُ أَعْربتَه، لأن التثنية تخرجه من مشابهة الحروف إذ الحروف لا تثنى. فإن قيل: فأعربه في الجمع إذ الحروف لا تجمع. فالجواب: إن الجمع مشبه بالواحد، لأنه يأتي إعرابه في آخره كالواحد، ولأنه يأتي على صور وأبنية مختلفة كالواحد، فجرى مجرى الواحد في البناء، والتثنية لا تختلف أبنيتها، ولا يقع إعرابها في آخرها، فخالفت الواحد والجمع فأعربت، هذه لغة القرآن وأكثر كلام العرب. ومن العرب من يعرب الجمع فيقول في الرفع " أَلَّذُون " فهؤلاء أعربوا الجمع إذ الحروف لا تجمع، وأصل " الذي " تدغم الياء منه محذوفة للتنوين كما تحذف في " عم " و " قاض " في الرفع والخفض. فلما دخلته الألف واللام رجعت الياء لزوال التنوين، وكتب " الذي " بلام واحدة، وأصلها لامان، تخفيفاً ولكثرة الاستعمال. وجرى " الذين " في الجمع على ذلك لقربه من الواحد في المشابهة / المتقدمة الذكر، وكتبت " اللذين " في التثنية بلامين على الأصل، لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي في جمع الأسماء إلا على نظام واحد. فلما جرت على أصلها، ولم تختلف كاختلاف الجمع جرت على أصلها في الخط. وأصل الإيمان: التصديق، فالعبد المؤمن يُصَدِّقُ بما أتاه من ربه، والله يصدق عبده بانتظاره ما وعده به من المجازاة على إيمانه، فالله جل ذكره مؤمن، ولا يقال: بكذا، والعبد مؤمن بكذا. وقد قيل: إن المؤمن مأخوذ من الأمان، وذلك أن العبد يُؤَمِّن نفسه من عذاب الله بإيمانه. والله مُؤَمِّن: أي: يُؤَمِّنُ مطيعه من عذابه. والهمز في " يؤمن " الأصل، وبدل الهمزة بواو لانضمام ما قبلها حسن فصيح. والغيب: كل ما استتر عنك. وهو في هذه الآية البعث، والحساب، والجنة، والنار، وشبهه. قاله سفيان وغيره. وقيل: معنى { بِٱلْغَيْبِ }: بالقدر. وقال عطاء: " { بِٱلْغَيْبِ }: بالله جل ذكره ". وقيل: بالقرآن. وقال بعض المتصوفة: " الغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لأن المنافق يؤمن بلسانه لا بقلبه ". فالإيمان الصحيح / النافع ما اعتقده القلب. وقال بعض العلماء: { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، أي: يؤمنون إذا غابوا عن الناس، كما يؤمنون إذا حضروا، أي ليسوا كمن يؤمن بالحضرة، ويكفر بالغيب. وقوله: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ }. معناه يديمون أداءها / بفروضها في أوقاتها. وقال الضحاك: " إقامتها تمام سجودها وركوعها وخشوعها وتلاوتها وسنتها ". وأصل " يُقيمُونَ، " يُقْوِمُونَ " على وزن " يُفْعِلُونَ " فألقيت حركة الواو على القاف وأبدل من الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | / كما قالوا: ميزانٌ وميعادٌ، وهما من الوَعْدِ والْوَزْنِ. وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء، لكن سمي الركوع والسجود صلاة للدعاء المستعمل فيها. والعرب تسمي الشيء باسم [ما لابَسَه وقاربه]. والصلاة من الله: الرحمة لعباده، ومن الملائكة. والأنبياء: الدعاء، وكذلك هي من الناس. وروى أبو هريرة أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: **" إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ، وإنْ كَانَ صَائِمَاً فَلْيُصَلِّ "** أي: فليدع. وقال الأعشى لابنته لما دعت له في قولها: | **............** | | **" يا ربِّ جَنِّب أَبي الأوصَابَ والْوَجَعَا.** | | --- | --- | --- | | **عليك مثل / الذي صليت فاغتمضي** | | **نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً.** | أي: دعوت. وقيل: إنما سميت الصلاة صلاة لأنها مشتقة من الصلويْن وهما عرقان في الردف، ينحنيان في الصلاة. / وكتبت الصلاة في المصاحف بالواو لتدل على أصلها، لأن أصل الألف الواو، وأصلها صلوة. فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت في اللفظ ألفاً؛ دليله قولهم في الجمع: " صَلَواتٌ ". وقد ذكرنا أن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها ولذلك قلنا: إن أصل " ماء ": مَوْهٌ " وإن الألف بدل من الواو، والهمزة بدل من الهاء. ودل على ذلك قولهم في الجمع: أمْوَاءٌ، فرد إلى أصله. وقيل: إنما كتبت بالواو لأن بعض العرب يفخم اللام والألف حتى تظهر الألف كأن لفظها يشوبه شيء من الواو. والقول الأول والآخر، به يعلل ما كتبوه من " الزكوة " و " الحيوة " وشبهه بالواو، فأعلمه. وهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني العرب دون غيرهم، بدلالة قوله بعد ذلك: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } يريد من آمن من اليهود والنصارى. وقيل: [بل الأربع] الآيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وقيل: بل هي في جميع من آمن بمحمد عليه السلام. إذ لم يؤمن [أحد به] إلا وهو مؤمن بالغيب مما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب. واختار الطبري القول الأول. وقال مجاهد: " أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان بعدها في نعت الكافرين وهم قادة الأحزاب و [ثلاث عشر] آية بعد ذلك في المنافقين ". وقوله: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. معناه: يتصدقون ويزكون. وقيل: " هي نفقة الرجل على عياله ". قاله السدي. وأصل " ما " في قوله: { وَممَّا } أن تكتب منفصلة، لأنها بمعنى " الذي ". والهاء محذوفة من { رَزَقْنَاهُمْ } ، أي وبعض الذي رزقناهم ينفقون منه. فحذفت من صلة " ما " لطول الاسم. فإن كانت " ما " بغير معنى " الذي " ، وإنما هي صلة، كان أصلها أن تكتب متصلة بما قبلها نحو قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ }** [النساء: 171]،**{ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }** [الحج: 49] وشبهه. وقد وقعت " ما " متصلة بما قبلها من الجار في الخط، وهي بمعنى " الذي " ، وأصلها الانفصال، وإنما جاز ذلك فيها لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد، وذلك نحو " مما " و " عما ". وأيضاً فإنه / لما كان حرف الجر الذي على حرف واحد لا ينفصل مما جرى ما كان على حرفين على ذلك لأنها كلها حروف الجر، فوصلن بما قبلهن من الجار في الخط لارتباط الجار بالمجرور مع كثرة الاستعمال. وقيل: إنه لما أدغمت النون في الميم فلم يظهر للنون لفظ / لم يثبت في الخط في مواضع وثبت في الخط في مواضع لبقاء الغنة ظاهرة، فمرة حمل على زوال لفظ النون ومرة حمل على بقاء الغنة في اللفظ. واعلم أن " كل ما " ، إذا كانت بمعنى " إذا " و " متى " ، وصلتها مع " ما " ، فإن كانت على غير ذلك فصلتها من " كل " ، تقول: " كلما جاءني زيد أكرمني. أي " إذا جاءني زيد " ، فتصل " ما " " بكل ". وتقول " يسرني كل ما يسرك " فتفصل " ما " من " كل " لأنها بمعنى " الذي ". وقد كتبت " بِئْسَما " و " نِعِمّا " مَوْصُولةَ وأصلها أن تفصل " ما " مما قبلها في الخط لأن " ما " اسم، وليست بصلة / وكذلك وصلت " حينئِذٍ " و " يؤمَئِِذٍ ". وأصل " إذا " الانفصال مما قبلها، لكن وصلت لكثرة الاستعمال والاختصار والإيجاز. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } هذا تفصيل لبعض صفات المتقين وخصها لأنها أعلى الأوصاف، وهو في محل جر صفة للمتقين، أو رفع خبر لمحذوف، أو نصب مفعول لمحذوف، ويصح أن يكون مستأنفاً مبتدأ خبر قوله { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } ، وعلى هذا فالوقف على المتقين تام لعدم ارتباطه بما بعده، وعلى الإعراب الأول فهو حسن لأنه رأس آية وإن كان له ارتباط بما بعده. قوله: (بما غاب) أشار بذلك إلى إطلاق المصدر وأرادة اسم الفاعل، وما غاب عنها قسمان ما دل عليه دليل عقلي أو سمعي، كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي واللوح والقلم والمولى سبحانه وتعالى وصفاته، وما لم يدل عليه كالساعة ووقت نزول المطر، وما في الأرحام وباقي الخمسة المذكورة في الآية. وأما الشهادة فهي ما ظهر لنا حساً أو عقلاً ببداهة العقل كالواحد نصف الاثنين وأن الجرم متحيز. قوله: (من البعث الخ) بيان لما. وقوله: (والجنة والنار) عطف عليه، أي ونحو ذلك مما قام لنا الدليل عليه، ويحتمل أن يبقى الغيب على مصدريته والباء متعلقة بمحذوف حال أي إيامناً ملتبساً بحالة الغيبة، ففيها بيان لحال المؤمنين الخالصين وتعريض لحال المنافقين، فإنهم كانوا يؤمنون ظاهراً فقط، فمدح الله من يؤمن في حال غيبته عن كل أحد كما يؤمن ظاهراً، ويحتمل أن المراد بالغيب القلب سمي بذلك لخفائه أي يؤمنون بحالة السر وهو الإيمان القلبي، فالمصدر باق على حاله وفيه رد على المنافقين أيضاً حيث قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. قوله: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } إما مأخذوة من الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء لأنها مشتملة عليه في الركوع والسجود وعليه فأصلها صلوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، وقيل من الوصلة لأنها وصلة بين العبد وبين ربه، وعليه فأصلها وصلة قلبت ألفاً مكانياً فصار صلوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً. وقوله: { وَيُقِيمُونَ } من قومت العود عدلته. قوله: (أي يأتون بحقوقها) أي الظاهرية كالشروط والآداب والأركان، والباطنية كالخشوع والخضوع والإخلاص. قوله: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } فيه حذف نون من التبعيضية لفظاً وخطاً لإدغامها في ما الموصولة، ورزقنا صلة الموصول ونا فاعل والهاء مفعول أول وحذف المفعول الثاني فيصح تقديره متصلاً أي رزقناهموه، أو منفصلاً أي رزقناهم إياه على حد قول ابن مالك وصل أو افصل هاء سلنيه. قوله: (أعطيناكم) أشار بذلك إلى أن الرزق معناه الملك، وليس المراد به الرزق الحقيقي، إذ لا يتأتى تعديه لغيره وقدم الجار والمجرور للاهتمام. قوله: { يُنْفِقُونَ } أي إنفاقاً واجباً كالزكاة والنفقة على الوالدين والعيال، أو مندوباً كالتوسعة على العيال ومواساة الأقارب والفقراء. قوله: (في طاعة الله) في تعليله أي من أجل طاعة الله لا رياء ولا سمعة، قال الله تعالى:**{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ }** [الإنسان: 9]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } أي: يصدقون: { بِٱلْغَيْبِ } الغيب في الأصل مصدر غاب، بمعنى استتر واحتجب وخفي، وهو بمعنى الفاعل - كالزور للزائر - أُطلق عليه مبالغة، والمراد به ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداهة العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام. والمعنى يؤمنون بما لا يتناوله حسّهم، كذاته تعالى، وملائكته، والجنة، والنار، والعرش والكرسي، واللوح ونحوها. { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } أي: يؤدّونها بحدودها وفروضها الظاهرة والباطنة، كالخشوع والمراقبة وتدبر المتلوّ والمقروء. قال الراغب: إقامة الصلاة توفية حدودها، وإدامتها، وتخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يُرِد إيقاعها فقط. ولهذا، لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو**{ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ }** [هود: 114، الإسراء: 78، وطه: 14، والعنكبوت: 45]، وقوله:**{ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ }** [النساء: 162]، و**{ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ }** [المائدة: 55]. ولم يقل: المصلي، إلا في المنافقين**{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ \* ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ }** [الماعون: 4-5]، وذلك تنبيه على أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل - كما قال عمر رضي الله عنه: الحاج قليل والركب كثير - ولهذا قال عليه السلام: **" من صلى ركعتين مقبلاً بقلبه على ربه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه "** فذكر مع قوله: " صلى " الإقبال بقلبه على الله تنبيهاً على معنى الإقامة، وبذلك عظم ثوابه. وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه، ذكره بلفظ الإقامة، نحو:**{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ }** [المائدة: 66] ونحو:**{ وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ }** [الرحمن: 9] تنبيهاً على المحافظة على تعديله. انتهى. فالإقامة من أقام العود إذا قوّمه، و " الصلاة " فعلة من صلّى إذا دعا، كـ " الزكاة " من زكى - وإنما كتبتا بالواو مراعاة للفظ المفخّم - وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء. { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي: يؤتون مما رزقناهم من الأموال من شرع لهم إيتاؤه والإنفاق عليه من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم، على ما بيّن في آيات كثيرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ)
الإيمان: هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها واستسلامها. وآيته العمل بما يقتضيه الإيمان عند عدم الصارف الذي يختلف بإختلاف درجات المؤمنين في اليقين. والغيب: ما غاب علمه عنهم، كذات الله تعالى وملائكته والدار الآخرة. وإقامة الصلاة: الإتيان بهذه العبادة الروحيّة البدنيّة على أكمل وجه ممكن. وللصلاة صورة وروح، فصورتها عبادة الأعضاء، وروحها عبادة القلب، كما يعلم ممّا يأتي. وجمهور المفسّرين على أنّ هذه الآية في المسلمين من العرب أو مطلقاً. وما بعدها فيمن أسلم من أهل الكتاب خاصّة. وفسّرهما شيخنا تفسيراً هو أقرب إلى مدلول النظم، وإن كان أبعد عن الروايات فقال ما مثاله: الناس قسمان: مادّيّ لا يؤمن إلاَّ بالحسّيّات، وغير مادّيّ يؤمن بما لا يدركه الحسّ - أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم. ولا شكّ أنّ الإيمان بالله وملائكته - وهي جنود غائبة لها مزايا وخواصّ يعلمها سبحانه وتعالى - وباليوم الآخر، إيمان بالغيب. ومن لا يؤمن بالله لا يمكن أن يهتدي بالقرآن، ومَنْ يتصدَّى لهدايته لابدّ له أن يقيم الحجّة العقليّة على أنّ لهذا العالم إلهاً متّصفاً بصفات الكمال التي لا تتحقّق الألوهيّة إلاَّ بها، ثمّ يقنعه بأنّ هذا القرآن هداية من لدنه تعالى. لذلك وصف الله المتّقين الذين يهتدون بالقرآن بقوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } والإيمان بالغيب هو الإعتقاد بموجود وراء المحسوس. وقد كتب الأستاذ الإمام في صاحبه ما نصّه: وصاحب هذا الإعتقاد واقف على طريق الرشاد وقائم على أوّل النهج، لا يحتاج إلاَّ إلى من يدلّه على المسلك، ويأخذ بيده إلى الغاية. فإنّ من يعتقد بأنّ وراء المحسوسات موجودات يصدّق بها العقل، وإن كانت لا يأتي عليها الحسّ، إذا أقمت له الدليل على وجود فاطر السماوات والأرض المستعلي عن المادّة ولواحقها، المتّصف بما وصف به نفسه على ألسنة رسله، سهل عليه التصديق وخفّ عليه النظر في جليّ المقدمات وخفيّها، وإذا جاء الرسول بوصف اليوم الآخر، أو بذكر عالم من العوالم التي استأثر الله بعلمها، كعالم الملائكة مثلاً، لم يشقّ على نفسه تصديق ما جاء به الخبر بعد ثبوت النبوّة؛ لهذا جعل الله سبحانه هذا الوصف في مقدّمة أوصاف المتّقين الذين يجدون في القرآن هدىً لهم. وأمّا من لا يعرف من الموجود إلاّ المحسوس، ويظنّ أنّ لا شيء وراء المحسوسات وما اشتملت عليه، فنفسه تنفّر من ذكر ما وراء مشهوده أو ما يشبه مشهوده، وقلّما تجد السبيل إلى قلبه إذا بدأته بدعواك، نعم قد توصلك المجاهدة بعد مرور الزمان في إيراد المقدمات البعيدة، والأخذ به في الطرق المختلفة، إلى تقريبه ممّا تطلب، ولكن هيهات أن ينصرك الصبر، أو يخضعه القهر، حتّى يتمّ لك منه الأمر، فمثل هذا إذا عرض عليه القرآن نبا عنه سمعه، ولم يجمل من نفسه وقعه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكيف يجد فيه هداية، أو منقذاً من غواية؟ [ولمّا كان الإيمان بالغيب يطلق عند الناس على ذلك الاستسلام التقليديّ الذي لم يأخذ من النفس إلاَّ ما أخذ اللفظ من اللسان، وليس له أثر في الأفعال؛ لأنّه لم يقع تحت نظر العقل، ولم يلحظه وجدان القلب، بل أغلقت عليه خزانة الوهم، ومثل هذا الذي يسمّونه إيماناً لا يفيد في إعداد القلب للإهتداء بالقرآن - لمّا كان هذا شأنهم، منَّ الله علينا ببيان يشعر بحقيقة ما أراده تعالى من معنى الإيمان] فذكر علامات المؤمنين بالغيب، الذين ينتفعون بهداية القرآن بالجمل الآتية، قال: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } إلخ، الصلاة: إظهار الحاجة والإفتقار إلى المعبود بالقول أو العمل أو كليهما، وهو المراد بقولهم: " الصلاة معناها الدعاء " لأنّ إظهار الحاجة إلى العظيم الكريم - ولو بالفعل فقط - التماس للحاجة واستدرار للنعمة، أو طلب لدفع النقمة. أرأيتم أولئك الذين يقفون بين أيدي الملوك ناكسي رؤوسهم حاني ظهورهم، وتارة يقعون على أقدامهم يقبّلونها، أليس الباعث على هذا العمل إمّا خوف من عقوبة يطلبون به دفعها، وإمّا حذر على نعمة يتوقّون سلبها ورفعها، فيلتمسون بقاءها، ويرجون زيادتها ونماءها؟ هذه الصلاة كانت توجد عند بعض الجاهليّين - وهم الذين كانوا يعرفون بالحنيفيّين والحنفاء، وعند بعض أهل الكتاب. وكتب الأستاذ في وصفها ما نصّه: [والصلاة بالمعنى الذي ذكرناه قد ظهر في الإسلام في أفضل أشكاله، وهو تلك الصلاة التي فرضها الله على المسلمين، فإنّ هذه الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم على النحو الذي جاءت به السنّة المتواترة، من أفضل ما يعبّر به عن الإحساس بالحاجة إلى المعبود، وشعور الأنفس بعظمته - لو أقامها المصلّون وأتوا بها على وجهها] ولذلك قال: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } ولم يقل: يصلّون وفرّق بينهما، فإنّ الصلاة متى حدّدت بكيفيّة مخصوصة، يقال لمن يؤدّيها بتلك الكيفية: إنه صلّى، وإن كان عمله هذا خلوّاً من معنى الصلاة وقوامها المقصود من الهيئة الظاهرة، فاحتيج إلى لفظ يدلّ على هذا المعنى الذي به قوام الصلاة، وهو ما عبّر عنه القرآن بلفظ الإقامة. وقد قالوا: إنّ إقامة الصلاة عبارة عن الإتيان بجميع حقوقها من كمال الطهارة، واستيفاء الأركان والسنن. وهو لا يعدو وصف الصورة الظاهرة، وإنّما قوام الصلاة الذي يحصل بالإقامة: هو التوجّه إلى الله تعالى والخشوع الحقيقي له، والإحساس بالحاجة إليه تعالى. وكتب شيخنا عند تفسير الصلاة هنا بما تقدّم، أخذاً عنه ما نصّه: [فإذا خلت صورة الصلاة من هذا المعنى لم يصدق على المصلّي أنّه أقام الصلاة، فإنّه قد هدمها بإخلائها من عمادها، وقتلها بسلبها روحها، ومن غريب مزاعم من يسمّون أنفسهم بالمسلمين: أنّ حضور القلب في جميع أجزاء الصلاة واستشعار الخشية من أصعب ما تتجشّمه النفس، بل يكاد يكون مستحيلاً؛ لغلبة الخواطر على ذهن المصلّي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هذا، وأخشى أن يكون هذا جحوداً لمعنى الصلاة، وإنّما عرض لهم هذا الوهم الباطل من شدّة الغفلة، واستحكام العلّة، وإنّي أدلّهم على طريقة لو أخذوا بها لشغلوا بمعنى الصلاة حتى عن الصلاة نفسها، تلك الطريقة: هي أن لا ينطق المصلّي بلفظ إلاَّ وهو يستورد معناه على ذهنه، فإذا قال**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الفاتحة: 2] يستحضر معنى الحمد وإضافته إلى ذات الله تعالى، مع وصفه بالربوبيّة لجميع الأكوان العلويّة والسفليّة، وإذا قال مثل:**{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }** [الفاتحة: 4] تصوّر معنى الملك وتعلّقه بذلك اليوم يوم الجزاء، وهكذا. فإذا أخذ المصلّي على نفسه أن يتصوّر المعاني من ألفاظها التي ينطق بها فقد أقام الصلاة، أمّا وهو ينطق ولا يفقه ولا يلحظ بذهنه معنىً لفظ ما يقول، فكيف يزعم أنّه يصلّي، فضلاً عن أنّه يقيم الصلاة؟]. { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أقول: الرزق في اللغة: النصيب والعطاء ويطلق على الحسّيّ والمعنويّ كالمال والولد والعلم والتقوى. ويخصّ بأمور المعاش بقرينة حاليّة أو لفظيّة، وقال علماء أهل السنّة: الرزق ما انتفع به، حلالاً كان أو حراماً، وخصّه المعتزلة بالحلال. ونفاق - الشيء كنفاده. وأنفقه: جعله ينفق بصرفه وإخراجه من يده. وقال الجمهور: إنّ الإنفاق هنا - يشمل النفقة الواجبة على الأهل والولد وذي القربى وصدقة التطوّع، إذ الآية نزلت قبل فرض الزكاة المعيَّنة. وقوله تعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } يدلّ على أنّ النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان، لا كلّ ما يملك - فهو ركن من أركان الإقتصاد. والإنفاق في سبيل الله أظهر آيات الإيمان الصحيح. وقال شيخنا شارحاً ذلك على طريقته بما مثاله: هذا الوصف من أقوى أمارات الإيمان بالغيب؛ لأنّ كثيراً من الناس يأتون بضروب العبادات البدنيّة كالصلاة والصوم، ومتى عرض لهم ما يقتضي بذل شيء من المال لله تعالى يمسكون ولا تسمح أنفسهم بالبذل، وليس المراد بالإنفاق - هنا - ما يكون على الأهل والولد، ولا ما يسمّونه بالجود والكرم، كقرى الضيوف ابتغاء عوض كالشهرة والجاه، أو الأنس بالأصحاب؛ لأنّ هذا ليس من آثار الإيمان بالغيب، وإنّما هو الإنفاق الناشيء عن شعور بأنّ الله تعالى هو الذي رزقه وأنعم عليه به، وأنّ الفقير المحروم عبد لله مثله، وأنّه حُرم من سعة العيش لضعف أو حرمان من الأسباب التي توصل إلى الرزق [أو عن إحساس بأنّ مصلحة من مصالح المسلمين ومنفعة من منافعهم العامّة، لا تقوم، أو لا تصل إليهم: إلاّ ببذل المال. وقد أوجب الله على من أوتي المال أن ينفق منه في ذلك السبيل وهو أفضل سبل الله] فمن يجد من نفسه داعية لبذل أحبّ الأشياء إليه - وهو ماله - ابتغاء مرضاة الله تعالى وقياماً بشكره، ورحمة لأهل العوز والبائسين من خلقه، فهو - لا شكّ - مستعدّ لقبول هداية القرآن أتمّ الإستعداد، حتى إذا ما دعي إليه لبّى وأجاب، وأسلم إلى الله تعالى وأناب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فهذا بيان حال الفرقة الأولى ممّن يهتدي بالقرآن فعلاً ويشملها لفظ المتّقين بالمعنى السابق، وكان منهم بعض العرب الحنفاء، وبعض أهل الكتاب الصلحاء كما سبق بيانه. والمراد من كون القرآن هدىً لهذه الفرقة: إنّها مستعدّة لقبوله، ومهيّأة للاسترشاد به؛ لأنّ الإيمان الإجماليّ بالله وبحياة أُخرى بعد هذه الحياة يوفّى الناس فيها أجورهم بحسب أعمالهم البدنيّة والنفسيّة، واتّقاء ما يحول دون السعادة في هذه الحياة بحسب الإجتهاد الناقص والتعليم الذي لم يقتنع به العقل. ولم تسكن إليه النفس، قد هيّأهم لقبول القرآن وأن يقتبسوا من نوره ما يذهب بظلمات الجهل والحيرة، ويمنح الأرواح ما تتشوّف إليه بمقتضى الفطرة. وبعد أن بيّن حال هذه الفرقة التي يكون الكتاب هدىً لها [يخرجها من ظلمات الشك إلى نور اليقين، وينكّب بها عن مهابّ رياح الفكر إلى مستقرّ السكينة ومستكنّ الطمأنينة، بما تتعرّفه النفس من جانب القدس] عطف عليها بيان حال الفرقة التي اهتدت به فعلا، وصار إماماً لها تتّبعه في جميع أعمالها، دون أن تغمض عينها عنه. بعد أن أضاء لها ما أضاء منه، فقال عزّ مَنْ قائل: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن... }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي يصدقون بأخبار الله عن الجنة والنار والحساب والقيامة وأشباه ذلك. { يُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ }: إقامتها: أن يؤتى بها بحقوقها؛ كما فرض الله عز وجل؛ يقال: قام بالأمر؛ وأقام الأمر؛ إذا جاء به معطي حقوقه { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }: أي يزكون ويتصدقون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ)
311/ [2]- علي بن إبراهيم، قال: مما علمناهم، ينبئون، و مما علمناهم من القرآن يتلون. و قال: الم هو حرف من حروف اسم الله الأعظم، المقطع في القرآن، الذي خوطب به النبي (عليه الصلاة و السلام) و الإمام، فإذا دعا به أجيب. 312/ [3]- العياشي: عن سعدان بن مسلم، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله:**{ الۤـمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 1-2]، قال: " كتاب علي لا ريب فيه ".**{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] قال: " المتقون: شيعتنا ". { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قال: " و مما علمناهم ينبئون ". 313/ [3]- ابن بابويه، قال: حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس بن عبد الرحمن، عن سعدان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " الم هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن، الذي يؤلفه النبي (صلى الله عليه و آله) و الإمام، فإذا دعا به أجيب ".**{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] قال: " بيان لشيعتنا ". { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قال: " مما علمناهم ينبئون، و ما علمناهم من القرآن يتلون ". 314/ [4]- و عنه، قال: حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رضي الله عنه)، قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن عمر بن عبد العزيز، عن غير واحد من أصحابنا، عن داود بن كثير الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز و جل: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. قال: " من آمن بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق ". 315/ [5]- و عنه، قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد الدقاق (رضي الله عنه)، قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد، عن علي بن أبي حمزة، عن يحيى بن أبي القاسم، قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: { الۤـمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ \* ;لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } فقال: " المتقون: شيعة علي (عليه السلام)، و الغيب فهو الحجة الغائب، و شاهد ذلك قوله تعالى:**{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ }** [يونس: 20] " 2 ". 316/ [6]- و عنه: بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله (صلى الله عليه و آله)، في حديث يذكر فيه الأئمة الاثني عشر و فيهم القائم (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبتهم، أولئك من وصفهم الله في كتابه، فقال: { ;لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } و قال: { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } "** [المجادلة: 22] 317/ [7]- و عنه: قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن محمد بن قيس، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام)، يحدث: **" أن حييا و أبا ياسر ابني أخطب، و نفرا من يهود أهل نجران، أتوا رسول الله (صلى الله عليه و آله) فقالوا له: أليس فيما تذكر فيما أنزل عليك: الم؟ قال: بلى، قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله؟ قال: نعم، قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك، و ما نعلم نبيا منهم أخبر ما مدة ملكه، و ما أجل أمته غيرك! قال: فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه، فقال: الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، فهذه إحدى و سبعون سنة، فعجب ممن يدخل في دين مدة ملكه و أجل أمته إحدى و سبعون سنة! قال: ثم أقبل على رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقال: يا محمد، هل من هذا غيره؟ قال: نعم، قال: فهاته، قال:** **{ الۤمۤصۤ } [الأعراف: 1]، قال: هذه أثقل و أطول، الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فهذه مائة و إحدى و ستون! ثم قال لرسول الله (صلى الله عليه و آله): فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: هاته، قال: { الۤر } [يونس: 1]، قال: هذه أثقل و أطول، الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الراء مائتان! ثم قال: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: هاته، قال: المر قال: هذه أثقل و أطول، الألف و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الراء مائتان! ثم قال: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قالوا: قد التبس علينا أمرك، فما ندري ما أعطيت! ثم قاموا عنه ".** ثم قال أبو ياسر لحيي أخيه، ما يدريك، لعل محمدا قد جمع له هذا كله، و أكثر منه ". قال: فذكر أبو جعفر (عليه السلام): " أن هذه الآيات أنزلت فيهم**{ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }** [آل عمران: 7] - قال-: و هي تجري في وجه آخر، على غير تأويل حيي و أبي ياسر و أصحابهما ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | 318/ [8]- و عنه، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن هارون الزنجاني فيما كتب إلي على يدي علي بن أحمد البغدادي الوراق، قال: حدثنا معاذ بن المثنى العنبري، قال: حدثنا عبد الله بن أسماء، قال: حدثنا جويرية، عن سفيان بن سعيد الثوري، قال: قلت لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام): يا ابن رسول الله، ما معنى قول الله عز و جل: الم؟ قال (عليه السلام): " أما الم في أول البقرة، فمعناه أنا الله الملك ". 319/ [9]- و عنه، قال: حدثنا محمد بن القاسم الأسترابادي، المعروف بأبي الحسن الجرجاني (رضي الله عنه)، قال: حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، و أبو الحسن علي بن محمد بن سيار، عن أبويهما، عن الحسن ابن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم)، أنه قال: " كذبت قريش و اليهود بالقرآن، و قالوا هذا سحر مبين تقوله، فقال الله: الم ذلِكَ الْكِتابُ أي يا محمد، هذا الكتاب الذي أنزلته عليك، هو الحروف المقطعة، التي منها: ألف، لام، ميم، و هو بلغتكم و حروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، و استعينوا على ذلك بسائر شهدائكم. ثم بين أنهم لا يقدرون عليه بقوله:**{ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }** [الإسراء: 88]. ثم قال تعالى: الم هو القرآن الذي افتتح ب الم هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى، فمن بعده من الأنبياء، و أخبروا بني إسرائيل: أني سأنزله عليك- يا محمد- كتابا عربيا عزيزا**{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }** [فصلت: 42]. { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه، لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم: أن محمدا ينزل عليه كتاب لا يمحوه الباطل، يقرؤه هو و أمته على سائر أحوالهم. هُدىً بيان من الضلالة. لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون الموبقات، و يتقون تسليط السفه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه، عملوا بما يجب لهم رضا ربهم ". ثم قال: " و قال الصادق (عليه السلام): الألف حرف من حروف [قول الله، دل بالألف على] قولك: الله، و دل باللام على قولك: الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين، و دل بالميم على أنه المجيد المحمود في كل أفعاله، و جعل هذا القول حجة على اليهود، و ذلك أن الله لما بعث موسى بن عمران، ثم من بعده من الأنبياء إلى بني إسرائيل، لم يكن فيهم قوم إلا أخذوا عليهم العهود و المواثيق، ليؤمنن بمحمد العربي المبعوث بمكة، الذي يهاجر إلى المدينة، يأتي بكتاب، بالحروف المقطعة افتتاح بعض سوره، تحفظه أمته، فيقرءونه قياما و قعودا و مشاة، و على كل الأحوال، يسهل الله عز و جل حفظه عليهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و يقرنون بمحمد (صلى الله عليه و آله) أخاه و وصيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الآخذ عنه علومه التي علمها، و المتقلد منه الإمامة التي قلدها، و يذلل كل من عاند محمدا (صلى الله عليه و آله) بسيفه الباتر، و يفحم كل من جادله و خاصمه بدليله القاهر، يقاتل عباد الله على تنزيل كتاب الله، حتى يقودهم إلى قبوله طائعين و كارهين، ثم إذا صار محمد (صلى الله عليه و آله) إلى رضوان الله عز و جل و ارتد كثير ممن كان أعطاه ظاهر الإيمان، و حرفوا تأويلاته، و غيروا معانيه، و وضعوها على خلاف وجوهها، قاتلهم بعده على تأويله، حتى يكون إبليس الغاوي لهم، هو الخاسر الذليل المطرود المغلوب ". قال: " فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه و آله)، و أظهره بمكة، ثم سيره منها إلى المدينة، و أظهره بها، ثم أنزل عليه الكتاب، و جعل افتتاح سورته الكبرى ب الم- يعني الم ذلِكَ الْكِتابُ- الذي أخبرت أنبيائي السالفين أني سأنزله عليك- يا محمد- لا رَيْبَ فِيهِ فقد ظهر- كما أخبرهم به أنبياؤهم- أن محمدا (صلى الله عليه و آله) ينزل عليه كتاب مبارك، لا يمحوه الباطل، يقرؤه هو و أمته على سائر أحوالهم. ثم اليهود يحرفونه، و يتأولونه على خلاف وجهه، و يتعاطون التوصل إلى علم ما قد طواه الله عنهم، من حال آجال هذه الأمة، و كم مدة ملكهم. فجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) [منهم] جماعة، فولى رسول الله (صلى الله عليه و آله) عليا (عليه السلام) مخاطبتهم. فقال قائلهم: إن كان ما يقول محمد حقا فقد علمناكم قدر ملك أمته، هو إحدى و سبعون سنة، الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون. فقال علي (عليه السلام): فما تصنعون ب المص و قد أنزلت عليه؟! قالوا: هذه إحدى و ستون و مائة سنة. قال: فما تصنعون ب الر و قد أنزلت عليه؟! فقالوا: هذه أكثر، هذه مائتان و إحدى و ثلاثون سنة. فقال علي (عليه السلام): فما تصنعون بمن أنزل عليه المر؟! قالوا: هذه مائتان و إحدى و سبعون سنة. فقال علي (عليه السلام): فواحدة من هذه له، أو جميعها له؟ فاختلط كلامهم، فبعضهم قال: له واحدة منها، و بعضهم قال: بل تجمع له كلها، و ذلك سبعمائة و أربع [و ثلاثون] سنة، ثم يرجع الملك إلينا، يعني إلى اليهود. فقال علي (عليه السلام): أ كتاب من كتب الله نطق بهذا، أم آراؤكم دلتكم عليه؟ فقال بعضهم: كتاب الله نطق به، و قال آخرون منهم: بل آراؤنا دلت عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فقال علي (عليه السلام): فأتوا بالكتاب من عند الله ينطق بما تقولون، فعجزوا عن إيراد ذلك، و قال للآخرين: فدلونا على صواب هذا الرأي، فقالوا: صواب رأينا دليله على أن هذا حساب الجمل. فقال علي (عليه السلام): كيف دل على ما تقولون، و ليس في هذه الحروف ما اقترحتم به بلا بيان؟! أرأيتم إن قيل لكم: إن عدد ذلك، لكل واحد منا و منكم، بعدد هذا الحساب، دراهم أو دنانير، أو على أن لعلي على كل واحد منكم دينا، عدد ماله مثل عدد هذا الحساب، أو أن كل واحد منكم قد لعن بعدد هذا الحساب. قالوا: يا أبا الحسن، ليس شيء مما ذكرته منصوصا في الم و المص و الر و المر فإن بطل قولنا لما قلنا، بطل قولك لما قلت، فقال خطيبهم و منطيقهم: لا تفرح- يا علي- بأن عجزنا عن إقامة حجة على دعوانا، فأي حجة في دعواك؟ إلا أن تجعل عجزنا حجتك، فإذن ما لنا حجة فيما نقول، و لا لكم حجة فيما تقولون. قال علي (عليه السلام): لا سواء، و إن لنا حجة هي المعجزة الباهرة. ثم نادى جمال اليهود: يا أيتها الجمال، اشهدي لمحمد و لوصيه، فتبادرت الجمال: صدقت، صدقت- يا وصي محمد- و كذب هؤلاء اليهود. فقال علي (عليه السلام): هؤلاء جنس من الشهود، يا ثياب اليهود التي عليهم، اشهدي لمحمد و لوصيه، فنطقت ثيابهم كلها: صدقت، صدقت- يا علي- نشهد أن محمدا رسول الله حقا، و أنك- يا علي- وصيه حقا، لم يثبت لمحمد قدم في مكرمة إلا وطئت على موضع قدمه بمثل مكرمته، فأنتما شقيقان من أشرف أنوار الله تعالى، تميزتما اثنين، و أنتما في الفضائل شريكان، إلا أنه لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه و آله). فعند ذلك خرست اليهود، و آمن بعض النظارة منهم برسول الله (صلى الله عليه و آله) و غلب الشقاء على اليهود، و سائر النظارة الآخرين، فذلك ما قال الله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } إنه كما قال محمد، و وصي محمد عن قول محمد (صلى الله عليه و آله)، عن قول رب العالمين. ثم قال: هُدىً بيان و شفاء للمتقين من شيعة محمد و علي، إنهم اتقوا أنواع الكفر فتركوها، و اتقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، و اتقوا إظهار أسرار الله، و أسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمد (صلى الله عليه و آله) فكتموها، و اتقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقين لها، و فيهم نشروها ". 320/ [10]- العياشي: عن محمد بن قيس، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث، قال: " إن حييا و أبا ياسر- ابني أخطب- و نفرا من اليهود- أهل خيبر- أتوا رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقالوا له: أليس فيما تذكر، فيما أنزل عليك: الم؟ قال: بلى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك، و ما نعلم نبيا منهم أخبر ما مدة ملكه، و ما أجل أمته غيرك! فأقبل حيي على أصحابه، فقال لهم: الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، فهي إحدى و سبعون سنة، فعجب ممن يدخل في دين مدة ملكه و أجل أمته إحدى و سبعون سنة. ثم أقبل على رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: نعم. قال: فهاته. قال: المص. قال: هذه أثقل و أطول، الألف واحد، و اللام ثلاثون ". قلت: تمام هذا الحديث ساقط، و بعده حديث لا يناسبه في نسختين من العياشي. 321/ [11]- قال علي بن إبراهيم: و الهداية في كتاب الله على وجوه، ف { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ \* ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال: يصدقون بالبعث و النشور، و الوعد و الوعيد. 322/ [12]- و قال علي بن إبراهيم: و الإيمان في كتاب الله على أربعة وجوه: فمنه إقرار باللسان، و قد سماه الله تبارك و تعالى إيمانا، و منه تصديق بالقلب، و منه الأداء، و منه التأييد. فأما الإيمان الذي هو إقرار باللسان، و قد سماه الله تبارك و تعالى إيمانا، و نادى أهله به بقوله:**{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً \* وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً \* وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً \* فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }** [النساء: 71-73]. فقال الصادق (عليه السلام): " لو أن هذه الكلمة قالها أهل المشرق و أهل المغرب، لكانوا بها خارجين من الإيمان، و لكن قد سماهم الله مؤمنين بإقرارهم ". و في قوله:**{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }** [النساء: 136] فقد سماهم الله مؤمنين بإقرارهم، ثم قال لهم: صدقوا. و أما الإيمان الذي هو التصديق فقوله:**{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ \* لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ }** [يونس: 63-64] يعني صدقوا، و قوله:**{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ }** [البقرة: 55] أي لا نصدقك، و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي يا أيها الذين أقروا و صدقوا، فالإيمان الخفي هو التصديق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و للتصديق شروط، لا يتم التصديق إلا بها و قوله:**{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }** [البقرة: 177] فمن أقام بهذه الشروط، فهو مؤمن مصدق. و أما الإيمان الذي هو الأداء، فهو قوله لما حول الله قبلة رسوله إلى الكعبة، قال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله): يا رسول الله، فصلواتنا إلى بيت المقدس بطلت؟ فأنزل الله تبارك و تعالى:**{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }** [البقرة: 143] فسمى الصلاة إيمانا. و الوجه الرابع من الإيمان هو التأييد، الذي جعله الله في قلوب المؤمنين، من روح الإيمان، فقال:**{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ }** [المجادلة: 22]. و الدليل على ذلك، قوله (عليه الصلاة و السلام): **" لا يزني الزاني و هو مؤمن، و لا يسرق السارق و هو مؤمن، يفارقه روح الإيمان ما دام على بطنها، فإذا قام عاد إليه ".** قيل: و ما الذي يفارقه؟ قال: " الذي يدعه في قلبه ". ثم قال (عليه السلام): " ما من قلب إلا و له أذنان، على إحداهما ملك مرشد، و على الأخرى شيطان مفتن، هذا يأمره و هذا يزجره ". و من الإيمان ما قد ذكره الله في القرآن: خبيث، و طيب، فقال:**{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ }** [آل عمران: 179]. فمنهم من يكون مؤمنا مصدقا، و لكنه يلبس إيمانه بظلم، و هو قوله:**{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }** [الأنعام: 82] فمن كان مؤمنا، ثم دخل في المعاصي التي نهى الله عنها، فقد لبس إيمانه بظلم، فلا ينفعه الإيمان، حتى يتوب إلى الله من الظلم الذي لبس إيمانه، حتى يخلص لله إيمانه، فهذه وجوه الإيمان في كتاب الله. 323/ [13]- تفسير الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) في قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. قال الإمام (عليه السلام): " وصف هؤلاء المؤمنين، الذين هذا الكتاب هدى لهم، فقال: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } يعني ما غاب عن حواسهم، من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها كالبعث، و الحساب، و الجنة، و النار، و توحيد الله، و سائر ما لا يعرف بالمشاهدة، و إنما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالى عليها كآدم، و حواء، و إدريس، و نوح، و إبراهيم، و الأنبياء الذين يلزمهم الإيمان بهم، بحجج الله تعالى، و إن لم يشاهدوهم، و يؤمنون بالغيب:**{ وَهُمْ مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ }** [الأنبياء: 49]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
* تفسير الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم / تفسير الكازروني (ت 923هـ)
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } الغائب عن الحواس اجمالاً. " تنبيه ": الإيمان: التصديق بما علم ضرورة أنه من دينه -صلى الله عليه وسلم- إجمالاً فيما علم إجمالاً، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً. وعند المحدثين والسلف: اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان فالإخلال بالاعتقاد نفاق وبالإقرار كفر بالعمل فسق. [ والعمل ليس جزءاً من حقيقته حتى يلزم من عدمه عدمه كما هو مذهب المعتزلة من إثبات المنزلة بين المنزلتين لمرتكب كبيرة، ومذهب الخوارج من إثبات الكفر لمن أذنب بَلْ هُوَ جُزءٌ عرفي له كالظفر والشعر واليد لِزَيْد وكالأغصان للشجرة والإيمان هو القدر المشترك بينَهُ وَبيْن التصديق، وبينه وبين الأعمال، فيطلق على التصديق وعلى المجموع حقيقة كإطلاق الشجر على ساق أو على مجموع الساق والأغصان والشعب والأوراق، فما يقي الساق لا يقال بانعدامه، وسيأتي تحقيق الإسلام في الحجرات - والله أعلم]. { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } يعدلون أركانها أو يواظبون عليها { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي: في الخير، خَصَّ الثلاث لمزيد فضلهم ومنع بـ { مِن } عن السرف. والرزق: ما يسوقه الله إلى الحيوان مما ينتفع به، وهو أربعة: مضمون كالغذاء، مقسوم في اللوح. ومملوك، وموعود بشرط التقوى، ويجب التوكل في الأول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قال أبو جعفر: قد مضى البـيان عن تأويـل قوله «الرحمن الرحيـم»، فـي تأويـل «بسم الله الرحمن الرحيـم»، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. ولـم يحتـج إلـى الإبـانة عن وجه تكرير الله ذلك فـي هذا الـموضع، إذ كنا لا نرى أن «بسم الله الرحمن الرحيـم» من فـاتـحة الكتاب آية، فـيكون علـينا لسائلٍ مسألة بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك فـي هذا الـموضع، وقد مضى وصف الله عزّ وجلّ به نفسه فـي قوله «بسم الله الرحمن الرحيـم»، مع قرب مكان إحدى الآيتـين من الآخرى ومـجاورتها لصاحبتها؟ بل ذلك لنا حجة علـى خطأ دعوى من ادعى أن بسم الله الرحمن الرحيـم من فـاتـحة الكتاب آية، إذ لو كان ذلك كذلك لكان ذلك إعادة آية بـمعنى واحد ولفظ واحد مرتـين من غير فصل يفصل بـينهما. وغير موجود فـي شيء من كتاب الله آيتان متـجاورتان مكرّرتان بلفظ واحد ومعنى واحد، لا فصل بـينهما من كلام يخالف معناه معناهما، وإنـما يأتـي بتكرير آية بكمالها فـي السورة الواحدة، مع فصول تفصل بـين ذلك، وكلام يُعترض به بغير معنى الآيات الـمكرّرات أو غير ألفـاظها، ولا فـاصل بـين قول الله تبـارك وتعالـى اسمه «الرحمن الرحيـم» من «بسم الله الرحمن الرحيـم»، وقول الله: «الرحمن الرحيـم»، من «الـحمد لله رب العالـمين». فإن قال قائل: فإن «الـحمد لله رب العالـمين» فـاصل بـين ذلك. قـيـل: قد أنكر ذلك جماعةٌ من أهل التأويـل، وقالوا: إن ذلك من الـموخَّر الذي معناه التقديـم، وإنـما هو: الـحمد لله الرحمن الرحيـم رب العالـمين ملك يوم الدين. واستشهدوا علـى صحة ما ادّعوا من ذلك بقوله: «مَلِكِ يَوْم الدّين» فقالوا: إن قوله: «ملك يوم الدين» تعلـيـم من الله عبده أن يصفه بـالـمُلْك فـي قراءة من قرأ مَلِك، وبـالـمِلْك فـي قراءة من قرأ «مالك». قالوا: فـالذي هو أولـى أن يكون مـحاور وَصْفه بـالـمُلْك أو الـمِلْك ما كان نظير ذلك من الوصف، وذلك هو قوله «رَبّ العالـمين»، الذي هو خبر عن ملكه جميع أجناس الـخـلق، وأن يكون مـجاور وصفه بـالعظمة والألوهة ما كان له نظيراً فـي الـمعنى من الثناء علـيه، وذلك قوله: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }. فزعموا أن ذلك لهم دلـيـل علـى أن قوله «الرحمن الرحيـم» بـمعنى التقديـم قبل «رب العالـمين»، وإن كان فـي الظاهر مؤخراً. وقالوا: في نظائر ذلك من التقديـم الذي هو بـمعنى التأخير والـمؤخر الذي هو بـمعنى التقديـم فـي كلام العرب أفشى وفـي منطقها أكثر من أن يحصى، من ذلك قول جرير بن عطية: | **طافَ الـخَيالُ وأيْنَ منْكَ لِـمَاما** | | **فـارْجِعْ لزَوْرِكَ بـالسَّلام سَلاما** | | --- | --- | --- | بـمعنى طاف الـخيال لـماماً وأين هو منك. وكما قال جل ثناؤه فـي كتابه:**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَاً قَيِّماً }** [الكهف: 1-2] الـمعنى: الـحمد لله الذي أنزل علـى عبده الكتاب قـيـماً ولم يجعل له عوجاً، وما أشبه ذلك. ففـي ذلك دلـيـل شاهد علـى صحة قول من أنكر أن تكون «بسم الله الرحمن الرحيـم» من فـاتـحة الكتاب آية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
الحمد والمدح أخوان، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها. تقول حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على حسبه وشجاعته. وأمّا الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال | **أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّي ثلاثة يَدِي ولِسَانِي والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا** | | | | --- | --- | --- | والحمد باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر، ومنه قوله عليهالصلاة و السلام 2 **" الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده "** وإنما جعله رأس الشكر لأنّ ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها، أشيع لها وأدلّ على مكانها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب، وما في عمل الجوارح من الاحتمال، بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كلّ خفي ويجلي كل مشتبه. والحمد نقيضه الذمّ، والشكر نقيضه الكفران، وارتفاع الحمد بالابتداء وخبره الظرف الذي هو «لله» وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار، كقولهم شكراً، وكفراً، وعجباً، وما أشبه ذلك، ومنها سبحانك، ومعاذ الله، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدّون بها مسدّها، لذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة، والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى**{ قَالُواْ سَلَـٰماً قَالَ سَلَـٰمٌ }** هود 69، رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدّده وحدوثه. والمعنى نحمد الله حمداً، ولذلك قيل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأنه بيان لحمدهم له، كأنه قيل كيف تحمدون؟ فقيل إياك نعبد. فإن قلت ما معنى التعريف فيه؟ قلت هو نحو التعريف في أرسلها العراك، وهو تعريف الجنس، ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو، والعراك ما هو، من بين أجناس الأفعال. والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم. وقرأ الحسن البصري { ٱلْحَمْدُ ِللَّهِ } بكسر الدال لإتباعها اللام. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة { ٱلْحَمْدُ ِللَّهِ } بضم اللام لإتباعها الدال، والذي جسرهما على ذلك ـــ والإتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل ومغيرة ـــ تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين، وأشف القراءتين قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى، بخلاف قراءة الحسن. الرب المالك. ومنه قول صفوان لأبي سفيان لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن. تقول ربه يربه فهو رب، كما تقول نمّ عليه ينمّ فهو نمّ. ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده، وهو في غيره على التقيد بالإضافة، كقولهم رب الدار، ورب الناقة، وقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ }** يوسف 50،**{ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَايَ }** يوسف 23. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } بالنصب على المدح وقيل بما دل عليه الحمد لله كأنه قيل نحمد الله رب العالمين. العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وقيل كل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض. فإن قلت لم جمع؟ قلت ليشمل كل جنس مما سمي به. فإن قلت هو اسم غير صفة، وإنما تجمع بالواو والنون صفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام. قلت ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
قد مضى تفسيرها وإنما أعاد الرحمن والرحيم للمبالغة وقال علي بن عيسى الرمّاني: في الأول ذكر العبودية فوصل ذلك بشكر النعم التي بها يستحق العبادة وهاهنا ذكر الحمد فوصله بذكر ما به يستحق الحمد من النعم فليس فيه تكرار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
وأما قوله تعالى: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات، وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات، أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات، وهي كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى، ومن شاء أن يقف على قليل منها فليطالع «كتب الطب» حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء والأجزاء، ثم يتأمل في أنه تعالى كيف هدى عقول الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية والأدوية من المعادن والنبات والحيوان، فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحراً لا ساحل له. وقد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال: بخلت على الناس بذكر حكمة الله تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد، فرأيت في النوم كأن ملكاً نزل من السماء وقال يا جالينوس، إن إلهك يقول: لم بخلت على عبادي بذكر حكمتي؟ قال: فانتبهت فصنفت فيه كتاباً، وقال أيضاً: إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع، فرأيت في الهيكل كأن ملكاً نزل من السماء وأمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر والبنصر وأكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات والإلهامات، فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة الله تعالى على عباده خارجة عن الضبط والإحصاء.أحوال الآخرة وتقسيمها إلى عقلية وسمعية: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب وفضل الحامدين، وفيه ست وثلاثون مسألة: الأولى: قوله سبحانه وتعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي "** وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها "** وقال الحسن: ما مِن نعمة إلا والحمد لله أفضل منها. وروى ٱبن ماجه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أَخذ "** وفي نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضلَ من ذلك "** قال أبو عبد اللَّه: معناه عندنا أنه قد أُعطي الدنيا، ثم أُعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها، لأن الدنيا فانية والكلمة باقية، هي من الباقيات الصالحات قال الله تعالى:**{ وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }** [الكهف: 46]. وقيل في بعض الروايات: لكان ما أَعطى أكثر مما أخذ. فصير الكلمة إعطاءً من العبد، والدنيا أخذاً من الله فهذا في التدبير. كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد، والدنيا من الله وكلاهما من الله في الأصل، الدنيا منه والكلمة منه أعطاه الدنيا فأغناه، وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة. وروى ٱبن ماجه عن ٱبن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم: **" أن عبداً من عباد الله قال يا رَب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فَعَضَلَتْ بالمَلَكَيْن فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا رَبَّنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله عزّ وجلّ وهو أعلم بما قال عبده ماذا قال عبدي قالا يا ربّ إنه قد قال يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فقال الله لهما ٱكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجْزِيَهُ بها "** قال أهل اللغة: أعضل الأمر: ٱشتد وٱستغلق والمعضّلات بتشديد الضاد: الشدائد. وعضَّلت المرأة والشاة: إذا نَشِب ولدها فلم يسهل مخرجه بتشديد الضاد أيضاً فعلى هذا يكون: أَعْضَلت الملكين أو عَضَّلَت الملكين بغير ياء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والله أعلم. ورُوي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الطُّهور شَطْرُ الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض "** وذكر الحديث. الثانية: اختلف العلماء أيُّما أفضل قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إلٰه إلا الله؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إلٰه إلا الله ففي قوله توحيد وحمد وفي قوله لا إلٰه إلا الله توحيد فقط. وقال طائفة: لا إلٰه إلا الله أفضل لأنها تدفع الكفر والإشراك، وعليها يقاتل الخلق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلٰه إلا الله "** وٱختار هذا القول ٱبن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: **" أفضل ما قلت أنا والنبيون مِن قبلي لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له "** الثالثة: أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه، وأن مما أنعم الله به الإيمان فدلّ على أن الإيمان فعله وخلقه والدليل على ذلك قوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. والعالَمون جملة المخلوقات، ومن جملتها الإيمان، لا كما قال القَدَرِيَّةُ: إنه خَلْقٌ لهم على ما يأتي بيانه. الرابعة: الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا وقد جُمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر: | **وأبلج محمودِ الثّناءِ خَصَصْتُه** | | **بأفْضَلِ أقوالي وأَفْضَلِ أحْمُدي** | | --- | --- | --- | فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحْمَدُه حَمْداً فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد. والحمد أعمّ من الشكر، والمحمَّد: الذي كثرت خصاله المحمودة. قال الشاعر: | **إلى الماجد القَرْم الجَوَاد المُحَمَّدِ** | | | | --- | --- | --- | وبذلك سُمّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر: | **فَشَقّ له مِن ٱسمه لِيُجِلَّه** | | **فذو العَرْش محمودُ وهذا مُحَمَّدُ** | | --- | --- | --- | والمَحْمَدة: خلاف المذمّة. وأَحْمَد الرجلُ: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محموداً تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته أي صادفته محموداً موافقاً، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حُمَدَة ـ مثل هُمَزَة ـ يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحَمدة النار ـ بالتحريك ـ: صوت التهابها. الخامسة: ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وليس بمرضي. وحكاه أبو عبد الرحمن السلميّ في كتاب «الحقائق» له عن جعفر الصادق وٱبن عطاء. قال ٱبن عطاء: معناه الشكر لله إذْ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. وٱستدل الطبري على أنهما بمعنىً بصحة قولك: الحمد لله شكراً. قال ٱبن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكراً، إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال بعض العلماء: إن الشكر أعمّ من الحمد لأنه باللسان وبالجوارح والقلب والحمد إنما يكون باللسان خاصّة. وقيل: الحمد أعمّ، لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعمّ من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. ورُوي عن ٱبن عباس أنه قال: الحمد لله كلمةُ كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عَطَس: الحمد لله. وقال الله لنوح عليه السلام:**{ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }** [المؤمنون: 28] وقال إبراهيم عليه السلام:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }** [إبراهيم: 39]. وقال في قصة داود وسليمان:**{ وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [النمل: 15]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:**{ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً }** [الإسراء: 111]. وقال أهل الجنة:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ }** [فاطر:34]**{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [يونس: 34]. فهي كلمة كلّ شاكر. قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحدّ قال علماؤنا: الحمد أعمّ من الشكر لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أوْلاك معروفاً فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. ويُذكر الحمد بمعنى الرضا يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قوله تعالى:**{ مَقَاماً مَّحْمُوداً }** [الإسراء: 79]. وقال عليه السلام: **" أحمد إليكم غسل الإحليل "** أي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر الصادق في قوله «الحمد لله»: من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد لأن الحمد حاء وميم ودال فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الدّيمومية فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله. وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير «الحمد لله» قال: هو على ثلاثة أوجه: أوّلها إذا أعطاك الله شيئاً تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه فهذه شرائط الحمد. السادسة: أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه، وٱفتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيّه عليه السلام، فقال:**{ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ }** [النجم: 32]. وقال عليه السلام: **" ٱحْثُوا في وجوه المدّاحين التراب "** رواه المقداد. وسيأتي القول فيه في «النساء» إن شاء الله تعالى. فمعنى «الحمد لله رب العالمين»: أي سبق الحمد منّي لنفسي قبل أن يَحْمَدني أحد من العالمين، وحَمْدِي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحَمْدِي الخلق مشوب بالعلل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده، حَمِد نفسه لنفسه في الأزل فٱستفراغ طَوْق عباده هو محل العجز عن حمده. ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: **" لا أُحصِي ثناء عليك "** وأنشدوا: | **إذا نَحْنُ أثْنَيْنَا عليك بصالحٍ** | | **فأنْتَ كما نُثْنِي وفوقَ الذي نُثْنِي** | | --- | --- | --- | وقيل: حَمِد نفسه في الأزل لما علم من كثرة نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فَحمِد نفسه عنهم لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل المِنّة. السابعة: وأجمع القرّاء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمدُ لله». ورُوي عن سفيان بن عُيينة ورؤُبة بن العَجَّاج: «الحمدَ لله» بنصب الدال وهذا على إضمار فعل. ويقال: «الحمدُ لله» بالرفع مبتدأ وخبر، وسبيل الخبر أن يفيد فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمدُ لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمداً إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله. وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرّضاً لعفو الله ومغفرته وتعظيماً له وتمجيداً فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال. وفي الحديث: **" مَن شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين "** وقيل: إن مدحه عزّ وجلّ لنفسه وثناءه عليها ليعلِّم ذلك عباده فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله. قال الطبري: «الحمد لله» ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمرَ عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد لله وعلى هذا يجيء قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر: | **وأعلَمُ أنّني سأكونُ رَمْساً** | | **إذا سار النّواعِجُ لا يسير** | | --- | --- | --- | | **فقال السائلون لمن حفرتم** | | **فقال القائلون لهم وزير** | المعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير. وروي عن ٱبن أبي عَبَلَة: «الحمد لله» بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأوّل وليتجانس اللفظ، وطلبُ التجانس في اللفظ كثير في كلامهم نحو: أجُوءُك، وهو منحدُرٌ من الجبل، بضم الدال والجيم. قال: | **....ٱضرب الساقينُ أُمّك هابل** | | | | --- | --- | --- | بضم النون لأجل ضم الهمزة. وفي قراءةٍ لأهل مكة «مُرُدفين» بضم الراء إتباعاً للميم، وعلى ذلك «مُقُتلين» بضم القاف. وقالوا: لإمِّك، فكسروا الهمزة ٱتباعاً للاّم وأنشد للنعمان بن بشير: | **ويل ٱمِّها في هَواءِ الْجَو طالبةً** | | **ولا كهذا الذي في الأرضِ مَطْلُوبُ** | | --- | --- | --- | الأصل: ويلٌ لأمها فحذفت اللام الأولى وٱستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للام ثم أتبع اللام الميمَ. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن عليّ: «الحمدِ للهِ» بكسر الدال على إتباع الأوّل الثاني. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثامنة: قوله تعالى: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي مالكهم، وكل من ملك شيئاً فهو رَبّه فالربُّ: المالك. وفي الصحاح: والرب ٱسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة وقد قالوه في الجاهلية للملِك، قال الحارث بن حِلِّزة: | **وَهُوَ الربّ والشَّهيدُ على يَوْ** | | **مِ الْحِيَارَيْنِ والْبَلاَءُ بَلاءُ** | | --- | --- | --- | والرب: السيد ومنه قوله تعالى:**{ ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ }** [يوسف: 42]. وفي الحديث: **" أنْ تلد الأَمَةُ ربَّتها "** أي سيدتها وقد بينّاه في كتاب التذكرة. والربّ: المصلح والمدبّر والجابر والقائم. قال الهَرَوِيّ وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد رَبّه يَرُبّه فهو رَبٌّ له ورابٌّ ومنه سمي الربّانيون لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: **" هل لك مِن نعمة تَرُبُّها عليه "** أي تقوم بها وتصلحها. والربّ: المعبود ومنه قول الشاعر: | **أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبَانُ برأسه** | | **لَقَدْ ذلّ مَنْ بالتْ عليه الثَّعالِبُ** | | --- | --- | --- | ويقال على التكثير: ربّاه وربّبه وربَّتَه حكاه النحاس. وفي الصحاح: ورَبّ فلانٌ ولدَه يُرُّبه رَبًّا، وربَّبَه وَتَرَبَّبه بمعنىً أي ربّاه. والمَرْبوب: المربَّى. التاسعة: قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو ٱسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن، كما في آخر «آل عمران» وسورة «إبراهيم» وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الربّ والمَرْبوب، مع ما يتضمّنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال. وٱختلِف في ٱشتقاقه فقيل: إنه مشتق من التربية فالله سبحانه وتعالى مدبِّر لخلقه ومربيّهم، ومنه قوله تعالى:**{ وَرَبَائِبُكُمُ ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ }** [النساء: 23]. فسمى بنت الزوجة رَبِيبة لتربية الزوج لها. فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل وعلى أن الربّ بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات. العاشرة: متى أدخلت الألف واللام على «ربّ» ٱختص الله تعالى به لأنها للعهد، وإن حذفنا منه صار مشتركاً بين الله وبين عباده. فيقال: الله رَبّ العباد، وزيد رَبّ الدّار فالله سبحانه رَبّ الأرباب يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رَبٍّ سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فَمُملَّك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيئاً دون شيء وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين. الحادية عشرة: قوله تعالى: { ٱلْعَالَمِينَ } اختلف أهل التأويل في { ٱلْعَـٰلَمِينَ } اختلافاً كثيراً فقال قتادة: العالمَون جمع عالَم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم. وقيل: أهل كل زمان عالم قاله الحسين بن الفضل لقوله تعالى:**{ أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ }** [الشعراء: 165] أي من الناس. وقال العَجَاج: | **فَخنْدِفٌ هامةُ هذا العالَمِ** | | | | --- | --- | --- | وقال جرير بن الخَطَفَى: | **تَنَصَّفُه البريّةُ وهْوَ سامٍ** | | **ويُضحِي العالَمون له عِيالا** | | --- | --- | --- | وقال ٱبن عباس: العالَمون الجنّ والإنس دليله قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً }** [الفرقان: 1] ولم يكن نذيراً للبهائم. وقال الفرّاء وأبو عبيدة: العالَم عبارة عمن يعقل وهم أربع أمم: الإنس والجنّ والملائكة والشياطين. ولا يقال للبهائم: عالَم لأن هذا الجمع إنما هو جَمْع مَن يعقل خاصّة. قال الأعشى: | **ما إنْ سمعتُ بمثلهم في العالَمينا** | | | | --- | --- | --- | وقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ٱبن عباس أيضاً: كل ذي رُوح دبّ على وجه الأرض. وقال وَهَب بن مُنَبّه: إن لله عزّ وجلّ ثمانية عشر ألف عالَم الدنيا عالَم منها. وقال أبو سعيد الخُدْرِي: إن لله أربعين ألف عالَم الدنيا مِن شرقها إلى غربها عالَمٌ واحد. وقال مقاتل: العالمُون ثمانون ألف عالَم، أربعون ألف عالَم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر. وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الجنّ عالم، والإنس عالَم وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالَم، خلقهم لعبادته. قلت: والقول الأوّل أصحّ هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق وموجود دليله قوله تعالى:**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }** [الشعراء: 23]. ثم هو مأخوذ من العَلَم والعَلاَمة لأنه يدل على مُوجده. كذا قال الزجاج قال: العالَم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة. وقال الخليل: العَلَم والعَلاَمة والمَعْلَم: ما دَلّ على الشيء فالعالَم دالٌّ على أن له خالقاً ومدبراً، وهذا واضح. وقد ذُكر أن رجلاً قال بين يدي الجُنَيد: الحمد لله فقال له: أتمها كما قال الله، قل: رَبّ العالمين فقال الرجل: ومَن العالَمين حتى تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدَث إذا قُرن مع القديم لا يبقى له أثر. الثانية عشرة: يجوز الرفع والنصب في «ربّ» فالنصب على المدح، والرفع على القطع أي هو رب العالمين. الثالثة عشرة: قوله تعالى: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } وصف نفسه تعالى بعد { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ، بأنه { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } لأنه لما كان في ٱتصافه بـ { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ترهيبٌ قَرَنه بـ { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، لما تضمن من الترغيب ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه فيكون أعون على طاعته وأمنع كما قال:**{ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ }** [الحجر: 49 ـ 50]. وقال:**{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ }** [غافر: 3]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمِع بجنّته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنَطَ من جنّته أحد "** وقد تقدّم ما في هذين الاسمين من المعاني، فلا معنى لإعادته. الرابعة عشرة: قوله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قرأ محمد بن السَّمَيْقَع بنصب مالك وفيه أربع لغات: مالِك ومَلِك ومَلْك ـ مخففة من مَلِك ـ ومَلِيك قال الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوال** | | **عصينا المَلْك فيها أن نَدينا** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **فاقنعْ بما قَسَم المليكُ فإنّما** | | **قَسَم الخلائقَ بيننا علاّمُها** | | --- | --- | --- | الخلائق: الطبائع التي جُبِل الإنسان عليها. وروي عن نافع إشباع الكسرة في «مَلِك» فيقرأ «مَلِكِي» على لغة من يشبع الحركات، وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره. الخامسة عشرة: اختلف العلماء أيّما أبلغ: ملِك أو مالك؟ والقراءتان مَرْوِيتَان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي فقيل: «مَلِك» أعمّ وأبلغ من «مالك» إذ كل مَلِك مالك، وليس كل مالك مَلِكا ولأن أمر الملِك نافذ على المالك في مِلْكه، حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قاله أبو عبيدة والمبرد. وقيل: «مالك» أبلغ لأنه يكون مالكاً للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرُّفاً وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التّملك. وقال أبو عليّ: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من ٱختار القراءة بـ «ـملك» أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كلّ شيء بقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فلا فائدة في قراءة من قرأ «مالك» لأنها تكرار. قال أبو عليّ: ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدُّم العام ثم ذِكر الخاص كقوله:**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ }** [الحشر: 24] فالخالق يعمّ. وذكر المصوّر لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة وكما قال تعالى:**{ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }** [البقرة: 4] بعد قوله:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }** [البقرة: 3]. والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والردّ على الكفرة الجاحدين لها وكما قال: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فذكر «الرحمن» الذي هو عام وذكر «الرحيم» بعده، لتخصيص المؤمنين به في قوله:**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** [الأحزاب: 43]. وقال أبو حاتم: إن «مالكاً» أبلغ في مدح الخالق من «ملِك»، و «ملك» أبلغ في مدح المخلوقين من مالك والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً، وٱختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة أوجه الأوّل: أنك تضيفه إلى الخاص والعام فتقول: مالك الدار والأرض والثوب، كما تقول: مالك الملوك. الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير وإذا تأمّلت هذين القولين وجدتهما واحداً. والثالث: أنك تقول: مالك المُلْك ولا تقول: مِلك المُلْك. قال ٱبن الحصار: إنما كان ذلك لأن المراد من «مالك» الدلالة على المِلك ـ بكسر الميم - وهو لا يتضمن «المُلْك» ـ بضم الميم ـ و «ملِك» يتضمن الأمرين جميعاً فهو أوْلى بالمبالغة. ويتضمن أيضاً الكمال، ولذلك استحق الملك على من دونه ألا ترى إلى قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ }** [ البقرة: 247]، ولهذا قال عليه السلام: **" الإمامة في قريش "** وقريش أفضل قبائل العرب، والعرب أفضل من العَجَم وأشرف. ويتضمن الاقتدار والاختيار، وذلك أمر ضروري في المَلِك، إن لم يكن قادراً مختاراً نافذاً حكمه وأمره، قهره عدوّه وغلبه غيره وازدرته رعيته ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام:**{ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ.لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً }** [النمل: 20 ـ 21] إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك. قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكاً أبلغ لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك. قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك، وفيه من المعنى ما ليس في مالك، على ما بينا والله أعلم. السادسة عشرة: لا يجوز أن يتسمَى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض "** وعنه أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: **" إن أَخْنَع اسم عند الله رجل تسمّى ملك الأملاك ـ زاد مسلم ـ لا مالك إلا الله عزّ وجلّ "** قال سفيان: «مثل: شاهانْ شَاهْ. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيبانيّ عن اخنع فقال: أوْضع». وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه "** قال ٱبن الحصار: وكذلك { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } و { مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ } لا ينبغي أن يُختلف في أن هذا محرّم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء، وأما الوصف بمالك وملك. السابعة عشرة: فيجوز أن يوصف بهما من ٱتصف بمفهومهما قال الله العظيم:**{ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً }** [البقرة: 247]. وقال صلى الله عليه وسلم: **" ناس من أمتي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً في سبيل الله يركبون ثَبَجَ هذا البحر ملوكا على الأسِرّة أو مثل الملوك على الأسرة "** الثامنة عشرة: إن قال قائل: كيف قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } ويوم الدين لم يوجد بعدُ، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟ قيل له: اعلم أن مالكاً اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل ويكون ذلك عندهم كلاماً سديداً معقولا صحيحاً كقولك: هذا ضارب زيد غدا أي سيضرب زيداً. وكذلك: هذا حاجّ بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل أفلا ترى أن الفعل قد يُنسب إليه وهو لم يفعله بعدُ، وإنما أريد به الاستقبال فكذلك قوله عزّ وجلّ: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } على تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدِّين أو في يوم الدين إذا حضر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ووجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجعاً إلى القدرة أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه والله عزّ وجلّ مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء. والوجه الأوّل أمَسُّ بالعربية وأنفذ في طريقها قاله أبو القاسم الزجاجي.ووجه ثالث: فيقال لِمَ خصص يوم الدِّين وهو مالك يوم الدين وغيره؟ قيل له: لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك، مثل فرعون ونمروذ وغيرهما، وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له، كما قال تعالى:**{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ }** [غافر: 16] فأجاب جميع الخلق: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } فلذلك قال: مالك يوم الدين أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاضٍ ولا مُجازٍ غيره سبحانه لا إله إلا هو. التاسعة عشرة: إنْ وُصِف الله سبحانه بأنه مَلِكٌ كان ذلك من صفات ذاته، وإن وُصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله. الموفية العشرين: اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فٱستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما. وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى:**{ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }** [المائدة: 3]. وجَمْعُ يومٍ أيام وأصله أَيْوَام فأدغم وربما عبّروا عن الشدة باليوم، يقال: يوم أيْوَم، كما يقال: ليلةٌ لَيْلاَء. قال الراجز: | **نِعْمَ أخو الهيجاء في اليوم ٱلْيَمِي** | | | | --- | --- | --- | وهو مقلوب منه، أخَّر الواو وقدّم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طَرَفا كما قالوا: أدْلٍ في جمع دَلْوٍ. الحادية والعشرون: الدِّين: الجزاء على الأعمال والحساب بها كذلك قال ٱبن عباس وٱبن مسعود وٱبن جريج وقتادة وغيرهم، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله تعالى:**{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ }** [النور: 25] أي حسابهم. وقال:**{ ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ }** [غافر: 17] و**{ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }** [الجاثية: 28] وقال:**{ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ }** [الصافات: 53] أي مجزيُّون محاسبون. وقال لَبيد: | **حصَادُك يوماً ما زرعتَ وإنما** | | **يُدَانُ الفتى يوماً كما هو دائن** | | --- | --- | --- | آخر: | **إذا ما رمونا رميناهمُ** | | **ودِنّاهُم مثل ما يُقرضونا** | | --- | --- | --- | آخر: | **وٱعلم يقينا أن مُلْكك زائلٌ** | | **وٱعلم بأن كما تَدين تُدانُ** | | --- | --- | --- | وحكى أهل اللغة: دِنْته بفعله دَيْناً بفتح الدال ودِيناً بكسرها جزيته ومنه الدّيّان في صفة الرب تعالى أي المجازي وفي الحديث: **" الكيِّس من دان نفسه "** أي حاسب. وقيل: القضاء. روي عن ٱبن عباس أيضاً ومنه قول طَرَفة: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **لَعَمْرُكَ ما كانت حمُولة مَعْبَدٍ** | | **على جُدّها حَرْباً لدِينكَ من مُضَرْ** | | --- | --- | --- | ومعاني هذه الثلاثة متقاربة. والدِّين أيضاً: الطاعة ومنه قول عمرو بن كلثوم: | **وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ** | | **عَصينا المَلْكَ فيها أن ندِينا** | | --- | --- | --- | فعلى هذا هو لفظ مشترك وهي: الثانية والعشرون: قال ثعلب: دان الرجل إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا عَزّ، ودان إذا ذلّ، ودان إذا قهر فهو من الأضداد. ويطلق الدِّين على العادة والشأن، كما قال: | **كدِينك من أمّ الحُوَيْرِث قبلها** | | | | --- | --- | --- | وقال المُثقِّب يذكر ناقته: | **تقول إذا دَرَأتُ لها وضِيني** | | **أهذا دينُه أبداً ودِيني** | | --- | --- | --- | والدِّين: سيرة الملك. قال زُهير: | **لئن حللتَ بجوّفي بني أسد** | | **في دِين عمرو وحالت بيننا فَدَكُ** | | --- | --- | --- | أراد في موضع طاعة عمرو. والدِّين: الدّاء عن اللّحياني. وأنشد: | **يا دِينَ قلبِك من سَلْمَى وقد دِينَا** | | | | --- | --- | --- | الثالثة والعشرون: قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين لأنّ من أوّل السورة إلى ها هنا خبراً عن الله تعالى وثناءً عليه، كقوله:**{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }** [الإنسان: 21]. ثم قال: «إنَّ هَذَا كَان لَكُمْ جَزَاءً». وعكسه:**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }** [يونس: 22] على ما يأتي. و { نَعْبُدُ } معناه نطيع والعبادة الطاعة والتذلل. وطريق مُعبَّد إذا كان مذلّلا للسالكين قاله الهَرَوِيّ. ونُطقُ المكلّف به إقرارٌ بالربوبية وتحقيقٌ لعبادة الله تعالى إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك. { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي نطلب العَوْن والتأييد والتوفيق. قال السُّلَمِيّ في حقائقه: سمعت محمد بن عبد اللَّه بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغاني يقول: من أقرّ بـ «إياك نعبد وإياك نستعين» فقد برىء من الجَبْر والقَدَر. الرابعة والعشرون: إن قيل: لم قدّم المفعول على الفعل؟ قيل له: قدّم ٱهتماماً، وشأن العرب تقديم الأهم. يذكر أن أعرابياً سبّ آخر فأعرض المسبوبُ عنه فقال له الساب: إياك أعْني: فقال له الآخر: وعنك أُعرض فقدّما الأهم. وأيضاً لئلا يتقدّم ذكر العبد والعبادة على المعبود فلا يجوز نعبدك ونستعينك، ولا نعبد إياك ونستعين إياك فيقدّم الفعل على كناية المفعول، وإنما يتبع لفظ القرآن. وقال العَجّاج: | **إيّاك أدْعُو فتقّبل مَلَقِي** | | **وٱغفِر خطاياي وكثّر ورقي** | | --- | --- | --- | ويروى: وثَمِّر. وأمّا قول الشاعر: | **إليكَ حتى بَلَغَتْ إيّاكا** | | | | --- | --- | --- | فشاذٌ لا يقاس عليه. والورِق بكسر الرّاء من الدراهم، وبفتحها المال. وكرر الاسم لئلا يتوهّم إياك نعبد ونستعين غيرك. الخامسة والعشرون: الجمهور من القرّاء والعلماء على شدّ الياء من «إياك» في الموضعين. وقرأ عمرو بن فائد: «إيَاك» بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها. وهذه قراءة مرغوب عنها، فإن المعنى يصير: شمسَك نعبد أو ضوءك وإيَاةُ الشمس بكسر الهمزة: ضوءها وقد تُفتح. وقال: | **سَقَتْهُ إيَاةُ الشّمس إلا لِثاتِه** | | **أُسِفَّ فلم تَكْدِم عليه بإثمد** | | --- | --- | --- | فإن أسقطت الهاء مددت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويقال: الإياة للشمس كالهالة للقمر، وهي الدّارة حولها. وقرأ الفضل الرّقاشيّ: «أياك» بفتح الهمزة وهي لغة مشهورة. وقرأ أبو السَّوّار الغَنَوِي: «هياك» في الموضعين، وهي لغة قال: | **فهِيّاكَ والأمر الذي إن توسّعتْ** | | **موارده ضاقت عليك مصادره** | | --- | --- | --- | السادسة والعشرون: { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]. عطف جملة على جملة. وقرأ يحيى بن وَثَّاب والأعمش: «نِستعين» بكسر النون، وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة، ليدل على أنه من ٱستعان، فكُسرت النون كما تُكسر ألف الوصل. وأصل «نستعين» نستعوِن، قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء، والمصدر ٱستعانة، والأصل ٱستعوان قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى، ولزمت الهاء عِوَضاً. السابعة والعشرون: قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]. اهدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقُرْبك. قال بعض العلماء: فجعل الله جلّ وعزّ عظم الدعاء وجملته موضوعاً في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به الداعي لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به وفي الحديث: **" ليس شيء أكرم على الله من الدعاء "** وقيل المعنى: أرشدنا باستعمال السُّنن في أداء فرائضك وقيل: الأصل فيه الإمالة ومنه قوله تعالى:**{ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ }** [الأعراف: 156] أي مِلْنا وخرج عليه السلام في مرضه يتهادى بين ٱثنين، أي يتمايل. ومنه الهدية لأنها تمال من مِلك إلى مِلك. ومنه الهَدْيُ للحيوان الذي يساق إلى الحَرَم فالمعنى مِل بقلوبنا إلى الحق. وقال الفُضيل بن عِيَاض: «الصراط المستقيم» طريق الحج، وهذا خاص والعموم أولى. قال محمد بن الحنفية في قوله عزّ وجل: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره. وقال عاصم الأحْوَل عن أبي العالية: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: «الصراط المستقيم» رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه، قال: صدق ونصح. الثامنة والعشرون: أصل الصراط في كلام العرب الطريق قال عامر بن الطُّفيل: | **شحنَّا أرْضَهم بالخَيْل حتى** | | **تركناهم أَذلّ مِن الصّراط** | | --- | --- | --- | وقال جَرير: | **أمير المؤمنين على صِراط** | | **إذا ٱعْوَج المواردُ مُستقيم** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **فَصَدّ عنْ نَهْج الصِّراطِ الواضِح** | | | | --- | --- | --- | وحكى النقاش: الصراط الطريق بلغة الروم قال ٱبن عطية: وهذا ضعيف جدّاً. وقُرىء: السراط بالسين من الاستراط بمعنى الابتلاع كأن الطريق يسترط مَن يسلكه. وقرىء بين الزاي والصاد. وقرىء بزاي خالصة والسين الأصل. وحكى سَلَمَة عن الفرّاء قال: الزراط بإخلاص الزاي لغة لعُذْرة وكَلْب وبنى الْقَيْن، قال: وهؤلاء يقولون في أصدق: أزدق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد قالوا: الأَزْد والأَسْد، ولسق به ولصق به. و «الصِّراط» نصب على المفعول الثاني لأن الفعل من الهداية يتعدّى إلى المفعول الثاني بحرف جر قال الله تعالى:**{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ }** [الصافات: 23]. وبغير حرف كما في هذه الآية. «المستقيم» صفة لـ «ـلصراط»، وهو الذي لا ٱعوجاج فيه ولا ٱنحراف ومنه قوله تعالى:**{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ }** [الأنعام: 153] وأصله مُستقْوِم، نقلت الحركة إلى القاف وٱنقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. التاسعة والعشرون: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. صراط بدل من الأوّل بدل الشيء من الشيء كقولك: جاءني زيد أبوك. ومعناه: أدِم هدايتنا، فإن الإنسان قد يُهدَى إلى الطريق ثم يُقطع به. وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله جلّ وعزّ والفهم عنه قاله جعفر بن محمد. ولغة القرآن «الَّذِين» في الرفع والنصب والجر وهُذَيل تقول: اللّذُون في الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو، ومنهم من يقول: الذي وسيأتي. وفي «عليهم» عشر لغات قرىء بعامتها: «عليهُمْ» بضم الهاء وإسكان الميم. «وعليهِم» بكسر الهاء وإسكان الميم. و «عليهِمِي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة. و «عليهِمُو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و «عليهُمُو» بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم. و «عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القرّاء. وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القرّاء: «عليهُمِي» بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم حكاها الأخفش البصري عن العرب. و «عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و «عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و «عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب قاله ٱبن الأنباري. الموفية الثلاثين: قرأ عمر بن الخطاب وٱبن الزبير رضي الله عنهما «صراط مَن أنعمت عليهم». وٱختلف الناس في المُنْعَم عليهم فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين. وٱنتزعوا ذلك من قوله تعالى:**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً }** [النساء: 69]. فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان. الحادية والثلاثون: في هذه الآية ردّ على القَدَرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعةً كانت أو معصيةً لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألاّ يُضلّهم، وكذلك يدعون فيقولون:**{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا }** [آل عمران: 8] الآية. الثانية والثلاثون: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }. ٱختلف في «المغضوب عليهم» و «الضالين» من هم؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسراً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عَدِي بن حاتم. وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في جامعه. وشهد لهذا التفسير أيضاً قوله سبحانه في اليهود:**{ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ }** [آل عمران: 112] وقال:**{ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ }** [الفتح: 6] وقال في النصارى:**{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 77]. وقيل: «المغضوب عليهم» المشركون. و «الضالين» المنافقون. وقيل: «المغضوب عليهم» هو مَن أسقط فرض هذه السورة في الصلاة و «الضالين» عن بركة قراءتها. حكاه السُّلَمِيّ في حقائقه والماوردي في تفسيره وليس بشيء. قال الماوردي: وهذا وجه مردود لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وٱنتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم. وقيل: «المغضوب عليهم» بٱتباع البدع و «الضالين» عن سنن الهدى. قلت: وهذا حسن وتفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى وأعلى وأحسن. و «عليهم» في موضع رفع، لأن المعنى غضب عليهم. والغضب في اللغة الشدّة. ورجل غضوب أي شديد الخُلُق. والغَضُوب: الحية الخبيثة لشدّتها. والغَضْبَة: الدَّرَقَة من جلد البعير يُطوى بعضها على بعض سُمِّيت بذلك لشدّتها. ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته أو نفس العقوبة، ومنه الحديث: **" إن الصدقة لتطفىء غضب الرب "** فهو صفة فعل. الثالثة والثلاثون: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنَن القصد وطريق الحق ضل اللبن في الماء أي غاب. ومنه: «أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْض» أي غبنا بالموت وصرنا تراباً قال: | **ألم تَسْألْ فَتُخْبِرَك الدِّيارُ** | | **عن الحَيِّ المُضَلَّل أَيْنَ ساروا** | | --- | --- | --- | والضُّلَضِلَة: حجر أملس يردّده الماء في الوادي. وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفةٌ لونَه، قال: أَوْ غَضْبَة في هَضْبَةٍ ما أمْنَعا. الرابعة والثلاثون: قرأ عمر بن الخطاب وأَبَيّ بن كعب «غير المغضوب عليهم وغير الضالين» وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين فالخفض على البدل من «الذين» أو من الهاء والميم في «عليهم» أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أنّ الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمُرّ بمثلك فأكرمه أو لأن «غير» تعرّفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما، كما تقول: الحيّ غير الميت، والساكن غير المتحرّك، والقائم غير القاعد، قولان: الأوّل للفارسيّ، والثاني للزمخشريّ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم، كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم. أو على الاستثناء، كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني وحُكي عن الخليل. الخامسة والثلاثون: «لا» في قوله «ولا الضالين» ٱختلف فيها، فقيل هي زائدة قاله الطبريّ. ومنه قوله تعالى:**{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }** [الأعراف: 12]. وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكيّ والمهدويّ. وقال الكوفيون: «لا» بمعنى غير، وهي قراءة عمر وأُبَيّ وقد تقدّم. السادسة والثلاثون: الأصل في «الضالين»: الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فٱجتمع ساكنان مَدّة الألف واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختيانيّ: «ولا الضألين» بهمزة غير ممدودة كأنه فرّ من التقاء الساكنين وهي لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عُبيد يقرأ:**{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }** [الرحمن: 39]. فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب: دأبّة وشأبّة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كُثَيّر: | **إذا ما العَوَالي بالعبيط احمأرّت** | | | | --- | --- | --- | نجز تفسير سورة الحمد، ولله الحمد والمنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } كرره للتعليل على ما سنذكره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
وقوله تعالى { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن الإعادة. قال القرطبي إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب كما قال تعالى**{ نَبِّىءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ }** الحجر 49 - 50 وقوله تعالى**{ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }** الأنعام 165 قال فالرب فيه ترهيب، والرحمن الرحيم ترغيب. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ولو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ } أي ذي الرحمة وهي إرادة الخير لأهله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الإختياري، وبقيد الاختيار فارق المدح، فإنه يكون على الجميل، وإن لم يكن الممدوحُ مختاراً كمدح الرجل على جماله، وقوّته، وشجاعته. وقال صاحب الكشاف إنهما أخوان، والحمد أخصّ من الشكر مَورداً، وأعمّ منه متعلقاً. فموردُ الحمدُ اللسان فقط، ومتعلقه النعمةُ، وغيرها، ومورد الشكر اللسانُ، والجَنَانُ، والأركانُ، ومتعلقه النعمة وقيل إن مورد الحمد كمورد الشكر، لأن كلَّ ثناء باللسان لا يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح ليس بحمدٍ بل سخرية واستهزاء. وأجيب بأن اعتبار موافقة القلب، والجوارح في الحمد لا يستلزم أن يكون مورداً له بل شرطاً. وفرّق بين الشرط، والشطر، وتعريفه لاستغراق أفراد الحمد، وأنها مختصة بالربّ سبحانه وتعالى، على معنى أنَّ حمد غيره لا اعتداد به، لأن المنعم هو الله عزّ وجلّ، أو على أن حمدَه هو الفرد الكامل، فيكون الحصر ادّعائياً. ورجح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا الاستغراق، والصواب ما ذكرناه. وقد جاء في الحديث **" اللهمّ لك الحمد كله "** وهو مرتفع بالابتداء وخبره الظرف وهو { لله }. وأصله النصب على المصدرية بإضمار فعله، كسائر المصادر التي تنصبها العرب، فعُدِل عنه إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام، والثبات المستفاد من الجمل الاسمية دون الحدوث، والتجدد اللذين تفيدهما الجمل الفعلية، واللام الداخلة على الاسم الشريف هي لام الاختصاص. قال ابن جرير الحمد ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال قولوا الحمد لله ثم رجح اتحاد الحمد، والشكر مستدلاً على ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد، والشكر مكان الآخر. قال ابن كثير وفيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة، والمتعدية. والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان، واللسان، والأركان، انتهى. ولا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من العلماء المتأخرين، فإن ذلك لا يردّ على ابن جرير، ولا تقوم به الحجة هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية، فإن ثبتت وجب تقديمها. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال قال عمر قد عَلِمْنا سبحان الله، ولا إلٰه إلا الله، فما الحمد لله؟ فقال عليٌّ كلمةٌ رضيها لنفسه. وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس أنه قال الحمد لله كلمة الشكر، وإذا قال العبد الحمد لله قال شكرني عبدي. وروى هو وابن جرير، عن ابن عباس أيضاً أنه قال الحمد لله هو الشكر لله، والاستخذاء له، والإقرار له بنعمه، وهدايته، وابتدائه، وغير ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وروى ابن جرير عن الحكم بن عُمَيْر، وكانت له صحبة، قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم **" إذا قلتَ الحمد لله ربّ العالمين، فقد شكرتَ الله، فزادك "** وأخرج عبد الرزاق في المصنف، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والخطابي في الغريب، والبيهقيّ في الأدب، والديلميّ في مسند الفردوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال **" الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده "** وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي قال «الصلاة شكر والصيام شكر، وكل خير تفعله شكر، وأفضل الشكر الحمد». وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النّوّاس بن سَمْعَان قال «سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال **" لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ ربي فرجعت، فلما رآها قال الحمد لله "** فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوماً أو صلاة، فظنوا أنه نسي فقالوا يا رسول الله قد كنت قلت لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ ربي، قال **" ألم أقل الحمد لله؟ "** - وقد ورد في فضل الحمد أحاديث. منها ما أخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، والبخاري في الأدب المفرد عن الأسود بن سَريع، قال «قلت يا رسول الله ألا أنْشِدُك محامدَ حمدتُ بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال **" أما إن ربك يحبّ الحمد "** وأخرج الترمذي وحسَّنه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله "** وأخرج ابن ماجه والبيهقي بسند حسن عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ما أنعم الله على عبد نعمةً فقال الحمد لله إلا كان الذي أعْطى أفضلَ مما أخذ "** وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والقرطبي في تفسيره عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال **" لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي، ثم قال الحمد لله، لكان الحمد أفضل من ذلك "** قال القرطبي معناه لكان إلهامهُ الحمد أكبر نعمةٍ عليه من نعم الدنيا، لأن ثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ما من عبد يُنْعَمُ عليه بنعمةٍ إلا كان الحمد أفضل منها "** وأخرج عبد الرزاق في المصنف نحوه، عن الحسن مرفوعاً. وأخرج مسلم والنسائي، وأحمد عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" الطهورُ شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان "** الحديث. وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن مردويه عن رجل من بني سليم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" سبحان الله نصفُ الميزان، والحمدُ لله تملأ الميزان، والله أكبرُ تملأ ما بين السماء، والأرض، والطهورُ نصف الإيمان، والصومُ نصف الصبر "** وأخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" التسبيحُ نصف الميزان، والحمدُ لله تملؤه، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجابٌ حتى تخَلُص إليه "** وأخرج البيهقي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" التَّأني من الله، والعجلةُ من الشيطان، وما شيء أكثرُ معاذير من الله، وما شيءٍ أحبّ إلى الله من الحمد "** وأخرج ابن شاهين في السنة والديلمي عن أبان بن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" التوحيدُ ثمن الجنة، والحمد ثمن كل نعمة، ويتقاسمون الجنة بأعمالهم "** وأخرج أهل السنن وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبْدَأُ فيه بحمد الله، فهو أقطَع "** وأخرج ابن ماجه في سننه عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم **" أنّ عبداً من عباد الله قال يا ربِّ لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك. فلم يَدرِ الملكان كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء، فقالا يا ربنا إنَّ عبداً قد قال مقالةً لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله وهو أعلم بما قال عبده ماذا قال عبدي؟ قالا يا ربّ إنه قال لكَ الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك. فقال الله لهما اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني، وأجزيه بها ".** وأخرج مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها "** { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال في الصحاح الرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة. وقد قالوه في الجاهلية للملك. وقال في الكشاف الرب المالك. ومنه قول صفوان لأبي سفيان لأن يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبُّ إليّ من أن يَرُبَّني رجل من هوازن. ثم ذكر نحو كلام الصحاح. قال القرطبي في تفسيره والرب السيد، ومنه قوله تعالى**{ اذكرني عند ربك }** يوسف 42، وفي الحديث **" أن تلد الأمة ربها "** ، والرب المصلح، والمدبر، والجابر، والقائم قال والرب المعبود. ومنه قول الشاعر | **أربٌ يَبُول الثَّعْلبَان بَرأسه لقد هَانَ من بَالت عَلَيه الثعالبُ** | | | | --- | --- | --- | و { العالمين } جمع العالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، قاله قتادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل. وقال ابن عباس العالمون الجنّ، والإنس، وقال الفراء، وأبو عبيد العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم الإنس، والجن، والملائكة، والشياطين. ولا يقال للبهائم عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل. حكى هذه الأقوال القرطبي في تفسيره، وذكر أدلتها، وقال إن القول الأول أصحّ هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق وموجود. دليله قوله تعالى**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ \* قَالَ رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا }** الشعراء 23، 24 وهو مأخوذ من العَلم، والعلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجَّاج وقال العالم كل ما خلقه الله في الدنيا، والآخرة، انتهى. وعلى هذا يكون جمعه على هذه الصيغة المختصة بالعقلاء تغليباً للعقلاء على غيرهم. وقال في الكشاف ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم. وقد أخرج ما تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه. وأخرجه عبد بن حميد، وابن جريح عن مجاهد. وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جُبير. وأخرج ابن جبير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى { رَبِّ العالمينَ } قال إله الخلق كله السموات كلهنّ، ومن فيهنّ. والأرضون كلهنّ، ومن فيهنّ، ومن بينهنّ مما يعلم ومما لا يعلم. { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قد تقدم تفسيرهما. قال القرطبي وصف نفسه تعالى بعد ربّ العالمين بأنه الرحمٰن الرحيم، لأنه لما كان في اتصافه بربّ العالمين ترهيب، قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته، وأمنع، كما قال تعالى**{ نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ \* وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلاْلِيمُ }** الحجر 49، 50 وقال**{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ }** غافر 3. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنَط من جنته أحد "** انتهى. وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال ما وصف من خلقه، وفي قوله { الرحمن الرحيم } ، قال مدح نفسه. ثم ذكر بقية الفاتحة { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } قرىء " مِلك " ، و " مالك " ، و " ملْك " بسكون اللام، و " مَلَكَ " بصيغة الفعل. وقد اختلف العلماء أيما أبلغ مِلك، أو مالك؟ فقيل إن ملكَ أعمّ، وأبلغ من مالك، إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكاً، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرّف إلا عن تدبير الملك، قاله أبو عبيد، والمبرّد، ورجحه الزمحشري. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل مالك أبلغ لأنه يكون مالكاً للناس، وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفاً، وأعظم. وقال أبو حاتم إن مالكاً أبلغ في مدح الخالق من ملك، وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً. واختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي. والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر فالمالك يقدر على ما لا يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع، والهبة، والعتق، ونحوها، والملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك، وحياطته، ورعاية مصالح الرعية، فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور، والملك أقوى من المالك في بعض الأمور. والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه، أن الملك صفة لذاته، والمالك صفة لفعله. و { يوم الدين } ، يوم الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال**{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدّينِ \* ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدّينِ \* يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }** الإنفطار 17 ــ 19 وهذه الإضافة إلى الظرف على طريق الاتساع كقولهم يا سارق الليلة أهل الدار، ويوم الدين وإن كان متأخراً فقد يضاف اسم الفاعل وما في معناه إلى المستقبل كقولك هذا ضارب زيداً غداً. وقد أخرج الترمذي عن أمّ سلمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ ملك بغير ألف. وأخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس. وأخرج أحمد والترمذي عن أنس أيضاً «أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يقرءون مالك بالألف». وأخرج نحوه سعيد بن منصور، عن ابن عمر مرفوعاً، وأخرج نحوه أيضاً وكيع في تفسيره وعبد بن حميد، وأبو داود وعن الزهري يرفعه مرسلاً. وأخرجه أيضاً عبد الرزاق في تفسيره وعبد بن حميد، وأبو داود عن ابن المسيب مرفوعاً مرسلاً. وقد روي هذا من طرق كثيرة، فهو أرجح من الأوّل. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة. «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مالك يوم الدين» وكذا رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً. وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه عن ابن مسعود، وناس من الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب. وكذا رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة قال { يوم الدين } يوم يدين الله العباد بأعمالهم. { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قراءة السبعة، وغيرهم بتشديد الياء، وقرأ عمر بن فايد بتخفيفها مع الكسر وقرأ الفضل والرقاشي بفتح الهمزة، وقرأ أبو السوار الغَنَوي «هَيَّاك» في الموضعين وهي لغة مشهورة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والضمير المنفصل هو «إيا» وما يلحقه من الكاف، والهاء، والياء هي حروف لبيان الخطاب، والغيبة، والتكلم، ولا محل لها من الإعراب كما ذهب إليه الجمهور، وتقديمه على الفعل لقصد الاختصاص، وقيل للاهتمام، والصواب أنه لهما، ولا تزاحم بين المقتضيات. والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بالإستعانة لا نعبد غيرك، ولا نستعينه، والعبادة أقصى غايات الخضوع، والتذلل، قال ابن كثير وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الالتفات، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تَطريةً لنشاط السامع، وأكثر إيقاظاً له كما تقرر في علم المعاني. والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه، وعن جنسه من العباد، وقيل إن المقام لما كان عظيماً لم يستقلّ به الواحد استقصاراً لنفسه، واستصغاراً لها، فالمجىء بالنون لقصد التواضع، لا لتعظيم النفس. وقدمت العبادة على الإستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب، وإطلاق الإستعانة لقصد التعميم. وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إياك نَعْبُدُ } يعني إياك نوحد ونخاف يا ربنا لا غيرك، { وإياك نستعين } على طاعتك وعلى أمورنا كلها. وحكى ابن كثير عن قتادة، أنه قال في { إياك نعبد وإياك نستعين } يأمركم أن تخلصوا له العبادة، وأن تستعينوه على أمركم. وفي صحيح مسلم من حديث المعلى بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال { العبد الحمد لله رب العالمين } قال حمدني عبدي، وإذا قال { الرحمن الرحيم } قال أثنى عليّ عبدي، فإذا قال { مالك يوم الدين } قال مجدني عبدي، فإذا قال { إياك نعبد، وإياك نستعين } قال هذا بيني، وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، ولا الضالين } قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "** وأخرج أبو القاسم البغوي، والباوردي، معاً في معرفة الصحابة، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلقي العدوّ فسمعته يقول **" يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين "** ، قال فلقد رأيت الرجال تُصرعُ فتضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها». { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } قرأه الجمهور بالصاد، وقرأ السراط بالسين، والزراط بالزاي والهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا، وكقوله**{ وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ }** البلد 10 وقد يتعدى بإلى كقوله**{ ٱجْتَبَـٰهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** النحل 121،**{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْجَحِيمِ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الصافات 23،**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** الشورى 52 وقد يتعدّى باللام كقوله**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا }** الأعراف 43**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ }** الإسراء 9 قال الزمخشري أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى. انتهى. وهي الإرشاد، أو التوفيق، أو الإلهام، أو الدلالة. وفرَّقَ كثيرٌ من المتأخرين بين معنى المتعدى بنفسه، وغير المتعدى، فقالوا معنى الأوّل الدلالة، والثاني الإيصال. وطلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى**{ والذين اهتدوا زادهم هدى }** محمد 17**{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }** العنكبوت 69 والصراط الطريق، قال ابن جرير أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو كذلك في لغة جميع العرب. قال ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم باستقامته، والمُعوجَّ باعوجاجه. وقد أخرج الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { اهدنا الصراط المستقيم } بالصاد». وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه عن ابن عباس «أنه قرأ الصراط بالسين». وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ " السراط " بالسين. وأخرج أيضاً عن حمزة أ { اهدنا الصراط المستقيم } يقول ألهمنا دينك الحق. وأخرج ابن جرير عنه، وابن المنذر نحوه. وأخرج وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله أنه قال «هو دين الإسلام، وهو أوسع مما بين السماء، والأرض». وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج نحوه أيضاً عن ابن مسعود، وناس من الصحابة. وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عن النوّاس بن سمعان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" ضرب اللهُ مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مُفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاةٌ، وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تفرّقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تَلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم. "** قال ابن كثير بعد إخراجه وهو إسناد حسن صحيح. وأخرج وكيع، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو بكر بن الأنباري، والحاكم، وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أنه قال «هو كتاب الله». وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن عساكر، عن أبي العالية قال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية، عن ابن عباس مثله. وروي القرطبي، عن الفضيل بن عياض، أنه قال الصراط المستقيم طريق الحج، قال وهذا خاص، والعموم أولى. انتهى. وجميع ما روي في تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروي، عن الفضيل يصدق بعضه على بعض، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبي، فقد اتبع الحق. وقد ذكر ابن جرير نحو هذا، فقال والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنياً به، وفِّقنا للثبات على ما ارتضيته، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول، وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم، لأن من وفَق إليه ممن أنعم اللهُ عليه من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمره الله به، والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهاج الخلفاء الأربعة، وكل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم. انتهى. { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } انتصب { صراط } على أنه بدل من الأوّل، وفائدته التوكيد لما فيه من التثنية، والتكرير، ويجوز أن يكون عطف بيان، وفائدته الإيضاح، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً \* ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً }** النساء 69 ــ 70 وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام، و { غير المغضوب عليهم } بدل من { الذين أنعمت عليهم } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سَلِمُوا من غضب الله، والضلال، أو صفة له على معنى أنهم جمعوا بين النعمتين نعمة الإيمان، والسلامةِ من ذلك، وصحَّ جعله صفةً للمعرفة مع كون { غير } لاتتعرف بالإضافة إلى المعارف، لما فيها من الإبهام، لأنها هنا غير مبهمة لاشتهار المغايرة بين الجنسين.والغضب في اللغة قال القرطبي الشدة، ورجل غضوب أي شديد الخلق، والغضوب الحية الخبيثة لشدتها. قال ومعنى الغضب في صفة الله إرادة العقوبة، فهو صفة ذاته، أو نفس العقوبة، ومنه الحديث **" إن الصدقة لتطفىء غضب الرب "** ، فهو صفة فعله. قال في الكشاف هو إرادة الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده، والفرق بين { عليهم } الأولى، و { عليهم } الثانية، أن الأولى في محل نصب على المفعولية، والثانية في محل رفع على النيابة عن الفاعل. و«لا» في قوله { ولا الضالين } تأكيد للنفي المفهوم من غير، والضلال في لسان العرب قال القرطبي هو الذهاب عن سَنَن القصد، وطريق الحق، ومنه ضلَّ اللبن في الماء، أي غاب، ومنه**{ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلأرْض }** السجدة 10 أي غبنا بالموت، وصرنا ترابا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج وكيع، وأبو عبيد، وسعيد بن منصور، وعبد ابن حميد، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ " صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، وغير الضالين " وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد أن عبد الله بن الزبير قرأ كذلك. وأخرج الأنباري، عن الحسن أنه كان يقرأ «عليهمي» بكسر الهاء، والميم، وإثبات الياء. وأخرج ابن الأنباري عن الأعرج، أنه كان يقرأ «عليهمو» بضم الهاء، والميم، وإلحاق الواو. وأخرج أيضاً عن ابن كثير، أنه كان يقرأ «عليهمو» بكسر الهاء، وضم الميم مع إلحاق الواو. وأخرج أيضا عن أبي إسحاق، أنه قرأ «عليهم» بضم الهاء، والميم من غير إلحاق واو. وأخرج ابن داود عن عكرمة، والأسود أنهما كانا يقرآن كقراءة عمر السابقة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يقول طريق من أنعمت عليهم من الملائكة، والنبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين الذين أطاعوك، وعبدوك. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنهم المؤمنون. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال النبيون { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال اليهود { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } قال النصارى. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد الرزاق، وأحمد في مسنده، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبغوي، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق قال أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسٍ له، وسأله رجل من بني القين، فقال من المغضوب عليهم يا رسول الله؟ " قال اليهود " ، قال فمن الضالون؟ قال " النصارى ". وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذرّ قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرجه وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن عبد الله بن شقيق قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر أهل وادي القرى، فقال له رجل إلى آخره، ولم يذكر فيه أخبرني من سمع النبي كالأوّل، وأخرجه البيهقي في الشعب عن عبد الله بن شقيق، عن رجل من بني القين، عن ابن عمّ له أنه قال «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم» فذكره. وأخرجه سفيان بن عيينة، في تفسيره، وسعيد بن منصور، عن إسماعيل بن أبي خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" المغضوب عليهم اليهود، والضالون النصارى "** وأخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين النصارى "** وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم وصححه، والطبراني عن الشَّرِيدُ قال «مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا جالس هكذا، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري، واتكأت على ألية يدي فقال **" أتقعُدُ قِعْدَة المغضوبِ عليهم؟ "** قال ابن كثير بعد ذكره لحديث عدي بن حاتم وقد روي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. انتهى. والمصير إلى هذا التفسير النبويّ مُتَعَيَّن، وهو الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف. قال ابن أبي حاتم لا أعلم خلافاً بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى. ويشهد لهذا التفسير النبويّ آيات من القرآن، قال الله تعالى في خطابه لبني إسرائيل في سورة البقرة**{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }** البقرة 90. وقال في المائدة**{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** المائدة 60 وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو، وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف قال اليهود إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، فقال أنا من غضب الله أفّر، وقالت له النصارى إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال لا أستطيعه، فاستمرّ على فطرته، وجانب عبادة الأوثان. - فائدة في مشروعية التأمين بعد قراءة الفاتحة - اعلم أن السنة الصحيحة الصريحة الثابتة تواتراً، قد دلت على ذلك، فمن ذلك ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي عن وائل بن حُجر قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { غير المغضوب عليهم، ولا الضالين } ، **" فقال آمين مدّ بها صوته "** ولأبي داود «رفع بها صوته» وقد حسَّنه الترمذي. وأخرجه أيضاً النسائي، وابن أبي شيبة، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وفي لفظ من حديثه أنه صلى الله عليه وسلم قال **" رب اغفر لي آمين "** أخرجه الطبراني، والبيهقي. وفي لفظ أنه قال **" آمين ثلاث مرات "** أخرجه الطبراني. وأخرج وكيع، وابن أبي شيبة، عن أبي ميسرة قال «لما أقرأ جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فبلغ، ولا الضالين قال «قل آمين، فقال آمين». وأخرج ابن ماجه عن عليّ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال، **" ولا الضالين قال آمين "** وأخرج مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إذا قرأ "** يعني الإمام { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } **" فقولوا آمين يحبكم الله "** وأخرج البخاري ومسلم، وأهل السنن، وأحمد، وابن أبي شيبة، وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإن من وافق تأمينهُ تأمين الملائكة غفِر له ما تقدم من ذنبه "** ، وأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي بسند قال السيوطي صحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام، والتأمين "** وأخرج ابن عدي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إن اليهود قوم حسد، حسدوكم على ثلاثة إفشاء السلام، وإقامة الصف، وآمين "** وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث معاذ مثله. وأخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عباس قال **" ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين "** ووجه ضعفه أن في إسناده طلحة بن عمرو، وهو ضعيف. وأخرج الديلمي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ثم قرأ فاتحة الكتاب ثم قال آمين لم يَبْقَ مقّرَّبٌ ملك في السماء إلا استغفر له "** وأخرج أبو داود عن بلال، أنه قال «يا رسول الله لا تسبقني بآمين»، ومعنى آمين استجب. قال القرطبي في تفسيره معنى آمين عند أكثر أهل العلم اللهم استجب لنا، وضع موضع الدعاء. وقال في الصحاح معنى آمين كذلك فليكن. وأخرج جُوَيبْر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس مثله. وأخرج وكيع، وابن أبي شيبة في المصنف عن هلال بن يساف، ومجاهد قالا آمين اسم من أسماء الله. وأخرج ابن أبي شيبة عن حكيم بن جبير مثله. وقال الترمذي معناه لا تخيب رجاءنا. وفيه لغتان، المد على وزن فاعيل كياسين. والقصر على وزن يمين، قال الشاعر في المدّ | **يَا رَبُّ لا تسلبني حُبَّها أبداً وَيَرَحمُ اللهُ عَبْداً قَالَ آمِينَاً** | | | | --- | --- | --- | وقال آخر | **آمين آمين لا أرضىَ بِوَاحَِدةٍ حَتَّى أبَلَّغها ألفَين آمِينَاً** | | | | --- | --- | --- | قال الجوهري وتشديد الميم خطأ. وروي عن الحسن، وجعفر الصادق، والحسين بن فضل التشديد، من أمّ إذا قصد أي نحن قاصدون نحوك، حكى ذلك القرطبي. قال الجوهري وهو مبني على الفتح مثل أين، وكيف لاجتماع الساكنين، وتقول منه أمَّن فلان تأميناً. وقد اختلف أهل العلم في الجهر بها، وفي أن الإمام يقولها أم لا؟ وذلك مبين في مواطنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير القرآن/ الفيروز آبادي (ت817 هـ)
وبإسناده عن ابن عباس في قوله تعالى { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } يقول الشكر لله وهو أن صنع إلى خلقه فحمدوه ويقال الشكر لله بنعمه السوابغ على عباده الذين هداهم للإيمان ويقال الشكر والوحدانية والإلهية لله الذي لا ولد له ولا شريك له ولا معين له ولا وزير له { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } رب كل ذي روح دب على وجه الأرض ومن أهل السماء ويقال سيد الجن والإنس ويقال خالق الخلق ورازقهم ومحولهم من حال إلى حال { ٱلرَّحْمـٰنِ } الرقيق من الرقة وهي الرحمة { ٱلرَّحِيمِ } الرفيق { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قاضي يوم الدين وهو يوم الحساب والقضاء فيه بين الخلائق أي يوم يدان فيه الناس بأعمالهم لا قاضي غيره { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لك نوحد ولك نطيع { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } نستعين بك على عبادتك ومنك نستوثق على طاعتك { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أرشدنا للدين القائم الذي ترضاه وهو الإسلام، ويقال ثبتنا عليه ويقال هو كتاب الله يقول اهدنا إلى حلاله وحرامه وبيان ما فيه { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } دين الذين مننت عليهم بالدين وهم أصحاب موسى من قبل أن تغير عليهم نعم الله بأن ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه ويقال هم النبيون { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } غير دين اليهود الذين غضبت عليهم وخذلتهم ولم تحفظ قلوبهم حتى تهودوا { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ولا دين النصارى الذين ضلوا عن الإسلام { آمِينْ } كذلك تكون أمنته ويقال فليكن كذلك، ويقال ربنا افعل بنا كما سألناك والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
روي عن مجاهد أنه قال: سورة فاتحة الكتاب مدنية، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية. ويقال: [نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة]. [حدثنا] الحاكم أبو الفضل، محمد بن [الحسين] الحدادي قال: حدثنا أبو حامد المروزي قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا عمر بن يونس قال: حدثنا جهضم بن عبد الله عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن في كتاب الله لسورة ما أنزل الله على نبي مثلها فسأله أبي بن كعب عنها فقال: إني لأرجو أن لا تخرج من الباب حتى تعلمها، فجعلت أتبطأ، ثم سأله أبي عنها فقال: كيف تقرأ في صلاتك؟ قال: بأم الكتاب. فقال: والذي نفسي بيده ما أنزل فى التوراة والإنجيل والقرآن مثلها، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته "** وقال بعضهم: السبع المثاني، هي السبع الطوال سورة: البقرة، وآل عمران والخمس التي بعدها [وسماها مثاني لذكر القصص فيها مرتين]. وقال أكثر أهل العلم: هي سورة [الفاتحة]، وإنما سميت السبع لأنها سبع آيات، وإنما سميت المثاني لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة. وقال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن حامد الخزعوني، قال: حدثنا علي بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن مروان عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح - مولى أم هانىء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } قال: الشكر لله. ومعنى قول ابن عباس: الشكر لله، يعني الشكر لله على نعمائه كلها، وقد قيل: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يعني الوحدانية لله. وقد قيل: الألوهية لله، وروي عن قتادة أنه قال: معناه الحمد لله الذي لم يجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين. ثم معنى قوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } قال بعضهم: (قل) فيه مضمر يعني: قل: الحمد لله. وقال بعضهم: حمد الرب نفسه، ليعلم عباده فيحمدوه. وقال أهل اللغة: الحمد هو الثناء الجميل، وحمد الله تعالى هو: الثناء عليه بصفاته الحسنى، وبما أنعم على عباده، ويكون في الحمد معنى الشكر وفيه معنى المدح وهو أعم من الشكر، لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وقال بعضهم: الشكر أعم لأنه باللسان وبالجوارح وبالقلب، والحمد يكون باللسان خاصة. [كما قال اعملوا آل داود شكراً]. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وذلك أن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله: فقال الله تعالى: (يرحمك الله) فسبقت رحمته غضبه. وقال الله تعالى لنوح:**{ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [المؤمنون: 28] وقال إبراهيم عليه السلام:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ }** [إبراهيم: 39] وقال في قصة داود وسليمان:**{ وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [النمل: 15] وقال لمحمد عليه السلام**{ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا }** [الإسراء: 111] وقال أهل الجنة:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِىۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ }** [فاطر: 34] فهي كلمة كل شاكر. وقوله تعالى: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: سيد العالمين. وهو رب كل ذي روح [تدب] على وجه الأرض. ويقال: معنى قوله { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } خالق الخلق ورازقهم ومربيهم ومحولهم من حال إلى حال، من نطفة إلى علقة، [ومن علقة] إلى مضغة. والرب في اللغة: هو السيد قال الله تعالى:**{ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ }** [يوسف: 50] يعني إلى سيدك. والرب: هو المالك، يقال: رب الدار، ورب الدابة والرب هو المربي من قولك: ربى يربي. وقوله { ٱلْعَـٰلَمِينَ } كل ذي روح، ويقال: كل من كان له عقل يخاطب مثل بني آدم والملائكة والجن ولا يقع على البهائم ولا على غيرها. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم، وإن دنياكم منها عالم واحد "** ويقال: كل صنف [من الحيوان] عالم على حده. قوله عز وجل { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال في رواية الكلبي هما إسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر. وقال بعض أهل اللغة: هذا اللفظ شنيع فلو قال: هما إسمان لطيفان لكان أحسن ولكن معناه عندنا - والله أعلم - أنه أراد بالرقة الرحمة يقال: رق فلان [لفلان] إذا رحمه. يقال: رق يرق إذا رحم. وقوله: أحدهما أرق من الآخر. قال بعضهم: الرحمن أرق لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين والكافرين. وقال بعضهم: الرحيم أرق لأنه في الدنيا وفي الآخرة. وقال بعضهم: كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه، فلهذا المعنى لم يبين، وقال أحدهما أرق من الآخر، يعني كل واحد منهما أرق من الآخر. قوله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو عمرو بن العلاء وابن عامر: ملك بغير الألف وقرأ عاصم والكسائي بالألف فأما من قرأ بالألف قال: لأن [المالك] أبلغ في الوصف، لأنه يقال: مالك الدار، ومالك الدابة، ولا يقال ملك، إلا لملك من ملوك، وأما الذي قرأ: ملك [بغير ألف قال] " لأن [الملك] أبلغ في الوصف، لأنك إذا قلت: فلان ملك هذه البلدة يكون ذلك كناية عن الولاية دون الملك، وإذا قلت فلان مالك هذه البلدة كان ذلك عبارة عن ملك الحقيقة، وروى مالك بن دينار [عن] [أنس بن مالك] قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتتحون الصلاة بـ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وكلهم يقرأون { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } بالألف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال الفقيه - رحمه الله -: سمعت أبي يحكي [بإسناده] عن أبي عبد الله محمد بن شجاع البلخي يقول: كنت أقرأ [بقراءة] الكسائي مالك يوم الدين بالألف فقال لي بعض أهل اللغة: الملك أبلغ في الوصف، فأخذت بقراءة حمزة (وكنت أقرأ) { ملك يوم الدين } فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي: لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: **" اقرأوا القرآن فخما مفخماً "** [فلم أترك القراءة بـ: " ملك " حتى أتاني بعد ذلك آت في المنام فقال لي:] لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، فلم نقصت من حسناتك عشراً في كل قراءة؟ فلما أصبحت أتيت قطرباً وكان إماماً في اللغة - فقلت له: ما الفرق بين ملك ومالك؟ فقال: بينهما فرق كثير. فأما ملك فهو ملك من الملوك، وأما مالك فهو مالك الملوك. فرجعت إلى قراءة الكسائي. ثم معنى قوله " مالك " يعني: قاضي وحاكم (يوم الدين) يعني يوم الحساب كما قال تعالى**{ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ }** [التوبة، الآية: 36] [يعني الحساب القيم. وقيل أيضاً: معنى يوم الدين يعني يوم القضاء. كما قال الله تعالى**{ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ٱلْمَلِكِ }** [يوسف: 76] يعني في قضائه] وقيل أيضاً: يوم الدين أي يوم الجزاء، كما يقال: كما تدين تدان. يعني كما تجازي تجازى به. فإن قيل: ما معنى تخصيص يوم الدين؟ وهو مالك يوم الدين وغيره. قيل له: لأن في الدنيا، كانوا منازعين له في الملك. مثل فرعون ونمرود وغيرهما. وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له. كما قال تعالى:**{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ }** [غافر: 16] فأجاب جميع الخلق**{ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارُِ }** [غافر: 16] فكذلك ها هنا. قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } يعني في ذلك اليوم لا يكون مالك، ولا قاض ولا مجاز غيره. قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هو تعليم، علم المؤمنين كيف يقولون إذا قاموا بين يديه في الصلاة فأمرهم بأن يذكروا عبوديتهم وضعفهم حتى يوفقهم ويعينهم فقال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي نوحد ونطيع. وقال بعضهم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } يعني إياك نطيع طاعة، نخضع فيها لك. وقوله تعالى: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يقول: [بك نستوثق] على عبادتك وقضاء الحقوق. وفي هذا دليل على أن الكلام قد يكون بعضه على وجه المغايبة وبعضه على وجه المخاطبة، لأنه افتتح السورة بلفظ المغايبة وهو قوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ثم ذكر بلفظ المخاطبة، فقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وهذا كما قال في آية أخرى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ هُوَ ٱلَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ }** [يونس: 22] فذكر بلفظ المخاطبة، ثم قال**{ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا }** [يونس: 22] [هذا ذكر] على المغايبة. ومثل هذا في القرآن كثير. قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } رويت القراءتان عن ابن كثير أنه قرأ " السراط " بالسين وروي عن حمزة أنه قرأ بالزاي وقرأ الباقون بالصاد وكل ذلك جائز، لأن مخرج السين والصاد واحد وكذلك الزاي مخرجه منهما قريب، والقراءة المعروفة بالصاد { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }. قال ابن عباس رضي الله عنهما: { ٱهْدِنَا } يعني أرشدنا { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهو الإسلام [فإن قيل: أليس هو الطريق المستقيم؟ وهو الإسلام فما] معنى السؤال؟ قيل له: الصراط المستقيم، هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود. فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده إلى الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود، ويعصمه من السبل المتفرقة. وقد روي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: خط لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً مستقيماً، وخط بجنبه خطوطاً، ثم قال: إن هذا الصراط المستقيم وهذه السبل، وعلى رأس كل طريق شيطان يدعو إليه ويقول: هلم إلى الطريق وفي هذا نزلت هذه الآية**{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }** [الأنعام: 153] فلهذا قال: اهدنا الصراط المستقيم واعصمنا من السبل المتفرقة. قال الكلبي: أمتنا على دين الإسلام. وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } يعني ثبتنا عليه. ومعنى قول علي: ثبتنا عليه. يعني احفظ قلوبنا على ذلك، ولا تقلبها بمعصيتنا. وهذا موافق لقول الله تعالى:**{ وَيَهْدِيَكَ صِرَٰطاً مُّسْتَقِيماً }** [الفتح: 2] فكذلك ها هنا. قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يعني طريق الذين مننت عليهم، فحفظت قلوبهم على الإسلام حتى ماتوا عليه. وهم أنبياؤه وأصفياؤه وأولياؤه. فامنن علينا كما مننت عليهم. أخبرنا الفقيه: أبو جعفر قال: حدثنا أبو بكر، أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال: حدثنا أحمد ابن جرير، قال: حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد قال: حدثنا هشام بن القاسم قال: حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم عن أبي العالية في قوله تعالى { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال: هو النبي - عليه السلام - وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. قال عاصم: فذكرت ذلك للحسن البصري فقال: صدق والله أبو العالية ونصح. وقوله تعالى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } أي غير طريق اليهود. يقول: لا تخذلنا بمعصيتنا، كما خذلت اليهود فلم تحفظ قلوبهم، حتى تركوا الإسلام { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } يعني ولا النصارى، لم تحفظ قلوبهم وخذلتهم بمعصيتهم حتى تنصروا. وقد أجمع المفسرون أن المغضوب عليهم أراد به اليهود، والضالين أراد به النصارى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قيل: أليس النصارى من المغضوب عليهم؟ واليهود أيضاً من الضالين؟ فكيف صرف المغضوب إلى اليهود، وصرف الضالين إلى النصارى؟ قيل له: إنما عرف ذلك بالخبر واستدلالا بالآية. فأما الخبر، فما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً سأله وهو بوادي القرى من المغضوب عليهم؟ قال: اليهود، قال: ومن الضالين؟ فقال: النصارى وأما الآية فلأن الله تعالى قال في قصة اليهود:**{ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ }** [البقرة: 90] وقال تعالى في قصة النصارى:**{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 77]. (آمين) ليس من السورة. ولكن روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقوله، ويأمر به، ومعناه ما قال ابن عباس: يعني كذلك يكون، وروي عن مجاهد أنه قال: هو اسم من أسماء الله تعالى ويكون معناه: يا الله استجب دعاءنا. وقال بعضهم: هي لغة بالسريانية. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما حسدتكم اليهود في شيء، كحسدهم في (آمين) يعني: أنهم يعرفون ما فيه من الفضيلة. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: (آمين) خاتم رب العالمين، يختم به دعاء عباده المؤمنين. وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للرحمة. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين؟ قال: رب افعل. ويقال: فيه لغتان (أمين) بغير مد، و(آمين) بالمد، ومعناهما واحد وقد جاء في أشعارهم/ كلا الوجهين. قال القائل: | **تباعد عني فُطْحُل إذ دَعَوْته** | | **آمين فزاد الله ما بيننا بعدا** | | --- | --- | --- | وقال الآخر: | **يا ربِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبدا** | | **ويرحم الله عبدا قال: آمينا** | | --- | --- | --- | وصلى الله على سيدنا محمد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله عز وجل: { الحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }. أما { الحمد لله } فهو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله، والشكرُ الثناء عليه بإنعامه، فكلُّ شكرٍ حمدٌ، وليسَ كلُّ حمدٍ شكراً، فهذا فرقُ ما بين الحمد والشكر، ولذلك جاز أن يَحْمِدَ الله تعالى نفسه، ولم يَجُزْ أن يشكرها. فأما الفرق بين الحمد والمدح، فهو أن الحمد لا يستحق إلا على فعلٍ حسن، والمدح قد يكون على فعل وغير فعل، فكلُّ حمدٍ مدحٌ وليْسَ كل مدحٍ حمداً، ولهذا جاز أن يمدح الله تعالى على صفته، بأنه عالم قادر، ولم يجز أن يحمد به، لأن العلم والقدرة من صفات ذاته، لا من صفات أفعاله، ويجوز أن يمدح ويحمد على صفته، بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته. وأما قوله: { رب } فقد اختُلف في اشتقاقه على أربعة أقاويل: أحدها: أنه مشتق من المالك، كما يقال رب الدار أي مالكها. والثاني: أنه مشتق من السيد، لأن السيد يسمى ربّاً قال تعالى:**{ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً }** [يوسف: 41] يعني سيده. والقول الثالث: أن الرب المدَبِّر، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ: { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } وهم العلماء، سموا ربَّانيِّين، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم، وقيل: ربَّهُ البيت، لأنها تدبره. والقول الرابع: الرب مشتق من التربية، ومنه قوله تعالى:**{ وَرَبَآئِبُكُمُ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ }** [النساء: 23] فسمي ولد الزوجة ربيبة، لتربية الزوج لها. فعلى هذا، أن صفة الله تعالى بأنه رب، لأنه مالك أو سيد، فذلك صفة من صفات ذاته، وإن قيل لأنه مدبِّر لخلقه، ومُربِّيهم، فذلك صفة من صفات فعله، ومتى أدْخَلت عليه الألف واللام. اختص الله تعالى به، دون عباده، وإن حذفتا منه، صار مشتركاً بين الله وبين عباده. وأما قوله: { العالمين } فهو جمع عَالم، لا واحد له من لفظه، مثل: رهط وقوم، وأهلُ كلِّ زمانٍ عَالَمٌ قال العجاج: | **.....................** | | **فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ** | | --- | --- | --- | واختُلِف في العالم، على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنّه ما يعقِل: من الملائكة، والإنس، والجنِّ، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أن العالم الدنيا وما فيها. والثالث: أن العالم كل ما خلقه الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا قول أبي إسحاق الزجَّاج. واختلفوا في اشتقاقه على وجهين: أحدهما: أنه مشتق من العلم، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لما يعقل. والثاني: أنه مشتق من العلامة، لأنه دلالة على خالقه، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لكُلِّ مخلوقٍ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ)
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيـمِ } قوله: بسم الله الباء أداة تخفض ما بعدها مثل: من وعن، والمتعلق به الباء محذوف لدلالة الكلام عليه، تقديره: أبدأ بسم الله، أو قل: بسم الله. وأسقطت الألف من الاسم طلباً للخفة وكثرة استعمالها وطولت الباء قال القُتَيبي ليكون افتتاح كلام كتاب الله بحرف معظم، كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول لكتَّابه: طولوا الباء وأظهروا السين وفرجوا بينهما، ودوروا الميم. تعظيماً لكتاب الله تعالى وقيل: لما أسقطوا الألف ردوا طول الألف على الباء ليكون دالاً على سقوط الألف، ألا ترى أنه لما كتبت الألف في:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ }** [العلق: 1] ردت الباء إلى صيغتها ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم إلى غير الله ولا مع غير الباء. والاسم هو المسمى وعينه وذاته قال الله تعالى:**{ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ }** [مريم: 7] أخبر أن اسمه يحيى ثم نادى الاسم فقال: «يا يحيى» وقال:**{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ }** [يوسف: 40] وأراد الأشخاص المعبودة لأنهم كانوا يعبدون المسميات وقال:**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ }** [الأعلى: 1]**{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ }** [الرحمن: 78] ثم يقال للتسمية أيضاً اسم فاستعماله في التسمية أكثر من المسمى فإن قيل: ما معنى التسمية من الله لنفسه؟ قيل هو تعليم للعباد كيف يفتتحون القراءة. واختلفوا في اشتقاقه قال المبرد في البصريين: هو مشتق من السمو وهو العلو، فكأنه علا على معناه وظهر عليه، وصار معناه تحته، وقال ثعلب من الكوفيين: هو من الوسم والسمة وهي العلامة وكأنه علامة لمعناه والأول أصح لأنه يُصَغَّر على السُّمَيِّ ولو كان من السمة لكان يُصَغَّر على الوسيم كما يقال في الوعد وعيد ويقال في تصريفه سميت ولو كان في الوسم لقيل: وَسمْتُ. قوله تعالى:«الله» قال الخليل وجماعة: هو اسم علم خاص لله عز وجل لا اشتقاق له كأسماء الأعلام للعباد مثل زيد وعمرو. وقال جماعة هو مشتق ثم اختلفوا في اشتقاقه فقيل: من أله إِلاهة أي عبد عبادة وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما**{ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ }** [الأَعراف:127] أي عبادتك - معناه أنه مستحق للعبادة دون غيره وقيل أصله إِله قال الله عز وجل:**{ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـٰهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ }** [المؤمنون: 91] قال المبرد: هو من قول العرب ألهت إلى فلان أي سكنت إليه قال الشاعر: | **ألهت إليها والحوادث جمة** | | | | --- | --- | --- | فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره، ويقال: ألهتُ إليه أي فزعت إليه قال الشاعر: | **ألهت إليها والركائب وُقَّفٌ** | | | | --- | --- | --- | وقيل: أصل الإِله «ولاه» فأبدلت الواو بالهمزة مثل وشاح واشاح، اشتقاقه من الوله لأن العباد يَوْلَهُونَ إليه أي يفزعون إليه في الشدائد، ويلجؤون إليه في الحوائج كما يوله كل طفل إلى أمه، وقيل هو من الوله وهو ذهاب العقل لفقد من يعز عليك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر. واختلفوا فيهما منهم من قال: هما بمعنى واحد مثل ندمان ونديم ومعناهما ذو الرحمة، وذكر أحدهما بعد الآخر تطميعاً لقلوب الراغبين. وقال المبرد: هو إنعام بعد إنعام، وتفضل بعد تفضل، ومنهم من فرق بينهما فقال: الرحمن بمعنى العموم والرحيم معنى الخصوص. فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا وهو على العموم لكافة الخلق. والرحيم بمعنى المعافي في الآخرة والعفو في الآخرة للمؤمنين على الخصوص ولذلك قيل في الدعاء: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، فالرحمن من تصل رحمته إلى الخلق على العموم، والرحيم من تصل رحمته إليهم على الخصوص، ولذلك يدعىٰ غير الله رحيماً ولا يدعى غير الله رحمن. فالرحمن عام المعنى خاص اللفظ، والرحيم عام اللفظ خاص المعنى، والرحمة إرادة الله تعالى الخير لأهله. وقيل هي ترك عقوبة من يستحقها وإسداء الخير إلى من لا يستحق، فهي على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل. واختلفوا في آية التسمية فذهب قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إلى أنها ليست من فاتحة الكتاب، ولا من غيرها من السور والافتتاح بها للتيمن والتبرك. وذهب قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إلى أنها من الفاتحة وليست من سائر السور وإنها كتبت للفصل وذهب جماعة إلى أنها من الفاتحة ومن كل سورة إلا سورة التوبة وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي لأنها كتبت في المصحف بخط سائر القرآن. واتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات فالآية الأولى عند من يعدها من الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم وابتداء الآية الأخيرة صراط الذين ومن لم يعدها من الفاتحة قال ابتداؤها الحمد لله رب العالمين وابتداء الآية الأخيرة غير المغضوب عليهم واحتج من جعلها من الفاتحة ومن السور بأنها كتبت في المصحف بخط القرآن، وبما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي أنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: أخبرني أبي عن سعيد بن جبير: قال**{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ المَثَانِي وٱلقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ }** [الحجر: 87] هي أم القرآن قال أُبي وقرأها عليَّ سعيد بن جبير حتى ختمها ثم قال: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيـمِ» الآية السابعة قال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها عليك ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، قال ابن عباس: فذخرها لكم فما أخرجها لأحد قبلكم. ومن لم يجعلها من الفاتحة احتج بما ثنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي أنا زاهر بن أحمد ثنا أبو عيسى اسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «قمت وراء أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم فكلهم كان لا يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» إذا افتتح الصلاة» قال سعيد بن جبير عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم / لا يعرف ختم سورة حتى نزلت بسم الله الرحمن الرحيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعن ابن مسعود قال: كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم. وقال الشعبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب في بدء الأمر على رسم قريش باسمك اللهم حتى نزلت**{ وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا }** [هود: 41] فكتب باسم الله حتى نزلت**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** [الإسراء: 110] فكتب بسم الله الرحمن حتى نزلت**{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [النمل: 30] فكتب مثلها. قوله: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } لفظه خبر كأنه يخبر أن المستحق للحمد هو الله عز وجل وفيه تعليم الخلق تقديره قولوا الحمد لله والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة. يقال حمدت فلاناً على ما أسدى إلي من النعمة وحمدته على علمه وشجاعته، والشكر لا يكون إلا على النعمة، فالحمد أعم من الشكر إذ لا يقال: شكرت فلاناً على علمه فكل حامد شاكر وليس كل شاكر حامداً. وقيل: الحمد باللسان قولاً: والشكر بالأركان فعلاً قال الله تعالى:**{ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً }** [الإسراء: 111] وقال:**{ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً }** [سبأ: 13]. قوله: { للَّه } اللام فيه للاستحقاق كما يقال الدار لزيد. قوله: { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فالرب يكون بمعنى المالك كما يقال لمالك الدار: رب الدار: ويقال: رب الشيء إذا ملكه، ويكون بمعنى التربية والإِصلاح، يقال: ربَّ فلان الضيعة يَرُبُّها إذا أتمها وأصلحها فهو رب مثل طبَّ، وبَرَّ. فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم، ولا يقال للمخلوق هو الرب معرَّفاً إنما يقال رب كذا مضافاً، لأن الألف واللام للتعميم وهو لا يملك الكل. «والعالمين» جمع عالم، لا واحد له من لفظه واختلفوا في العالمين قال ابن عباس: هم الجن والإِنس لأنهم المكلفون بالخطاب قال الله تعالى:**{ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً }** [الفرقان: 1] وقال قتادة ومجاهد والحسن: هم جميع المخلوقات. قال الله تعالى:**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }** [الشعراء:23-24] واشتقاقه من العلم والعلامة سموا به لظهور أثر الصنعة فيهم قال أبو عبيدة: هم أربع أمم: الملائكة، والإِنس، والجن، والشياطين، مشتق من العلم، ولا يقال للبهائم عالم لأنها لا تعقل، واختلفوا في مبلغهم قال سعيد بن المسيب لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وقال مقاتل بن حيان: لله ثمانون ألف عالم أربعون ألفاً في البحر وأربعون ألفاً في البر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال وهب: لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء. وقال كعب الأحبار: لا يحصي عدد العالمين أحد إلا الله قال الله تعالى:**{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }** [المدثر: 31]. قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قرأ عاصم والكسائي ويعقوب: { مالك } وقرأ الآخرون { مَلِكِ } قال قوم: معناهما واحد مثل فرهين وفارهين، وحذرين وحاذرين ومعناهما الرب يقال رب الدار ومالكها. وقيل: المالك والملك هو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر عليه أحد غير الله. قال أبو عبيدة: مالك أجمع وأوسع لأنه يقال مالك العبد والطير والدواب ولا يقال ملك هذه الأشياء. ولأنه لا يكون مالكاً لشيء إلاّ وهو يملكه، وقد يكون ملك الشيء ولا يملكه. وقال قوم: ملك أولى لأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً ولأنه أوفق لسائر القرآن مثل قوله تعالى:**{ فَتَعَالَىٰ ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ }** [طه: 114] و**{ المَلِكُ القُدُّوسُ }** [الحشر: 23] قال مجاهد: الدين الحساب، قال الله تعالى**{ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ }** [التوبة: 36] أي الحساب المستقيم و**{ مَلِكِ ٱلنَّاسِ }** [الناس: 2] قال ابن عباس ومقاتل والسدي: ملك يوم الدين قاضي يوم الحساب وقال قتادة: الدين الجزاء. ويقع على الجزاء في الخير والشر جميعاً كما يقال: كما تدين تدان. قال محمد بن كعب القرظي: ملك يوم لا ينفع فيه إلا الدين، وقال يمان بن رباب: الدين القهر. يقال دنته فدان أي قهرته فذل. وقيل: الدين الطاعة أي يوم الطاعة. وإنما خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكاً للأيام كلها لأن الأملاك يومئذ زائلة فلا ملك ولا أمر إلا له، قال الله تعالى:**{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }** [الفرقان: 26] وقال:**{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ }** [غافر: 16] وقال:**{ وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }** [الانفطار: 19]. وقرأ أبو عمرو: «الرحيم ملك» بإدغام الميم في الميم وكذلك يدغم كل حرفين من جنس واحد أو مخرج واحد أو قريبي المخرج سواء كان الحرف ساكناً أو متحركاً إلا أن يكون الحرف الأول مشدداً أو منوناً أو منقوصاً أو مفتوحاً أو تاء الخطاب قبله ساكن في غير المثلين فإنه لا يدغمهما، وإدغام المتحرك يكون في الإِدغام الكبير وافقه حمزة في إدغام المتحرك في قوله**{ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ }** [النساء: 81]**{ والصَّافَّاتِ صَفّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرا }** [الصافات: 1 ـ 3] و**{ وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً }** [الذاريات: 1] أدغم التاء فيما بعدها من الحروف، وافقه الكسائي وحمزة في إدغام الصغير، وهو إدغام الساكن في المتحرك إلا في الراء عند اللام والدال عند الجيم وكذلك لا يدغم حمزة - وبرواية خلاد وخلف - الدال عند السين والصاد والزاي، ولا إدغام لسائر القراء إلا في أحرف معدودة. قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } «إيّا» كلمة ضمير خُصَّت بالإِضافة إلى المضمر ويستعمل مقدماً على الفعل فيقال: إياك أعني، وإياك أسأل ولا يستعمل مؤخراً إلا منفصلاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فيقال: ما عنيت إلا إياك. قوله: { نَعْبُدُ } أي نوحدك ونطيعك خاضعين، والعبادة الطاعة مع التذلل والخضوع وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده يقال: طريق معبد أي مذلل. { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا فإن قيل: لم قدم ذكر العبادة على الاستعانةِ والاستعانةُ تكون قبل العبادة؟ فلهذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل. ونحن بَحمد الله نجعل التوفيق والاستعانة مع الفعل، فلا فرق بين التقديم والتأخير ويقال: الاستعانة نوع تعبد فكأنه ذكر جملة العبادة أولاً ثم ذكر ما هو من تفاصيلها. قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } اهدنا أرشدنا وقال علي وأبي بن كعب: ثبتنا كما يقال للقائم قم حتى أعود إليك أي دم على ما أنت عليه. وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية بمعنى التثبيت وبمعنى طلب مزيد الهداية لأن الألطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى على مذهب أهل السنة. «الصراط» و سراط بالسين رواه أويس عن يعقوب وهو الأصل، سمي سراطاً لأنه يسرط السابلة، ويقرأ بالزاي، وقرأ حمزة باشمام الزاي، وكلها لغات صحيحة، والاختيار: الصاد، عند أكثر القراء لموافقة المصحف. والصراط المستقيم قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهما: هو الإِسلام وهو قول مقاتل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هو القرآن وروي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً «الصراط المستقيم كتاب الله» وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: طريق الجنة. وقال سهل بن عبد الله: طريق السنة والجماعة. وقال بكر بن عبد الله المزني: طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو العالية والحسن: رسول الله وآله وصاحباه] وأصله في اللغة الطريق الواضح. قوله { صِراطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أي مننت عليهم بالهداية والتوفيق قال عكرمة: مننت عليهم بالثبات على الإِيمان والاستقامة وهم الأنبياء عليهم السلام، وقيل: هم كل من ثبته الله على الإِيمان من النبيين والمؤمنين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ }** [النساء: 69] الآية وقال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن غيروا دينهم. وقال عبد الرحمن ابن زيد هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه. وقال أبو العالية: هم آل الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأهل بيته وقال شهر ابن حوشب: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. قرأ حمزة: عليهُم ولديهُم وإليهُم بضم هاءاتها، ويضم يعقوب كل هاء قبلها ياء ساكنة تثنية وجمعاً إلا قوله:**{ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ }** [الممتحنة: 12] وقرأ الآخرون بكسرهما، فمن ضم الهاء ردها إلى الأصل لأنها مضمومة عند الانفراد، ومن كسرها فلأجل الياء الساكنة والكسرة أخت الياء وضَمَّ ابن كثير وأبو جعفر كل ميم جمعٍ مشبعاً في الوصل إذا لم يَلْقها ساكن فإن لقيها ساكن فلا يشبع، ونافع يخيرِّ، ويضم ورش عند ألف القطع، فإذا تلقتْه ألفُ وصلٍ - وقبل الهاء كسر أو ياء ساكنة - ضم الهاء والميم حمزة والكسائي وكسرهما أبو عمرو وكذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله والآخرون يقرؤون بضم الميم وكسر الهاء في الكل لأجل الياء أو لكسر ما قبلها وضم الميم على الأصل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } يعني غير صراط الذين غضبت عليهم، والغضب هو إرادة الانتقام من العصاة، وغضب الله تعالى لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين. { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } أي وغير الضالين عن الهدى. وأصل الضلال الهلاك والغيبوبة، يقال: ضل الماء في اللبن إذا هلك وغاب. وغير هاهنا بمعنى لا، ولا بمعنى غير ولذلك جاز العطف كما يقال: فلان غير محسن ولا مجمل. فإذا كان غير بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا، ولا يجوز في الكلام: عندي سوى عبد اللّه ولا زيد. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين. وقيل: المغضوب عليهم هم اليهود والضالون: هم النصارى لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال:**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** [المائدة: 60] وحكم على النصارى بالضلال فقال:**{ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ }** [المائدة: 77] وقال سهل بن عبد الله: غير المغضوب عليهم بالبدعة، ولا الضالين عن السنة. والسنة للقارىء أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة «آمين» بسكتة مفصولة عن الفاتحة وهو مخفف ويجوز عند النحويين ممدوداً ومقصوراً ومعناه: اللهم اسمع واستجب. وقال ابن عباس وقتادة: معناه كذلك يكون. وقال مجاهد هو اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: هو طابع الدعاء. وقيل هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفساد وظهور ما فيه. أخبرنا الإِمام أبو علي الحسين بن محمد بن القاضي وأبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا: أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا أبو علي محمد بن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ثنا محمد بن يحيى ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا قال الامام - غير المغضوب عليهم ولا الضالين - فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين، وإن الإِمام يقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه "** صحيح. فصل في فضل الفاتحة أنا أبو الحسين أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكيّالي أنا أبو نصر محمد بن علي بن الفضل الخزاعي أنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري ثنا محمد بن عبد الوهاب ثنا خالد مخلد القطواني حدثني محمد بن جعفر بن أبي كثير هو أخو اسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبَيِّ بن كعب وهو قائم يصلي فصاح به فقال: تعال يا أُبَيِّ فعجل أُبَيِّ في صلاته، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك؟ أليس الله يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24] قال أبي: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك وإن كنت مصلياً. قال: أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإِنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها؟ فقال أبي: نعم يا رسول الله فقال: لا تخرج في باب المسجد حتى تَعَلَّمَها والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي: السورة يا رسول الله. فوقف فقال: نعم كيف تقرأ في صلاتك؟ فقرأ أبي أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإِنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها وإنها لهي السبع من المثاني التي آتاني الله عز وجل "** هذا حديث حسن صحيح. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد أنا إسحٰق بن إبراهيم الحنظلي ثنا يحيى بن آدم ثنا أبو الأحوص عن عمار ابن رزيق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: **" بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده جبريل إذ سمع نقيضاً من فوقه فرفع جبريل عليه السلام بصره إلى السماء فقال: هذا باب فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك. فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ولن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته "** صحيح [أخرجه مسلم عن الحسن بن ربيع عن أبي الأحوص]. أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي ثنا زاهر بن أحمد السرخسي أنا أبو إسحاق ابراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام "** قال: قلت: يا أبا هريرة إِني أحياناً أكون وراء الإِمام فغمز ذراعي وقال: اقرأ بها يا فارسي في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل "** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" اقرؤوا يقول العبد: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } / يقول الله حمدني عبدي، يقول العبد { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } يقول الله أثنى علي عبدي، يقول العبد { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } يقول الله تعالى مجدني عبدي، يقول العبد: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يقول الله تعالى: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } يقول الله فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل "** صحيح [أخرجه مسلم عن قتيبة عن مالك]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
قال ابن عباس، وموسى بن جعفر عن أبيه، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، ومحمد بن يحيى ابن حبان: إنها مكية، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر**{ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني }** [الحجر:87] والحجر مكية بإجماع. وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني، والسبع الطُّول نزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين. وروي عن عطاء بن يسار، وسوادة بن زياد، والزهري محمد بن مسلم، وعبد الله بن عبيد بن عمير أن سورة الحمد مدنية. وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب، لأن موضعها يعطي ذلك، واختلف هل يقال لها أم الكتاب، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال: " أم الكتاب والحلال والحرام ". قال الله تعالى:**{ آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }** [آل عمران: 7]. وقال ابن عباس وغيره: " يقال لها أم الكتاب ". وقال البخاري: سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة، وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، واختلف هل يقال لها أم القرآن؟ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء. قال يحيى بن يعمر: " أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأم القرآن سورة الحمد ". وقال الحسن بن أبي الحسن: اسمها أم القرآن. وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخراً لها. وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب **" إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها "** ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلاً من الله تعالى لا يعلل، وكذلك يجيء عدل**{ قل هو الله أحد }** [الإخلاص: 1] وعدل**{ زلزلت }** [الزلزلة:1]. وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" الحمد لله رب العالمين فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام "** وورد حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة "** وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجراً طالب ثواب، لأن قوله الحمد لله في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قول لا إله إلا الله توحيد فقط. فأما إذا أخذا بموضعهما من شرع الملة ومحلهما من رفع الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل، والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله "** { الحمد } معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر، وشكره حمد ما، والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئاً، فالحامد من الناس قسمان: الشاكر والمثني بالصفات. وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد، وذلك غير مرضي. وحكي عن بعض الناس أنه قال: " الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه، والحمدُ ثناء بأوصافِه ". قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك الحمد لله شكراً. وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه. لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم. وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من " الحمدُ لله ". وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج " الحمدَ لله " بفتح الدال وهذا على إضمار فعل. وروي عن الحسن بن الحسن وزيد بن علي: " الحمدِ لله " ، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني. وروي عن ابن أبي عبلة: " الحمدُ لُله " ، بضم الدال واللام، على اتباع الثاني والأول. قال الطبري: { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه، فكأنه قال: " قولوا الحمد لله " وعلى هذا يجيء " قولوا إياك " قال: وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر: | **وأعلَمُ أنني سأكونُ رمساً** | | **إذا سار النواعِجُ لا يسيرُ** | | --- | --- | --- | | **فقالَ السائلونَ لِمَنْ حفرْتُمْ** | | **فقال القائلونَ لهمْ وزيرُ** | المعنى المحفور له وزير، فحذف لدلالةِ ظاهرِ الكلامِ عليه، وهذا كثير. وقرأت طائفة " ربَّ " بالنصب. فقال بعضهم: " هو نصب على المدح ". وقال بعضهم: " هو على النداء، وعليه يجيء { إياك } ". والرب في اللغة: المعبود، والسيد المالك، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها، والملك،- تأتي اللفظة لهذه المعاني-. فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [غاوي بن عبد العزى]: | **أربّ يبولُ الثعلبان برأسه** | | **لقد هانَ من بالَتْ عليه الثَّعالبُ** | | --- | --- | --- | ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم: رب العبيد والمماليك. ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد: | **وأهلكن يوماً ربَّ كندة وابنَهُ** | | **وربَّ معدٍّ بين خَبْتٍ وعَرْعَرٍ** | | --- | --- | --- | ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة: | **تخبُّ إلى النعمان حتّى تنالَهُ** | | **فدى لك من ربٍّ طريفي وتالدي** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن معنى الإصلاح قولهم: أديم مربوب، أي مصلح، قال الشاعر الفرزدق: [البسيط]. | **كانوا كسالئةٍ حمقاء إذْ حقنتْ** | | **سلاءَها في أديمٍ غيرِ مَرْبُوبِ** | | --- | --- | --- | ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين: " لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن ". ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان: " وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم ". ذكره البخاري في تفسير سورة براءة. ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة: [الطويل]. | **وكنت أمراً أفضت إليك ربابتي** | | **ومن قبل ربتني فضعت ربوبُ** | | --- | --- | --- | وهذه الاستعمالات قد تتداخل، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى. و { العالمين } جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، يقال لجملته عالم، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم، وبحسب ذلك يجمع على العالمين، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجاج. وقد تقدم القول في " الرحمن الرحيم ". واختلف القراء في قوله تعالى: { ملك يوم الدين }. فقرأ عاصم والكسائي " مالك يوم الدين ". قال الفارسي: " وكذلك قرأها قتادة والأعمش ". قال مكي: " وروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك بالألف، وكذلك قرأها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وطلحة، والزبير، رضي الله عنهم ". وقرأ بقية السبعة " ملك يوم الدين " وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ " ملْك يوم الدين ". هذه رواية عبد الوارث عنه. وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ " ملكي " وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي. وقرأ أبو حيوة " ملِكَ " بفتح الكاف وكسر اللام. وقرأ ابن السميفع، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وأبو صالح السمان، وأبو عبد الملك الشامي " مالكَ " بفتح الكاف. وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله { إياك }. ورد الطبري على هذا وقال: " إن معنى السورة: قولوا الحمد لله، وعلى ذلك يجيء { إياك } و { اهدنا }. وذكر أيضاً أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب. وبالعكس، وبالعكس، كقول أبي كبير الهذلي: [الكامل]. | **يا ويح نفسي كان جلدة خالد** | | **وبياض وجهك للتراب الأعفر** | | --- | --- | --- | وكما قال لبيد: [البسيط]. | **قامت تشكّى إليَّ النفسُ مجهشة** | | **وقد حملتُكَ سبعاً سبعينا** | | --- | --- | --- | وكقول الله تعالى:**{ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [يونس: 22]. وقرأ يحيى بن يعمر والحسن بن أبي الحسن، وعلي بن أبي طالب " ملك يوم الدين " على أنه فعل ماض. وقرأ أبو هريرة " مليك " بالياء وكسر الكاف. قال أبو علي: ولم يمل أحد من القراء ألف " مالك " ، وذلك جائز، إلا أنه يقرأ بما يجوز، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض، و " المُلك " و " المِلك " بضم الميم وكسرها وما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد وضبط، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم: [الطويل]: | **ملكتُ بها كفّي فأنهرتُ فَتْقَها** | | | | --- | --- | --- | وهذا يصف طعنة فأراد شددت، ومن ذلك قول أوس بن حجر: [الطويل]. | **فملَّكَ بالليطِ تحتَ قشرِها** | | **كغرقىء بيضٍ كنَّه القيضُ من علِ** | | --- | --- | --- | أراد شدد، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس، والذي مفعول وليس بصفة لليط، ومن ذلك قولهم: إملاك المرأة وإملاك فلان إنما هو ربط النكاح، كما قالوا: عقدة النكاح، إذ النكاح موضع شد وربط، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له، وكذلك الملك، واحتج من قرأ " ملك " بأن لفظة " ملك " أعم من لفظة " مالك " إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً، والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك. وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك. فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلاً يملكها أجمع أو رجلاً هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والأحكام، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفاً وأعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها، كما لكل أحد في ملكه، ثم عنده زيادة التملك، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد، فهو مالكه وملكه، والقراءتان حسنتان. وحكى أبو علي في حجة من قرأ " مالك يوم الدين " أن أول من قرأ " ملك يوم الدين " مروان بن الحكم وأنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير، والدراهم، والطير، والبهائم، ولا يقال ملكها، ومالك في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء وملك الحكم فيها، وقد قال الله تعالى:**{ قل اللهم مالك الملك }** [آل عمران: 26]. قال أبو بكر: " الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ " ملك يوم الدين " مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع ولعل قائل ذلك أرد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد ونحوه ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا " ملك يوم الدين " بغير ألف، وفيه أيضاً أنهم قرؤوا " مالك يوم الدين " بألف. قال أبو بكر: والاختيار عندي " ملك يوم الدين " لأن " الملك " و " الملك " يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا ملكت العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره. قال: والوجه لمن قرأ " ملك " أن يقول: إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه. قال أبو الحسن الأخفش: " يقال " ملك " بين الملك، بضم الميم، ومالك بين " المِلك " و " المَلك " بفتح الميم وكسرها، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى، وروى بعض البغداديين في هذا الوادي " مَلك " و " ملك " و " مِلك " بمعنى واحد ". قال أبو علي: " حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القرءة بـ " ملك " أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله (رب العالمين) فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير ". قال أبو علي ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص، كقوله تعالى:**{ هو الله الخالق البارىء المصور }** [الحشر: 24] فـ { الخالق } يعم وذكر { المصور } لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة، وكما قال تعالى:**{ وبالآخرة هم يوقنون }** [البقرة: 4] بعد قوله:**{ الذين يؤمنون بالغيب }** [البقرة: 3] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال تعالى: { الرحمن الرحيم } فذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى:**{ وكان بالمؤمنين رحيماً }** [الأحزاب: 43]. قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وأيضاً: فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله: [الطويل]. | **(ومن قبل ربتني فضعت ربوب)** | | | | --- | --- | --- | وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ " مالك يوم الدين " والجر في " ملك " أو " مالك " على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح، والإضافة إلى { يوم الدين } في كلتا القراءتين من باب يا سارق الليلة أهل الدار، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد، وليس هذا كإضافة قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وعنده علم الساعة }** [الزخرف: 85]، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، أي إنه يعلم الساعة وحقيقتها، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأما على المعنى الذي قاله ابن السراج من أن معنى " مالك يوم الدين " أنه يملك مجيئه ووقوعه، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة، وليس ظرفاً اتسع فيه. قال أبو علي: ومن قرأ " مالك يوم الدين " فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره مالك يوم الدين الاحكام، ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى:**{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه }** [البقرة: 185] فنصب { الشهر } على أنه ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر، ولو كان الشهر مفعولاً للزم الصوم للمسافر، لأن شهادته لشهر كشهادة المقيم، وشهد يتعدى إلى مفعول يدل على ذلك قول الشاعر: [الطويل]. | **ويوماً شهدناه سليماً وعامرا** | | | | --- | --- | --- | والدين لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء، منها الملة. قال الله تعالى:**{ إن الدين عند الله الإسلام }** [آل عمران: 19] إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى، وسمي حظ الرجل منها في أقواله وأعماله واعتقاداته ديناً، فيقال فلان حسن الدين، ومنه **" قول النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه في قميص عمر الذي رآه يجره: " قيل: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين "** وقال علي بن أبي طالب: " محبة العلماء دين يدان به ". ومن أنحاء اللفظة الدين بمعنى العادة: فمنه قول العرب في الريح: " عادت هيف لأديانها " ومنه قول امرىء القيس: [الطويل] | **كدينك من أمّ الحويرثِ قبلَها** | | | | --- | --- | --- | ومنه قول الشاعر: [المثقب العبدي] [الوافر]: | **أهذا دينه أبداً وديني** | | | | --- | --- | --- | إلى غير من الشواهد، يقال دين ودينة أي عادة، ومن أنحاء اللفظة: الدين سيرة الملك وملكته، ومنه قول زهير: [البسيط]. | **لئن حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسد** | | **في دين عمروٍ وحالتْ بينَنَا فَدَكُ** | | --- | --- | --- | أراد في موضع طاعة عمرو وسيرته، وهذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله { ملك يوم الدين }. ومن أنحاء اللفظة الدين الجزاء، فمن ذلك قول الفند الزماني: [شهل بن شيبان] [الهزج]. | **ولم يبق سوى العدوا** | | **ن دنّاهم كما دانوا** | | --- | --- | --- | أي جازيناهم. ومنه قول كعب بن جعيل: [المتقارب]. | **إذا ما رمونا رميناهمُ** | | **ودناهمُ مثل ما يقرضونا** | | --- | --- | --- | ومنه قول الآخر: | **واعلمْ يقيناً أنّ ملكَكَ زائلٌ** | | **واعلمْ بأنَّ كما تدينُ تدانُ** | | --- | --- | --- | وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلحُ لتفسير قوله تعالى: { ملك يوم الدين } أي يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وقتادة وغيرهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال أبو علي: يدل على ذلك قوله تعالى:**{ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت }** [غافر: 17]، و**{ اليوم تجزون ما كنتم تعملون }** [الجاثية: 28]. وحكى أهل اللغة: دنته بفعله ديناً بفتح الدال وديناً بكسرها جزيته، وقيل الدين المصدر والدين بكسر الاسم. وقال مجاهد: { ملك يوم الدين } أي يوم الحساب، مدينين محاسبين وهذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء. ومن أنحاء اللفظة الدين الذل، والمدين العبد، والمدينة الأمة، ومنه قول الأخطل: | **رَبَتْ وَرَبَا في حِجْرِها ابنُ مدينةٍ** | | **تراه على مِسْحاتِه يَتَرَكَّلُ** | | --- | --- | --- | أي ابن أمة، وقيل بل أراد ابن مدينة من المدن، الميم أصلية، ونسبه إليها كما يقال ابن ماء وغيره. وهذا البيت في صفة كرمة فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب. ومن أنحاء اللفظة الدين السياسة، والديان السائس، ومنه قول ذي الأصبع الحدثان بن الحارث: [البسيط]. | **لاهِ ابنِ عمّك لا أفضلتَ في حسبٍ** | | **يوماً ولا أنتَ دياني فتخزوني** | | --- | --- | --- | ومن أنحاء اللفظة الدين الحال. قال النضر بن شميل: " سألت أعرابياً عن شيء فقال لي لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك ". ومن أنحاء اللفظة الدين الداء، عن اللحياني وأنشد: [البسيط] | **ما دين قلبك من سلمى وقد دينا** | | | | --- | --- | --- | قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو، فلم يبق إلا قول اللحياني. وقوله تعالى: { إياك نعبد }. نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك، وقدم المفعول على الفعل اهتماماً، وشأن العرب تقديم الأهم. ويذكر أن أعرابياً سبّ آخر فأعرضَ المسبوبُ عنهُ، فقال له السابُّ: " إياك أعني " فقال الآخر: " وعنكَ أُعرِضُ " فقدَّما الأهم. وقرأ الفضل الرقاشي: " أياك " بفتح الهمزة، وهي لغة مشهورة وقرأ عمرو بن فائد: " إيَاك " بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها، وهذا كتخفيف " ربْ " و " إنْ " وقرأ أبو السوار الغنوي: " هيّاك نعبد وهيّاك نستعين " بالهاء، وهي لغة. واختلف النحويون في { إيّاك } فقال الخليل: إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف، وحكي عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب. وقال المبرد: إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ { إيّاك } بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكاف والهاء والياء هي الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها ولا تكون إلا متصلات، فإذا تقدمت الأفعال جعل " إيّا " عماداً لها. فيقال " إياك " و " إياه " و " إيّاي " ، وإذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن " إيا ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وحكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب، وزيدت الكاف والياء والهاء تفرقة بين المخاطب والغائب والمتكلم، ولا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك وفي أرايتك زيداً ما فعل. و { نعبد } معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة، والطريق المذلل يقال له معبد، وكذلك البعير. وقال طرفة: [الطويل]. | **تباري عتاق الناجيات وأتبعت** | | **وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد** | | --- | --- | --- | وتكررت { إياك } بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام. و { نستعين } معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرؤ من الأصنام. وقرأ الأعمش وابن وثاب والنخعي: " ونستعين " بكسر النون، وهي لغة لبعض قريش في النون والتاء والهمزة ولا يقولونها في ياء الغائب وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحوعلم وشرب، وكذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال، فإنهم يقولون تخال وأخال. و { نستعين } أصله نستعون نقلت حركة الواو إلى العين وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، والمصدر استعانة أصله استعواناً نقلت حركة الواو إلى العين فلما انفتح ما قبلها وهي في نية الحركة انقلبت ألفاً، فوجب حذف أحد الألفين الساكنين، فقيل حذفت الأولى لأن الثانية مجلوبة لمعنى، فهي أولى بالبقاء، وقيل حذفت الثانية لأن الأولى أصلية فهي أولى بالبقاء، ثم لزمت الهاء عوضاً من المحذوف، وقوله تعالى: { اهدنا } رغبة لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغة الأمر كلها، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر، والهداية في اللغة الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبرعنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى:**{ أولئك على هدى من ربهم }** [البقرة: 5] وقوله تعالى:**{ والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }** [يونس: 25] وقوله تعالى:**{ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }** [القصص: 56] وقوله تعالى:**{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام }** [الأنعام: 125]. قال أبو المعالي: فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء، من ذلك قوله تعالى:**{ ولكل قوم هاد }** [الرعد: 7] أي داع وقوله تعالى:**{ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }** [الشورى: 52] وهذا أيضاً يبين فيه الإرشاد، لأنه ابتداء إرشاد، أجاب المدعو أو لم يجب، وقد جاء بمعنى الإلهام، من ذلك قوله تعالى:**{ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }** [طه: 5]. قال المفسرون: معناه " ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها ". وهذا أيضاً بين فيه معنى الإرشاد، وقد جاء الهدى بمعنى البيان، من ذلك قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وأما ثمود فهديناهم }** [فصلت: 17]. قال المفسرون: " معناه بينا لهم ". قال أبو المعالي: معناه دعوناهم ومن ذلك قوله تعالى:**{ إن علينا للهدى }** [الليل: 12] أي علينا أن نبين، وفي هذا كله معنى الإرشاد. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين:**{ فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم }** [محمد: 5] ومنه قوله تعالى:**{ فاهدوهم إلى صراط الجحيم }** [الصافات: 23] معناه فاسلكوهم إليها. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد الضلال وهي الواقعة في قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } على صحيح التأويل، وذلك بين من لفظ { الصراط } ، والهدى لفظ مؤنث، وقال اللحياني: " هو مذكر " قال ابن سيده: " والهدى اسم من أسماء النهار " قال ابن مقبل: [البسيط]. | **حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة** | | **يخشعن في الآل غلفاً أو يصلينا** | | --- | --- | --- | و { الصراط } في اللغة الطريق الواضح فمن ذلك قول جرير: [الوافر]. | **أمير المؤمنين على صراط** | | **إذ اعوج الموارد مستقيم** | | --- | --- | --- | ومنه قول الآخر: فصد عن نهج الصراط الواضح. وحكى النقاش: " الصراط الطريق بلغة الروم ". قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف جداً. واختلف القراء في { الصراط } فقرأ ابن كثير وجماعة من العلماء: " السراط " بالسين، وهذا هو أصل اللفظة. قال الفارسي: " ورويت عن ابن كثير بالصاد ". وقرأ باقي السبعة غير حمزة بصاد خالصة وهذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الاطباق فيحسنان في السمع، وحكاها سيبويه لغة. قال أبو علي: روي عن أبي عمرو السين والصاد، والمضارعة بين الصاد والزاي، رواه عنه العريان بن أبي سفيان. وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة. قال بعض اللغويين: " ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زاياً، ولم يكن الأصمعي نحوياً فيؤمن على هذا ". قال القاضي أبو محمد: وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد. وقرأ حمزة بين الصاد والزاي. وروي أيضاً عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة. قال ابن مجاهد: " وهذه القراءة تكلف حرف بين حرفين، وذلك أصعب على اللسان، وليس بحرف يبنى عليه الكلام ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب، إلا أن الصاد أفصح وأوسع ". وقرأ الحسن والضحاك: " اهدنا صراطاً مستقيماً " دون تعريف وقرأ جعفر بن محمد الصادق: " اهدنا صراطَ المستقيم " بالإضافة وقرأ ثابت البناني: " بصرنا الصراط ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له { الصراط } في هذا الموضع وما المراد به، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " { الصراط المستقيم } هنا القرآن " وقال جابر: " هو الإسلام " يعني الحنيفية. وقال: سعته ما بين السماء والأرض. وقال محمد بن الحنفية: " هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره " وقال أبو العالية: " هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر ". وذكر ذلك للحسن بن أبي الحسن، فقال: صدق أبو العالية ونصح. قال القاضي أبو محمد: ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام، وهو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون وعندهم المعتقدات وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قولهم { اهدنا } فيما هو حاصل عندهم طلب التثبيت والدوام، وفيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به أو التقصير في المحافظة عليه طلب الإرشاد إليه. وأقول إن كل داع فإنما يريد { الصراط } بكماله في أقواله وأفعاله ومعتقداته، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه ولا يتجه أن يراد بـ { اهدنا } في هذه الآية اخلق الإيمان في قلوبنا، لأنها هداية مقيدة إلى صراط ولا أن يراد بها ادعنا، وسائر وجوه الهداية يتجه، و { الصراط } نصب على المفعول الثاني، و { المستقيم } الذي لا عوج فيه ولا انحراف، والمراد أنه استقام على الحق وإلى غاية الفلاح، ودخول الجنة، وإعلال { مستقيم } أن أصله مستقوم نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وصراط الذين بدل من الأول. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن الزبير: " صراط من أنعمت عليهم ". و { الذين } جمع الذي، وأصله " لذٍ " ، حذفتْ منه الياء للتنوين كما تحذف من عمٍ، وقاضٍ، فلما دخلته الألف واللام ثبتت الياء. و " الذي " اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة وعائد، وهو مبني في إفراده. وجمعه معرب في تثنيته. ومن العرب من يعرب جمعه، فيقول في الرفع اللذون، وكتب الذي بلام واحدة في الإفراد والجمع تخفيفاً لكثرة الاستعمال، واختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم. فقال ابن عباس وجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى:**{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً، وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع اللَّهَ والرسولَ فأولئكَ مع الذينَ أنعمَ اللَّهُ عليهمْ من النبيين والصدّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [النساء: 66-69] فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم. وهو المطلوب في آية الحمد. وقال ابن عباس أيضاً: " المنعم عليهم هو المؤمنون ". وقال الحسن بن أبي الحسن: " المنعم عليهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ". وحكى مكي وغيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهمْ مؤمنو بني إسرائيل، بدليل قوله تعالى:**{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }** [البقرة: 40، 47، 122]. وقال ابن عباس: " المنعم عليهم أصحابُ موسى قبل أن يبدلوا ". قال القاضي أبو محمد: وهذا والذي قبله سواء. وقال قتادة بن دعامة: " المنعم عليهم الأنبياء خاصة ". وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال: " المنعم عليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عمر ". قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر { الصراط المستقيم } بذلك، وعلى ما حكى مكي ينتقض الأول ويكون { الصراط المستقيم } طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وهذا أقوى في المعنى، لأن تسمية أشخاصهم طريقاً تجوز، واختلف القراء في الهاء من { عليهم } ، فقرأ حمزة " عليهُمْ " بضم الهاء وإسكان الميم، وكذلك لديهم وإليهم، قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء واختلفوا في الميم. فروي عن نافع التخيير بين ضمها وسكونها، وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان. وكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ " عليهمو وقلوبهمو وسمعهمو وأبصارهمو ". وقرأ ورش الهاء مكسورة والميم موقوفة، إلا أن تلقى الميم ألفاً أصلية فيلحق في اللفظ واواً مثل قوله:**{ سواء عليهم أأنذرتهم }** [البقرة: 6]. وكان أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، والكسائي، يكسرون، ويسكنون الميم، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم، وابن كثير، ونافع يمضون على كسر الهاء وضم الميم، مثل قوله تعالى:**{ عليهم الذلة }** [البقرة: 61، آل عمران: 112] و**{ من دونهم امرأتين }** [القصص: 23] وما أشبه ذلك، وكان أبو عمرو يكسر الهاء والميم فيقول: { عليهم الذلة } و**{ إليهم اثنين }** [يس: 14] وما أشبه ذلك. وكان الكسائي يضم الهاء والميم معاً، فيقرأ { عليهم الذلة } و { من دونهم امرأتين }. قال أبو بكر أحمد بن موسى: وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم والتسكين في مثل قوله تعالى: منكم وأنتم. قال القاضي أبو محمد: وحكى صاحب الدلائل قال: " قرأ بعضهم عليهمو بواو وضمتين، وبعضهم بضمتين وألغى الواو، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء، وبعضهم بكسرتين وألغى الياء، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال: " وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة ". قال ابن جني: " حكى أحمد بن موسى عليهمو وعليهمُ بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، وعليهم بسكون الميم ". وقرأ الحسن وعمرو بن فائد " عليهمي ". وقرىء " عليهمِ " بكسر الميم دون إشباع إلى الياء. وقرأ الأعرج: " علِيهمُ " بكسر الهاء وضم الميم من غير إشباع. وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات. قوله تعالى: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }. اختلف القراء في الراء من غير، فقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بخفض الراء، وقرأ بن كثير بالنصب، وروي عنه الخفض. قال أبو علي: " الخفض على ضربين: على البدل، من { الذين } ، أو على الصفة للنكرة، كما تقول مررت برجل غيرك، وإنما وقع هنا صفة لـ { الذين } لأن { الذين } هنا ليس بمقصود قصدهم، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه ". قال: " والنصب في الراء على ضربين: على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم، ويجوز النصب على أعني ". وحكي نحو هذا عن الخليل. ومما يحتج به لمن ينصب أن { غير } نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة. والاختيار الذي لا خفاء به الكسر. وقد روي عن ابن كثير، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار. قال أبو بكر بن السراج: " والذي عندي أن { غير } في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة، وهذا شيء فيه نظر ولبس، فليفهم عني ما أقول: اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت غير ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة، فأنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته، ونفي ضده، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة، وذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون، وكذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه، فمتى كانت غير على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة ". قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أبقى أبو بكر { الذين } على حد التعريف، وجوز نعتها بـ { غير } لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع، وغير أبي بكر وقف مع تنكر غير، وذهب إلى تقريب { الذين } من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة، و { المغضوب عليهم } اليهود، والضالون النصارى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهكذا قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد، وروي ذلك عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بين من كتاب الله تعالى، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله:**{ وباؤوا بغضب من الله }** [البقرة: 61، آل عمران: 112]، وكقوله تعالى:**{ قل أؤنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير }** [المائدة: 60] فهؤلاء اليهود، بدلالة قوله تعالى بعده:**{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }** [البقرة: 65] والغضب عليهم هو من الله تعالى، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محناً وعقوبات وذلة ونحو ذلك، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعداً مؤكداً مبالغاً فيه، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فلما ورد ضلوا، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام. وقد قال الله تعالى فيهم:**{ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل }** [المائدة: 77]. قال مكي رحمه الله حكاية: دخلت { لا } في قوله { ولا الضالين } لئلا يتوهم أن { الضالين } عطف على { الذين }. قال: " وقيل هي مؤكدة بمعنى غير ". وحكى الطبري أن { لا } زائدة، وقال: هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز: | **فما ألوم البيض ألا تسخرا- أراد أن تسخر-** | | | | --- | --- | --- | وفي قول الأحوص: [الطويل] | **ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه** | | **وللهو داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ** | | --- | --- | --- | وقال الطبري: يريد: ويلحينني في اللهو أن أحبه ". قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وبيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه فـ " لا " فيه متمكنة. قال الطبري: ومنه قوله تعالى:**{ ما منعك أن لا تسجد }** [الأعراف: 12] وإنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف، ولأنها تقدمها الجحد في صدر الكلام، فسيق الكلام الآخر مناسباً للأول، كما قال الشاعر: | **ما كان يرضي رسول الله فعلهم** | | **والطيبان أبو بكر ولا عمر** | | --- | --- | --- | وقرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب: " غير المغضوب عليهم وغير الضالين ". وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين. قال الطبري: " فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد؟ قيل: هم كذلك ولكن وسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا غير شاف، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم، وتعنتهم، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا، فسمى تعالى ما أحل بهم غضباً، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضباً خاصاً بأفاعيلهم، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر، وليس في العبارة بـ { الضالين } تعلق للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار وتحركت الشجرة والهادم والمحرك غيرهما، وكذلك النصارى خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم. وقرأ أيوب السختياني: " الضألين " بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ: " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن " فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير [الطويل]. | **إذا ما العوالي بالعبيط احْمَأَرَّتِ** | | | | --- | --- | --- | وقول الآخر: [الطويل]. | **وللأرض أما سودُها فتجللَتْ** | | **بياضاً وأمّا بيضُها فادْهأَمَّتِ** | | --- | --- | --- | وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبعُ آيات: { العالمين } آية، { الرحيم } آية، { الدين } آية، { نستعين } آية، { المستقيم } آية، { أنعمت عليهم } آية، { ولا الضالين } آية، وقد ذكرنا في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك. القول في آمين روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قال الإمام: { ولا الضالين } [الفاتحة: 7] فقولوا آمين. فإن الملائكة في السماء تقول آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. وروي **" أن جبريل عليه السلام لما علم النبي عليه السلام فاتحة الكتاب وقت نزولها فقرأها قال له: " قل آمين " ".** وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " آمين خاتم رب العالمين، يختم بها دعاء عبده المؤمن ". وروي **" أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو فقال: " أوجب إن ختم. فقال له رجل بأي شيء يختم يا رسول الله؟ قال: " بآمين " ".** ومعنى " آمين " عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب، أو أجب يا رب، ونحو هذا. قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره، ونص عليه أحمد بن يحيى ثعلب وغيره. وقال قوم: " هو اسم من أسماء الله تعالى " ، روي ذلك عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف، وقد روي أن " آمين " اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال القاضي أبو محمد: فمقتضى هذه الآثار أن كلّ داعٍ ينبغي له في آخر دعائه أن يقول: " آمين " وكذلك كل قارىء للحمد في غير صلاة، لكن ليس بجهر الترتيل. وأما في الصلاة فقال بعض العلماء: " يقولها كل مصلّ من إمام وفذ ومأموم قرأها أو سمعها ". وقال مالك في المدونة: " لا يقول الإمام " آمين " ولكن يقولها من خلفه ويخفون، ويقولها الفذ ". وقد روي عن مالك رضي الله عنه: أن الإمام يقولها أسرّ أم جَهَرَ. وروي عنه: " الإمام لا يؤمن في الجهر ". وقال ابن حبيب: " يؤمن ". وقال ابن بكير: " هو مخير ". قال القاضي أبو محمد عبدالحق رضي الله عنه: فهذا الخلاف إنما هو في الإمام، ولم يختلف في الفذ ولا في المأموم إلا ابن نافع. قال في كتاب ابن حارث: " لا يقولها المأموم إلا إن سمع الإمام يقول { ولا الضالين } [الفاتحة: 7]، وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل ". وقال ابن عبدوس: " يتحرى قدر القراءة ويقول آمين ". وهي لفظة مبنية على الفتح لالتقاء الساكنين، وكأن الفتح مع الياء أخف من سائر الحركات، ومن العرب من يقول " آمين " فيمده، ومنه قول الشاعر: [البسيط] | **آمين آمين لا أرضى بواحدة** | | **حتى أبلغها ألفين آمينا** | | --- | --- | --- | ومن العرب من يقول " أمين " بالقصر، ومنه قول الشاعر: [جبير بن الأضبط]. | **تباعد مني فَطْحَلٌ إذْ رأيتُه** | | **أمين فزاد الله ما بيننا بعدا** | | --- | --- | --- | واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: **" فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة "** فقيل في الإجابة، وقيل في خلوص النية، وقيل في الوقت، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم، والإجابة تتبع حينئذ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراطِ المستقيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
{ بسْم اللهِ الرحمنِ الرحيم } قال ابن عمر: نزلت في كل سورة. وقد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة، أم لا؟ وفيه [عن] أحمد روايتان. واختلفوا: هل هي من الفاتحة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضاً. فأما من قال: إِنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إِذا قال بوجوب الفاتحة، وأما من لم يرها من الفاتحة، فانه يقول: قراءتها في الصلاة سنة. ما عدا مالكاً فانه لا يستحب قراءتها في الصلاة. واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفَّل، وابن الزبير، وابن عباس، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم: الحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وابراهيم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو عبيد في آخرين. وذهب الشافعي إِلى أن الجهر مسنون، وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان، وعطاء، وطاووس، ومجاهد. فأما تفسيرها: فقوله: { بِسمِ الله } اختصار، كأنه قال: أبدأ باسم الله. أو: بدأت باسم الله. وفي الاسم خمس لغات: إِسم بكسر الألف، وأُسم بضم الألف إذا ابتدأت بها، وسم بكسر السين، وسم بضمها، وسما. قال الشاعر: | **والله أَسْماك سماً مباركا** | | **آثرك الله به إيثاركا** | | --- | --- | --- | وأَنشدوا: | **باسم الذي في كل سورةٍ سمه** | | | | --- | --- | --- | قال الفراء: بعض قيس [يقولون:] سمه، يريدون: اسمه، وبعض قضاعة يقولون: سُمُه. أَنشدني بعضهم: | **وعامنا أَعجبنا مقدّمه** | | **يدعى أبا السمح وقرضاب سُمُه** | | --- | --- | --- | والقرضاب: القطاع، يقال: سيف قرضاب. واختلف العلماء في اسم الذي هو «الله»: فقال قوم: إِنه مشتق، وقال آخرون: إنه علم ليس بمشتق. وفيه عن الخليل روايتان. إِحداهما: أنه ليس بمشتق، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن. والثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتق. وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من: أله الرجل يأله: إِذا فزع اليه من أمر نزل به. فألهه، أي: أجاره وأمَّنه، فسمي إِلهاً كما يسمّى الرجل إِماماً. وقال غيره: أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل: إِله كما قالوا: وسادة إِسادة، ووشاح وإِشاح. واشتق من الوله، لأن قلوب العباد توله نحوه. كقوله تعالى:**{ ثم إذا مسكم الضر فاليه تجأرون }** [النحل: 53]. وكان القياس أن يقال: مألوه، كما قيل: معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علماً، كما قالوا للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب. وقال بعضهم: أصله من: أله الرجل يأله إِذا تحير، لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته. وحكي عن بعض اللغويين: أله الرجل يأله إِلاهة، بمعنى: عبد يعبد عبادة. وروي عن ابن عباس أنه قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ويذرك وءالهتك }** [الأعراف: 127] أي: عبادتك. قال: والتأله: التعبد. قال رؤبة: | **لله در الغانيات المدَّه** | | **سبَّحن واسترجعن من تألهي** | | --- | --- | --- | فمعنى الإِله: المعبود. فأما «الرَّحمن»: فذهب الجمهور إِلى أنه مشتق من الرحمة، مبني على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها. وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة، فانهم يقولون للتشديد الامتلاء: ملآن، وللشديد الشبع: شبعان. قال الخطابي: فـ «الرحمن»: ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر. و «الرحيم»: خاصٌ للمؤمنين. قال عز وجل:**{ وكان بالمؤمنين رحيما }** [الأحزاب: 43]. والرحِيم: بمعنى الراحم. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن فقال: **" والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة، ولا في الانجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ".** فمن أسمائها: الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة. ومن أسمائها: أم القرآن، وأم الكتاب، لأنها أمت الكتاب بالتقدم. ومن أسمائها: السَّبع المثاني، وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في (الحجر) إن شاء الله. واختلف العلماء في نزولها على قولين. أحدهما: أنها مكية، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وأبي العالية، وقتادة، وأبي ميسرة. والثاني: أنها مدنية، وهو مرويّ عن أبي هريرة، ومجاهد، وعبيد بن عمير، وعطاء الخراساني. وعن ابن عباس كالقولين. فصل فأما تفسيرها فـ { الْحَمْدُ } رفع بالابتداء، و { لله } الخبر. والمعنى: الحمد ثابت لله، ومستقرّ له، والجمهور على كسر لام «لله» وضمها ابن عبلة، قال الفراء: هي لغة بعض بني ربيعة، وقرأ ابن السَّميفع: «الحمد» بنصب الدال «لله» بكسر اللام. وقرأ أبو نهيك. بكسر الدال واللام جميعا. واعلم أن الحمد: ثناء على المحمود، ويشاركه الشكر، إلا أن بينهما فرقاً، وهو: أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء، والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة، وقيل: لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، فتقديره: قولوا: الحمد لله. وقال ابن قتيبة: الحمد: الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة، وأشباه ذلك. والشكر: الثناء عليه بمعروف أولا كه، وقد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال: حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرت له على شجاعته. فأما «الرب» فهو المالك، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة، فيقال: هذا رب الدار، ورب العبد. وقيل هو مأخوذ من التربية. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: ربّ فلان صنيعته يربها رباً: إذا أتمها وأصلحها، فهو ربّ ورابٌ. قال الشاعر: | **يربّ الذي يأتي من الخير إنه** | | **إذا سئل المعروف زاد وتمُّما** | | --- | --- | --- | قال: والرب يقال على ثلاثة أوجه. أحدها: المالك. يقال رب الدار. والثاني: المصلح، يقال: رب الشيء. والثالث: السيد المطاع. قال تعالى:**{ فيسقى ربَّه خمراً }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | [يوسف: 41]. والجمهور على خفض باء «ربِّ». وقرأ أبو العالية، وابن السَّميفع، وعيسى ابن عمر بنصبها. وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خيثم، وأبو عمران الجوني برفعها. فأما { الْعَالَمِينَ } فجمع عالم، وهو عند أهل العربية: اسم للخلق من مبدئهم إلى منتهاهم، وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالماً. فقال الحطيئة: | **تنحي فاجلسي مني بعيدا** | | **أراح الله منك العالمينا** | | --- | --- | --- | فأما أهل النظر، فالعلم عندهم: اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلكٍ، وسماء، وأرض، وما بين ذلك. وفي اشتقاق العالم قولان. أحدهما: أنه من العلم، وهو يقوي قول أهل اللغة. والثاني: أنه من العلامة، وهو يقوي قول أهل النظر، فكأنه إنما سمي عندهم بذلك، لانه دالٌ على خالقه. وللمفسرين في المراد بـ «العالمين» ها هنا خمسة أقوال: أحدها: الخلق كله، السموات والأرضون وما فيهنّ وما بينهن. رواه الضحّاك عن ابن عباس. والثاني: كل ذي روح دب على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم الجن والإنس. روي ايضا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، ومقاتل. والرابع: أنهم الجن والإنس والملائكة، نقل عن ابن عباس أيضا، واختاره ابن قتيبة. والخامس: أنهم الملائكة، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. قوله تعالى: { الرَّحْمن الرَّحِيمِ } قرأ أبو العالية، وابن السميفع، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما، وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خيثم، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ)
{ بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك للابتداء بها، وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه رحمهم الله، ولذا لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقراء مكة والكوفة على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله، ولذا يجهرون بها في الصلاة وقالوا: قد أثبتها السلف في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن عما ليس منه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله. ولنا حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي عليه السلام يقول: **" قال الله تعالى قسمت الصلاة ـ أي الفاتحة ـ بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } قال: مجدني عبدي. وإذا قال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ \* صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "** فالابتداء بقوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة، وإذا لم تكن من الفاتحة لا تكون من غيرها إجماعاً، والحديث مذكور في صحاح المصابيح. وما ذكروا لا يضرنا لأن التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور عندنا ذكره فخر الإسلام في المبسوط. وإنما يرد علينا أن لو لم نجعلها آية في القرآن وتمام تقريره في «الكافي». وتعلقت الباء بمحذوف تقديره: باسم الله أقرأ أو أتلو، لأن الذي يتلو التسمية مقروء كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال باسم الله والبركات كان المعنى باسم الله أحل وباسم الله أرتحل، وكذا الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له. وإنما قدر المحذوف متأخراً لأن الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به، وكانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات وباسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذا بتقديمه وتأخير الفعل. وإنما قدم الفعل في**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ }** [العلق: 1] لأنها أول سورة نزلت في قول، وكان الأمر بالقراءة أهم فكان تقديم الفعل أوقع. ويجوز أن يحمل { ٱقْرَأْ } على معنى افعل القراءة وحققها كقولهم فلان يعطي ويمنع غير متعدٍ إلى مقروء به، وأن يكون { بِٱسْمِ رَبّكَ } مفعول { ٱقْرَأْ } الذي بعده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واسم الله يتعلق بالقراءة تعلق الدهن بالإنبات في قوله**{ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ }** [المؤمنون: 20] على معنى متبركاً باسم الله أقرأ ففيه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه. وبنيت الباء على الكسر لأنها تلازم الحرفية والجر فكسرت لتشابه حركتها عملها، والاسم من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون كالابن والابنة وغيرهما؛ فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفادياً عن الابتداء بالساكن تعذراً، وإذا وقعت في الدرج لم يفتقر إلى زيادة شيء. ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن فقال «سم» و«سم» وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز كيد ودم وأصله «سمو» بدليل تصريفه كأسماء وسمي وسميت. واشتقاقه من السمو وهو الرفعة لأن التسمية تنويه بالمسمّى وإشادة بذكره، وحذفت الألف في الخط هنا وأثبتت في قوله: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } لأنه اجتمع فيها ـ أي في التسمية ـ مع أنها تسقط في اللفظ لكثرة الاستعمال، وطولت الباء عوضاً عن حذفها، وقال عمر بن عبد العزيز لكاتبه: طول الباء وأظهر السينات ودور الميم، والله أصله الإله ونظيره الناس أصله الأناس، حذفت الهمزة وعوض منها حرف التعريف. والإله من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا. وأما الله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره، وهو اسم غير صفة لأنك تصفه ولا تصف به، لا تقول شيء إله كما لا تقول شيء رجل، وتقول الله واحد صمد، ولأن صفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه فلو جعلتها كلها صفات لبقيت صفات غير جارية على اسم موصوف بها وذا لا يجوز. ولا اشتقاق لهذا الاسم عند الخليل والزجاج ومحمد ابن الحسن والحسين بن الفضل. وقيل: معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم «أله» إذا تحير ينتظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن ولذا كثر الضلال وفشا الباطل وقل النظر الصحيح. وقيل: هو من قولهم أله يأله إلاهاً إذا عبد فهو مصدر بمعنى مألوه أي معبود كقوله**{ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ }** [لقمان: 11] أي مخلوقه. وتفخم لامه إذا كان قبلها فتحة أو ضمة، وترقق إذا كان قبلها كسرة. ومنهم من يرققها بكل حال، ومنهم من يفخم بكل حال والجمهور على الأول. والرحمن فعلان من رحم وهو الذي وسعت رحمته كل شيء كغضبان من غضب وهو الممتلىء غضباً، وكذا الرحيم فعيل منه كمريض من مرض. وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم لأن في الرحيم زيادة واحدة وفي الرحمن زيادتين، وزيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى، ولذا جاء في الدعاء يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقالوا: الرحمن خاص تسمية لأنه لا يوصف به غيره، وعام معنى لما بينا. والرحيم بعكسه لأنه يوصف به غيره ويخص المؤمنين ولذا قدم الرحمن وإن كان أبلغ والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى. يقال: فلان عالم ذو فنون نحرير لأنه كالعلم لما لم يوصف به غير الله، ورحمة الله إنعامه على عباده وأصلها العطف وأما قول الشاعر في مسيلمة: | **وأنت غيـث الورى لا زلـت رحمانـا** | | | | --- | --- | --- | فباب من تعنتهم في كفرهم. ورحمن غير منصرف عند من زعم أن الشرط انتفاء فعلانة إذ ليس له فعلانة، ومن زعم أن الشرط وجود فعلي صرفه إذ ليس له فعلى، والأول أوجه. { ٱلْحَمْدُ } الوصف بالجميل على جهة التفضيل، وهو رفع بالابتداء وأصله النصب. وقد قرىء بإضمار فعله على أنه من المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً وكفراً. والعدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره والخبر. { لِلَّهِ } واللام متعلق بمحذوف أي واجب أو ثابت. وقيل: الحمد والمدح أخوان وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها. تقول: حمدت الرجل على إنعامه وحمدته على شجاعته وحسبه، وأما الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال: | **أفادتكم النعماء مني ثلاثة** | | **يدي ولساني والضمير المحجبا** | | --- | --- | --- | أي القلب، والحمد باللسان وحده وهو إحدى شعب الشكر ومنه الحديث **" الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده "** وجعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان أشيع لها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب وما في عمل الجوارح من الاحتمال، ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفران. وقيل: المدح ثناء على ما هو له من أوصاف الكمال ككونه باقياً قادراً عالماً أبدياً أزلياً، والشكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الإفضال والحمد يشملهما. والألف واللام فيه للإستغراق عندنا خلافاً للمعتزلة، ولذا قرن باسم الله لأنه اسم ذات فيستجمع صفات الكمال وهو بناء على مسألة خلق الأفعال وقد حققته في مواضع. { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الرب المالك ومنه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن. تقول ربه يربه رباً فهو رب، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل. ولم يطلقوا الرب إلاّ في الله وحده وهو في العبيد مع التقييد**{ إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَّ }** [يوسف: 23]**{ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ }** [يوسف: 50]، وقال الواسطي: هو الخالق ابتداء، والمربي غذاء، والغافر انتهاء. وهو اسم الله الأعظم والعالم كل ما علم به الخالق من الأجسام والجواهر والأعراض، أو كل موجود سوى الله تعالى سمي به لأنه علم على وجوده. وإنما جمع بالواو والنون مع أنه يختص بصفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام لما فيه من معنى الوصفية وهي الدلالة على معنى العلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ذكرهما قد مر وهو دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة إذ لو كانت منها لما أعادهما لخلو الإعادة عن الإفادة. { مَـٰلِكِ }: عاصم وعليّ ملك: غيرهما وهو الاختيار عند البعض لاستغنائه عن الإضافة ولقوله:**{ لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ }** [غافر: 16] ولأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً، ولأن أمر الملك ينفذ على المالك دون عكسه. وقيل: المالك أكثر ثواباً لأنه أكثر حروفاً. وقرأ أبو حنيفة والحسن رضي الله عنهما «ملك» { يَوْمِ ٱلدّينِ } أي يوم الجزاء ويقال كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى، وهذه إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع كقولهم: | **يا سارق الليلة أهل الدار** | | | | --- | --- | --- | أي مالك الأمر كله في يوم الدين. والتخصيص بيوم الدين لأن الأمر فيه لله وحده، وإنما ساغ وقوعه صفة للمعرفة مع أن إضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية لأنه أريد به الاستمرار فكانت الإضافة حقيقية، فساغ أن يكون صفة للمعرفة، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه رباً أي مالكاً للعالمين ومنعماً بالنعم كلها ومالكاً للأمر كله يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه. { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } «إيا» عند الخليل وسيبويه اسم مضمر، والكاف حرف خطاب عند سيبويه ولا محل له من الإعراب. وعند الخليل هو اسم مضمر أضيف «إيا» إليه لأنه يشبه المظهر لتقدمه على الفعل والفاعل. وقال للكوفيون: إياك بكمالها اسم وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، والمعنى نخصك بالعبادة وهي أقصى غاية الخضوع والتذلل، ونخصك بطلب المعونة، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب للالتفات، وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى:**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ }** [يونس: 22]، وقوله:**{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِي أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ }** [فاطر: 9]، وقول امريء القيس: | **تطاول ليلك بالإثمد** | | **ونام الخلي ولم ترقد** | | --- | --- | --- | | **وبات وباتت له ليلة** | | **كليلة ذي العائر الأرمد** | | **وذلك من نبإٍ جاءني** | | **وخبرته عن أبي الأسود** | فالتفت في الأبيات الثلاثة حيث لم يقل ليلي وبت وجاءك، والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبوب عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه وأملأ لاستلذاذ إصغائه، وقد تختص مواقعه بفوائد ولطائف قلما تتضح إلا للحذاق المهرة والعلماء النحارير وقليل ما هم. ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد والثناء، وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة، أو لنظم الآي كما قدم الرحمن، وإن كان الأبلغ لا يقدم. وأطلقت الاستعانة لتتناول كل مستعان، فيه، ويجوز أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادات ويكون قوله: «اهدنا» بياناً للمطلوب من المعونة كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أي ثبتنا على المنهاج الواضح كقولك للقائم: قم حتى أعود إليك أي أثبت على ما أنت عليه. أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال. وهدى يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، فأما تعديه إلى مفعول آخر فقد جاء متعدياً إليه بنفسه كهذه الآية، وقد جاء متعدياً باللام وبإلى كقوله تعالى:**{ هَدَانَا لِهَـٰذَا }** [الأعراف: 43] وقوله:**{ هَدَانِي رَبّي إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الأنعام: 161]. والسراط: الجادة من سرط الشيء إذا ابتلعه كأنه يسرط السابلة إذا سلكوه. والصراط من قلب السين صاداً لتجانس الطاء في الإطباق لأن الصاد والضاد والطاء والظاء من حروف الإطباق، وقد تشم الصاد صوت الزاي لأن الزاي إلى الطاء أقرب لأنهما مجهورتان وهي قراءة حمزة، والسين قراءة ابن كثير في كل القرآن وهي الأصل في الكلمة، والباقون بالصاد الخالصة وهي لغة قريش وهي الثابتة في المصحف الإمام، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل، والمراد به طريق الحق وهو ملة الإسلام. { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط وهو في حكم تكرير العامل، وفائدته التأكيد والإشعار بأن الصراط المستقيم تفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده وهم المؤمنون و الأنبياء عليهم السلام أو قوم موسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يغيروا { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } بدل من الذين أنعمت عليهم، يعني أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال أو صفة للذين، يعني أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال. وإنما ساغ وقوعه صفة للذين وهو معرفة و «غير» لا يتعرف بالإضافة لأنه إذا وقع بين متضادين وكانا معرفتين تعرف بالإضافة نحو »عجبت من الحركة غير السكون«. والمنعم عليهم والمغضوب عليهم متضادان، ولأن الذين قريب من النكرة لأنه لم يرد به قوم بأعيانهم »وغير المغضوب عليهم« قريب من المعرفة للتخصيص الحاصل له بإضافته، فكل واحد منهما فيه إبهام من وجه واختصاص من وجه فاستويا. »وعليهم« الأولى محلها النصب على المفعولية، ومحل الثانية الرفع على الفاعلية. وغضب الله إرادة الانتقام من المكذبين وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على ما تحت يده. وقيل: المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى:**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** [المائدة: 60] والضالون هم النصارى لقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ }** [المائدة: 77]، »ولا« زائدة عند البصريين للتوكيد، وعند الكوفيين هي بمعنى غير. آمين صوت سمي به الفعل الذي هو استجب كما أن رويد اسم لأمهل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين فقال: «افعل» وهو مبني وفيه لغتان: مد ألفه وقصرها وهو الأصل والمد بإشباع الهمزة قال: | **يا رب لا تسلبّني حبها أبدا** | | **ويرحم الله عبداً قال آمينا** | | --- | --- | --- | وقال: آمين فزاد الله ما بيننا بعداً. قال عليه السلام: **" لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب "** وقال: إنه كالختم على الكتاب. وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل/ الخازن (ت 725 هـ)
قوله عز وجل: { الحمد لله } لفظه خبر كأنه سبحانه وتعالى يخبر أن المستحق للحمد هو الله تعالى، ومعناه الأمر أي قولوا الحمد لله وفيه تعليم الخلق كيف يحمدونه والحمد والمدح أخوان، وقيل بينهما فرق وهو أن المدح قد يكون قبل الإحسان وبعده والحمد لا يكون إلا بعد الإحسان، وقيل إن المدح قد يكون منهياً عنه، وأما الحمد فمأمور به، والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ويكون بمعنى الثناء بجميل الأفعال، تقول: حمدت الرجل على علمه وكرمه والشكر لا يكون إلا على النعمة، فالحمد أعم من الشكر، إذ لا تقول شكرت فلاناً على علمه فكل حامد شاكر وليس كل شاكر حامداً، وقيل: الحمد باللسان قولاً، والشكر بالأركان فعلاً، والحمد ضد الذم واللام في لله لام الاستحقاق كقولك الدار لزيد يعني أنه المستحق للحمد لانه المحسن المتفضل على كافة الخلق على الإطلاق { رب العالمين } الرب بمعنى المالك كما يقال رب الدار ورب الشيء أي مالكه ويكون بمعنى التربية والإصلاح، يقال: رب فلان الضيعة يربها إذا أصلحها فالله تعالى، مالك العالمين ومربيهم ومصلحهم، ولا يقال الرب للمخلوق معرفاً بل يقال رب الشيء مضافاً. والعالمين جمع عالم لا واحد له من لفظه، وهو اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه جميع الخلق. وقال ابن عباس: هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب وقيل العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والجن والإنس ولا يقال للبهائم عالم لأنها لا تعقل. واختلف في مبلغ عددهم فقيل لله ألف عالم ستمائة عالم في البحر وأربعمائة في البر. وقيل ثمانون ألف عالم أربعون ألفاً في البر ومثلهم في البحر. وقيل ثمانية عشر ألف عالم الدنيا منها عالم واحد وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء. الفسطاط الخيمة واشتقاق العالم من العلم وقيل من العلامة، وإنما سمي بذلك لأنه دال على الخالق سبحانه وتعالى { الرحمن الرحيم } فالرحمن هو المنعم بما لا يتصور صدور تلك النعمة من العباد، والرحيم هو المنعم بما يتصور صدور تلك النعمة من العباد، فلا يقال لغير الله رحمن، ويقال لغيره من العباد رحيم. فإن قلت قد سمي مسيلمة الكذاب برحمان اليمامة وهو قول شاعرهم فيه: وأنت غيث الورى لا زلت رحماناً. قلت هو من باب تعنتهم في كفرهم ومبالغتهم في مدح صاحبهم فلا يلتفت إلى قولهم هذا. فإن قلت: قد ذكر الرحمن الرحيم في البسملة فما فائدة تكريره هنا مرة ثانية. قلت: ليعلم أن العناية بالرحمة أكثرها من غيرها من الأمور وأن الحاجة إليها أكثر فنبه سبحانه وتعالى بتكرير ذكر الرحمة على كثرتها وأنه هو المتفضل بها على خلقه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قوله تعالى: { مالك يوم الدين } يعني أنه تعالى صاحب ذلك اليوم الذي يكون فيه الجزاء. والمالك هو المتصرف بالأمر والنهي، وقيل: هو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى. وقيل: مالك أوسع من ملك لأنه يقال مالك العبد والدابة ولا يقال ملك هذه الأشياء ولأنه لا يكون ملكاً لشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون مالكاً لشيء ولا يملكه وقيل ملك أولى، لأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً وقيل هما بمعنى واحد مثل فرهين وفارهين، قال ابن عباس: مالك يوم الدين قاضي يوم الحساب. وقيل: الدين الجزاء ويقع على الخير والشر يقال كما تدين تدان وقيل هو يوم لا ينفع فيه إلا الدين وقيل الدين القهر. يقال: دنته فدان أي قهرته فذل. فإن قلت: لم خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكاً للأيام كلها؟ قلت: لأن ملك الأملاك يومئذ زائل فلا ملك ولا أمر يومئذ إلا لله تعالى كما قال تعالى:**{ الملك يومئذ الحق للرحمن }** [الفرقان: 26] وقال:**{ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }** [غافر: 16] وقد يسمى في دار الدنيا آحاد الناس بالملك وذلك على المجاز لا على الحقيقة. قوله تعالى: { إياك نعبد } رجع من الخبر إلى الخطاب، وفائدة ذلك من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى. ومن قوله: إياك نعبد دعاء والخطاب في الدعاء أولى. وقيل فيه ضمير أي قولوا: إياك نعبد والمعنى إياك نخص بالعبادة ونوحدك ونطيعك خاضعين لك. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده. وقيل: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤدي به الفرض لتعظيم الله تعالى، فقول العبد إياك نعبد معناه لا أعبد أحداً سواك، والعبادة غاية التذلل من العبد ونهاية التعظيم للرب سبحانه وتعالى لأنه العظيم المستحق للعبادة ولا تستعمل العبادة إلا في الخضوع لله تعالى لأنه مولى أعظم النعم وهي إيجاد العبد من العدم إلى الوجود ثم هداه إلى دينه فكان العبد حقيقاً بالخضوع والتذلل به { وإياك نستعين } أي منك نطلب المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا. فإن قلت: الاستعانة على العمل إنما تكون قبل الشروع فيه فلم أخر الاستعانة على العبادة وما الحكمة فيه؟. قلت ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن هذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل ونحن بحمد الله نجعل التوفيق والاستطاعة مع الفعل فلا فرق بين التقديم والتأخير. الثاني أن الاستعانة نوع تعبد فكأنه ذكر جملة العبادة أولاً ثم ذكر ما هو من تفاصيلها ثانياً. الثالث كأن العبد يقول شرعت في العبادة فإني أستعين بك على إتمامها فلا يمنعني من إتمامها مانع. الرابع إن العبد إذا قال إياك نعبد حصل له الفخر وذلك منزلة عظيمة فيحصل بسبب ذلك العجب فأردف ذلك بقوله وإياك نستعين ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة { اهدنا الصراط المستقيم } أي أرشدنا، وقيل ثبتنا، وهو كما تقول للقائم قم حتى أعود إليك ومعناه دم على ما أنت عليه وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية يعني سؤال التثبيت وطلب مزيد الهداية لأن الألطاف والهدايات من الله لا تتناهى وهذا مذهب أهل السنّة والصراط الطريق، قال جرير: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم** | | | | --- | --- | --- | أي على طريقة حسنة، قال ابن عباس: هو دين الإسلام، وقيل هو القرآن وروى ذلك مرفوعاً. وقيل السنّة والجماعة وقيل معناه اهدنا صراط المستحقين للجنة { صراط الذين أنعمت عليهم } هذا بدل من الأول، أي الذين مننت عليهم بالهداية والتوفيق، وهم الأنبياء والمؤمنين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله:**{ فأولـئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين }** [النساء: 69] وقال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى الذين لم يغيّروا ولم يبدلوا وقيل هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته { غير المغضوب عليهم } يعني غير صراط الذين غضبت عليهم. والغضب في الأصل هو ثوران دم القلب لإرادة الانتقام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: **" اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه "** وإذا وصف الله به فالمراد منه الانتقام فقط دون غيره وهو انتقامه من العصاة وغضب الله لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين { ولا الضالين } أي وغير الضالين عن الهدى وأصل الضلال الغيبوبة والهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه وهلك وقيل غير المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى. عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال "** أخرجه الترمذي، وذلك لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال:**{ من لعنه الله وغضب عليه }** [المائدة: 60] وحكم على النصارى بالضلال فقال:**{ ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل }** [المائدة: 77]ٍ وقيل: غير المغضوب عليهم بالبدعة ولا الضالين عن السنة والله أعلم. فصل: في آمين وحكم الفاتحة وفيه مسألتان: الأولى: السنّة للقارئ بعد فراغه من الفاتحة أن يقول آمين مفصولاً عنها بسكتة، وهو مخفف وفيه لغتان المد والقصر قال في المد: ويرحم الله عبداً قال آمينا. وقال في القصر: آمين فزاد الله ما بيننا بعداً. ومعنى آمين اللهم اسمع واستجب. وقال ابن عباس: معناه كذلك يكون. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقيل هو خاتم الله تعالى على عباده به يدفع عنهم الآثام ق عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين وفي رواية للبخاري **" أن الإمام إذا قرا غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ".** قوله: فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة. معناه وافقهم في وقت التأمين فأمن مع تأمينهم، وقيل: وافقهم في الصفة والخشوع والإخلاص والقول الأول هو الصحيح. واختلفوا في هؤلاء الملائكة فقيل هم الحفظة وقيل غيرهم من الملائكة. قوله غفر له ما تقدم من ذنبه: يعني تغفر له الذنوب الصغائر دون الكبائر وقول ابن شهاب: كان رسول الله صلى عليه وسلم يقول آمين معناه أن هذه صيغة تأمينه صلى الله عليه وسلم. المسألة الثانية في حكم الفاتحة: اختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة فذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى وجوب الفاتحة وأنها متعينة في الصلاة ولا تجزئ إلا بها، واحتجوا بما روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب "** أخرجاه في الصحيحين وبحديث أبي هريرة: **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثاً غير تمام "** الحديث وقد تقدم في فضل سورة الفاتحة وذهب أبو حنيفة إلى أن الفاتحة لا تتعين على المصلي بل الواجب عليه قراءة آية من القرآن طويلة أو ثلاث آيات قصار واحتج بقوله تعالى:**{ فاقرءوا ما تيسر منه }** [المزمل: 20] وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي المسيء صلاته **" ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن "** أخرجاه في الصحيحين دليل الجمهور ما تقدم من الأحاديث. فإن قيل المراد من الحديث لا صلاة كاملة قلنا هذا خلاف ظاهر لفظ الحديث ومما يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب "** أخرجه الدارقطني وقال إسناده صحيح وعنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد " أخرجه أبو داود. وأجيب عن حديث الأعرابي بأنه محمول على الفاتحة فإنها متيسرة أو على ما زاد على الفاتحة أو على العاجز عن قراءة الفاتحة، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ)
{ بسم الله الرحمن الرحيم } باء الجر تأتي لمعان: للإلصاق، والاستعانة، والقسم، والسبب، والحال، والظرفية، والنقل. فالإلصاق: حقيقة مسحت برأسي، ومجازاً مررت بزيد. والاستعانة: ذبحت بالسكين. والسبب:**{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا }** [النساء: 160]. والقسم: بالله لقد قام. والحال: جاء زيد بثيابه. والظرفية: زيد بالبصرة. والنقل: قمت بزيد. وتأتي زائدة للتوكيد: شربن بماء البحر. والبدل: فليت لي بهم قوماً أي بدلهم. والمقابلة: اشتريت الفرس بألف. والمجاوزة: تشقق السماء بالغمام أي عن الغمام. والاستعلاء: من أن تأمنه بقنطار. وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة، وزاد فيها كونها للتعليل. وكنى عن الاستعانة بالسبب، وعن الحال، بمعنى مع، بموافقة معنى اللام. ويقال اسم بكسر همزة الوصل وضمها، وسم بكسر السين وضمها، وسمي كهدي، والبصري يقول: مادته سين وميم وواو، والكوفي يقول: واو وسين وميم، والأرجح الأول. والاستدلال في كتب النحو: أل للعهد في شخص أو جنس، وللحضور، وللمح الصفة، وللغلبة، وموصولة. فللعهد في شخص: جاء الغلام، وفي جنس: اسقني الماء، وللحضور: خرجت فإذا الأسد، وللمح: الحارث، وللغلبة: الدبران. وزائدة لازمة، وغير لازمة، فاللازمة: كالآن، وغير اللازمة: باعد أم العمر من أسيرها، وهل هي مركبة من حرفين أم هي حرف واحد؟ وإذا كانت من حرفين، فهل الهمزة زائدة أم لا؟ مذاهب. والله علم لا يطلق إلا على المعبود بحق مرتحل غير مشتق عند الأكثرين، وقيل مشتق، ومادته قيل: لام وياء وهاء، من لاه يليه، ارتفع. قيل: ولذلك سميت الشمس إلاهه، بكسر الهمزة وفتحها، وقيل: لام وواو وهاء من لاه يلوه لوهاً، احتجب أو استتار، ووزنه إذ ذاك فعل أو فعل، وقيل: الألف زائدة ومادته همزة ولام، من أله أي فزع، قاله ابن إسحاق، أو أله تحير، قاله أبو عمر، وأله عبد، قاله النضر، أو أله سكن، قاله المبرد. وعلى هذه الأقاويل فحذفت الهمزة اعتباطاً، كما قيل في ناس أصله أناس، أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام، وكلا القولين شاذ. وقيل: مادته واو ولام وهاء، من وله، أي طرب، وأبدلت الهمزة فيه من الواو نحو أشاح، قاله الخليل والقناد، وهو ضعيف للزوم البدل. وقولهم في الجمع آلهة، وتكون فعالاً بمعنى مفعول، كالكتاب يراد به المكتوب. وأل في الله إذا قلنا أصله الإلاه، قالوا للغلبة، إذ الإله ينطلق على المعبود بحق وباطل، والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق، فصار كالنجم للثريا. وأورد عليه بأنه ليس كالنجم، لأنه بعد الحذف والنقل أو الإدغام لم يطلق على كل إله، ثم غلب على المعبود بحق، ووزنه على أن أصله فعال، فحذفت همزته عال. وإذا قلنا بالأقاويل السابقة، فأل فيه زائدة لازمة، وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك شذوذ حذف الألف في أقبل سيل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أقبل جاء من عند الله. وزعم بعضهم أن أل في الله من نفس الكلمة، ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال، وهو اختيار أبي بكر بن العربي والسهيلي، وهو خطأ، لأن وزنه إذ ذاك يكون فعالاً، وامتناع تنوينه لا موجب له، فدل على أن أل حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين. وينفرد هذا الإسم بأحكام ذكرت في علم النحو، ومن غريب ما قيل: إن أصله لاها بالسريانية فعرب، قال: | **كحلفة من أبي رياح** | | **يسمعها لاهه الكبار** | | --- | --- | --- | قال أبو يزيد البلخي: هو أعجمي، فإن اليهود والنصارى يقولون لاها، وأخذت العرب هذه اللفظة وغيروها فقالوا الله. ومن غريب ما قيل في الله أنه صفة وليس اسم ذات، لأن اسم الذات يعرف به المسمى، والله تعالى لا يدرك حساً ولا بديهة، ولا تعرف ذاته باسمه، بل إنما يعرف بصفاته، فجعله اسماً للذات لا فائدة في ذلك. وكان العلم قائماً مقام الإشارة، وهي ممتنعة في حق الله تعالى، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللاه اسم الفاعل من لها يلهو، وقيل طرحت تخفيفاً، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط. { الرحمن }: فعلان من الرحمة، وأصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعدي، وأل فيه للغلبة، كهي في الصعق، فهو وصف لم يستعمل في غير الله، كما لم يستعمل اسمه في غيره، وسمعنا مناقبه، قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ووصف غير الله به من تعنت الملحدين، وإذا قلت الله رحمن، ففي صرفه قولان ليسند أحدهما إلى أصل عام، وهو أن أصل الإسم الصرف، والآخر إلى أصل خاص، وهو أن أصل فعلان المنع لغلبته فيه. ومن غريب ما قيل فيه إنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء، قاله ثعلب. { الرحيم }: فعيل محوّل من فاعل للمبالغة، وهو أحد الأمثلة الخمسة، وهي: فعال، وفعول، ومفعال، وفعيل، وفعل، وزاد بعضهم فعيلاً فيها: نحو سكير، ولها باب معقود في النحو، وقيل: وجاء رحيم بمعنى مرحوم، قال العملس بن عقيل: | **فأما إذا عضت بك الأرض عضة** | | **فإنك معطوف عليك رحيم** | | --- | --- | --- | قال علي، وابن عباس، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، وعطاء، وابن جبير، ومحمد بن يحيـى بن حبان، وجعفر الصادق، الفاتحة مكية، ويؤيده**{ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم }** [الحجر: 87]. والحجر مكية، بإجماع. وفي حديث أبي: **" إنها السبع المثاني والسبع الطوال "** ، أنزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير { الحمد لله رب العالمين }. وقال أبو هريرة، وعطاء بن يسار، ومجاهد، وسواد بن زياد، والزهري، وعبد الله بن عبيد بن عمير: هي مدنية، وقيل إنها مكية مدنية. الباء في بسم الله للاستعانة، نحو كتبت بالقلم، وموضعها نصب، أي بدأت، وهو قول الكوفيين، وكذا كل فاعل بدىء في فعله بالتسمية كان مضمراً لا بدأ، وقدره الزمخشري فعلاً غير بدأت وجعله متأخراً، قال: تقديره بسم الله أقرأ أو أتلو، إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء، والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص، وليس كما زعم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال سيبويه: وقد تكلم على ضربت زيداً ما نصه: وإذا قدمت الإسم فهو عربي جيد كما كان ذلك، يعني تأخيره عربياً جيداً وذلك قولك زيداً ضربت. والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير، سواء مثله في ضرب زيد عمر، أو ضرب زيداً عمر، وانتهى، وقيل موضع اسم رفع التقدير ابتدائي بأبت، أو مستقر باسم الله، وهو قول البصريين، وأي التقديرين أرجح يرجح الأول، لأن الأصل في العمل للفعل، أو الثاني لبقاء أحد جزأي الإسناد. والإسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان، إن كان محسوساً، وفي الأذهان، إن كان معقولاً من غير تعرض ببنيته للزمان، ومدلوله هو المسمى، ولذلك قال سيبويه: (فالكل اسم وفعل وحرف)، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلاً على ذلك المعنى، فقد اتضحت المباينة بين الإسم والمسمى والتسمية. فإذا أسندت حكماً إلى اسم، فتارة يكون إسناده إليه حقيقة، نحو: زيد اسم ابنك، وتارة لا يصح الإسناد إليه إلا مجازاً، وهو أن تطلق الإسم وتريد به مدلوله وهو المسمى، نحو قوله تعالى:**{ تبارك اسم ربك }** [الرحمن: 78]،**{ سبح اسم ربك }** [الأعلى: 1]،**{ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم }** [يوسف: 40]. والعجب من اختلاف الناس، هل الإسم هو عين المسمى أو غيره، وقد صنف في ذلك الغزالي، وابن السيد، والسهيلي وغيرهم، وذكروا احتجاج كل من القولين، وأطالوا في ذلك. وقد تأول السهيلي، رحمه الله، قوله تعالى:**{ سبح اسم ربك }** [الأعلى: 1] بأنه أقحم الإسم تنبيهاً على أن المعنى سبح ربك، واذكر ربك بقلبك ولسانك حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان، لأن الذكر بالقلب متعلقة المسمى المدلول عليه بالإسم، والذكر باللسان متعلقة اللفظ. وقوله تعالى:**{ ما تعبدون من دونه إلا أسماء }** [يوسف: 40] بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها، وهذا من المجاز البديع. وحذفت الألف من بسم هنا في الخط تخفيفاً لكثرة الاستعمال، فلو كتبت باسم القاهر أو باسم القادر. فقال الكسائي والأخفش: تحذف الألف. وقال الفراء: لا تحذف إلا مع { بسم الله الرحمن الرحيم } ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه، فأما في غيره من أسماء الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف. والرحمن صفة لله عند الجماعة. وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل، وزعم أن الرحمن علم، وإن كان مشتقاً من الرحمة، لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم، بل هو مثل الدبران، وإن كان مشتقاً من دبر صيغ للعلمية، فجاء على بناء لا يكون في النعوت، قال: ويدل على علميته ووروده غير تابع لاسم قبله، قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ الرحمن على العرش استوى }** [طه: 5]**{ الرحمن علم القرآن }** [الرحمن: 1 - 2] وإذا ثبتت العلمية امتنع النعت، فتعين البدل. قال أبو زيد السهيلي: البدل فيه عندي ممتنع، وكذلك عطف البيان، لأن الإسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، لأنه أعرف الأعلام كلها وأبينها، ألا تراهم قالوا: وما الرحمن، ولم يقولوا: وما الله، فهو وصف يراد به الثناء، وإن كان يجري مجرى الإعلام. { الرحمن الرحيم } قيل دلالتهما واحد نحو ندمان ونديم، وقيل معناهما مختلف، فالرحمن أكثر مبالغة، وكان القياس الترقي، كما تقول: عالم نحرير، وشجاع باسل، لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف، واختاره الزمخشري. وقيل الرحيم أكثر مبالغة، والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة، فلذلك جمع بينهما، فلا يكون من باب التوكيد. فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من حيث الامتلاء والغلبة، ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة، ولذلك لا يتعدى فعلان، ويتعدى فعيل. تقول زيد رحيم المساكين كما تعدى فاعلاً، قالوا زيد حفيظ علمك وعلم غيرك، حكاه ابن سيده عن العرب. ومن رأى أنهما بمعنى واحد، ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر، احتاج أنه يخص كل واحد بشيء، وإن كان أصل الموضوع عنده واحداً ليخرج بذلك عن التأكيد، فقال مجاهد: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وروى ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة "** وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه. وقال القرطبي: رحمن الآخرة ورحيم الدنيا. وقال الضحاك: لأهل السماء والأرض. وقال عكرمة: برحمة واحدة وبمائة رحمة. وقال المزني: بنعمة الدنيا والدين. وقال العزيزي: الرحمن بجميع خلقه في الأمطار، ونعم الحواس، والنعم العامة، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم واللطف بهم، وقال المحاسبي: برحمة النفوس ورحمة القلوب. وقال يحيـى بن معاذ: لمصالح المعاد والمعاش. وقال الصادق: خاص اللفظ بصيغة عامة في الرزق، وعام اللفظ بصيغة خاصة في مغفرة المؤمن. وقال ثعلب: الرحمن أمدح، والرحيم ألطف، وقيل: الرحمن المنعم بما لا يتصور جنسه من العباد، والرحيم المنعم بما يتصور جنسه من العباد. وقال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى:**{ وكان بالمؤمنين رحيماً }** [الأحزاب: 43]. ووصف الله تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامة على عباده، ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم، أصابهم إحسانه فتكون الرحمة إذ ذاك صفة فعل؟ وقال قوم: هي إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به ذلك، فتكون على هذا صفة ذات، وينبني على هذا الخلاف خلاف أخر، وهو أن صفات الله تعالى الذاتية والفعلية أهي قديمة أم صفات الذات قديمة وصفات الفعل محدثة قولان؟ وأما الرحمة التي من العباد فقيل هي رقة تحدث في القلب، وقيل هي قصد الخير أو دفع الشر، لأن الإنسان قد يدفع الشر عمن لا يرق عليه، ويوصل الخير إلى من لا يرق عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي البسملة من ضروب البلاغة نوعان: أحدهما: الحذف، وهو ما يتعلق به الباء في بسم، وقد مر ذكره، والحذف قيل لتخفيف اللفظ، كقولهم بالرفاء والبنين، باليمن والبركة، فقلت إلى الطعام، وقوله تعالى { في تسع آيات } أي أعرست وهلموا واذهب، قال أبو القاسم السهيلي: وليس كما زعموا، إذ لو كان كذلك كان إظهاره وإضماره في كل ما يحذف تخفيفاً، ولكن في حذفه فائدة، وذلك أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر الفعل، وهو لا يستغني عن فاعله، لم يكن ذكر الله مقدماً، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى، كما تقول في الصلاة الله أكبر، ومعناه من كل شيء، ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقاً لمقصود القلب، وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل. ومن الحذف أيضاً حذف الألف في بسم الله وفي الرحمن في الخط، وذلك لكثرة الاستعمال. النوع الثاني: التكرار في الوصف، ويكون إما لتعظيم الموصوف، أو للتأكيد، ليتقرر في النفس. وقد تعرض المفسرون في كتبهم لحكم التسمية في الصلاة، وذكروا اختلاف العلماء في ذلك، وأطالوا التفاريع في ذلك، وكذلك فعلوا في غير ما آية وموضوع، هذا كتب الفقه، وكذلك تكلم بعضهم على التعوذ، وعلى حكمه، وليس من القرآن بإجماع. ونحن في كتابنا هذا لا نتعرض لحكم شرعي، إلا إذا كان لفظ القرآن يدل على ذلك الحكم، أو يمكن استنباطه منه بوجه من وجوه الاستنباطات. واختلف في وصل الرحيم بالحمد، فقرأ قوم من الكوفيين بسكون الميم، ويقفون عليها ويبتدئون بهمزة مقطوعة، والجمهور على جر الميم ووصل الألف من الحمد. وحكى الكسائي عن بعض العرب أنه يقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف، كأنك سكنت الميم وقطعت الألف، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت ولم تر، وهذه قراءة عن أحد. { الحمد } الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده، ونقيضه الذم، وليس مقلوب مدح، خلافاً لابن الأنباري، إذ هما في التصريفات متساويان، وإذ قد يتعلق المدح بالجماد، فتمدح جوهرة ولا يقال تحمد، والحمد والشكر بمعنى واحد، أو الحمد أعم، والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله، والحمد ثناء بأوصافه ثلاثة أقوال، أصحها أنه أعم، فالحامد قسمان: شاكر ومثن بالصفات. { لله } اللام: للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ، وللتعجب، وللتبيين، وللصيرورة، وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد، وللإنتهاء، وللإستعلاء مثل: ذلك المال لزيد، أدوم لك ما تدوم لي، ووهبت لك ديناراً، | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ جعل لكم من أنفسكم أزواجاً }** [النحل: 72]، الجلباب للجارية، لزيد عم،**{ لتحكم بين الناس }** [النساء: 105]، قلت لك، ولله عيناً، من رأى، من تفوق،**{ هيت لك }** [يوسف: 23]**{ ليكون لهم عدواً وحزناً }** [القصص: 8]،**{ القسط ليوم القيامة }** [الأنبياء: 47]، كتب لخمس خلون، لدلوك الشمس،**{ سقناه لبلد ميت }** [الأعراف: 57]،**{ ويخرون للأذقان }** [الإسراء: 109]. { رب العالمين } الرب: السيد، والمالك، والثابت، والمعبود، والمصلح، وزاد بعضهم بمعنى الصاحب، مستدلاً بقوله: | **فدنا له رب الكلاب بكفه** | | **بيض رهاف ريشهن مقزع** | | --- | --- | --- | وبعضهم بمعنى الخالق العالم لا مفرد له، كالأنام، واشتقاقه من العلم أو العلامة، ومدلوله كل ذي روح، قاله ابن عباس، أو الناس، قاله البجلي، أو الإنس والجن والملائكة، قاله أيضاً ابن عباس، أو الإنس والجن والملائكة والشياطين، قاله أبو عبيدة والفراء، أو الثقلان، قاله ابن عطية، أو بنو آدم، قاله أبو معاذ، أو أهل الجنة والنار، قاله الصادق، أو المرتزقون، قاله عبد الرحمن بن زيد، أو كل مصنوع، قاله الحسن وقتادة، أو الروحانيون، قاله بعضهم، ونقل عن المتقدمين أعداد مختلفة في العالمين وفي مقارها، الله أعلم بالصحيح. والجمهور قرأوا بضم دال الحمد، وأتبع ابراهيم بن أبي عبلة ميمه لام الجر لضمة الدال، كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام، وهي أغرب، لأن فيه إتباع حركة معرب لحركة غير إعراب، والأول بالعكس. وفي قراءة الحسن احتمال أن يكون الإتباع في مرفوع أو منصوب، ويكون الإعراب إذ ذاك على التقديرين مقدراً منع من ظهوره شغل الكلمة بحركة الإتباع، كما في المحكى والمدغم. وقرأ هارون العتكي، ورؤبة، وسفيان بن عيينة الحمد بالنصب. والحمد مصدر معرف بأل، إما للعهد، أي الحمد المعروف بينكم لله، أو لتعريف الماهية، كالدينار خير من الدرهم، أي: دينار كان فهو خير من أي درهم كان، فيستلزم إذ ذاك الأحمدة كلها، أو لتعريف الجنس، فيدل على استغراق الأحمدة كلها بالمطابقة. والأصل في الحمد لا يجمع، لأنه مصدر. وحكى ابن الأعرابي: جمعه على أحمد كأنه راعى فيه جامعه اختلاف الأنواع، قال: | **وأبلج محمود الثناء خصصته** | | **بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي** | | --- | --- | --- | وقراءة الرفع أمكن في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعة، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر لله تعالى، أي حمده وحمد غيره. ومعنى اللام في لله الاستحقاق، ومن نصب، فلا بد من عامل تقديره أحمد الله أو حمدت الله، فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله، وأشعر بالتجدد والحدوث، ويكون في حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها، وأقيمت مقامها، وذلك في الأخبار، نحو شكراً لا كفراً. وقدر بعضهم العامل للنصب فعلاً غير مشتق من الحمد، أي أقول الحمد لله، أو الزموا الحمد لله، كما حذفوه من نحو اللهم ضبعاً وذئباً، والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي قراءة النصب، اللام للتبيين، كما قال أعني لله، ولا تكون مقوية للتعدية، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر لامتناع عمله فيه. قالوا سقياً لزيد، ولم يقولوا سقياً زيداً، فيعملونه فيه، فدل على أنه ليس من معمول المصدر، بل صار على عامل آخر. وقرأ زيد بن علي وطائفة { رب العالمين } بالنصب على المدح، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها، وضعفت إذ ذاك. على أن الأهوازي حكى في قراءة زيد بن علي أنه قرأ { رب العالمين، الرحمن الرحيم } بنصب الثلاثة، فلا ضعف إذ ذاك، وإنما تضعف قراءة نصب رب، وخفص الصفات بعدها لأنهم نصوا أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلاً، ولا سيما على مذهب الأعلم، إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة، وحسن ذلك على مذهب غيره، كونه وصفاً خاصاً، وكون البدل على نية تكرار العامل، فكأنه مستأنف من جملة أخرى، فحسن النصب. وقول من زعم أنه نصب رب بفعل دل عليه الكلام قبله، كأنه قيل نحمد الله رب العالمين، ضعيف، لأنه مراعاة التوهم، وهو من خصائص العطف، ولا ينقاس فيه. ومن زعم أنه نصبه على البدل فضعيف للفصل بقوله الرحمن الرحيم، ورب مصدر وصف به على أحد وجوه الوصف بالمصدر، أو اسم فاعل حذفت ألفه، فأصله راب، كما قالوا رجل بار وبر، وأطلقوا الرب على الله وحده، وفي غيره قيد بالإضافة نحو رب الدار. وأل في العالمين للاستغراق، وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع، والذي أختاره أنه ينطلق على المكلفين لقوله تعالى:**{ إن في ذلك لآيات للعالمين }** [الروم: 22]، وقراءة حفص بكسر اللام توضح ذلك. { الرحمن الرحيم } تقدم الكلام عليهما في البسملة، وهما مع قوله { رب العالمين } صفات مدح، لأن ما قبلهما علم لم يعرض في التسمية به اشتراك فيخصص، وبدأ أولاً بالوصف بالربوبية، فإن كان الرب بمعنى السيد، أو بمعنى المالك، أو بمعنى المعبود، كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية، لينبسط أمل العبد في العفو إن زل، ويقوى رجاؤه إن هفا، ولا يصح أن يكون الرب بمعى الثابت، ولا بمعنى الصاحب، لامتناع إضافته إلى العالمين، وإن كان بمعنى المصلح، كان الوصف بالرحمة مشعراً بقلة الإصلاح، لأن الحامل للشخص على إصلاح حال الشخص رحمته له. ومضمون الجملة والوصف أن من كان موصوفاً بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقاً للحمد. وخفض الرحمن الرحيم الجمهور، ونصبهما أبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني، فالخفض على النعت، وقيل في الخفض إنه بدل أو عطف بيان، وتقدم شيء من هذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والنصب والرفع للقطع. وفي تكرار الرحمن الرحيم أن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما، وجعل مكي تكرارها دليلاً على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة، قال: إذ لو كانت آية لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين بمعنى واحد، وهذا لا يوجد إلا بفواصل تفصل بين الأولى والثانية. قال: والفصل بينهما بالحمد لله رب العالمين كلا فصل، قال: لأنه مؤخر يراد به التقديم تقديره الحمد لله، الرحمن الرحيم، رب العالمين، وإنما قلنا بالتقديم لأن مجاورة الرحمة بالحمد أولى، ومجاورة الملك بالملك أولى. قال: والتقديم والتأخير كثير في القرآن، وكلام مكي مدخول من غير وجه، ولولا جلالة قائلة نزهت كتابي هذا عن ذكره. والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية وصفة الرحمة، ثم ذكر شيئين، أحدهما ملكه يوم الجزاء، والثاني العبادة. فناسب الربوبية للملك، والرحمة العبادة. فكان الأول للأول، والثاني للثاني. وقد ذكر المفسرون في علم التفسير الوقف، وقد اختلف في أقسامه، فقيل تام وكاف وقبيح وغير ذلك. وقد صنف الناس في ذلك كتباً مرتبة على السور، ككتاب أبي عمر، والداني، وكتاب الكرماني وغيرهما، ومن كان عنده حظ في علم العربية استغنى عن ذلك. { مالك } قرأ مالك على وزن فاعل بالخفض، عاصم، والكسائي، وخلف في اختياره، ويعقوب، وهي قراءة العشرة إلا طلحة، والزبير، وقراءة كثير من الصحابة منهم: أُبي، وابن مسعود، ومعاذ، وابن عباس، والتابعين منهم: قتادة والأعمش. وقرأ ملك على وزن فعل بالخفض باقي السبعة، وزيد، وأبو الدرداء، وابن عمر، والمسور، وكثير من الصحابة والتابعين. وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة، وعاصم الجحدري، ورواها الجعفي، وعبد الوارث، عن أبي عمرو، وهي لغة بكر بن وائل. وقرأ ملكي بإشباع كسرة الكاف أحمد بن صالح، عن ورش، عن نافع. وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان النهدي، والشعبي، وعطية، ونسبها ابن عطية إلى أبي حياة. وقال صاحب اللوامح: قرأ أنس بن مالك، وأبو نوفل عمر بن مسلم بن أبي عدي ملك يوم الدين، بنصب الكاف من غير ألف، وجاء كذلك عن أبي حياة، انتهى. وقرأ كذلك، إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص، وعائشة، ومورق العجلي. وقرأ ملك فعلاً ماضياً أبو حياة، وأبو حنيفة، وجبير بن مطعم، وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي، وأبو المحشر عاصم بن ميمون الجحدري، فينصبون اليوم. وذكر ابن عطية أن هذه قراءة يحيـى بن يعمر، والحسن وعلي بن أبي طالب. وقرأ مالك بنصب الكاف الأعمش، وابن السميفع، وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الملك قاضي الهند. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز، وأبي صالح السمان، وأبي عبد الملك الشامي. وروى ابن أبي عاصم عن اليمان ملكاً بالنصب والتنوين. وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين عون العقيلي، ورويت عن خلف بن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم، وبنصب اليوم. وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة، وأبو حياة، وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنه، ونسبها صاحب اللوامح إلى أبي روح عون بن أبي شداد العقيلي، ساكن البصرة. وقرأ مليك على وزن فعيل أُبي، وأبو هريرة، وأبو رجاء العطاردي. وقرأ مالك بالإمالة البليغة يحيـى بن يعمر، وأيوب السختياني، وبين بين قتيبة بن مهران، عن الكسائي. وجهل النقل، أعني في قراءة الإمالة، أبو علي الفارسي فقال: لم يمل أحد من القراءة ألف مالك، وذلك جائز، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض. وذكر أيضاً أنه قرىء في الشاذ ملاك بالألف والتشديد للام وكسر الكاف. فهذه ثلاث عشرة قراءة، بعضها راجع إلى الملك، وبعضها إلى الملك، قال اللغويون: وهما راجعان إلى الملك، وهو الربط، ومنه ملك العجين. وقال قيس بن الخطيم: | **ملكت بها كفى فانهرت فتقها** | | **يرى قائماً من دونها ما وراءها** | | --- | --- | --- | والأملاك ربط عقد النكاح، ومن ملح هذه المادة أن جميع تقاليبها الستة مستعملة في اللسان، وكلها راجع إلى معنى القوة والشدة، فبينها كلها قدر مشترك، وهذا يسمى بالإشتقاق الأكبر، ولم يذهب إليه غير أبي الفتح. وكان أبو علي الفارسي يأنس به في بعض المواضع وتلك التقاليب: ملك، مكل، كمكل، لكم، كمل، كلم. وزعم الفخر الرازي أن تقليب كمكل مهمل وليس بصحيح، بل هو مستعمل بدليل ما أنشد الفراء من قول الشاعر: | **فلما رآني قد حممت ارتحاله** | | **تملك لو يجدي عليه التملك** | | --- | --- | --- | والملك هو القهر والتسليط على من تتأتى منه الطاعة، ويكون ذلك باستحقاق وبغير استحقاق. والملك هو القهر على من تتأتى منه الطاعة، ومن لا تتأتى منه، ويكون ذلك منه باستحقاق، فبينهما عموم وخصوص من وجه. وقال الأخفش: يقال ملك من الملك، بضم الميم، ومالك من الملك، بكسر الميم وفتحها، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى. وروي عن بعض البغداديين لي في هذا الوادي ملك وملك بمعنى واحد. { يوم } ، اليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويطلق على مطلق الوقت، وتركيبه غريب، أعني وجود مادة تكون فاء الكلمة فيها ياء وعينها واواً لم يأت من ذلك سوى يوم وتصاريفه ويوح اسم للشمس، وبعضهم زعم أنه بوج بالباء، والمعجمة بواحدة من أسفل. { الدين } الجزاء دناهم كما دانوا، قاله قتادة، والحساب**{ ذلك الدين القيِّم }** [الروم: 30]، قاله ابن عباس والقضاء**{ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله }** [النور: 2]، والطاعة في دين عمرو، وحالت بيننا وبينك فدك، قاله أبو الفضل والعادة، كدينك من أم الحويرث قبلها، وكنى بها هنا عن العمل، قاله الفراء والملة، | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ورضيت لكم الإسلام ديناً }** [المائدة: 3]**{ إن الدين عند الله الإسلام }** [آل عمران: 19]، والقهر، ومنه المدين للعبد، والمدينة للأمة، قاله يمان بن رئاب. وقال أبو عمرو الزاهد: وإن أطاع وعصى وذل وعز وقهر وجار وملك. وحكى أهل اللغة: دنته بفعله دَيناً ودِيناً بفتح الدال وكسرها جازيته. وقيل: الدين المصدر، والدين بالكسر الإسم، والدين السياسة، والديان السايس. قال ذو الإصبع عنه: | **ولا أنت دياني فتخزوني** | | | | --- | --- | --- | والدين الحال. قال النضر بن شميل: سألت أعرابياً عن شيء، فقال: لو لقيتني على دين غير هذا لأخبرتك، والدين الداء عن اللحياني وأنشد: | **يا دين قلبك من سلمى وقد دينا** | | | | --- | --- | --- | ومن قرأ بجر الكاف فعلى معنى الصفة، فإن كان بلفظ ملك على فعل بكسر العين أو إسكانها، أو مليك بمعناه فظاهر لأنه وصف معرفة بمعرفة، وإن كان بلفظ مالك أو ملاك أو مليك محولين من مالك للمبالغة بالمعرفة، ويدل عليه قراءة من قرأ ملك يوم الدين فعلاً ماضياً، وإن كان بمعنى الاستقبال، وهو الظاهر لأن اليوم لم يوجد فهو مشكل، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة، وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة، لأن المعرفة لا توصف بالنكرة ولا بدل نكرة من معرفة، لأن البدل بالصفات ضعيف. وحل هذا الإشكال هو أن اسم الفاعل، إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال، جاز فيه وجهان: أحدهما ما قدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه، إذ يكون منوياً فيه الانفصال من الإضافة، ولأنه عمل النصب لفظاً. الثاني: أن يتعرف به إذا كان معرفة، فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفاً بهذا الوصف، وكان تقييده بالزمان غير معتبر، وهذا الوجه غريب النقل، لا يعرفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه. قال سيبويه، رحمه الله تعالى، وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة، وذلك معروف في كلام العرب، انتهى. واستثنى من ذلك باب الصفة المشبهة فقط، فإنه لا يتعرف بالإضافة نحو حسن الوجه. ومن رفع الكاف ونون أو لم ينون فعلى القطع إلى الرفع. ومن نصب فعلى القطع إلى النصب، أو على النداء والقطع أغرب لتناسق الصفات، إذ لم يخرج بالقطع عنها. ومن قرأ ملك فعلاً ماضياً فجملة خبرية لا موضع لها من الإعراب، ومن أشبع كسرة الكاف فقد قرأ بنادر أو بما ذكر أنه لا يجوز إلا في الشعر، وإضافة الملك أو الملك إلى يوم الدين إنما هو من باب الاتساع، إذ متعلقهما غير اليوم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والإضافة على معنى اللام، لا على معنى في، خلافاً لمن أثبت الإضافة بمعنى في، ويبحث في تقرير هذا في النحو، وإذا كان من الملك كان من باب. | **طباخ ساعات الكرى زاد الكسل** | | | | --- | --- | --- | وظاهر اللغة تغاير الملك والمالك كما تقدم، وقيل هما بمعنى واحد كالفره والفاره، فإذا قلنا بالتغاير فقيل مالك أمدح لحسن إضافته إلى من لا تحسن إضافة الملك إليه، نحو مالك الجن والإنس، والملائكة والطير، فهو أوسع لشمول العقلاء وغيرهم، قال الشاعر: | **سبحان من عنت الوجوه لوجهه** | | **ملك الملوك ومالك العفر** | | --- | --- | --- | قاله الأخفش، ولا يقال هنا ملك، ولقولهم مالك الشيء لمن يملكه، وقد يكون ملكاً لا مالكاً نحو ملك العرب والعجم، قاله أبو حاتم، ولزيادته في البناء، والعرب تعظم بالزيادة في البناء، وللزيادة في أجزاء الثاني لزيادة الحروف، ولكثرة من عليها من القراء، ولتمكن التصرف ببيع وهبة وتمليك، ولإبقاء الملك في يد المالك إذا تصرف بجور أو اعتداء أو سرف، ولتعينه في يوم القيامة، ولعدم قدرة المملوك على انتزاعه من الملك، ولكثرة رجائه في سيده بطلب ما يحتاج إليه، ولوجوب خدمته عليه، ولأن المالك يطمع فيه، والملك يطمع فيك، ولأن له رأفة ورحمة، والملك له هيبة وسياسة. وقيل ملك أمدح وأليق إن لم يوصف به الله تعالى لإشعاره بالكثرة ولتمدحه بمالك الملك، ولم يقل مالك الملك، ولتوافق الابتداء والاختتام في قوله**{ ملك الناس }** [الناس: 2]، والاختتام لا يكون إلا بأشرف الأسماء، ولدخول المالك تحت حكم الملك، ولوصفه نفسه بالملك في مواضع، ولعموم تصرفه فيمن حوته مملكته، وقصر المالك على ملكه، قاله أبو عبيدة، ولعدم احتياج الملك إلى الإضافة، أو مالك لا بد له من الإضافة إلى مملوك، ولكنه أعظم الناس، فكان أشرف من المالك. قال أبو علي: حكى ابن السراج عمن اختار قراءة ملك كل شيء بقوله { رب العالمين } ، فقراءة مالك تقرير، قال أبو علي، ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل تقدم العام، ثم ذكر الخاص منه**{ الخالق البارئ المصور }** [الحشر: 24]، فالخالق يعم، وذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة، ومنه**{ وبالآخرة هم يوقنون }** [البقرة: 4]، بعد قوله**{ الذين يؤمنون بالغيب }** [البقرة: 3]، وإنما كرر تعظيماً لها، وتنبيهاً على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الملحدين، ومنه { الرحمن الرحيم } ، ذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص الرحمة بالمؤمنين في قوله**{ وكان بالمؤمنين رحيماً }** [الأحزاب: 43]، انتهى. وقال ابن عطية: وأيضاً فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك، كقوله: | **ومـن قبـل ربيتنـي فصفـت ربـوب** | | | | --- | --- | --- | وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ ملك. والمراد باليوم الذي أضيف إليه مالك أو ملك زمان ممتد إلى أن ينقضي الحساب ويستقر أهل الجنة فيها، وأهل النار فيها، ومتعلق المضاف إليه في الحقيقة هو الأمر، كأنه قال مالك أو ملك الأمر في يوم الدين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | لكنه لما كان اليوم ظرفاً للأمر، جاز أن يتسع فيتسلط عليه الملك أو المالك، لأن الاستيلاء على الظرف استيلاء على المظروف. وفائدة تخصيص هذه الإضافة، وإن كان الله تعالى مالك الأزمنة كلها والأمكنة ومن حلها والملك فيها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام من قيامهم فيه لله تعالى والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسيء واستقرارهما فيما وعدهما الله تعالى به، أو على أنه يوم يرجع فيه إلى الله جميع ما ملكه لعباده وخوّلهم فيه ويزول فيه ملك كل مالك قال تعالى:**{ وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً }** [مريم: 95]،**{ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة }** [الأنعام: 94]. قال ابن السراج: إن معنى { مالك يوم الدين } إنه يملك مجيئه ووقوعه، فالإضافة إلى اليوم على قوله إضافة إلى المفعول به على الحقيقة، وليس طرفاً اتسع فيه، وما فسر به الدين من المعاني يصح إضافة اليوم إليه إلى معنى كل منها إلا الملة، قال ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، وابن جريج وغيرهم: يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال والحساب. قال أبو علي: ويدل على ذلك**{ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت }** [غافر: 17]، و**{ اليوم تجزون ما كنتم تعملون }** [الجاثية: 28]. وقال مجاهد: يوم الدين يوم الحساب مدينين محاسبين، وفي قوله: { مالك يوم الدين } دلالة على إثبات المعاد والحشر والحساب، ولما اتصف تعالى بالرحمة، انبسط العبد وغلب عليه الرجاء، فنبه بصفة الملك أو المالك ليكون من عمله على وجل، وأن لعمله يوماً تظهر له فيه ثمرته من خير وشر. { إياك } ، إيا تلحقه ياء المتكلم وكاف المخاطب وهاء الغائب وفروعها، فيكون ضمير نصب منفصلاً لا اسماً ظاهراً أضيف خلافاً لزاعمه، وهل الضمير هو مع لواحقه أو هو وحده؟ واللواحق حروف، أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها، أو اللواحق وحدها، وإيا زائدة لتتصل بها الضمائر، أقوال ذكرت في النحو. وأما لغاته فبكسر الهمزة وتشديد الياء، وبها قرأ الجمهور، وبفتح الهمزة وتشديد الياء، وبها قرأ الفضل الرقاشي، وبكسر الهمزة وتخفيف الياء، وبها قرأ عمرو بن فائد، عن أُبي، وبإبدال الهمزة المكسورة هاء، وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء، وبذلك قرأ ابن السوار الغنوي، وذهاب أبي عبيدة إلى أن إيا مشتق ضعيف، وكان أبو عبيدة لا يحسن النحو، وإن كان إماماً في اللغات وأيام العرب. وإذا قيل بالاشتقاق، فاشتقاقه من لفظ، أو من قوله: | **فا ولذكـراهـا إذا مـا ذكـرتهـا** | | | | --- | --- | --- | فتكون من باب قوة، أو من الآية فتكون عينها ياء كقوله: | **لـم يبق هـذا الدهـر مـن إيائه** | | | | --- | --- | --- | قولان، وهل وزنه إفعل وأصله إ أو و أو إ أو ي أو فعيل فأصله أو يو أو او يـي أو فعول، وأصله إو وو أو اويـي أو فعلى، فأصله أووى أواويا، أقاويل كلها ضعيفة، والكلام على تصاريفها حتى صارت إيا تذكر في علم النحو، وإضافة إيا لظاهر نادر نحو: وإيا الشواب، أو ضرورة نحو: دعني وإيا خالد، واستعماله تحذيراً معروف فيحتمل ضميراً مرفوعاً يجوز أن يتبع بالرفع نحو: إياك أنت نفسك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { نعبد } ، العبادة: التذلل، قاله الجمهور، أو التجريد، قاله ابن السكيت، وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف، نحو: عبدت الرجل ذللته، وعبدت الله ذللت له. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو المتوكل: إياك يعبد بالياء مبنياً للمفعول، وعن بعض أهل مكة نعبد بإسكان الدال. وقرأ زيد بن علي، ويحيـى بن وثاب، وعبيد بن عمير الليثي: نعبد بكسر النون. { نستعين } ، الاستعانة، طلب العون، والطلب أحد معاني استفعل، وهي اثنا عشر معنى، وهي: الطلب، والاتحاد، والتحول، وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك، ومطاوعة افعل وموافقته، وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد، والاغناء عنه وعن فعل مثل ذلك استطعم، واستعبده، واستنسر واستعظمه واستحسنه، وإن لم يكن كذلك، واستشلى مطاوع اشلى، واستبل موافق مطاوع ابل، واستكبر موافق تكبر، وأستعصم موافق اعتصم، واستغنى موافق غنى، واستنكف واستحيا مغنيان عن المجرد، واسترجع، واستعان حلق عانته، مغنيان عن فعل، فاستعان طلب العون، كاستغفر، واستعظم. وقال صاحب اللوامح: وقد جاء فيه وياك أبدل الهمزة واواً، فلا أدري أَذالك عن الفراء أم عن العرب، وهذا على العكس مما فروا إليه في نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا من الواو المكسورة إلى الهمزة، واستثقالاً للكسرة على الواو. وفي وياك فروا من الهمزة إلى الواو، وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع، وبكون استفعل أيضاً لموافقة تفاعل وفعل. حكى أبو الحسن بن سيده في المحكم: تماسكت بالشيء ومسكت به واستمسك به بمعنى واحد، أي احتبست به، قال ويقال: مسكت بالشيء وأمسكت وتمسكت، احتبست، انتهى. فتكون معاني استفعل حينئذ أربعة عشر لزيادة موافقة تفاعل وتفعل. وفتح نون نستعين قرأ بها الجمهور، وهي لغة الحجاز، وهي الفصحى. وقرأ عبيد بن عمير الليثي، وزر بن حبيش، ويحيـى بن وثاب، والنخعي، والأعمش، بكسرها، وهي لغة قيس، وتميم، وأسد، وربيعة، وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه. وقال أبو جعفر الطوسي: هي لغة هذيل، وانقلاب الواو ألفاً في استعان ومستعان، وياء في نستعين ومستعين، والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف، ويعدى استعان بنفسه وبالباء. إياك مفعول مقدم، والزمخشري يزعم أنه لا يقدم على العامل إلا للتخصيص، فكأنه قال: ما نعبد إلا إياك، وقد تقدم الرد عليه في تقديره بسم الله اتلوا، وذكرنا نص سيبويه هناك. فالتقديم عندنا إنما هو للاعتناء والاهتمام بالمفعول. وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال: إياك أعني، فقال له: وعنك أعرض، فقدما الأهم، وإياك التفات لأنه انتقال من الغيبة، إذ لو جرى على نسق واحد لكان إياه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والانتقال من فنون البلاغة، وهو الانتقال من الغيبة للخطاب أو التكلم، ومن الخطاب للغيبة أو التكلم، ومن التكلم للغيبة أو الخطاب. والغيبة تارة تكون بالظاهر، وتارة بالمضمر، وشرطه أن يكون المدلول واحداً. ألا ترى أن المخاطب بإياك هو الله تعالى؟ وقالوا فائدة هذا الالتفات إظهار الملكة في الكلام، والاقتدار على التصرف فيه. وقد ذكر بعضهم مزيداً على هذا، وهو إظهار فائدة تخص كل موضع موضع، ونتكلم على ذلك حيث يقع لنا منه شيء، وفائدته في إياك نعبد أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك والملك لليوم المذكور، أقبل الحامد مخبراً بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره، أنه وغيره يعبده ويخضع له. وكذلك أتى بالنون التي تكون له ولغيره، فكما أن الحمد يستغرق الحامدين، كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره. ونظير هذا أنك تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة، مخبراً عنه أخبار الغائب، ويكون ذلك الشخص حاضراً معك، فتقول له: إياك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه، ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا. ومن ذهب إلى أن ملك منادى، فلا يكون إياك التفاتاً لأنه خطاب بعد خطاب وإن كان يجوز بعد النداء الغيبة، كما قال: | **يا دار مية بالعلياء فالسند** | | **أقوت وطال عليها سالف الأبد** | | --- | --- | --- | ومن الخطاب بعد النداء: | **ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى** | | **ولا زال منهلا بجرعائك القطر** | | --- | --- | --- | ودعوى الزمخشري في أبيات امرىء القيس الثلاثة أن فيه ثلاثة التفاتات غير صحيح، بل هما التفاتان: الأول: خروج من الخطاب المفتتح به في قوله: | **تطاول ليلك بالاثمد** | | **ونام الخلي ولم ترقد** | | --- | --- | --- | إلى الغيبة في قوله: | **وبات وباتت له ليلة** | | **كليلة ذي العائر الأرمد** | | --- | --- | --- | الثاني: خروج من هذه الغيبة إلى التكلم في قوله: وذلك من نبأ جاءني. وخبرته عن أبي الأسود وتأويل كلامه أنها ثلاث خطأ وتعيين. إن الأول هو الانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأ لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية، وإضمار قولوا قبل الحمد لله، وإضمارها أيضاً قبل إياك لا يكون معه التفات، وهو قول مرجوح. وقد عقد أرباب علم البديع باباً للالتفات في كلامهم، ومن أجلهم كلاماً فيه ابن الأثير الجزري، رحمه الله تعالى. وقراءة من قرأ إياك يعبد بالياء مبنياً للمفعول مشكلة، لأن إياك ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتاً، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع، فكأنه قال أنت، ثم التفت فأخبر عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال يعبد، وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة، وهو ينظر إلى قول الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **أأنت الهلالي الذي كنت مرة** | | **سمعنا به والأرحبي المغلب** | | --- | --- | --- | وإلى قول أبي كثير الهذلي: | **يا لهف نفسي كان جلدة خالد** | | **وبياض وجهك للتراب الأعفر** | | --- | --- | --- | وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع، وهو أصل موضوع اللغة أو الطاعة، كقوله تعالى:**{ لا تعبد الشيطان }** [مريم: 44]، أو التقرب بالطاعة أو الدعاء إن الذين يستكبرون عن عبادتي، أي عن دعائي، أو التوحيد إلا ليعبدون أي ليوحدون، وكلها متقاربة المعنى. وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، وبين ما يطلبه من جهته. وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة إليها، وأطلق العبادة والاستعانة لتتناول كل معبود به وكل مستعان عليه. وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سِيْقا في جملتين، وكل منهما مقصودة، وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين، فإنه كان يحتمل أن يكون إخباراً بطلب لعون، أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب.. ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة، كقول بعضهم: إياك نعبد بالعلم، وإياك نستعين عليه بالمعرفة، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك. وفي قوله: نعبد قالوا رد على الجبرية، وفي نستعين رد على القدرية، ومقام العبادة شريف، وقد جاء الأمر به في مواضع، قال تعالى:**{ واعبد ربك }** [الحجر: 99]**{ اعبدوا ربكم }** [البقرة: 21]، والكناية به عن أشرف المخلوقين صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:**{ سبحان الذي أسرى بعبده }** [الإسراء: 1]،**{ وما أنزلنا على عبدنا }** [الأنفال: 41]، وقال تعالى، حكاية عن عيسى، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام**{ قال إني عبد الله }** [مريم: 30]، وقال تعالى وتقدس:**{ لا إله إلا أنا فاعبدني }** [طه: 14] فذكر العبادة عقيب التوحيد، لأن التوحيد هو الأصل، والعبادة فرعه. وقالوا في قوله: إياك. رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع، فإنه خطاب لموجود حاضر. { اهدنا } ، الهداية: الإرشاد والدلالة والتقدم ومنه الهوادي أو التبيين،**{ وأما ثمود فهديناهم }** [فصلت: 17] أو الإلهام**{ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }** [طه: 50]، قال المفسرون: معناه ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها، أو الدعاء، ولكل قوم هاد أي داع والأصل في هدي أن يصل إلى ثاني معمولة باللام**{ يهدي للتي هي أقوم }** [الإسراء: 9] أو إلى**{ لتهدي إلى صراط مستقيم }** [الشورى: 52] ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه، ومنه { اهدنا الصراط } ، ونا ضمير المتكلم ومعه غيره أو معظم نفسه. ويكون في موضع رفع ونصب وجر. { الصراط } الطريق، وأصله بالسين من السرط، وهو اللقم، ومنه سمي الطريق لقماً، وبالسين على الأصل قرأ قنبل ورويس، وإبدال سينه صاداً هي الفصحى، وهي لغة قريش، وبها قرأ الجمهور، وبها كتبت في الإمام، وزاياً لغة رواها الأصمعي عن أبي عمرو، وأشمامها زاياً لغة قيس، وبه قرأ حمزة بخلاف وتفصيل عن رواته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال أبو علي: وروي عن أبي عمرو، السين والصاد والمضارعة بين الزاي والصاد، ورواه عنه العريان عن أبي سفيان، وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة. قال بعض اللغويين: ما حكاه الأصمعي في هذه القراءة خطأ منه إنما سمع أبا عمرو يقرؤها بالمضارعة فتوهمها زاياً، ولم يكن الأصمعي نحوياً فيؤمن على هذا. وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد، وقال أبو جعفر الطوسي في تفسيره، وهو إمام من أئمة الإمامية: الصراط بالصاد لغة قريش، وهي اللغة الجيدة، وعامة العرب يجعلونها سيناً، والزاي لغة لعذرة، وكعب، وبني القين. وقال أبو بكر بن مجاهد، وهذه القراءة تشير إلى أن قراءة من قرأ بين الزاي والصاد تكلف حرف بين حرفين، وذلك صعب على اللسان، وليس بحرف ينبني عليه الكلام، ولا هو من حروف المعجم. لست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب، إلا أن الصاد أفصح وأوسع، ويذكر ويؤنث، وتذكيره أكثر. وقال أبو جعفر الطوسي: أهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق، والسبيل والزقاق والسوق، وبنو تميم يذكرون هذا كله ويجمع في الكثرة على سرط، نحو كتاب وكتب، وفي القلة قياسه أسرطه، نحو حمار وأحمره، هذا إذا كان الصراط مذكراً، وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع وشمال وأشمل. وقرأ زيد بن علي، والضحاك، ونصر بن علي، عن الحسن: اهدنا صراطاً مستقيماً، بالتنوين من غير لام التعريف، كقوله:**{ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم،صراط الله }** [الشورى: 52 - 53]. { المستقيم } ، استقام: استفعل بمعنى الفعل المجرد من الزوائد، وهذا أحد معاني استفعل، وهو أن يكون بمعنى الفعل المجرد، وهو قام، والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج. { صراط الذين } اسم موصول، والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة، وبعض العرب يجعله بالواو وفي حالة الرفع، واستعماله بحذف النون جائز، وخص بعضهم ذلك بالضرورة، إلا إن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها، وسمع حذف أل منه فقالوا: الذين، وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو، ويخص العقلاء بخلاف الذي، فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره. { أنعمت } ، النعمة: لين العيش وخفضه، ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها، وسميت النعامة للين سهمها: نعم إذا كان في نعمة، وأنعمت عينه أي سررتها، وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه، أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه، إلا أنه ضمن معنى التفضل، فعدى بعلى، وأصله التعدية بنفسه. أنعمته أي جعلته صاحب نعمة، وهذا أحد المعاني التي لأفعل، وهي أربعة وعشرون معنى، هذا أحدها. والتعدية، والكثرة، والصيرورة، والإعانة، والتعريض، والسلب، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه، وبلوغ عدد أو زمان أو مكان، وموافقة ثلاثي، وإغناء عنه، ومطاوعة فعل وفعل، والهجوم، ونفي الغريزة، والتسمية، والدعاء، والاستحقاق، والوصول، والاستقبال، والمجيء بالشيء والتفرقة مثل ذلك أدنيته وأعجبني المكان، وأغد البعير وأحليت فلاناً، وأقبلت فلاناً، واشتكيت الرجل، وأحمدت فلاناً، وأعشرت الدراهم، وأصبحنا، وأشأم القوم، وأحزنه بمعنى حزنه، وأرقل، وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب، وأفطر مطاوع فطرته، وأطلعت عليهم، وأستريح، وأخطيته سميته مخطئاً، وأسقيته، وأحصد الزرع، وأغفلته وصلت غفلتي اليه، وافقته استقبلته بأف هكذا مثل هذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وذكر بعضهم أن أفعل فعل، ومثل الاستقبال أيضاً بقولهم: أسقيته أي استقبلته بقولك سقياً لك، وكثرت جئت بالكثير، وأشرقت الشمس أضاءت، وشرقت طلعت. التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكر المفرد، وهي حرف في أنت، والضميران فهو مركب. { عليهم } ، على: حرف جر عند الأكثرين، إلا إذا جرت بمن، أو كانت في نحو هون عليك. ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف، ولذلك لم يعدها في حروف الجر، ووافقه جماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازاً، وزيد أن تكون بمعنى عن، وبمعنى الباء، وبمعنى في، وللمصاحبة، وللتعليل، وبمعنى من، وزائدة، مثل ذلك**{ كل من عليها فان }** [الرحمن: 26]**{ فضلنا بعضهم على بعض }** [البقرة: 253]، بعد على كذا حقيق علي أن لا أقول على ملك سليمان**{ وآتى المال على حبه }** [البقرة: 177]،**{ ولتكبروا الله على ما هداكم }** [البقرة: 185]،**{ حافظون إلا على أزواجهم }** [المعارج: 30]. | **أبى الله إلا أن سرحة مالك** | | **على كل أفنان العضاه تروق** | | --- | --- | --- | أي تروق كل أفنان العضاة. هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل، ويكون في موضع رفع ونصب وجر. وحكى اللغويون في عليهم عشر لغات ضم الهاء، وإسكان الميم، وهي قراءة حمزة. وكسرها وإسكان الميم، وهي قراءة الجمهور. وكسر الهاء والميم وياء بعدها، وهي قراءة الحسن. وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمرو بن فائد. وكذلك بغير ياء، وهي قراءة عمرو بن فائد. وكسر الهاء وضم الميم واو بعدها، وهي قراءة ابن كثير، وقالون بخلاف عنه. وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاء والميم وواو بعدها، وهي قراءة الأعرج والخفاف عن أبي عمرو. وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها. كذلك بغير ياء. وقرىء بهما، وتوضيح هذه القراءآت بالخط والشكل: عليهم، عليهم، عليهموا، عليهم، عليهمي، عليهم، عليهم، عليهمي، عليهم، عليهموا. وملخصها ضم الهاء مع سكون الميم، أو ضمها بإشباع، أو دونه، أو كسرها بإشباع، أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم، أو كسرها بإشباع، أو دونه، أو ضمها بإشباع، أو دونه، وتوجيه هذه القراءآت ذكر في النحو. اهدنا صورته صورة الأمر، ومعناه الطلب والرغبة، وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغة خمسة عشر محملاً، وأصل هذه الصيغة أن تدل على الطلب، لا على فور، ولا تكرار، ولا تحتم، وهل معنى اهدنا ارشدنا، أو وفقنا، أو قدمنا، أو ألهمنا، أو بين لنا أو ثبتنا؟ أقوال أكثرها عن ابن عباس، وآخرها عن علي وأُبي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقرأ ثابت البناني بصرنا الصراط، ومعنى الصراط القرآن، قاله علي وابن عباس: وذكر المهدوي أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فسره بكتاب الله أو الإيمان وتوابعه، أو الإسلام وشرائعه، أو السبيل المعتدل، أو طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، قاله أبو العالية والحسن، أو طريق الحج، قاله فضيل بن عياض، أو السنن، قاله عثمان، أو طريق الجنة، قاله سعيد بن جبير، أو طريق السنة والجماعة، قاله القشيري، أو طريق الخوف والرجاء، قاله الترمذي، أو جسر جهنم، قاله عمرو بن عبيد. وروي عن المتصوفة في قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } أقوال، منها: قول بعضهم: { اهدنا الصراط المستقيم } بالغيبوبة عن الصراط لئلا يكون مربوطاً بالصراط، وقول الجنيد أن سؤال الهداية عند الحيرة من أشهار الصفات الأزلية، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية لئلا يستغرقوا في الصفات الأزلية. وهذه الأقوال ينبو عنها اللفظ، ولهم فيما يذكرون ذوق وإدراك لم نصل نحن إليه بعد. وقد شحنت التفاسير بأقوالهم، ونحن نلم بشيء منها لئلا يظن أنا إنما تركنا ذكرها لكوننا لم نطلع عليها. وقد رد الفخر الرازي على من قال إن الصراط المستقيم هو القرآن أو الإسلام وشرائعه، قال: لأن المراد صراط الذين أنعمت عليهم من المتقدمين ولم يكن لهم القرآن ولا الإسلام، يعني بالإسلام هذه الملة الإسلامية المختصة بتكاليف لم تكن تقدمتها. وهذا الرد لا يتأتى له إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون، وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم، واتصال نا باهد مناسب لنعبد ونستعين لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون الله ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح، لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة. ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده؟ وقرأ الحسن، والضحاك: صراطاً مستقيماً دون تعريف. وقرأ جعفر الصادق: صراط مستقيم بالإضافة، أي الدين المستقيم. فعلى قراءة الحسن والضحاك يكون صراط الذين بدل معرفة من نكره، كقوله تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله } ، وعلى قراءة الصادق وقراءات الجمهور تكون بدل معرفة من معرفة صراط الذين بدل شيء من شيء، وهما بعين واحدة، وجيء بها للبيان لأنه لما ذكر قبل { اهدنا الصراط المستقيم } كان فيه بعض إبهام، فعينه بقوله: { صراط الذين } ليكون المسؤول الهداية إليه، قد جرى ذكره مرتين، وصار بذلك البدل فيه حوالة على طريق من أنعم الله عليهم، فيكون ذلك أثبت وأوكد، وهذه هي فائدة نحو هذا البدل، ولأنه على تكرار العامل، فيصير في التقدير جملتين، ولا يخفى ما في الجملتين من التأكيد، فكأنهم كرروا طلب الهداية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن غريب القول أن الصراط الثاني ليس الأول، بل هو غيره، وكأنه قرىء فيه حرف العطف، وفي تعيين ذلك اختلاف. قيل هو العلم بالله والفهم عنه، قاله جعفر بن محمد، وقيل التزام الفرائض واتباع السنن، وقيل هو موافقه الباطن للظاهر في إسباغ النعمة. قال تعالى:**{ وأسبغ عليكم نعمهُ ظاهرة وباطنة }** [لقمان: 20] وقرأ: صراط من أنعمت عليهم، ابن مسعود، وعمر، وابن الزبير، وزيد بن علي. والمنعم عليهم هنا الأنبياء أو الملائكة أو أمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا، أو النبي صلى الله عليه وسلم أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، أو المؤمنون، قاله ابن عباس. أو الأنبياء والمؤمنون، أو المسلمون، قاله وكيع، أقوال، وعزا كثيراً منها إلى قائلها ابن عطية، فقال: قال ابن عباس: والجمهور أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، انتزعوا ذلك من آية النساء. وقال ابن عباس أيضاً: هم المؤمنون. وقال الحسن: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: مؤمنو بني إسرائيل. وقال ابن عباس: أصحاب موسى قبل أن يبدلوا. وقال قتادة: الأنبياء خاصة. وقال أبو العالية: محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، انتهى. ملخصاً ولم يقيد الأنعام ليعم جميع الأنعام، أعني عموم البدل. وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة، وقيل بأن نجاهم من الهلكة، وقيل بالهداية واتباع الرسول، وروي عن المتصوفة تقييدات كثيرة غير هذه، وليس في اللفظ ما يدل على تعيين قيد. واختلف هل لله نعمة على الكافر؟ فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم. وموضع عليهم نصب، وكذا كل حرف جر تعلق بفعل، أو ما جرى مجراه، غير مبني للمفعول. وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها، أي طلبنا منك الهداية، إذ سبق إنعامك، فمن إنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا، كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة ونذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج، فيكون ذلك آكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائها. وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهرى، ويجوز إقرارها معه على لغة، ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليهم، لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت له الهداية، لكن يسأل دوامها واستمرارها. { غير } مفرد مذكر دائماً وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملاً على اللفظ، وتأنيثه حملاً على المعنى، ومدلوله المخالفة بوجه مّا، وأصله الوصف، ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظاً أو معنى، وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف، وإن أضيف إلى معرفة. ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحداً تعرف بإضافته إليه، وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة، قد يقصد بها التعريف، فتصير محضة، فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة، وتقرير هذا كله في كتب النحو. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وزعم البيانيون أن غير أو مثلاً في باب الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه، قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه، ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك، مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه، ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان من مقتضى القياس، وموجب العرف أن يفعل ما ذكر، وقوله: | **غيـري بـأكثر هـذا النـاس ينخـدع** | | | | --- | --- | --- | غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر، وهذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما نحو: يكون للمكرمات مثلك، وينخدع بأكثر هذا الناس غيري، فأنت ترى الكلام مقلوباً على جهته. { المغضوب عليهم } ، الغضب: تغير الطبع لمكروه، وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته. لا حرف يكون للنفي وللطلب وزائداً، ولا يكون إسماً خلافاً للكوفيين. { ولا الضالين } ، والضلال: الهلاك، والخفاء ضل اللبن في الماء، وقيل أصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي، وضللت الشيء جهلت المكان الذي وضعته فيه، وأضللت الشيء ضيعته، وأضل أعمالهم، وضل غفل ونسي، وأنا من الضالين، { أن تضل إحداهما } ، والضلال سلوك سبيل غير القصد، ضل عن الطريق سلك غير جادتها، والضلال الحيرة، والتردد، ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة، وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور وبالمحبة، وسيأتي ذلك في مواضعه، والجر في غير قراءة الجمهور. وروى الخليل عن ابن كثير النصب، وهي قراءة عمر، وابن مسعود، وعلي، وعبد الله بن الزبير. فالجر على البدل من الذين، عن أبي علي، أو من الضمير في عليهم، وكلاهما ضعيف، لأن غيرا أصل وضعه الوصف، والبدل بالوصف ضعيف، أو على النعت عن سيبويه، ويكون إذ ذاك غير تعرفت بما أضيفت إليه، إذ هو معرفة على ما نقله سيبويه، في أن كل ما أضافته غير محضة قد تتمحض فيتعرف إلا في الصفة المشبهة، أو على ما ذهب إليه ابن السراج، إذ وقعت غير على مخصوص لا شائع، أو على أن الذين أريد بهم الجنس لا قوم بأعيانهم. قالوا كما وصفوا المعرف بال الجنسية بالجملة، وهذا هدم لما اعتزموا عليه من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، ولا أختار هذا المذهب وتقرير فساده في النحو والنصب على الحال من الضمير في عليهم، وهو الوجه أو من الذين قاله المهدوي وغيره، وهو خطأ، لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز، أو على الاستثناء، قاله الأخفش، والزجاج وغيرهما، وهو استثناء منقطع، إذ لم يتناوله اللفظ السابق، ومنعه القراء من أجل لا في قوله { ولا الضالين } ، ولم يسوغ في النصب غير الحال، قال لأن لا، لا تزاد إلا إذا تقدم النفي، نحو قول الشاعر: | **ما كان يرضى رسول الله فعلهم** | | **والطيبان أبو بكر ولا عمر** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة، أي زائدة مثلها في قوله تعالى:**{ ما منعك أن لا تسجد }** [الأعراف: 12] وقول الراجز: | **فما ألوم البيـض أن لا تسخـرا** | | | | --- | --- | --- | وقول الأحوص: | **ويلجئني في اللهو أن لا أحبه** | | **واللهو داع دائب غير غافل** | | --- | --- | --- | قال الطبري أي أن تسخر وأن أحبه، وقال غيره معناه إرادة أن لا أحبه، فلا فيه متمكنة، يعني في كونها نافية لا زائدة، واستدلوا أيضاً على زيادتها ببيت أنشده المفسرون، وهو: | **أبى جوده لا البخل واستعجلت به** | | **نعم من فتى لا يمنع الجود قائله** | | --- | --- | --- | وزعموا أن لا زائدة، والبخل مفعول بأبي، أي أبى جوده البخل، ولا دليل في ذلك، بل الأظهر أن لا مفعول بأبي، وأن لفظة لا لا تتعلق بها، وصار إسناداً لفظياً، ولذلك قال: واستعجلت به نعم، فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت، وهو إسناد لفظي، والبخل بدل من لا أو مفعول من أجله، وقيل انتصب غير بإضمار أعني وعزى إلى الخليل، وهذا تقدير سهل، وعليهم في موضع رفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله، وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل، إذا حذف خلاف ذكر في النحو. ومن دقائق مسائلة مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو، ولا في قوله: { ولا الضالين } لتأكيد معنى النفي، لأن غير فيه النفي، كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين، وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبة غير، ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين. وقرأ عمر وأبي وغير الضالين، وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض، ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين، والتأكيد فيها أبعد، والتأكيد في لا أقرب، ولتقارب معنى غير من معنى لا، أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال: وتقول أنا زيداً غير ضارب، مع امتناع قولك أنا زيداً مثل ضارب، لأنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب، يريد أن العامل إذا كان مجروراً بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه ولا على المضاف، لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه غير، فأجازوا تقديم معموله على غير إجراء لغير مجرى لا، فكما أنه لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها، فكذلك غير. وأوردها الزمخشري على أنها مسألة مقررة مفروغ منها، ليقوي بها التناسب بين غير ولا، إذ لم يذكر فيها خلافاً. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جداً، بناه على جواز أنا زيداً لا ضارب، وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب ذكرت في النحو، وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضى له بأن يجري أحكامه عليه، ولا يثبت تركيب إلا بسماع من العرب، ولم يسمع أنا زيداً غير ضارب. وقد ذكر أصحابنا قول من ذهب إلى جواز ذلك وردوه، وقدر بعضهم في غير المغضوب محذوفاً، قال التقدير غير صراط المغضوب عليهم، وأطلق هذا التقدير فلم يقيده بجر غير ولا نصبه، وهذا لا يتأتى إلا بنصب غير، فيكون صفة لقوله الصراط، وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف، والأصل العكس، أو صفة للبدل، وهو صراط الذين، أو بدلاً من الصراط، أو من صراط الذين، وفيه تكرار الإبدال، وهي مسألة لم أقف على كلام أحد فيها، إلا أنهم ذكروا ذلك في بدل النداء، أو حالاً من الصراط الأول أو الثاني. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقرأ أيوب السختياني: ولا الضألين، بإبدال الألف همزة فراراً من التقاء الساكنين. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة في كتاب الهمز، وجاءت منه ألفاظ، ومع ذلك فلا ينقاس هذا الإبدال لأنه لم يكثر كثرة توجب القياس، نص على أنه لا ينقاس النحويون، قال أبو زيد: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن، فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير: | **إذا مـا العوالي بالعبيـط احمـأرت** | | | | --- | --- | --- | وقول الآخر: | **وللأرض إما سودها فتجلت** | | **بياضاً وإما بيضها فادهأمت** | | --- | --- | --- | وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة، ينبغي أن ينقاس ذلك، وجعل الإنعام في صلة الذين، والغضب في صلة أل، لأن صلة الذين تكون فعلاً فيتعين زمانه، وصلة أل تكون اسماً فينبهم زمانه، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليه وتحقق ذلك، وكذلك أتى بالفعل ماضياً وأتى بالإسم في صلة أن ليشمل سائر الأزمان، وبناه للمفعول، لأن من طلب منه الهداية ونسب الأنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي. والمراد بالإنعام، الإنعام الديني، والمغضوب عليهم والضالين عام في كل من غضب عليه وضل. وقيل المغضوب عليهم: اليهود، والضالّون النصارى، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد. وروي هذا عن عدي بن حاتم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح هذا وجب المصير إليه، وقيل اليهود والمشركون، وقيل غير ذلك. وقد روي في كتب التفسير في الغضب والضلال قيود من المتصوفة لا يدل اللفظ عليها، كقول بعضهم غير المغضوب عليهم، بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته، ولا الضالين، برؤية ذلك، وقيل غير هذا. والغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به، فيكون من صفات الأفعال، وقدم الغضب على الضلال، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الإنعام، ومناسبة ذكره قرينة، لأن الإنعام يقابل بالانتقام، ولا يقابل الضلال الإنعام؛ فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه، فبينهما تطابق معنوي، وفيه أيضاً تناسب التسجيع، لأن قوله ولا الضالين، تمام السورة، فناسب أواخر الآي، ولو تأخر الغضب، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين، الغضب عليه، والضلال لمن أنعم الله عليه، وإن فسر اليهود والنصارى. فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى. وقد أنجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب، وكان عالماً بافتنان الكلام، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام. وأما من لا اطلاع له على كلام العرب، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب، فسمعه عن هذا الفن مسدود، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود. قالوا: وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع: النوع الأول: حسن الافتتاح وبراعة المطلع، فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم، على قول من عدها منها، فناهيك بذلك حسناً إذ كان مطلعها، مفتتحاً باسم الله، وإن كان أولها الحمد لله، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام، وقدم بين يدي النثر والنظام، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع. النوع الثاني: المبالغة في الثناء، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر. النوع الثالث: تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر، كقوله:**{ لا ريب فيه }** [البقرة: 2] ومعناه النهي. النوع الرابع: الاختصاص باللام التي في لله، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به، إذ هو مستحق لها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم، وتفرده فيه بالملك والملك، قال تعالى:**{ لمن الملك اليوم }** [غافر: 16]، ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه. النوع الخامس: الحذف، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر، وتقدم، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه؟ قال بعضهم؟ ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر، قال: ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب، التقدير غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه، إذكروا أو اقرأوا، فتقديره اقرأوا سورة الحمد، وأما من قيد الرحمن، والرحيم، ونعبد، ونستعين، وأنعمت، والمغضوب عليهم، والضالين، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | النوع السادس: التقديم والتأخير، وهو في قوله نعبد، ونستعين، والمغضوب عليهم، والضالين، وتقدم الكلام على ذلك. النوع السابع: التفسير، ويسمى التصريح بعد الإبهام، وذلك في بدل صراط الذين من الصراط المستقيم. النوع الثامن: الالتفات، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا. النوع التاسع: طلب الشيء، وليس المراد حصوله بل دوامه، وذلك في اهدنا. النوع العاشر: سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم. النوع الحادي عشر: التسجيع، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي، قوله تعالى: { الرحمن الرحيم اهدنا الصراط المستقيم } ، وقوله تعالى: { نستعين ولا الضالين } ، انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة. وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن، وجوزه الجمهور. والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه. عدَّ الجمهور المكيون والكوفيون { بسم الله الرحمن الرحيم } آية، ولم يعدوا { أنعمت عليهم } ، وسائر العادين، ومنهم كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية، وعدوا { صراط الذين أنعمت عليهم } آية، وشذ عمرو بن عبيد، فجعل آية { إياك نعبد } ، فهي على عده ثمان آيات، وشذ حسين الجعفي، فزعم أنها ست آيات. قال ابن عطية: وقول الله تعالى:**{ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني }** [الحجر: 87] هو الفصل في ذلك. ولم يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية، وشذ ابن المبارك فقال: إنها آية في كل سورة، ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية. وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة، وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول. وذكروا أحاديث في فضل بسم الله الرحمن الرحيم، الله أعلم بها، وذكروا للتسمية أيضاً نزول ما لا يعد سبباً، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد، وفاتحة الكتاب، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والواقية، والكافية، والشفاء، والشافية، والرقية، والكنز، والأساس، والنور، وسورة الصلاة، وسورة تعليم المسألة، وسورة المناجاة، وسورة التفويض. وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة، والكلام على هذا كله من باب التذييلات، لا أن ذلك من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك يضطر إليه علم التفسير. وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها، والاختلاف في مدلولها، وحكمها في الصلاة، وليست من القرآن، فلذلك أضربنا عن الكلام عليها صفحاً، كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا، إذا كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة، والله تعالى أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }. قال ابن عرفة: قدم أولا الوصف برَبّ العَالمِينَ تنبيها على أصل النشأة، وأنه هو الخالق المبدئ، ثم ثنى بحال الإنسان في الدّنيا من النعم والإحسان، فلولا رحمة الله تعالى لما كان ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ)
القراءات: " مالك ": بالألف سهل ويعقوب وعاصم وعلي وخلف، والباقون ملك: { الرحيم ملك } مدغماً: أبو عمرو، كذلك يدغم كل حرفين التقيا من كلمتين إذا كانا من جنس واحد مثل**{ قال لهم }** [البقرة: 249] أو مخرج واحد مثل**{ ولتأت طائفة }** [النساء: 102] أو قريبي المخرج مثل**{ خلقكم }** [لقمان: 28] و**{ لقد جاءكم }** [البقرة: 92] سواء كان الحرف المدغم ساكناً مثل**{ أنبتت سبع سنابل }** [البقرة: 261] ويسمى بالإدغام الصغير، أو متحركاً فأسكن للإدغام مثل**{ قيل لهم }** [البقرة: 11] و**{ لذهب بسمعهم }** [البقرة: 20] ويسمى بالإدغام الكبير إلا أن يكون مضاعفاً نحو**{ أحل لكم }** [البقرة: 187] و**{ مس سقر }** [القمر: 48] أو منقوصاً مثل**{ وما كنت ترجو }** [القصص: 86] و**{ كنت تراباً }** [النبأ: 40] ونعني بالمنقوص الأجوف المحذوف العين أو مفتوحاً قبله ساكن مثل**{ البحر لتأكلوا }** [النحل: 14] و**{ والحمير لتركبوها }** [النحل: 8] إلا في مواضع أربعة**{ كاد يزيغ }** [التوبة: 117] و**{ قال رب }** [المؤمنون: 26] في كل القرآن و**{ الصلاة طرفي النهار }** [هود: 114] و**{ بعد توكيدها }** [النحل: 91] أو يكون الإظهار أخف من الإدغام نحو**{ أفأنت تهدي }** [يونس: 43]**{ أفأنت تسمع }** [الزخرف: 40] وعن يعقوب إدغام الجنسين في جميع القرآن إذا التقيا من كلمتين. " الصراط " بإشمام الراء ههنا وفي جميع القرآن: حمزة. وعن يعقوب بالسين في كل القرآن، وعن الكسائي بإشمام السين كل القرآن، والباقون بالصاد. " عليهم ": وإليهم ولديهم بضم الهاآت كل القرآن: حمزة وسهل ويعقوب. ضم كل ميم جمع يزيد وابن كثير غير ورش، بضم الميم عند ألف القطع فقط نحو**{ أأنذرتهم أم }** [يس: 10]. الوقوف: العالمين (لا) لاتصال الصفة بالموصوف. الرحيم (لا) لذلك. الدين (ط) للعدول عن الغائب إلى المخاطب. نستعين (ط) لابتداء الدعاء. المستقيم (لا) لاتصال البدل بالمبدل. أنعمت عليهم (لا) لاتصال البدل أو الصفة. الضالين(ه). التفسير: روي عن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ "** وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار "** فذكر العلماء أن النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط، أو المراد به أمر آخر، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في تفسير القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه. وليس كل ما قالوه سمعوه، كيف وقد **" دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "** فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك؟! وإنما النهي يحمل على وجهين: أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوّل القرآن على وفق هواه ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا قد يكون مع العلم بأن المراد من الآية ليس ذلك، ولكن يلبس على خصمه. وقد يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وقد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول: المراد بفرعون في قوله تعالى**{ اذهب إلى فرعون إنه طغى }** [النازعات: 17] هو النفس. الوجه الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أوّلاً ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع للتفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة كقوله تعالى**{ وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها }** [الإسراء: 59] معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء، وما يدري بما ظلموا وإنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم. وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه ما دام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية. واعلم أن مقتضى الديانة أن لا يؤوّل المسلم شيئاً من القرآن والحديث بالمعاني بحيث تبطل الأعيان التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح مثل: الجنة والنار والصراط والميزان والحور والقصور والأنهار والأشجار والثمار وغيرها، ولكنه يجب أن يثبت تلك الأعيان كما جاءت. ثم إن فهم منها حقائق أخرى ورموزاً ولطائف بحسب ما كوشف فلا بأس، فإن الله تعالى ما خلق شيئاً في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئاً في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب، وما خلق في العالمين شيئاً إلا وله أنموذج في عالم الإنسان والله تعالى أعلم. والتفسير أصله الكشف والإظهار وكذلك سائر تقاليبه. من ذلك: سفرت المرأة كشفت عن وجهها، والسفر لأنه يكشف به عن وجوه الحوائج، ومنه السرف لأنه يكشف به عن ماله حينئذ. والرفس لأنه يكشف عن عضوه وانكشاف حال المقيد في رسفانه واضح. فمن التفسير ما يتعلق باللغة ومنه ما يتعلق بالصرف أو النحو أو المعاني أو البيان إلى غير ذلك من العلوم كما أشرنا إلى ذلك في آخر المقدمة العاشرة، ومنه أسباب النزول وذكر القصص والأخبار وغير ذلك. ونحن على أن نورد بعد القرآن مع الترجمة القراءة ثم الوقوف ثم أسباب النزول ثم التفسير الشامل لجميع ذلك، ثم التأويل إن كان، ولم نذكره في التفسير ونذكر منه ما هو أقرب إلى الإمكان والله المستعان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فلنشتغل بتفسير الفاتحة فنقول: في البسملة مسائل: الأولى: الجار والمجرور لا بد له من متعلق وليس بمذكور فيكون مقدراً وأنه يكون فعلاً أو اسماً فيه رائحة الفعل. وعلى التقديرين فإما أن يقدر مقدماً أو مؤخراً نحو: ابدأ بسم الله، أو ابتدائي بسم الله، أو بسم الله أبتدئ، أو بسم الله ابتدائي أو الابتداء، وتقدير الفعل أولى من تقدير الاسم لأن كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله يكون مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له، فيكون المراد أن إنشاء ذلك الفعل إنما هو على اسم الله فيقدر ههنا بسم الله أقرأ أو أتلو أو أبدأ، لأن الذي يتلو التسمية مقروء ومبدوء به كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال: بسم الله متبركاً، كان المعنى بسم الله أحل أو ارتحل وكذلك الذابح. ونظيره في حذف متعلق الجار قولهم في الدعاء للمعرس: بالرفاء والبنين، أي بالرفاء أعرست، وتقدير المحذوف متأخر أولي على نحو قوله تعالى**{ بسم الله مجريها ومرساها }** [هود: 41] لأن تقديم ذكر الله أدخل في التعظيم، ولأن ما هو السابق في الوجود يستحق السبق في الذكر، ولهذا قال المحققون: ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله تعالى قبله. ولأنهم كانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقول: باسم اللات باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما في { إياك نعبد } صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص. قال في الكشاف: وإنما قدم الفعل في**{ اقرأ باسم ربك }** [العلق: 1] لأن تقديم الفعل هناك أوقع لأنهما أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم. وقال صاحب المفتاح: الصواب أن يقال: معنى إقرأ أوجد القراءة، ثم يكون باسم ربك متعلقاً باقرأ الثاني. وذكر في معنى تعلق اسم الله بالقراءة وجهان: إما تعلق القلم بالكتبة في قولك " كتبت بالقلم " كان فعله لا يجيء معتداً به شرعاً إلا بعد تصديره بذكر الله قال صلى الله عليه وسلم: **" كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر "** وإما تعلق الدهن بالإنبات في قوله تعالى**{ تنبت بالدهن }** [المؤمنون: 20] أي متبركاً باسم الله أقرأ كما في قوله " بالرفاء والبنين " أي أعرست متلبساً بالرفاء وهذا أعرب وأحسن. أما كونه أدخل في العربية فلأنه لا يعرفه إلا من له دربة بفنون الاستعمالات بخلاف الأول فإنه مبتذل. وأما كونه أحسن فلأن جعل اسم الله كالآلة خروج عن الأدب، لأن الآلة من حيث إنها آلة غير مقصود بالذات، واسم الله تعالى عند الموحد أهم شيء وأنه مقول على ألسنة العباد تعليماً لهم كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه، وكذلك الحمد لله رب العالمين إلى آخره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثانية: أنهم استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من لفظ " الله " بعد الفتحة والضمة دون الكسرة أما الأول فللفرق بينه وبين لفظ اللات في الذكر، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر، فيكون أدخل في الثواب وهذا كما جاء في التوراة: أحبب ربك بكل قلبك. وأما الثاني فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار. وإنما لم يعدّوا اللام الغليظة حرفاً والرقيقة حرفاً آخر كما عدوا الدال حرفاً والطاء حرفاً آخر مع أن نسبة الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء، فإن الدال بطرف اللسان والطاء بكل اللسان، لإطراد استعمال الغليظة مكان كل رقيقة ما لم يعق عائق الكسرة وعدم إطراد الطاء مكان كل دال. الثالثة: طولوا الباء من بسم الله إما للدلالة على همزة الوصل المحذوفة، وإما لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم. وكان يقول عمر بن عبد العزيز لكتابه: طولوا الباء وأظهروا السين ودوّروا الميم تعظيماً لكتاب الله. وقال أهل الإشارة: الباء حرف منخفض في الصورة، فلما اتصل بكتابة لفظ " الله " ارتفعت واستعملت. فلا يبعد أن القلب إذا اتصل بحضرة الله يرتفع حاله ويعلو شأنه. الرابعة: إبقاء لام التعريف في الخط على أصله في لفظ الله كما في سائر الأسماء المعرفة، وأما حذف الألف قبل الهاء فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة ولأنه يشبه اللات في الكتابة. قال أهل الإشارة: الأصل في قولنا " الله " الإله وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ: ألف ولامان وهاء، فالهمزة من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصى الحلق، وهذه حال العبد يبتدئ من النكرة والجهالة ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار، أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل: النهاية رجوع إلى البداية. وأما حذف الألف قبل النون من لفظ " الرحمن " فهو جائز في الخط ولو كتب كان أحسن. الخامسة: الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، وهو عند البصريين في الأصل سمو بدليل تكسيره على أسماء وتصغيره على سميّ وتصريفه على سميت ونحوه، فاشتقاقه من السمو وهو العلو مناسب لأن التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره. وقيل: لأن اللفظ معرف للمعنى، والمعرف متقدم على المعرف في المعلومية فهو عالٍ عليه حذفوا عجزه كما في " يد " و " دم " فبقي حرفان أولهما متحرك والثاني ساكن، فلما حرك الساكن للإعراب أسكن المتحرك للاعتدال فاحتيج إلى همزة الوصل إذ كان دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك ويقفوا على الساكن حذراً من اللكنة والبشاعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنهم من لم يزد الهمزة وأبقى السين بحاله فيقول: سم كما قال: باسم الذي في كل سورة سمه. وقد يضم السين فيقال: " سم " كأن الأصل عنده " سمو ". وعند الكوفيين اشتقاق الاسم من الوسم والسمة، لأن الاسم كالعلامة المعرّفة. وزيف بأنه لو كان كذلك لكان تصغيره وسيماً وحجمه أوساماً. السادسة: قال بعض المتكلمين ومنهم الأشعري: إن الاسم غير المسمى وغير التسمية وهو حق، لأن الاسم قد يكون موجوداً والمسمى معدوماً كلفظ المعدوم والمنفي ونحو ذلك، وقد يكون بالعكس كالحقائق التي لم توضع لها أسماء، ولأنّ الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحداً كالأسماء المترادفة وكأسماء الله التسعة والتسعين، أو بالعكس كالأسماء المشتركة، ولأن كون الاسم اسماً للمسمى وكونه المسمى مسمى له من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية، والمضافان متغايران لا محالة. ولا يشكل ذلك بكون الشخص عالماً بنفسه لأنهما متغايران اعتباراً، ولأن الاسم أصوات وحروف هي أعراض غير باقية والمسمى قد يكون باقياً بل واجب الوجود لذاته، ولأنه لا يلزم من التلفظ بالعسل وجود الحلاوة في اللسان، ومن التلفظ بالنار وجود الحرارة. وقال المعتزلة: الاسم نفس المسمى لقوله تعالى**{ تبارك اسم ربك }** [الرحمن: 78] مكان " تبارك ربك ": والجواب أنه كما يجب علينا تنزيه ذات الله تعالى من النقائص يجب تنزيه اسمه مما لا ينبغي. وأيضاً قد يزاد لفظ الاسم مجازاً كقوله: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما. قالوا: إذا قال الرجل: زينب طالق. وكان له زوجة مسماة بزينب طلقت شرعاً. قلنا: المراد الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا وقع الطلاق عليها، والتسمية أيضاً مغايرة للمسمى وللاسم لأنها عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته، والاسم عبارة عن ذلك اللفظ المعين فافترقا. السابعة: وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف، لأن الحروف رابطة بينهما. والظاهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال لأن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية لشيء من الأشياء في زمان معين، فكأن الاسم مفرد والفعل مركب والمفرد سابق على المركب طبعاً فيكون سابقاً عليه وضعاً. وأيضاً الفعل مفتقر إلى الفاعل، والفاعل لا يفتقر إلى الفعل. وأيضاً الاسم مستغن في الإفادة عن الفعل دون العكس، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقات، لأن الأولى مفردة والثانية مركبة، ويشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بتوسط الصفات القائمة بها والمعرف معلوم قبل المعرّف فيناسب السبق في الذكر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثامنة: أقسام الأسماء الواقعة على المسميات تسعة: أولها: لاسم الواقع على الذات. ثانيها: الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزائه كالحيوان على الإنسان ثالثها: الواقع عليه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحارّ. رابعها: الواقع عليه بحسب صفة إضافية كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومالك ومملوك. خامسها: الواقع عليه بحسب صفة سلبية كالأعمى والفقير. سادسها: الواقع عليه بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كالعالم والقادر عند القائل بأن العلم صفة حقيقية، ولها إضافة إلى المعلومات وكذا القدرة. سابعها: صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً. ثامنها: صفة إضافية مع صفة سلبية كالأول، فإن معناه سابق غير مسبوق. تاسعها صفة حقيقية مع صفة إضافية وصفة سلبية، فهذه أقسام الأسماء لا تكاد تجد اسماً خارجاً عنها، سواء كان لله تعالى أو لمخلوقاته. التاسعة: هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ ذكر بعضهم أن حقيقته تعالى لما كانت غير مدركة للبشر فكيف يوضع له اسم مخصوص بذاته؟ وما الفائدة في ذلك؟ أقول: لا ريب أن الإدراك التام عبارة عن الإحاطة التامة، والمحاط لا يمكن أن يحيط بمحيطه أبداً، وأنه تعالى بكل شيء محيط فلا يدركه شيء مما دونه كما ينبغي، إلا أن وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إدراكه كما ينبغي، وإنما ينافي عدم إدراكه مطلقاً. فيجوز أن يقال الشيء الذي تدرك منه هذه الآثار واللوازم مسمى بهذا اللفظ، وأيضاً إذا كان الواضع هو الله تعالى وأنه يدرك ذاته لا محالة على ما هو عليه، فله أن يضع لذاته اسماً مخصوصاً لا يشاركه فيه غيره حقيقة، وإذا كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً فينبغي أن يكون ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار، لأن شرف العلم والذكر بشرف المعلوم والمذكور. فلو اتفق لعبد من عبيده المقربين الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه، لم يبعد أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات. ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه. منهم من قال: هو ذو الجلال والإكرام ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: **" ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام "** ورد بأن الجلال من الصفات السلبية والإكرام من الإضافية، ومن البين أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات. ومنهم من يقول: إنه الحي القيوم **" لقوله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب حين قال له: ما أعظم آية في كتاب الله؟ فقال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فقال صلى الله عليه وسلم: " ليهنك العلم يا أبا المنذر ".** وزيف بأن الحي هو الدرّاك الفعال وهذا ليس فيه عظمة ولأنه صفة، وأما القيوم فمعناه كونه قائماً بنفسه مقوّماً لغيره، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، والثاني إضافي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنهم من قال: إن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا ينبغي أن يفاوت بينها، ورد بما مرّ من أن اسم الذات أشرف من اسم الصفة، ومنهم من قال: إن الإسم الأعظم هو الله وهذا أقرب، لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة، ويؤيد ذلك ما روت أسماء بنت زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } [البقرة: 163] وفاتحه سورة آل عمران { ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } "** [آل عمران: 1 - 2] وعن بريدة " **" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال: " والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ".** ولا شك أن اسم الله في الآية والحديث أصل والصفات مرتبة عليه هذا، وأما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزائه فمحال في حق الله تعالى، لأن ذاته تعالى مبرأ عن شائبة التركيب بوجه من الوجوه. وأما الاسم الدال بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة، فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود، وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود، فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأسماء الدالة على الوجود منها الشيء ويجوز إطلاقه على الله تعالى عند الأكثرين لقوله تعالى**{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم }** [الأنعام: 19]**{ كل شيء هالك إلا وجهه }** [القصص: 88] أي ذاته. وفي الخبر **" كان الله ولم يكن شيء غيره "** ولأن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذاته تعالى كذلك. حجة المخالف قوله تعالى**{ الله خالق كل شيء }** [الرعد: 16] فلو كان الله تعالى شيئاً لزم أن يكون خالق نفسه. ومثله**{ وهو على كل شيء قدير }** [التغابن: 1] قلنا: خص بالدليل العقلي. قالوا: ليس من صفات المدح. قلنا: نعم هو خير من لا شيء، وإن كان سائر الأشياء مشتركة معه في ذلك كالموجود والكريم والحليم، فإن كلاً منها مدح بالنسبة إلى من لا وجود له ولا كرم ولا حلم، بل الشيء بالحقيقة هو وباقي الأشياء شيئيتها مستعارة كوجودها ومنها الموجود. وأطبق المسلمون على جواز إطلاقه عليه تعالى وكيف لا؟ ومعنى قول الموحد لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنها الذات ولا شك في جواز إطلاقه عليه إذ يصدق على كل حقيقة أنها ذات الصفات أي صاحبة الصفات القائمة بها، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إن إبراهيم لم يكذّب إلا في ثلاث: ثنتين في ذات الله "** - أي في طلب مرضاته ـ ومنها النفس قال تعالى:**{ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك }** [المائدة: 116] وقال صلى الله عليه وسلم: **" أنت كما أثنيت على نفسك "** أي على ذاتك وحقيقتك. ومنها الشخص قال: **" لا شخص أغير من الله تعالى ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " " ولا شخص أحب إليه العذْر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين " " ولا شخص أحب إليه المدحة من الله "** والمراد بالشخص الحقيقة المتعينة الممتازة عما عداها. ومنها النور قال عز من قائل:**{ الله نور السماوات والأرض }** [النور: 35] وليس المراد به ما يشبه الكيفية المبصرة وإنما المراد أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره. وإذ لا ظهور ولا إظهار فوق ظهوره وإظهاره فإنه واجب الوجود لذاته أزلاً وأبداً، ومخرج جميع الممكنات من العدم إلى الوجود. فإذن هو نور الأنوار تعالى وتقدس، وسوف يأتيك تمام التحقيق إذا وصلنا إلى سورة النور وهو أعلم بحقائق الأمور. ومنها الصورة وقد ورد في الخبر **" أن الله خلق آدم على صورته "** فقيل: معناه خلق آدم على صورته التي كان عليها يعني ما تولد من نطفة ودم وما كان جنيناً، ورضيعاً بل خلقه الله تعالى رجلاً كاملاً دفعة واحدة. وقيل في حديث آخر **" لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن "** المراد من الصورة الصفة كما يقال: صورة هذه المسألة كذا أي خلقه على صفته في كونه خليفة في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم. ويمكن أن يقال: الصورة إشارة إلى وجه المناسبة التي ينبغي أن تكون بين كل علة ومعلولها، فإن الظلمة لا تصدر عن النور وبالعكس، وكنا قد كتبنا في هذا رسالة. ومنها الجوهر وأنه لا يطلق عليه بمعنى موجود لا في موضوع، أي إذا وجد كان وجودهن بحيث لا يحتاج إلى محل يقوم به ويستغني المحل عنه، لأن ذلك ينبئ عن كون وجوده زائداً على ماهيته. وإنما يمكن أن يطلق عليه بمعنى آخر وهو كونه قائماً بذاته غير مفتقر إلى شيء في شيء أصلاً لكن الإذن الشرعي حيث لم يرد بذلك وجب الامتناع عنه. ومنها الجسم ولا يطلقه عليه إلا المجسمة، فإن أرادوا الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة فمحال للزوم التركيب والتجزي، وإن أرادوا معنى يليق بذاته من كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل فالإذن الشرعي لم يرد به فلزم الامتناع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنها الماهية والآنية أي الحقيقة التي يسأل عنها بما هي وثبوته الدال عليه لفظ " ان " ، ولا بأس بإطلاقهما عليه إذا أريد بهما الحقيقة والذات المخصوصة إلا من حيث الشرع. ومنها الحق فإنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم، إما بحسب ذاته فلأنه الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله، والحق يقال بإزاء الباطل والباطل يقال للمعدوم قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وإما بحسب ما يقال إن هذا الخبر حق وصدق فهذا الخبر أحق وأصدق، وإما بحسب ما يقال إن هذا الاعتقاد حق فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه أصوب الاعتقادات المطابقة. القسم الثاني في الأسماء الدالة على كيفية الوجود منها القديم وهو في اللغة يفيد طول المدة، وفي الشرع يرادفه الأزلي، ويراد بهما ما لا أول له في الطرف الماضي كالأبدي في الطرف المستقبل. وكذا السرمدي واشتقاقه من السرد التوالي والتعاقب، زيدت الميم للمبالغة. ونعني بالنسبة في هذه الألفاظ أنه تعالى منسوب إلى عدم البداية والنهاية في كلا طرفي الامتداد الوهمي المسمى بالزمان. ومنها الممتد والمستمر ونعني بهما تلاحق الأجزاء وتعاقب الأبعاض، ولا يخفى أن أمثال هذه الألفاظ إنما يصح إطلاقها بالحقيقة على الزمان والزمانيات، وأما في حق الله جل ذكره فلا يصح إلا بالمجاز بعد التوقيف. ومنها الباقي قال تعالى:**{ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }** [الرحمن: 26 - 27] وأنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم. ومنها الدائم وهو كالباقي. ومنها واجب الوجود لذاته أي ذاته اقتضى وجوده، وما بالذات لا ينفك عنه أبداً فهو ممتنع الفناء والعدم أزلاً وأبداً ولهذا قيل: خداي معناه خوداي أي أنه جاء بنفسه. ومنها الكائن قال تعالى:**{ وكان الله عليماً حكيماً }** [الفتح: 4] وفي بعض الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم **" يا كائناً قبل كل كون، ويا حاضراً مع كل كون، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون "** واعلم: أن لفظة " كان " تفيد الحصول والثبوت والوجود، إلا أن هذا قسمان: منه ما يفيد حصول الشيء في نفسه، ومنه ما يفيد حصول موصوفية شيء بشيء. والأول يتم باستناده إلى ذلك الشيء وهي التامة، والثاني لا يتم إلا بذكر شيئين وهي الناقصة نحو: كان زيد عالماً أي حصل موصوفية زيد بالعلم وكلا القسمين يجوز إطلاقه عليه تعالى. القسم الثالث في الصفات الحقيقية المغايرة للوجود ولكيفيات الوجود. الفلاسفة والمعتزلة أنكروا قيام مثل هذه الصفات بذات الله تعالى أشد إنكار لأن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحداً من جميع جهاته، ولأن تلك الصفة لو كانت واجبة الوجود لزم شريك للباري مع أن الجمع بين الوجود الذاتي وبين كونه صفة للغير، والصفة مفتقرة إلى الموصوف محال، وإن كانت ممكنة الوجود فلها علة موجدة، ومحال أن يكون هو الله تعالى لأنه قابل لها فلا يكون فاعلاً لها، ولأن ذاته لو كانت كافية في تحصيل تلك الصفة فتكون ذاته بدون تلك الصفة كاملة في العلية وهو المطلوب، وإن لم تكن كافية لزم النقص المنافي لوجوب الوجود. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | حجة المثبتين أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً، ثم إنا ندرك التفرقة بين قولنا: " ذات الله تعالى ذات " وبين قولنا: " ذاته عالم قادر " وذلك يدل على المغايرة بين الذات وهذه الصفات. وإذا قلنا بإثبات الصفة الحقيقية فنقول: العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور. والصفة الحقيقية العارية عن النسب والإضافات في حقه تعالى ليست إلا صفة الحياة إن لم نقل إنها عبارة عن الدرّاكية والفعالية، بل يقال: إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالماً وقادراً، والتحقيق أن الحياة عبارة عن كون الشيء بحيث يصدر عنه ما من شأنه أن يصدر عنه كما ينبغي أن يصدر عنه، ولا ريب أن واجب الوجود تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم، لأن وجوب الوجود يقتضي اتصافه بجميع الصفات الكمالية وصدور الأشياء الممكنة عنه على النحو الأفضل، ولهذا مدح الله تعالى به نفسه قائلاً**{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم }** [البقرة: 255]**{ وعنت الوجوه للحي القيوم }** [طه: 111] وأما الأسماء الدالة على الصفات الإضافية، فمنها التكوين وهو عند المعتزلة والأشعري نفس المكوّن. وقال غيرهم: إنه غيره. حجة الأولين أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة وهي القدرة لا غير، أو على سبيل الوجوب. ويلزم كونه موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار. وأيضاً إن كانت قديمة لزم قدم الآثار، وإن كانت حادثة افتقرت إلى تكوين آخر وتسلسل الآخرون. قالوا: كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية، لأن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً، فإن القادر على الفعل قد يوجد وقد لا يوجد. ومنها كونه تعالى معلوماً ومذكوراً مسبحاً ممجداً فيقال: يا أيها المسبح بكل لسان، ويا أيها الممدوح عند كل إنسان، ويا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان. ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية. ومنها ألفاظ متقاربة تدل على مجرد كونه موجداً مثل الموجد ومعناه المؤثر في الموجود، والمحدث وهو أخص لأنه الذي جعله موجوداً بعد العدم، والمكوّن وهو كالموجد والمنشئ ومعناه ينشئ على التدريج والمبدع والمخترع ويفهم منهما الإيجاد الدفعي، وكذا الفاطر مثل الصانع ويفهم منه تكلف، وأما الخلق فهو التقدير وأنه في حق الله تعالى يرجع إلى العلم، وأما الباري فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | يقال: برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين. ومنها ألفاظ تدل على إيجاد شيء بعينه وأنها تكاد تكون غير متناهية. ومنها ألفاظ تدل على إيجاد النوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية، فإذا خلق المنافع سمي نافعاً، وإذا خلق الألم سمي ضاراً، وإذا خلق الحياة سمي محيياً، وإذا خلق الموت سمي مميتاً، وإذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً، وإذا أقلّ العطاء سمي قابضاً، وإذا أكثر سمي باسطاً، وإذا جازى الذنوب بالعقاب سمي منتقماً، وإذا ترك ذلك الجزاء سمي عفوّاً غفوراً رحماناً رحيماً، وإذا حصل المنع والإعطاء في المال سمي قابضاً باسطاً، وإذا حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً. وأما الصفات السلبية فمنها ما يعود إلى الذات كقولنا إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا مكانياً ولا زمانياً ولا حالاً ولا محلاً ولا مفتقراً إلى شيء غيره، تعالى في ذاته وفي صفاته، وإنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. ومنها ما يعود إلى الصفات، ولا يخفى أن كل صفة من صفات النقص يجب تنزيه الله عنها، وذلك إما راجع إلى أضداد العلم كنفي النوم**{ لا تأخذه سنة ولا نوم }** [البقرة: 255] وكنفي النسيان**{ وما كان ربك نسياً }** [مريم: 64] وكنفي الجهل**{ لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض }** [سبأ: 3] وكأن لا يمنعه العلم ببعض المعلومات عن العلم بغيره لا يشغله شأن عن شأن. وإما راجع إلى أضداد القدرة ككونه منزهاً في أفعاله عن التعب والنصب**{ وما مسنا من لغوب }** [ق: 38] وإنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات وتقديم المادة والمدّة**{ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }** [النحل: 40] وأنه لا يتفاوت في قدرته القليل والكثير**{ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب }** [النحل: 77] وأنه لا تنتهي قدرته**{ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز }** [إبراهيم: 19] وإما راجع إلى صفة الوحدة كنفي الأنداد والأضداد**{ ليس كمثله شيء }** [الشورى: 11]**{ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله }** [المؤمنون: 91] أو إلى صفة الاستغناء**{ وهو يطعم ولا يُطْعَم }** [الأنعام: 14]**{ وهو يجير ولا يجار عليه }** [المؤمنون: 88] ومنها ما يعود إلا الأفعال لا يخلق الباطل**{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً }** [ص: 27] لا يخلق اللعب**{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين }** [الأنبياء: 17] لا يخلق العبث**{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً }** [المؤمنون: 115] لا يرضى بالكفر، لا يريد الظلم، لا يحب الفساد لا يؤذي من غير سابقة جرم**{ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم }** [النساء: 146] لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها }** [الإسراء: 7] ليس لأحد أن يعترض عليه في أفعاله وأحكامه**{ لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون }** [الأنبياء: 23]**{ لا يخلف الميعاد }** [آل عمران: 9] ومن أسماء السلوب القدوس والسلام لأنه منزه وسالم من نقائص الإمكان. ومنها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير أو لا يغلبه شيء، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة ولا يمنع من إيصال الرحمة، والصبور الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه، وربما يفرق بينهما بأن المكلف يأمن العقوبة في صفة الحليم دون صفة الصبور. وأما الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية فمنها: القادر والقدير والمقتدر والمالك والملك ومالك الملك والمليك والقوي وذو القوة ومعانيها ترجع إلى القدرة ومنها ما يرجع إلى العلم**{ ولا يحيطون بشيء من علمه }** [البقرة: 255]**{ عالم الغيب والشهادة }** [التغابن: 18]**{ وهو بكل شيء عليم }** [البقرة: 29]**{ علام الغيوب }** [المائدة: 109]**{ الله أعلم حيث يجعل رسالته }** [الأنعام: 124]**{ علم الله أنكم كنتم تختانون }** [البقرة: 187]**{ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون }** [النحل: 19]**{ وعلم آدم الأسماء }** [البقرة: 31] ولم يرد علامة وإن كان يفيد المبالغة لأن ذلك بتأويل أمة أو جماعة. والخبير يقرب من العليم وكذا الشهيد إذا فسر بكونه مشاهداً لها، وإذ أخذ من الشهادة كان من وصف الكلام. والحكمة تشارك العلم من حيث إنه إدراك حقائق الأشياء كما هي وتباينه بأنها أيضاً صدور الأشياء عنه كما ينبغي. واللطيف قد يراد به إيصال المنافع إلى الغير بطرق خفية عجيبة، والتحقيق أنه الذي ينفذ تصرفه في جميع الأشياء. ومنها ما يرجع إلى الكلام**{ وكلم الله موسى تكليماً }** [النساء: 164]**{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً }** [الشورى: 51]**{ وإذ قال ربك }** [البقرة: 30]**{ ما يبدل القول لديَّ }** [ق: 30]**{ ومن أصدق من الله قيلاً }** [النساء: 122]**{ إنما أمره }** [يس: 81]**{ إن الله يأمركم }** [النساء: 58]**{ وعد الله حقاً }** [النساء: 122]**{ فأوحى إلى عبده ما أوحى }** [النجم: 9]**{ وكان الله شاكراً عليماً }** [النساء: 147]**{ كان سعيكم مشكوراً }** [الدهر: 22] وذلك أنه أثنى على عبده بمثل قوله**{ كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون }** [الذاريات: 18 - 19] وهذا صورة الشكر. ومنها ما يرجع إلى الإرادات**{ يريد الله بكم اليسر }** [البقرة: 85] رضي الله عنهم أي صار مريداً لأفعالهم**{ يحبهم ويحبونه }** [المائدة: 54]**{ والله يحب المطهرين }** [التوبة: 108] يريد إيصال الخير إليهم**{ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً }** [الإسراء: 38]. الأشعرية: الكراهية عبارة عن إرادة عدم الفعل. المعتزلة: له صفة أخرى غير الإرادة. ومنها ما يرجع إلى السمع والبصر**{ إنني معكما أسمع وأرى }** [طه: 46]**{ إنه هو السميع البصير }** [الإسراء: 1]**{ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار }** [الأنعام: 103] وأما الصفات الإضافية مع السلبية فكالأول لأنه مركب من معنيين: أحدهما أنه سابق على غيره، والثاني لا يسبق عليه غيرهن وكالآخر فإنه الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعد غيرهن، وكالقيوم فإنه الذي يفتقر إليه غيره ولا يفتقر إلى غيره، والظاهر إضافة محضة وكذا الباطن، أي أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب الماهية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما الاسم الدال على مجموع الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية فالإله، ولا يجوز إطلاق هذا اللفظ في الإسلام على غير الله وأما الله، فسيأتي أنه اسم علم. وقد بقي ههنا أسماء يطلقها عليه تعالى أهل التشبيه ككونه متحيزاً أو حالاً في المتحيز استبعاداً منهم أنه كيف يكون موجود خالياً عن كلا الوصفين وهو عند أهل التقديس محال للزوم الافتقار، اللهم إلا أن يقال استصحاب المكان لا يستلزم الافتقار إلى المكان ومنها العظيم والكبير وهما متقاربان لقوله تعالى في موضع**{ وهو العلي العظيم }** [البقرة: 255] وفي آخر**{ وهو العلي الكبير }** [سبأ: 23] وقد يفرق بينهما بأنه ورد **" الكبرياء ردائي و العظمة إزاري "** والرداء أرفع من الإزار. وأيضاً اختص تحريم الصلاة بالله أكبر دون الله أعظم. ولا ريب أن إطلاق العظمة والكبر على الله تعالى بحسب الحجمية والمقدار كما للأجسام محال للزوم التبعيض والتجزئة. ومنها العلي والمتعالي، فإن العلو بالمعنى المستلزم للتمكن محال على الله فإما أن يراد بمثل هذه الألفاظ مزيد الرتبة والشرف على الممكنات، وإما أن يقال: إنا نطلق هذه الأسماء للإذن الشرعي فنكل معانيها إلى مراد الله تعالى، وإما أن نستمد في إدراكها بضرب من الكشف والعيان. (العاشر في الأسماء المضمرة) قال عز من قائل:**{ إنني أنا الله لا إله إلا أنا }** [طه: 14] ولا يصح لغيره هذا الذكر إلا حكاية. وما جاء من قول بعض أهل الكمال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا. إشارة إلى كمال المحبة وغاية إرادة الاتصاف بصفة المحبوب وفناء إرادته في إرادته، وقال:**{ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }** [الأنبياء: 87] ولا يصح هذا إلا من العبد بشرط الحضور والمشاهدة. وقال**{ لا إله إلا هو }** [البقرة: 255] وإنما يصح هذا من الغائبين. واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه، فكل حاضر غائب بالنسبة إلى ما فوق تلك الدرجة، ورب غائب حاضر كما قيل: | **أيا غائباً حاضراً في الفؤاد** | | **سلام على الغائب الحاضر** | | --- | --- | --- | وفي لفظة " هو " أسرار عجيبة منها: أن العبد إذا قال: يا هو فكأنه يقول: ما للتراب ورب الأرباب؟ وما المناسبة بين المتولد من النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم؟ فلهذا ينادي نداء الغائبين ويقول: يا هو. ومنها أنه إذا قال: يا هو فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه نفي محض، لأنه لو حصل في الوجود شيئان لكان قوله " هو " صالحاً لهما جميعاً فلا يتعين النداء. ومنها إذا قال: يا رحمن فكأنه يتذكر رحمته أو يطلب رحمته، وكذا إذا قال: يا كريم وغيره من الصفات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فأما إذا قال: " يا هو " فكأنه استغرق في بحر العرفان وفني عما سوى الذات. ومنها إذا قال: " يا هو " فكأنه يقول: أجلّ حضرتك أن أمدحك، وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك وهي صفات الجلال نحو: لا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا في المحل، أو بإسناد كمالات الممكنات إليك وهي صفات الإكرام ككونه مرتباً للموجودات على النحو الأكمل، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي. ومنها أن هذا الذكر يفيد أن المنادي بسيط محض لا طريق إلى تصوره إلا بالإشارة العقلية. ومنها أن العبد كأنه دهش حتى ذهل عن كل ما يوصف به مالكه إلا عن هذه الإشارة. ولاختصاص هذا الذكر بهذه الأسرار ذكر الغزالي لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا إله إلا هو توحيد الخواص. وذلك أن قوله " لا هو " معناه كل شيء هالك، وقوله " إلا هو " معناه إلا وجهه. ومن جملة الأذكار الشريفة: يا هو يا من لا هو إلا هو، يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت. ولقد لقنني بعض المشايخ من الذكر: يا هو يا من هو هو يا من لا هو إلا هو يا من لا هو بلا هو إلا هو. فالأول فناء عما سوى الله، والثاني فناء في الله، والثالث فناء عما سوى الذات، والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات. الحادي عشر في بقية مباحث الأسماء اختلفوا في أسماء الله تعالى توقيفية أم لا. فمال بعضهم إلى التوقيف لأنا نصف الله تعالى بكونه عالماً ولا نصفه بكونه طبيباً وفقيهاً ومستيقناً، فلولا أن أسماءه توقيفية لوصف بمثلها وإن كان على سبيل التجوز. القائلون بعدم التوقيف احتجوا بأن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية وأن شيئاً منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها. والجواب أن عدم التوقيف في غير اللغة العربية لا يوجب عدمه في العربية، وبأن الله تعالى قال:**{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها }** [الأعراف: 180] وكل اسم دل على صفات الكمال ونعوت الجلال كان حسناً ويجوز إطلاقه. والجواب أنه يجوز ولكن بعد التوقيف لم قلتم إنه ليس كذلك؟ والغزالي فرق بين اسم الذات وبين أسماء الصفات فمنع الأول وجوّز الثاني. واعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على معانٍ لا يمكن إثباتها بالحقيقة في حق الله تعالى منها: الاستهزاء**{ الله يستهزئ بهم }** [البقرة: 15] والاستهزاء مذموم لكونه جهلاً**{ قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }** [البقرة: 67]. ومنها المكر**{ ومكروا ومكر الله }** [آل عمران: 54] ومنها الغضب | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وغضب الله عليهم }** [الفتح: 6] ومنها التعجب**{ بل عجبت ويسخرون }** [الصافات: 12] فيمن قرأ بضم التاء. والتعجب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشيء ومنها التكبر**{ الجبار المتكبر }** [الحشر: 23] ومنها الحياء**{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً }** [البقرة: 26] والحياء تغير يعرض للقلب والوجه عند فعل شيء قبيح. والقانون في تصحيح هذه الألفاظ أن يقال لكل واحدة من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية وآثار تصدر منها في النهاية مثاله: الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دمه وسخونة مزاجه، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه. فالغضب في حقه تعالى محمول على الأثر الحاصل في النهاية لا الأمر الكائن في البداية، وقس على هذا. قيل: إن لله تعالى أربعة آلاف اسم، ألف منها في القرآن والأخبار، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور. وقد يقال: ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك إلى البشر وهذا غير مستبعد، فإن أقسام صفات الله تعالى بحسب السلوب والإضافات لا تكاد تنحصر، وكل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم العلوي والعالم السفلي أكثر كان اطلاعه على أسماء الله أكثر. وإن قلنا: إن له بكل مخلوق اسماً وكذا بكل خاصية ومنفعة فيه كمنافع الأعضاء والحيوان والنبات والأحجار، خرجت الأسماء عن حيز العد والإحصاء كما قال عز من قائل:**{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }** [إبراهيم: 34] فإن قلت: إنا نرى في كتب العزائم أذكاراً غير معلومة ورقى غير مفهومة وقد تكون كتابتها أيضاً غير معلومة، فما بال تلك الأذكار والرقى؟ قلت: لا نشك أن تلك الكلمات إن لم تدل على شيء أصلاً لم تفد، وإن دلت فأحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون شيئاً من هذه الأدعية. ولا ريب أن الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات، إلا أن أكثر الناس إذا قرأوا هذه الأذكار المعلومة ولم يكن لهم نفوس مشرقة تجذب بهم إلى عالم القدس ويلوح عليهم أثر الإلهيات، لم يكد يظهر عليهم شروق أنوارها ولهذا قد ورد " رب تال للقرآن والقرآن يلعنه " نعوذ بالله من هذه الحالة. أما إذا قرأوا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئاً وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية، استولى الفزع والرعب على قلوبهم فيحصل لهم بهذا السبب نوع تجرد عن الجسمانيات وتوجه إلى الروحانيات فتتأثر نفوسهم وتؤثر، وهذا وجه مناسب في قراءة الرقى المجهولة. واعلم أن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة، والنفوس مختلفة والجنسية علة الضم، فكل اسم يغلب معناه على بعض النفوس فإذا واظب صاحبه على ذلك الاسم كان انتفاعه به أسرع والله الموفق. حكي أن الشيخ أبا النجيب البغدادي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يرى مصلحته فيه، ثم يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له: اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق، وإن رآه تأثر مزيد تأثر عند سماع اسم خاص أمره بالمواظبة على ذلك الذكر وقال: إن أبواب المكاشفات تنفتح عليك من هذا الطريق. وذلك أن الرياضة والمجاهدة لا تغلب النفوس عن أحوالها الفطرية، ولكنها تضعف بحيث لا تستولي على الإنسان ولهذا قال صلى الله عليه وسلم **" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة "** **" الأرواح جنود مجندة "** **" اعملوا فكل ميسر لما خلق له "** فهذا تمام البحث عن مطلق الأسماء. (الثاني عشر في الأبحاث المختصة باسم الله) المختار عند الخليل ومتابعيه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن هذا اللفظ ليس بمشتق ألبتة، وأنه اسم علم له سبحانه وتعالى. لأنه لو كان مشتقاً لكان معناه معنى كلياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه، وحينئذ لا يكون قولنا " إلا الله " موجباً للتوحيد المحض. فلا يدخل الكافر بقوله: " أشهد أن لا إله إلا الله " في الإسلام كما لو قال: " أشهد أن لا إله إلا الرحمن " أو " إلا الملك " لا يدخل بذلك في الإسلام بالاتفاق. وأيضاً الترتيب العقلي ذكر الذات ثم تعقيبه بالصفات نحو: زيد الفقيه الأصولي النحوي. ثم إنا نقول: الله الرحمن الرحيم العالم القادر ولا نقول بالعكس، فدل ذلك على أن " الله " اسم علم. وقراءة من قرأ**{ إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض }** [إبراهيم: 1 - 2] بخفض اسم الله ليست لأجل أن جعله وصفاً وإنما هو للبيان، فوازنه وزان قولك: " مررت بالعالم الفاضل الكامل زيد ". وأيضاً قال تعالى:**{ هل تعلم له سمياً }** [مريم: 65] وليس المراد به الصفة والإلزام خلاف الواقع، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلا الله. حجة القائلين باشتقاقه قوله عز من قائل**{ وهو الله في السموات وفي الأرض }** [الأنعام: 3] فإنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وإنما يقال هو العالم في البلد. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك جارياً مجرى قولك " هو زيد الذي لا نظير له في البلد "؟ قالوا: لما كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى، كان اسم العلم له ممتنعاً. وأيضاً العلم للتمييز ولا مشاركة فلا حاجة إلى التمييز. قلنا: وضع العلم لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى الإشارة الحسية، ولا يتوقف على حصول الشركة، وكأن النزاع بين الفريقين لفظي، لأن القائلين بالاشتقاق متفقون على أن الإله مشتق من أله بالفتح إلاهة أي عبد عبادة، وأنه اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، وكذلك السنة على عام القحط والبيت على الكعبة والكتاب على كتاب سيبويه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما " الله " بحذف الهمزة فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره. وينبغي أن يكون المراد من كون الله تعالى معبوداً كونه مستحقاً ومستأهلاً لأن يعبده كل من سواه كما يليق بحال العابد، فإن اللائق بحال المعبود لا يقدر عليه أحد من المخلوقات. ولا يخفى أن الاستحقاق والاستئهال حاصل له أزلاً وأبداً، فيكون إلهاً أزلاً وأبداً وإن كل من سواه عابد له بقدر استعداده وعلى حسب حاله، حتى النبات والجماد والكافر والفاسق**{ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم }** [الإسراء: 44]**{ إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا }** [مريم: 93] والعبد الصالح من يعبد الله تعالى لذاته لا لغرض رغبة في الثواب ورهبة من العقاب، حتى لو فرض حصول المرغوب أو فقد المرهوب لم يكن عابداً، ومع ذلك فينبغي أن يقطع النظر عن عبادته أيضاً. وقيل: اشتقاقه من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه. فالنفوس لا تسكن إلا إليه تعالى، والعقول لا تقف إلا لديه، لأن الكمال محبوب لذاته**{ ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا }** [الرعد: 28 - 29] وقيل: من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان. وقيل: من لاه ارتفع لأنه تعالى ارتفع عن مشابهة الممكانات ومناسبة المحدثات. وقيل: من أله في الشيء إذا تحير فيه، لأن العقل وقف بين إقدام على إثبات ذاته نظراً إلى وجود مصنوعاته، وبين تكذيب لنفسه لتعاليه عن ضبط وهمه وحسه، فلم يبق إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه الجلال والجمال، وههنا العجز عن درك الإدراك إدراك. وقيل: من لاه يلوه إذا احتجب، لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول. فإنا إنما نستدلّ على كون الشعاع مستفاداً من الشمس بدورانه معها وجوداً وعدماً وشروقاً وأفولاً، ولو كانت الشمس ثابتة في كبد السماء لما حصل اطمئنان يكون الشعاع مستفاداً منها، ولما كان ذاته تعالى باقياً على حاله وكذا الممكنات التابعة له، فربما يخطر ببال الضعفاء أن هذه الأشياء موجودة بذواتها فلا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال ظهوره، فالحق محتجب والخلق محجوب. وقيل: من أله الفصيل إذا ولع بأمه، لأن العباد مولعون بالتضرع إليه في البليات**{ وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه }** [الروم: 33] هذا شأن الناقصين، وأما الكاملون فهو جليسهم وأنيسهم أبداً. شكا بعض المريدين كثرة الوسواس فقال الشيخ: كنت حدّاداً عشر سنين وقصاراً عشراً وبواباً عشراً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فقيل: وكيف وما رأينا منك؟ قال: القلب كالحديد ألينه بنار الخوف عشراً، ثم شرعت في غسله عن الأوضار والأوزار عشراً، ثم وقفت على باب القلب عشراً أسل سيف " لا إله إلا الله " فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله ويدخل فيه حب الله، فلما خلت عرصة القلب من غيره وقويت فيه محبته سقطت من بحر عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر " لا إله إلا الله ". وقيل: من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره. والمجير للخلائق من كره المضارّ هو الله**{ وهو يجير ولا يجار عليه }** [المؤمنون: 88] ومن لطائف اسم الله أنك إذا لم تتلفظ بالهمزة بقي " الله "**{ ولله جنود السموات والأرض }** [الفتح: 4] فإن تركت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة " له "**{ له ما في السموات وما في الأرض }** [البقرة: 255] وإن تركت اللام الباقية أيضاً بقي الهاء المضمومة من " هو "**{ قل هو الله أحد }** [الإخلاص: 1] والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع هما هم. هذا بحسب اللفظ، وأما بحسب المعنى فإذا دعوت الله به فكأنك دعوته بجميع الصفات بخلاف سائر الأسماء ولهذا صحت كلمة الشهادة به فقط والله تعالى أعلم. (الثالث عشر فيما يتعلق بالرحمن الرحيم) الرحمن فعلان من رحم، والرحيم فعيل منه واشتقاقه من الرحمة وهي ترك عقوبة من يستحقها أو إرادة الخير لأهله. وأصله الرقة والتعطف ومنه الرحم لرقتها وانعطافها على ما فيها. واختلف في منع صرف رحمن إذ ليس له مؤنث على فعلى كعطشى، ولا على فعلانة كندمانة، فمن شرط في منع صرف فعلان صفة وجود فعلي صرفه، ومن شرط فيه انتفاء فعلانة لم يصرفه، وإذا تساقط الدليلان للتعارض فللصرف وجه، وهو أن الأصل في الأسماء الصرف ولمنع الصرف وجه وهو القياس على أخوته من بابه نحو: عطشان وغرثان. وزعم قوم أنهما بمعنى واحد كندمان ونديم، وجمع بينهما للتأكيد والاتساع كقولهم جاد مجدّ قال طرفة. | **متى أدن منه ينأ عني ويبعد** | | | | --- | --- | --- | وقال قوم: الرحمن أشد مبالغة استدلالاً بالزيادة في اللفظ على الزيادة في المعنى. قالوا: ولهذا جاء رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، وربما يقال رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، لأن رحمته في الدنيا عمت المؤمن والكافر والبر والفاجر، وفي الآخرة اختصت بالمؤمنين. فالرحمن خاص اللفظ عام المعنى والرحيم بالعكس. أما خصوص الرحمن فمن حيث لا يسمى به إلا الله تعالى لأنه من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق، وأما عمومه فمن حيث إنه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما عموم الرحيم فاشتراك تسمية الخلق به، وأما خصوصه فرجوعه إلى اللطف بالمؤمنين والتوفيق. الضحاك: الرحمن بأهل السماء حيث أسكنهم السموات وطوقهم الطاعات وأنطق ألسنتهم بأنواع التسبيحات وجنبهم الآفات وقطع عنهم المطامع واللذات، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب. فقال عكرمة: الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة كما قال صلى الله عليه وسلم: **" إن لله تعالى مائة رحمة وإنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة "** قال ابن المبارك: الرحمن الذي إذا سئل أعطى، والرحيم الذي إذا لم يسأل غضب. قال صلى الله عليه وسلم: **" من لم يسأل الله يغضب عليه "** الرحمن بالنعماء وهي ما أعطى وحبا، والرحيم باللأواء وهي ما صرف وزوى. الرحمن بالإنقاذ من النار**{ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها }** [آل عمران: 103] والرحيم بإدخالهم الجنان**{ ادخلوها بسلام آمنين }** [الحجر: 46] الرحمن الراحم القادر على كشف الضر، والرحيم الراحم وإن لم يقدر على كشف الضر. وتسمية مسيلمة الكذاب بالرحمن تعنت منهم واقتطاع من أسماء الله تعالى. قال عطاء: ولذلك قرنه الله تعالى بالرحيم لأن هذا المجموع لم يسم غيره. وإنما قدم الرحمن وهو الأعلى على الرحيم، والعادة التدرج من الأدنى إلى الأعلى، لأن الرحمن يتناول عظائم النعم وأصولها، فإردافه بالرحيم كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف. واعلم أن الأشياء التي أنعم الله تعالى بها على الخلق أربعة أقسام: الأول: ما يكون نافعاً وضرورياً معاً وذلك في الدنيا التنفس، فإنه لو انقطع لحظة واحدة مات، وفي الآخرة معرفة الله فإنها إذا زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد. الثاني: أن يكون نافعاً لا ضرورياً كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة. الثالث: أن يكون ضرورياً لا نافعاً كالآفات والعلل ولا نظير لهذا القسم في الآخرة الرابع: أن لا يكون نافعاً ولا ضرورياً كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة. وبالجملة فكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أخروية فإنما تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمة الله تعالى وفضله من غير شائبة غرض ولا ضميمة علة، لأنه الجواد المطلق والغني الذي لا يفتقر، فينبغي أن لا يرجى إلا رحمته ولا يخشى إلا عقابه. (الرابع عشر في نكت شريفة). الأولى: كل العلوم تندرج في الكتب الأربعة، وعلومها في القرآن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وعلومها في الباء، من بسم الله، وذلك أن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب، وهذه الباء للإلصاق، فهو يوصل العبد إلى الرب وهو نهاية المطلب وأقصى الأمد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: إنما وقع ابتداء كتاب الله تعالى بالباء دون الألف، لأن الألف تطاول وترفع والباء انكسار وتساقط ومن تواضع لله رفعه الله. الثانية: مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه، فشكا إلى الله فدله على عشب في المفازة فأكله فعوفي بإذن الله، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه، فقال: يا رب أكلته أوّلاً فاشتفيت به وأكلته ثانياً فضرني. فقال: لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء. وفي الثانية: ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض. أما علمت أن الدنيا كلها سم وترياقها اسمي. الثالثة: باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة، فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب، وفعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت: ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان. الرابعة: كان بعض العارفين يرعى غنماً فحضر في غنمه الذئب ولا يضر أغنامه، فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الغنم والذئب؟ قال الراعي: من حين اصطلح الراعي مع الله. الخامسة: روي أن فرعون قبل أن ادعى الألوهية قصد أو أمر أن يكتب باسم الله على بابه الخارج، فلما ادعى الألوهية وأرسل الله إليه موسى ودعا فلم ير به أثر الرشد قال: إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً، فقال تعالى: يا موسى لعلك تريد إهلاكه، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه. والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً، فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله!؟ السادسة: سمى نفسه رحماناً ورحيماً فكيف لا يرحم؟ روي أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً فجاء بفأس وأخذ يخرب الباب، فقيل له: لم تفعل؟ قال: إما أن تجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب. إلهي كما أثبت في أول كتابك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين من فضلك. السابعة: إذا اشترى العبيد شيئاً من الدواب أو المتاع وضعوا عليه سمة الملك لئلا يطمع فيه العدوّ، فالله تعالى يقول: عبدي عدوّك الشيطان فإذا شرعت في عمل وطاعة فاجعل عليها سمتي وقل: { بسم الله الرحمن الرحيم }. الثامنة: اجعل ذكر الله قرينك حتى لا تبعد عنه في أحوالك. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خاتماً إلى أبي بكر وقال: اكتب فيه " لا إله إلا الله " فدفعه إلى النقاش وقال: اكتب فيه " لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكتب النقاش ذلك، فأتى أبو بكر بذلك الخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه " لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق " فقال: يا أبا بكر ما هذه الزوائد؟ فقال: يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك من اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمي عن اسمك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | التاسعة: أن نوحاً صلى الله عليه وسلم لما ركب السفينة قال:**{ بسم الله مجريها ومرساها }** [هود: 41] فنجا بنصف هذه الكلمة، فما ظنك بمن واظب على الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً عن النجاة؟ العاشرة: الناس ثلاثة: سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه. فقال: الله للسابقين، الرحمن للمقتصدين، الرحيم للظالمين. الله معطي العطاء، الرحمن المتجاوز عن زلات الأولياء، الرحيم الساتر لعيوب الأغنياء. يعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك، ولو علمت المرأة لجفتك، ولو علمت الأمة لأقدمت على الفرار، ولو علم الجار لسعى في تخريب الدار. الله يوجب ولايته**{ الله ولي الذين آمنوا }** [البقرة: 257] الرحمن يستدعي محبته**{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا }** [مريم: 96] الرحيم يفيض رحمته**{ وكان بالمؤمنين رحيماً }** [الأحزاب: 43] هو رحيم بهم في ستة مواضع: في القبر وحسراته، والقيامة وظلماته، وقراءة الكتب وفزعاته، والصراط ومخافاته، والنار ودركاته والجنة ودرجاته. الحادية عشرة: مر عيسى عليه السلام بقبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً، فلما انصرف من حاجته مر بالقبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور. فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله فأوحى الله تعالى إليه: يا عيسى، كان هذا العبد عاصياً وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت وربت ولده حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم " بسم الله الرحمن الرحيم " فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على ظهر الأرض. الثانية عشرة: كتب عارف " بسم الله الرحمن الرحيم " وأوصى أن تجعل في كفنه. فقيل له في ذلك؟ فقال: أقول يوم القيامة: إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه " بسم الله الرحمن الرحيم " فعاملني بعنوان كتابك. الثالثة عشرة: " بسم الله الرحمن الرحيم " تسعة عشر حرفاً والزبانية تسعة عشر، فالله تعالى يدفع بليتهم بهذه الحروف التسعة عشر. الرابعة عشرة: اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فبقي التسعة عشرة ساعة لا تستغرق بذكر الله تعالى، وهذه التسعة عشر حرفاً تقع كفارات للذنوب الواقعة في تلك التسع عشرة. الخامسة عشرة: لما كانت سورة التوبة مشتملة على القتال والبراءة لم يكتب في أولها " بسم الله الرحمن الرحيم " وأيضاً السنة أن يقال عند الذبح: " بسم الله والله أكبر " ولا يقال: " بسم الله الرحمن الرحيم " فلما وفقك الله لذكر هذه الكلمات كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والثواب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | السادسة عشرة: قال صلى الله عليه وسلم: **" من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً لله تعالى كتب عند الله من الصدّيقين وخفف عن والديه وإن كانا من المشركين "** وعن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت " بسم الله الرحمن الرحيم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما نزلت هذه الآية على آدم قال: أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها، ثم رفعت فأنزلت على إبراهيم عليه السلام فتلاها وهو في كفة المنجنيق فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً، ثم رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت الملائكة: الآن تم والله ملكك، ثم رفعت فأنزلها الله تعالى عليّ، ثم يأتي أمتي يوم القيامة وهم يقولون: " بسم الله الرحمن الرحيم " فإذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجحت حسناتهم. وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال **" يا أبا هريرة إذا توضأت فقل: " بسم الله الرحمن الرحيم " فإن حفظتك لا يستريحون أن يكتبوا لك الحسنات حتى تفرغ، وإذا غشيت أهلك فقل: " بسم الله الرحمن الرحيم " فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة، فإن حصل من تلك المواقعة ولد كتبت لك من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد. يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل: " باسم الله والحمد لله " يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة، وإذا ركبت سفينة فقل: " باسم الله والحمد لله " يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها "** وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم "** والإشارة فيه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك وبين الزبانية في العقبى؟ | **كانت لنفسي أهواء مفرّقة** | | **فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي** | | --- | --- | --- | | **فصار يحسدني من كنت أحسده** | | **وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي** | | **تركت للناس دنياهم ودينهم** | | **شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي** | هذا تمام الكلام في تفسير البسملة. وأما تفسير الفاتحة ففيه أيضاً مسائل: الأولى: في أسماء هذه السورة وهي كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. فالأول: فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة، ولأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقيل: لأنها أول سورة نزلت من السماء. الثاني: سورة الحمد لأن أولها الحمد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثالث: أم الكتاب وأم القرآن لأنها أصل القرآن وأصل كل كتاب منزل لاشتمالها على الإلهيات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والنبوات، أو لأن فيها حاصل جميع الكتب السماوية وذلك هو الثناء على الله والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات، أو لأن المقصود من جميع العلوم معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية، أو لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة وهي أم القرى أشرف البلدان، أو أصل لجميع البلدان حيث دحيت من تحتها، وكما أن الحمى سميت أم ملدم لأنهم جعلوها معظم الأوجاع واللدم الضرب. الرابع: السبع المثاني لأنها سبع آيات ولأنها تثنى في كل صلاة، أو لأن نصفها ثناء العبد للرب والنصف الآخر إعطاء الرب العبد، أو لأنها مستثناة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم: **" والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة والإنجيل ولا في الزبور مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم "** أو لأنها نزلت مرتين، أو لأنها أثنية ومدائح لله تعالى. الخامس: الوافية لأنها تجب قراءة كلها ولا يجزئ بعضها في الصلاة. السادس: الكافية قال صلى الله عليه وسلم: **" أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً عنها "** السابع: الشفاء والشافية لقوله صلى الله عليه وسلم **" فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم "** الثامن: الأساس لأنها أول سور القرآن فهي كالأساس، أو لأنها تشتمل على أساس العبادات والمطالب. قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس يقول: أساس الكتب القرآن، وأساس القرآن فاتحة الكتاب، وأساس الفاتحة " بسم الله الرحمن الرحيم " فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس تشف بإذن الله تعالى. التاسع: الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين "** يعني الفاتحة وهو من باب تسمية الشيء بمعظم أركانه. ومنه يعلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة. العاشر: سورة تعليم المسألة لأن الله تعالى علم عباده فيها آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم بالإخلاص ثم بالدعاء. الحادي عشر: سورة الكنز لما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ولهذا قال أكثر العلماء: إنها مكية وخطؤا مجاهداً في قوله: إنها مدنية، وكيف لا؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها من أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني، وسورة الحجر مكية بلا خلاف وفيها قوله تعالى:**{ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني }** [الحجر: 87] ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب. وقد جمع طائفة من العلماء بين القولين فقالوا إنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى، وعلى هذا فإنها لم تثبت في المصحف مرتين لأنه لم يقع التواتر على نزولها مرتين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن فضائل هذه السورة أنه لم يوجد فيها الثاء وهو الثبور**{ لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً }** [الفرقان: 14] والجيم وهو جهنم**{ وإن جهنم لموعدهم أجمعين }** [الحجر: 43] والخاء وهو الخزي**{ يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه }** [التحريم: 8] والزاء وهو الزفير والزقوم. والشين وهو الشهيق**{ لهم فيها زفير وشهيق }** [هود: 106] والظاء وهو لظى**{ كلا إنها لظى }** [المعارج: 15] والفاء وهو الفراق**{ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون }** [الروم: 14] فلما أسقط الله تعالى من الفاتحة هذه الحروف الدالة على العذاب وهي بعدد أبواب جهنم لقوله تعالى:**{ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم }** [الحجر: 44] غلب على الظن أن من قرأ الفاتحة نجا من جهنم ودخول أبوابها وتخلص من دركات النار وعذابها. الثانية: في المباحث اللفظية. الحمد مبتدأ والله خبره أي الحمد ثابت لله. وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله كقولهم شكراً وعجباً وسبحانك ومعاذ الله، فعدل إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره نحو قوله تعالى**{ قالوا سلاماً قال سلام }** [الذاريات: 25] ولهذا كان تحية إبراهيم عليه السلام أحسن من تحيتهم كما جاء**{ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها }** [النساء: 86] ومما يدل على أن أصله النصب أن قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } بيان لحمدهم فكأنه قيل: كيف يحمدون؟ فقيل: إياك نعبد. والأصل توافق الجملتين. واللام في " الحمد " لتعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والاستغراق وهم لأنه لو سلم كونه اللام للاستغراق فحمد أبويه مثلاً لا يدخل فيه. وأيضاً نحو نحمد الله لا يفهم منه إلا حقيقة الحمد من حيث هي فكذا ما ناب منابه وهو الحمد لله. وقرأ بعضهم بكسر الدال إتباعاً، وبعضهم بضم اللام. الرب المالك، ربه يربه فهو رب، أو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل. وهو مطلقاً مختص بالله تعالى، ومضافاً يجوز إطلاقه على غيره نحو: رب الدار**{ ارجع إلى ربك }** [يوسف: 50] وقرئ بالنصب على المدح أو بتقدير نحمد. والعالم اسم موضوع للجمع كالأنام والرهط، وهو ما يعقل من الملائكة والثقلين قاله ابن عباس والأكثرون. وقيل: كل ما علم به الخالق من الجواهر والأعراض كقوله تعالى**{ قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما }** [الشعراء: 23، 24] فعلى الأول مشتق من العلم وخصوا بالذكر للتغليب، وعلى الثاني من العلامة وجمع ليشمل كل جنس مما سمي به، وجمع بالواو والنون تغليباً لما فيه من صفات العقلاء. { مالك يوم الدين } صفة أخرى. واليوم هو المدة من طلوع نصف جرم الشمس إلى غروب نصف جرمها، أو من ابتداء طلوعها إلى غروب كلها، أو من طلوع الفجر الثاني إلى غروبها، وهذا في عرف الشرع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويراد به في الآية الوقت لعدم الشمس ثمة. والدين الجزاء بالخير والشر **" كما تدين تدان "** وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف اتساع وإجراء للظرف مجرى المفعول به مثل: يا سارق الليلة أهل الدار. وإنما أفادت التعريف حتى جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه إما بمعنى الماضي نحو**{ ونادى أصحاب الأعراف }** [الأعراف: 48]**{ وسيق الذين اتقوا ربهم }** [الزمر: 73] أو بمعنى الاستمرار نحو: زيد مالك العبيد. فيكون بمعنى من يملك المفيد للاستمرار نحو: فلان يعطي ويمنع. وحينئذ لا تعمل، فتكون الإضافة حقيقية، وقرئ بنصب الكاف ورفعها مدحاً، وبسكون اللام مخفف ملك مكسور اللام وبجعله فعلاً ماضياً ونصب يوم و مليك رفعاً ونصباً وجراً. " إيا " ضمير منصوب منفصل ولا محل لكاف الخطاب نحو " أرأيتك " وهو مذهب الأخفش والمحققين وحكاية الخليل " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب " شاذ. والأصل نعبدك ونستعينك، فلما قدم الضمير المتصل للاختصاص صار منفصلاً. وقرئ إياك بتخفيف الياء، وأياك بفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء، قال طفيل: | **فهياك والأمر الذي إن تراحبت** | | **موارده ضاقت عليك مصادره** | | --- | --- | --- | فإن قيل: لم عدل عن الغيبة إلى الخطاب؟ قلنا: هذا يسمى الالتفات في علم البيان وذلك على عادة افتنانهم في الكلام والتنقل من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع. وقد يختص مواقعه بفوائد وسننظم لك في سلك التقرير فائدته في هذا الموضع. والعبادة أقصى غاية الخضوع. طريق معبد أي مذلل، وثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة وقوة النسج هدى يتعدى باللام أو بإلى**{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }** [الإسراء: 9]**{ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }** [الشورى: 52] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى**{ واختار موسى قومه }** [الأعراف: 155] والأصل فيه الإمالة ومنه**{ إنا هدنا إليك }** [الأعراف: 156] أي ملنا والهدية لأنها تمال من ملك إلى ملك والهدي للذي يساق إلى الحرم أي أمل قلوبنا إلى الحق. والصراط الجادة، وأصله السين من سرط الشيء ابتلعه لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه كما سمي لقماً لأنه يلتقمهم، ومثله مسيطر ومصيطر. والصراط يذكر ويؤنث كالطريق والسبيل و { صراط الذين أنعمت عليهم } بدل الكل من { الصراط المستقيم } وفائدته التوكيد كقولك: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان؟ ويكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك بينت ذكره مجملاً أوّلاً ومفصلاً ثانياً. وقراءة ابن مسعود { صراط من أنعمت عليهم وغير المغضوب } بدل من " الذين " أو صفة. وإنما جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه تعريف الذين كلاً تعريف كقوله: " ولقد أمر على اللئيم يسبني ". أو لأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم فهو كقولك: عليك بالحركة غير السكون ويجوز أن يكون بدلاً وإن كان نكرة من معرفة ولا نعت للإفادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والفرق بين عليهم الأولى والثانية، أن الأولى محلها النصب على المفعولية، والثانية محلها الرفع على أنها مفعول أقيم مقام الفاعل. وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال: دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه. وكل ما في القرآن من ذكر النعمة بكسر النون فهي المنة والعطية. والنعمة بفتح النون التنعم وسعة العيش**{ ونعمة كانوا فيها فاكهين }** [الدخان: 27] والغضب في اللغة الشدة وقد عرفت معناه بحسب إطلاقه على الخلق وعلى الخالق. وأصل الضلال الغيبوبة ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه، وضل الكافر غاب عن الحق. قال تعالى:**{ أئذا ضللنا في الأرض }** [السجدة: 10] و " غير " ههنا بمعنى " لا " و " لا " بمعنى " غير " ولذلك جاز عطف أحدهما على الآخر. تقول: أنا زيداً غير ضارب كما تقول: أنا زيداً لا ضارب. ويعضده ما قرئ وغير الضالين وقرأ أيوب السختياني ولا الضألين بالهمزة كما قرأ عمرو بن عبيد { ولا جأنّ } وآمين مداً وقصراً معناه استجب، كما أن رويد معناه أمهل. وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معناه إفعل. (الثالث في المباحث الفقهية). البحث الأول: أجمع الأكثرون ومنهم الشافعي على أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وإن ترك منها حرفا واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته. وعند أبي حنيفة قراءتها غير واجبة لنا أنه صلى الله عليه وسلم واظب طول عمره على قراءتها في الصلاة فتجب علينا لقوله تعالى**{ فاتبعوه }** [الأنعام: 153] وأيضاً أقيموا الصلاة معناه الصلاة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان يقرأ الفاتحة فيها فتجب. وأيضاً روي في ذلك أخبار كثيرة مثل **" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "** **" كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج "** وروى رفاعة بن مالك **" أن رجلاً دخل المسجد وصلى، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل: علمني الصلاة يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب "** ، وظاهر الأمر للوجوب ولا سيما في معرض التعليم. وأيضاً الخلفاء الراشدون واظبوا على قراءتها طول العمر وقال صلى الله عليه وسلم: **" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين "** وأيضاً المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز إن لم تكن واجبة فثبت أنها واجبة. حجة أبي حنيفة**{ فاقرءوا ما تيسر من القرآن }** [المزمل: 20] قلنا: الفاتحة هي المتيسرة المحفوظة على جميع الألسنة. ثم قال: إذا قرأ آية واحدة كفت مثل { الم } أو**{ حم }** [الدخان: 1]**{ والطور }** [الطور: 1] و**{ مدهامتان }** [الرحمن: 64]. أبو يوسف ومحمد: لا بد من قراءة ثلاث آيات أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | البحث الثاني: قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية، { الحمد لله رب العالمين } آية، { الرحمن الرحيم } آية، { مالك يوم الدين } آية، { إياك نعبد وإياك نستعين } آية، { اهدنا الصراط المستقيم } آية { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آية. وعن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن " بسم الله الرحمن الرحيم "** وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ فقلت: بلى فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذ افتتحت الصلاة؟ قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم. قال: هي هي. وبإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ قال: أقول " الحمد لله " قال: قل " بسم الله الرحمن الرحيم " وبإسناده عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص في صلاته وبإسناده عن ابن عباس في قوله**{ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني }** [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب. فقيل لابن عباس: فأين السابع؟ فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم ". وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله سبحانه **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. فإذا قال العبد " بسم الله الرحمن الرحيم " قال الله: مجدني عبدي وإذا قال: " الحمد لله رب العالمين " قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: " الرحمن الرحيم " قال الله: أثنى عليّ عبدي وإذا قال: " مالك يوم الدين " قال الله: فوّض إلي عبدي وإذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " قال الله: هذا بيني وبين عبدي وإذا قال: " اهدنا الصراط المستقيم " قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "** إلى غير ذلك من الأخبار. وأيضاً التسمية مكتوبة بخط القرآن في مصاحف السلف مع توصيتهم بتجريد القرآن عما ليس منه ولذلك لم يثبتوا " آمين ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ما أعظم آية في كتاب الله؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله**{ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم }** [النمل: 30] فتكون آية في غير هذا الموضع. وأيضاً إن أكثر الأنبياء أوجبوا على أنفسهم الابتداء بذكر الله قال نوح عند ركوب السفينة:**{ باسم الله مجريها ومرساها }** [هود: 41] وكتب سليمان إلى بلقيس " بسم الله الرحمن الرحيم " وقوله { إنه من سليمان } من قول بلقيس قبل فتح الكتاب، فلما فتحت الكتاب قرأت التسمية فقالت: وإنه { بسم الله الرحمن الرحيم } ولما ثبت الابتداء بالتسمية في حقهم ثبت في حق نبينا أيضاً**{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }** [الأنعام: 90] وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم ". وعن ابن عمر قال: نزلت " بسم الله الرحمن الرحيم " في كل سورة. وأيضاً البسملة من القرآن في النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن فوجب أن نعتقد كونه من القرآن مثل**{ فبأي آلاء ربكما تكذبان }** [الرحمن: 13]**{ ويل يومئذ للمكذبين }** [المرسلات: 15] حجة المخالف خبر أبي هريرة أيضاً في رواية أخرى قال: **" يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد " الحمد لله رب العالمين " يقول الله حمدني عبدي "** إلى آخره. قال: لم يذكر التسمية، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها. قلنا: إذا تعارضت الروايتان فالترجيح للمثبت لا للنافي. قالوا: التنصيف إنما يحصل إذا لم تعد التسمية آية حتى يحصل للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد ثلاث ونصف من " إياك نستعين " إلى آخر السورة. أما إذا قلنا التسمية آية صار القسم الأول أربع آيات ونصفاً فينخرم التنصيف. قلنا: نحن نعد التسمية آية ولا نعد " أنعمت عليهم " وهذا أولى رعاية لتشابه المقاطع، ولأن غير صفة أو بدل ويختل الكلام بجعله منقطعاً عما قبله لأن طلب الاهتداء بصراط المنعم عليهم لا يجوز إلا بشرط كون المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالاً بدليل قوله تعالى:**{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً }** [إبراهيم: 28] فهذا المجموع كلام واحد، وهذا بخلاف { الرحمن الرحيم } فإنا لو قطعنا النظر عن الصفة كان الكلام مع الموصوف غير مختل النظام. قالوا: روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. قلنا: قال الشافعي: لعل عائشة جعلت { الحمد لله رب العالمين } اسماً لهذه السورة كما يقال قرأ فلان " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ". قالوا: لو كانت من الفاتحة لزم التكرار في { الرحمن الرحيم } قلنا: التكرار للتأكيد غير عزيز في القرآن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قيل: إذا عد التسمية آية من كل سورة على ما يروى عن ابن عباس، فمن تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله. فما وجه ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك: إنها ثلاثون آية وفي الكوثر إنها ثلاث آيات مع أن العدد حاصل بدون التسمية؟ قلنا: إما أن تعد التسمية مع ما بعدها آية وذلك غير بعيد، ألا ترى أن قوله " الحمد لله رب العالمين " آية تامة، وفي قوله**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] بعض آية؟ وإما أن يراد ما هو خاصة الكوثر ثلاث آيات، فإن التسمية كالشيء المشترك فيه بين السور. البحث الثالث: عن أحمد بن حنبل أن التسمية آية من الفاتحة، ويسرّ بها في كل ركعة. أبو حنيفة: ليست بآية ويسر بها. مالك: لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً. الشافعي: آية ويجهر بها لأنها بعد ما ثبت كونها من الفاتحة والقرآن لا يعقل فرق بينها وبين باقي الفاتحة حتى يسر بهذه ويجهر بذلك. وأيضاً إنه ثناء على الله وذكر له فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله عز من قائل**{ فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً }** [البقرة: 200] وأيضاً الإخفاء والسر إنما يليق بما فيه نقيصة ومثلبة لا بما فيه مفخرة وفضيلة. قال صلى الله عليه وسلم: **" طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله "** وكان علي بن أبي طالب يقول: يا من ذكره شرف للذاكرين. وكان مذهبه الجهر بها في جميع الصلوات، وقد ثبت هذا منه تواتراً ومن اقتدى به لن يضل. قال صلى الله عليه وسلم: **" اللهم أدر الحق معه حيث دار "** وروى البيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. وروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير مثل ذلك، وروى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت من الصلاة أين " بسم الله الرحمن الرحيم " أين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير. قال: وكان معاوية شديد الشكيمة ذا شوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية كان مقرراً عند كل الصحابة لم يجسروا على ذلك حجة المخالف ما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي رواية ولم أسمع أحداً منهم قال: { بسم الله الرحمن الرحيم } وفي رواية ولم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم. وعن عبد الله بن المغفل أنه قال: سمعني أبي وأنا أقول { بسم الله الرحمن الرحيم } فقال: أي بني، إياك والحدث في الإسلام! وقد صليت خلف أبي بكر فقال: { الحمد لله رب العالمين } وصليت خلف عمر فقال: { الحمد لله رب العالمين } وصليت خلف عثمان فقال: { الحمد لله رب العالمين } فإذا صليت فقل " { الحمد لله رب العالمين }. والجواب أن حديث أنس معارض بما يروى عنه أيضاً أن معاوية لما ترك التسمية في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار. وروى أيضاً أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. ويروى أيضاً أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة، وإذا اضطربت الروايات عنه وجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضاً ففيها تهمة أخرى وهي أن علياً رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي بن أبي طالب، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا اضطربت أقواله. وأيضاً من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم أولى الأحلام والنهي والأكابر والعلماء على غيرهم، ولا شك أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً من أنس وابن المغفل وأقرب موقفاً، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يبالغ في الجهر لقوله تعالى**{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً }** [الإسراء: 110] فلهذا لم يسمعا. ورواية المثبت أولى من رواية النافي، والدلائل العقلية معنا ويؤيدها عمل علي بن أبي طالب كما مر. البحث الرابع: تقديم التسمية على الوضوء سنة عند عامة العلماء وليست بواجبة خلافاً لبعض أهل الظاهر حيث قالوا: لو تركها عمداً أو سهواً لم تصح صلاته لنا قوله صلى الله عليه وسلم **" توضأ كما أمرك الله "** والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء. والصحيح عندنا أن الجنب والحائض لا يقولها بقصد القراءة، والتسمية عند الذبح وعند الرمي إلى الصيد وعند إرسال الكلب مستحبة، فلو تركها عامداً أو ناسياً، لم تحرم الذبيحة عند الشافعي ولكن تركها عمداً مكروه، وعند أبي حنيفة إن ترك التسمية عمداً لم يحل، وإن نسي حل. والعلماء أجمعوا على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال إلا أن يقول: باسم الله، فإذا نام قال باسم الله، وإذا انتبه قال: باسم الله، وإذا قام من المقام قال: باسم الله، وإذا أكل أو شرب قال: باسم الله، وإذا أعطى أو أخذ قال: باسم الله، ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول باسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل باسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا، وإذا قام من القبر قال: باسم الله، وإذا حضر الموقف قال: باسم الله، فلا جرم يدخل الجنة ببركة اسم الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | البحث الخامس: قال الشافعي: ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها. وقال أبو حنيفة: إنها كافية في حق القادر والعاجز. وقال أبو يوسف ومحمد: كافية في حق العاجز لا القادر لنا أنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرأوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم، وكيف يجوّز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر؟ وقالوا: وروي عن عبدالله بن مسعود أنه كان يعلم رجلاً أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه. فقال: قل طعام الفاجر، ثم قال عبدالله: ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع آية الرحمة مكان آية العذاب. قلنا: الظن بابن مسعود غير ذلك. قالوا**{ وإنه لفي زبر الأولين }** [الشعراء: 196]**{ إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى }** [الأعلى: 18 - 19] ولا ريب أن القرآن بهذا اللفظ ما كان في زبر الأولين لكن بالعبرية والسريانية. قلنا إن القصص والمواعظ موجودة لا باللفظ بل بالمعنى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآناً، فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل. البحث السادس: الشافعي في القول الجديد قال: تجب قراءة الفاتحة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها. وفي القديم: تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وأحمد أبو حنيفة: تكره القراءة خلف الإمام بكل حال لنا قوله تعالى**{ فاقرءوا ما تيسر من القرآن }** [المزمل: 20] وقوله: **" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "** يشمل المنفرد والمقتدي، وأيضاً روى الترمذي في جامعه بإسناده عن عبادة بن الصامت **" أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال: إني أراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا: أي والله، قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها ".** قال: وهذا حديث حسن. وأيضاً قراءتها لا تبطل الصلاة عندهم ولكن يجوّزون تركها ويبطلها عدم القراءة عندنا، فالأحوط قراءتها. احتج المخالف بقوله تعالى**{ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا }** [الأعراف: 204] وبأخبار بين ضعفها البيهقي في كتابه، ونحن نقول: أما القرآن فمخصوص بغير الفاتحة لما مر، وأما الأخبار فهب أنها صحيحة إلا أن الترجيح معنا لأن الاشتغال بقراءة القرآن من أعظم الطاعات ولأنه أحوط. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | البحث السابع: مذهب الشافعي أن الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطلت صلاته، وبه قال أبو بكر وعمر وعلي عليهم السلام وابن مسعود ومعظم الصحابة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأوها في كل ركعة، ولأنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة وكذلك فأفعل في كل ركعة. **" وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة ".** وأيضاً القراءة في كل ركعة أحوط فيجب المصير إليها. وقيل: غير واجبة أصلاً، وقيل: تجب في كل صلاة في ركعة واحدة فقط وبه يحصل امتثال قوله **" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "** وعند أبي حنيفة القراءة تجب في الركعتين الأوليين لقول عائشة: فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر. فهما أصل والزائد تبع. قلنا: ما ذكرنا أحوط، وقيل: تجب الفاتحة في الأوليين وتكره في الآخرتين. وعند مالك تجب في أكثر الركعات، ففي الثنائية فيهما وفي الثلاثية في اثنتين وفي الرباعية في ثلاث. البحث الثامن: إذا ثبت أن القراءة شرط في الصلاة فلو تركها أو حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته وكذا سهواً على الجديد. وما روي أن عمر بن الخطاب صلى المغرب فترك القراءة فقيل له: تركت القراءة. قال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسناً. قال: فلا بأس، معارض بما روى الشعبي عنه أنه أعاد الصلاة. وأيضاً لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة. البحث التاسع: يجب رعاية الترتيب في أجزاء الفاتحة وما وقع غير مرتب فغير محسوب. البحث العاشر: إن لم يحفظ شيئاً من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن، ثم من ذكر من الأذكار، ثم عليه مثل وقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه. البحث الحادي عشر: نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر أن تكون الفاتحة والمعوذتان من جملة القرآن والظن به أن هذا النقل عنه كذب وإلا فجحد المتواتر كيف يليق بحاله؟ الرابع فيما يختص بتفسير الحمد لله من الفوائد. الفائدة الأولى في الفرق بين الحمد والمدح والشكر. المدح للحي ولغير الحي كاللؤلؤة والياقوتة الثمينة، والحمد للحي فقط. والمدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، والحمد إنما يكون بعد الإحسان. والمدح قد يكون منهياً عنه قال صلى الله عليه وسلم: **" احثوا التراب في وجوه المداحين "** والحمد مأمور به مطلقاً قال صلى الله عليه وسلم: **" من لم يحمد الناس لم يحمد الله "** والمدح عبارة عن القول الدال على أنه مختص بنوع من أنواع الفضائل باختياره وبغير اختياره، والحمد قول دال على أنه مختص بفضيلة اختيارية معينة وهي فضيلة الإنعام إليك وإلى غيرك، ولا بد أن يكون على جهة التفضيل لا على سبيل التهكم والاستهزاء، والشكر على النعمة الواصلة إليك خاصة وهو باللسان، وقد يكون بالقلب والجوارح قال الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **أفادتكم النعماء مني ثلاثة** | | **يدي ولساني والضمير المحجبا** | | --- | --- | --- | والحمد باللسان وحده فهو إحدى شعب الشكر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم **" الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده "** وإنما جعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها من الاعتقاد وأداء الجوارح لخفاء عمل القلب، وما في عمل الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كل خفي. والحمد نقيضه الذم ولهذا قيل: الشعير يؤكل ويذم. والمدح نقيضه الهجاء، والشكر نقيضه الكفران، إذا عرفت ذلك فنقول: إذا قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلاً مختاراً لما مر أن المدح قد يكون لغير المختار. ولو قال: الشكر لله كان ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل. وإذا قال: الحمد لله فكأنه يقول سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم، ولا ريب أن هذا أولى. وقيل: الحمد لله على ما دفع من البلاء، فكأنه يقول: أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف بأعلاهما؟ ويمكن أن يقال: إن المنع غير متناه والإعطاء متناه، والابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى، وأيضاً دفع الضرر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى. الثانية: لو قال: أحمد الله أفاد كون ذلك القائل على حمده، وإذا قال: الحمد لله أفاد أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين. وأيضاً الحمد لله معناه أن مطلق الحمد والثناء حق لله وملكه كما ينبئ عنه اللام الجنسية واللام الجارة وذلك بسبب كثرة إيلائه أنواع آلائه على عبيده وإمائه. ولا يخفى أن هذا أولى من أن يحمده شخص واحد فقط، ولهذا لو سئلت هل حصل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمداً ضعيفاً، ولو قلت في الجواب بل نعمه على كل الخلائق كان أكمل. فإن قيل: أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه؟ فالأستاذ يستحق الحمد من التلميذ، والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية، وقال صلى الله عليه وسلم: **" من لم يحمد الناس لم يحمد الله "** قلنا: المنعم في الحقيقة هو الله لأنه خلق تلك الداعية في ذلك المنعم بعد أن خلق تلك النعمة وسلط المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع وأمنه من فوات الانقطاع، ولهذا قال عز من قائل**{ وما بكم من نعمة فمن الله }** [النحل: 53] وأيضاً كل مخلوق ينعم على غيره فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضاً إما ثواباً أو ثناء، أو تحصيل خلق أو تخلصاً من رذيلة البخل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وطالب العوض لا يكون منعماً ولا مستحقاً للحمد في الحقيقة، أما الله سبحانه فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال، لأن تحصيل الحاصل محال فكان عطاؤه جوداً محضاً، فثبت أن لا مستحق للحمد إلا الله تعالى. الثالثة: إنما لم يقل " احمدوا الله " لأن الإنسان عاجز عن الإتيان بحمد الله وشكره فلم يحسن أن يكلف فوق ما يستطيعه، وذلك أن نعم الله على العباد غير محصورة**{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }** [إبراهيم: 34] وإذا امتنع الوقوف عليها امتنع اقتداره على الشكر والثناء اللائق بها. وأيضاً إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله على ذلك الحمد والشكر وخلق في قلبه داعية ذلك وأزال عنه العوائق والصوارف، وكل ذلك إنعام من الله فيتسلسل. وأيضاً الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل إنعام المنعم بشكر نفسه، ومن اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعمة الله فقد أشرك، وهذا معنى قول الواسطي " الشكر شرك " أما إذا قال: " الحمد لله " فالمعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا. ونقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك. الرابعة: عن النبي صلى الله عليه وسلم **" إذا أنعم الله على عبد فقال: " الحمد لله " يقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له "** ومعناه أن ما أنعم الله على العبد شيء واحد، وإذا قال: الحمد لك فمعناه المحامد التي أتى بها الأولون والآخرون من الملائكة والثقلين لله تعالى، وكذا المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى**{ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] وإلى أبد الآبدين ودهر الداهرين فالمنعم به متناه والحمد غير متناه، وإذا أسقط المتناهي من غير المتناهي بقي غير المتناهي. فالذي بقي للعبد طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعم غير متناهية، فلهذا يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي. الخامسة: لا شك أن الوجود خير من العدم، وأن وجود كل ما سوى الله فإنه حصل بإيجاد الله وجوده، فإنعام الله تعالى واصل إلى كل من سواه، فإذا قال العبد: " الحمد لله " فكأنه قال: الحمد لله على كل مخلوق خلقه، وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض من أزل الآزال إلى أبد الآباد، وأنا أشهد أنها بأسرها لك لا شركة لأحد فيها معك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | السادسة: التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال: سبحان الله والحمد لله. فما السبب في وقع البداءة بالتحميد؟ والجواب أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص، والتحميد يدل على كونه محسناً إلى العباد، ولا يكون محسناً إليهم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ليعلم مواقع الحاجات وإلا إذا كان قادراً على المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، وإلا إذا كان غنياً في نفسه وإلا شغله حاجة نفسه عن حاجة غيره، فثبت أن كونه محسناً لا يتم إلا بعد كونه منزهاً عن النقائص والآفات. السابعة: الحمد له تعلق بالماضي وهو وقوعه شكراً على النعم السابقة، وتعلق بالمستقبل وهو اقتضاء تجدد النعم لقوله تعالى**{ لئن شكرتم لأزيدنكم }** [إبراهيم: 7] فبالأول يغلق عنك أبواب النيران، وبالثاني يفتح لك أبواب الجنان، فإن الحمد لله ثمانية أحرف بعدد أبواب الجنة. الثامنة: الحمد لله كلمة جليلة لكنه يجب أن تذكر في موضعها ليحصل المقصود. قال السري: منذ ثلاثين سنة أستغفر الله لقولي مرة واحدة الحمد لله. وذلك أنه وقع الحريق في بغداد وأحرقت دكاكين الناس فأخبرني واحد أن دكاني لم يحترق فقلت: الحمد لله. وكان من حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة. فالحمد على نعم الدين أفضل من الحمد على نعم الدنيا، والحمد على أعمال القلوب أولى من الحمد على أعمال الجوارح، والحمد على النعم من حيث إنها عطية المنعم أولى من الحمد عليها من حيث هي نعم، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يقع الحمد في موضعه اللائق به. التاسعة: أول ما بلغ الروح إلى سرة آدم عطس فقال: { الحمد لله رب العالمين } وآخر دعوى أهل الجنة { الحمد لله رب العالمين }. ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد، فاجتهد أن يكون أول أعمالك وآخرك مقروناً بكلمة الحمد. العاشرة: لا يحسن عندنا أن يقدّر قولوا: " الحمد لله " لأن الإضمار خلاف القياس، ولأن الوالد إذا قال لولده: أعمل كذا وكذا فلم يمتثل كان عاقاً، فالأولى أن يقول الأمر الفلاني ينبغي أن يفعل. ثم إن كان الولد باراً فإنه يجيبه ويطيعه وإن كان عاقاً كان إثمه أقل، فكذلك إذا قال: الحمد لله فمن كان مطيعاً حمده ومن كان عاصياً كان إثمه أقل، بخلاف ما لو قدر " قولوا الحمد لله ". الحادية عشرة: شنعت الجبرية على المعتزلة ومن يجري مجراهم بأنكم تثبتون للعبد فعلاً واختياراً، واستحقاق الحمد إنما يكون على أشرف النعم وهو الإيمان، فلو كان الإيمان بفعل العبد لكان المستحق للحمد هو العبد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والجواب أن الإيمان باختيار العبد لكن الاختيار أيضاً مستند إلى الله تعالى فاستحق الحمد لذلك. وشنعت المعتزلة على الجبرية بأن قوله " الحمد لله " لا يتم إلا على مذهبنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبح في فعله ولا جور في قضيته، وعندكم لا قبح إلا وهو فعله، ولا جور إلا وهو حكمه. والجواب أن القبح والجور إنما يثبتان لو أمكن تصور الفعل المخصوص في القابل المخصوص أحسن وأتم مما صدر لكنه محال، فإنه تعالى حكيم وكل ما يصدر عن الحكيم كان على أفضل ما يمكن بالنسبة إلى المحل المخصوص. الثانية عشرة: اختلفوا في أن شكر المنعم واجب عقلاً أو شرعاً. فمنهم من قال عقلاً ومن جملة أدلتهم قوله " الحمد لله " فإنه يدل على ثبوت الاستحقاق على الإطلاق. وأيضاً عقبه بقوله " رب العالمين " وترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف، فدل ذلك على أن استحقاقه للحمد ثابت بكونه رباً للعالمين قبل مجيء الشرع وبعده. والجواب أن استحقاقه لمثل هذا الحمد عرفناه من قبل الشرع. واعلم أن الحمد سبيله سبيل سائر الأذكار والعبادات في أنها إنما يؤتى بها لا لأن الله تعالى مستكمل بها ولا لأنه تعالى مجازي بها، ولكنها لتحقيق نسبة العبودية وإضافة الإمكان الله حسبي الخامس في فوائد قوله رب العالمين. الأولى: الموجود إما واجب لذاته وهو الله سبحانه وتعالى فقط، وإما ممكن لذاته وهو كل ما سواه ويسمى العالم كما مر، وذلك إما متحيز أو صفة للمتحيز أو لا هذا ولا ذاك. القسم الأوّل: إن كان قابلاً للقسمة فهو الجسم وإلا فالجوهر الفرد. فالجسم إما علوي أو سفلي، والعلوي كالسماويات ويندرج فيها العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة والكواكب، والسفلي إما بسيط وهو العناصر الأربعة: الأرض بما عليها وفيها والماء وهو البحر المحيط وما يتشعب منه في القدر المكشوف من الأرض، والهواء ومنه كرة البخار وكرة النسيم ومنه الهواء الصافي والنار. وإما مركب وهو المعادن والنبات والحيوان على تباين أنواعها وأصنافها. القسم الثاني: الأعراض بأجناسها وأنواعها. القسم الثالث: الأرواح وهي إما سفلية خيرة كالجن، أو شريرة كالشياطين. وإما علوية متعلقة بالأجسام كملائكة السموات قال صلى الله عليه وسلم: **" ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد "** أو غير متعلقة وهي الملائكة المقربون**{ وما يعلم جنود ربك إلا هو }** [المدثر: 31] ولأن كل موجود سوى الواجب يحتاج إلى الواجب في الوجود. وفي البقاء أيضاً فهو إله العالمين من حيث إنه أخرجها من العدم إلى الوجود، ورب العالمين من حيث إنه يبقيها حال استقرارها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكل من كان أكثر إحاطة بأحوال الموجودات وتفاصيلها كان أكثر وقوفاً على تفسير قوله { رب العالمين }. الثانية: المربي قسمان: أحدهما أن يربي ليربح عليهم، والثاني أن يربي ليربحوا عليه. والأول شأن المخلوقين الذين غرضهم من التربية إما ثواب أو ثناء أو تعصب أو غير ذلك، والثاني دأب الحق سبحانه وتعالى كما قال: " خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم " وكيف لا يربحون عليه وأنه متعال عن الاستكمال منزه عن أن يحدث في خزائنه بسبب التربية والإفادة والإفاضة اختلال يحب الملحين في الدعاء**{ ويزيد في الخلق ما يشاء }** [فاطر: 1] يكفي علمه من المقال ويغني كرمه عن السؤال**{ وسع كل شيء علماً }** [طه: 98] ويربي كل حي كرماً وحلماً**{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين }** [المؤمنون: 12 - 13، 14]**{ فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم }** [عبس: 24 - 32]**{ ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجناتٍ ألفافاً }** [النبأ: 6 - 16]. الثالثة: لما كان الله أحسن الأسماء عقبه بأكمل الصفات وهو { رب العالمين } إذ معناه أن وجود ما سواه فائض عن تربيته، وإحسانه وجوده وامتنانه، فالأول يدل على التمام والثاني على أنه فوق التمام. الرابعة: رب العالمين ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وهو الله الواحد الأحد الصمد، وأنت تخدمه كأنّ لك أرباباً غيره فما إنصافك أيها الإنسان؟**{ قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن }** [الأنبياء: 42] خلقت لعبادة الرب فلا تهدم حقيقتك بمعصية الرب، الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب. السادس: في فوائد قوله { الرحمن الرحيم }. الأولى: الرحمن بما لا يتصور صدوره من العباد، والرحيم بما يقدر عليه العباد. أنا الرحمن لأنك تسلم إليّ نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة، أنا الرحيم لأنك تسلم إليّ طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة. الثانية: ذهب بعضهم إلى ملك فقال: جئتك لمهم يسير. فقال: أطلب المهم اليسير من الرجل اليسير. فكأن الله تعالى يقول: لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت مني ولتعذر عليك سؤالي الأمور اليسيرة، فأنا الرحمن لتطلب مني الأمور العظيمة، وأنا الرحيم لتطلب مني شراك نعلك وملح قدرك. الثالثة: الوالد إذا أهمل حال ولده ولم يؤدبه ظن أن ذلك رحمة وهو في الحقيقة عذاب. من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان، وعكسه حال من تقطع يده لأكلة فيها، أو يضرب لتعليم حرفة، أو لتأدب بخصلة شريفة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكل ما في العالم من محنة وبلية فهو في الحقيقة رحمة ونعمة**{ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم }** [البقرة: 216] وقصة موسى مع الخضر كما تجيء في موضعها تؤيد ما ذكرناه، والحكيم المحقق هو الذي يبني الأمور على الحقائق لا على الظواهر، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير. الرابعة: أعطى مريم عليها السلام رحمة**{ ولنجعله آية للناس ورحمة منّا }** [مريم: 21] فصارت سبباً لنجاتها من توبيخ الكفار والفجار، وأعطانا رحمة**{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }** [الأنبياء: 107] فكيف لا ننجو بسببه من عذاب النار. الخامسة: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة فكان من حاله أنه لما كسرت أسنانه قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون، وأنه يوم القيامة يقول: أمتي أمتي. فلما وصف نفسه بكونه رحماناً رحيماً أيضاً فكأنه يقول: الرحمة الواحدة لا تكفي لصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي فإني أنا الرحمن الرحيم، رحمتي غير متناهية ومعصيتهم متناهية والمتناهي لا يدرك غير المتناهي فستغرق معصيتهم في بحار رحمتي**{ ولسوف يعطيك ربك فترضى }** [الضحى: 5]. السادسة: حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: كنت ضيفاً لبعض القوم، فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفاً فاتبعته تعجباً، فنزل في بعض التلال فإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه. وعن ذي النون أنه قال: كنت في البيت إذ وقعت في قلبي داعية أن أخرج من البيت، فانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقرباً قوياً يعدو، فلما وصل إلى النيل فإذا هو بضفدع على طرف النهر، فقفز العقرب عليه وأخذ الضفدع يسبح، فركبت السفينة فاتبعته حتى إذا وصل الضفدع إلى الطرف الآخر نزل العقرب عن ظهره وأخذ يعدو، فتبعته فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة وعنده أفعى يقصده، فلما قرب الأفعى من ذلك الشاب وصلت العقرب إلى الأفعى ولدغتها والأفعى أيضاً لدغتها وماتتا معاً. وفي أدعية العرب: يا رازق النعاب في عشه. وحكايته أن ولد الغراب لما يخرج من البيض يكون كأنه قطعة لحم فتهجره أمه تنفراً منه، حتى إذا خرج ريشه عادت إليه، فيبعث الله تعالى إليه في تلك المدة ذباباً يغتذي به. وروي **" أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فقام فدخل عليه وكان يعرض عليه الشهادة ولا يعمل لسانه فقال صلى الله عليه وسلم: أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم؟ فقالوا: بلى. فقال: فهل عق والدته؟ قالوا: نعم. فقال: هاتوا أمه. فأتي بعجوز عوراء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا عفوت عنه؟ فقالت: لا أعفو عنه لأنه لطمني ففقأ عيني. فقال صلى الله عليه وسلم: هاتوا بالحطب والنار فقالت: وما تصنع بالنار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أحرقه بالنار بين يديك جزاء بما عمل. فقالت: عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه وذكر " أشهد أن لا إله إلا الله "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والنكتة أنها كانت رحيمة فقط ولم تجوّز الإحراق، فالرحمن الرحيم كيف يجوز إحراق عبد واظب على ذكر الرحمن الرحيم سبعين سنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: **" إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون ويتراحمون، وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة "** ولعل هذا على سبيل التفهيم والتمثيل وإلا فكرمه بلا غاية ورحمته بلا نهاية. السابع: في فوائد قوله { مالك يوم الدين }. الأولى: من قضية العدالة الفرق بين المحسن والمسيء، والمطبع والعاصي، والموافق والمخالف، ولا يظهر ذلك إلا في يوم الجزاء**{ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى }** [طه: 15]**{ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره }** [الزلزلة: 6 - 8] روي أنه يجاء برجل يوم القيامة وينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة، فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك. فيقول: إلهي ماذا عملت؟ فيقول الله: ألست لما كنت نائماً تقلب من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك " الله " ، ثم غلبك النوم في الحال فنسيت؟ أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم، فما نسيت ذلك. ويجاء برجل وتوزن حسناته بسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة " أن لا إله إلا الله " فلا يثقل مع ذكر الله غيره. واعلم أن حقوق الله تعالى على المسامحة لأنه غني عن العالمين، وأما حقوق العباد فهي أولى بالاحتراز عنها. روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار "** الثانية: من قرأ " مالك " احتج بوجوه: الأول أن فيه حرفاً زائداً فيكون ثوابه أكثر. الثاني: في القيامة ملوك ولا مالك إلا الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثالث: المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك. الرابع: العبد أدون حالاً من الرعية فيكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية. الخامس: الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك. السادس: الملك يجب عليه رعاية حال الرعية **" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "** ولا يجب على الرعية خدمة الملك، أما المملوك فيجب عليه خدمة مالكه وأن لا يستقل في الأمر إلا بإذنه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة، ويصير مسافراً إذا نوى مولاه السفر، ومقيماً إذا نوى الإقامة. حجة من قرأ " ملك " أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً، والملك لا يكون إلا أعلاهم شأناً. وأيضاً**{ قل أعوذ برب الناس ملك الناس }** [الناس: 1 - 2] لم يقرأ فيه غير " ملك " فتعين. وأيضاً الملك أقصر ومالك يلزم منه تطويل الأمل فإنه يمكن أن يدركه الموت قبل تمام التلفظ به. وأجيب بأن العزم يقوم مقام الفعل لو مات قبل الإتمام، كما لو نوى بعد غروب الشمس صوم يوم يجب صومه بخلاف ما لو نوى في النهار عن الغد. ثم يتفرع على كل من القراءتين أحكام، أما المتفرعة على الأول فقراءة " مالك " أرجى من قراءة " ملك " لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس، والمالك يطلب العبد منه الكسوة والطعام والتربية والإنعام **" يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم "** والملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه، والملك لا يختار من العسكر إلا كل قوي سويّ ويترك من كان مريضاً عاجزاً، والمالك إن مرض عبده عالجه، وإن ضعف أعانه. الملك له هيبة وسياسة، والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة. وأما المتفرعة على الثانية فإنه في الدنيا ملك الملوك**{ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء }** [آل عمران: 26] وفي الآخرة لا ملك إلا هو**{ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }** [غافر: 16] وملكه لا يشبه ملك المخلوقين لأنهم إذ بذلوا قلَّت خزائنهم ونفدت ذخائرهم، وأنه سبحانه كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً. فإن أعطاك عشرة أولاد زاد في ملكه عشرة أعبد. ومن لوازم ملكه كمال الرحمة فلهذا قرن بقوله " ملك يوم الدين " قوله " رب العالمين الرحمن الرحيم " ومثله**{ الملك يومئذ الحق للرحمن }** [الفرقان: 26]**{ قل أعوذ برب الناس ملك الناس }** [الناس: 1 - 2] فمن اتصف بهذه الصفة من ملوك الدنيا صدق عليه أنه ظل الله في الأرض. الكفر سبب لخراب العالم**{ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا. أن دعوا للرحمن ولداً }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [مريم: 90 - 91] والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد**{ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }** [النحل: 97] فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم، وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه " ملك يوم الدين " أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة**{ وما ربك بظلام للعبيد }** [ق: 29] وبثبوت العدل أخرى**{ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة }** [الأنبياء: 47] فلا خلة للملك أعم نفعاً وأتم وقعاً من أن يكون عادلاً. ومن هنا تظهر البركة في العالم أو ترتفع إن كان السلطان عادلاً أو جائراً. يحكى أن أنوشروان خرج يوماً إلى الصيد وانقطع عن عسكره واستولى عليه العطش، فرأى بستاناً فيه رمان. فلما دخله قال لصبي فيه: أعطني رمانة، فأعطاه فعصرها وأخرج منها ماء كثيراً، فشربه وأعجبه ذلك، فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه. ثم قال لذلك الصبي: أعطني رمانة أخرى، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً. فقال: أيها الصبي، لم صار الرمان هكذا؟ فقال الصبي: فلعل ملك البلد عزم على الظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا، فتاب أنوشروان في قلبه وأناب، وقال للصبي: أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي: لم بدلت هذه الحالة؟ فقال: لعل الملك تاب عن ظلمه. فلما وجد أنوشروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية، فكان من ميامن عدله أن ورد في حقه قول نبينا صلى الله عليه وسلم " ولدت في زمن الملك العادل ". الثالثة: كونه مالكاً وملكاً معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع. وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضاً، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره، فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات، فلا مالك ليوم الدين إلا الله. فإن قيل: لا يكون مالكاً إلا إذا كان المملوك موجوداً لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال " مالك يوم الدين " بالتنوين بدليل أنه لو قال: أنا قاتل زيد كان إقراراً، ولو قال: أنا قاتل زيداً كان تهديداً. قلنا: لما كان قيام القيامة أمراً حقاً لا يجوز الإخلال به في الحكمة، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال. ولو قيل: من مات فقد قامت قيامته زال السؤال. الرابعة: قالت القدرية: إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم، فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قلنا: خلق الجنة وخلق اهلاً لها، وخلق النار وخلق أهلاً لها، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك. فخلق لكل صفة مظهراً ولا يسأل عما يفعل، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل. الخامسة: في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة: الله، الرب، الرحمن، الرحيم، المالك. كأنه يقول: خلقتك أولاً فأنا الله، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب، ثم عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمن الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف، ومع ذلك عقبها بقوله " مالك يوم الدين " كيلا يغتروا بها. ونظيره**{ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب }** [غافر: 3]. السادسة: الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملاً في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك، وإما لكونه محسناً إليك، وإما رجاء وطمعاً في المستقبل، وإما خوفاً ورهبة، فكأنه سبحانه يقول: إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين. الثامن: في فوائد قوله " إياك نعبد ". الأولى: لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحداً سواك والحاكم فيه الذوق السليم. واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى. وذلك أن للعبد أحوالاً ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فقد كان معدوماً فأوجده**{ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً }** [مريم: 9]**{ أو من كان ميتاً فأحييناه }** [الأنعام: 122]**{ وكنتم أمواتاً فأحياكم }** [البقرة: 28] وكان جاهلاً فعلمه**{ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً }** [النحل: 78] ثم أسمعه وأبصره وأعقله**{ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة }** [الملك: 23] فهو إله بهذه المعاني. وأما الحاضر فحاجاته كثيرة، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه. وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو. وأيضاً ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالماً قادراً جواداً غنياً حكيماً إلى غير ذلك من الصفات الكمالية، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه، وأيضاً العبودية ذلة ومهانة، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى، فعبوديته أولى، وأيضاً كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير، والفقير مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه إفادة غيره. فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو**{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه }** [الإسراء: 23]. الثانية: تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يميناً وشمالاً بخلاف العكس. (يحكى) أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه، فصرع الأستاذ مراراً فقيل له: فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه. وأيضاً ذكره تعالى أوّلاً مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه. وأيضاً**{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون }** [الأعراف: 201] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق " إياك نعبد " فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية. وأيضاً إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس، أما إذا غير هذا الترتيب وقال: " إياك نعبد " كان بعيداً عن احتمال الشرك. وأيضاً الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدماً في الذكر. وأيضاً المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة، وعلى المنعم لا على النعمة، ولهذا قيل لبني إسرائيل**{ اذكروا نعمتي }** [البقرة: 40] ولأمة محمد**{ اذكروني }** [البقرة: 152] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة. الثالثة: النون في قوله " نعبد " فيه وجوه من الحكمة منها: أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظاً ينبئ عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه**{ نحن نقص عليك أحسن القصص }** [يوسف: 2] كأنه قال: لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبداً ليّ جعلناك أمة**{ إن إبراهيم كان أمة }** [النحل: 120] ومنها أنه لو قال: إياك أعبد كان إخباراً عن كونه عبداً فقط، ولما قال: " إياك نعبد " صار معناه إني واحد من عبيدك، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع. ومنها أن يكون تنبيهاً على أن الصلاة بالجماعة أولى قال صلى الله عليه وسلم: " التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها " وههنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال: لما أثنيت عليّ بقولك { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } ارتفعت منزلتك عندنا، فلا تقتصر على إصلاح حالك بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل: { إياك نعبد وإياك نستعين }. ومنها أن العبد يقول: إلهي عبادتي مخلوطة بالتقصير وإني أخلطها بعبادة جميع العابدين، فلا يليق بكرمك أن تميز بين العبادات، ولا أن ترد الكل وفيها عبادة الأنبياء والأولياء بل الملائكة المقربين. وهذا كما أن الرجل إذا باع من غيره عشرة أعبد، فالمشتري إما أن يقبل الكل أو يرد الكل وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة. الرابعة: من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد ورد " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " وأيضاً التكاليف أمانة**{ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان }** [الأحزاب: 72] وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً**{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }** [النساء: 58] وأداء الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر. قال بعض الصحابة: أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا، فلما خرج لم يجد الناقة فقال: إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الرواي: فزدنا تعجباً، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه. **" وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات "** وأيضاً الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور، وركون من الخلق إلى حضرة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة. (يحكى) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر بها. ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزاً كأزيز المرجل. ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى**{ فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن }** [يوسف: 31] فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد؟! وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين؟! واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعاً فيما هو أشرف منها وأدوم، وهذه مرتبة نازلة عند المحققين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإما أن يعبد الله تشرفاً بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية. وإما أن يعبد الله لكونه إلهاً ولكونه عبداً له، والإلهية توجب العزة والهيبة، والعبودية تقتضي الخضوع والذلة، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودية وإليها الإشارة بقول المصلي: أصلي لله فإنه لو قال: أصلي لثواب الله أو هرباً من عقابه فسدت صلاته. (يحكى) أن عابداً في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً فقال: إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود. فرجع الملك فقال الله: بم أجاب العابد؟ فقال: أنت أعلم يا رب، إنه قال كذا وكذا. فقال الله تعالى: ارجع إليه وقل له: قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك. والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين. وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين. قال عز من قائل**{ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون. فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }** [الحجر: 97 - 99] ولأن العبودية أشرف المقامات. مدح الله تعالى نبيه في قوله**{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً }** [الإسراء: 1] وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال:**{ إني عبد الله }** [مريم: 30] وكان عليّ يقول: كفاني فخراً أن أكون لك عبداً وكفاني شرفاً أن تكون لي رباً. اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت، فاجعلني عبداً كما أردت. ومنهم من قال: العبودية أشرف من الرسالة، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات، وبالرسالة يقبل على التصرفات، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "**{ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون }** [النساء: 172]. التاسع: في فوائد قوله { وإياك نستعين }. الأولى: لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك، وإنما يحصل الرجحان بمرجح. ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم، فلا بد أن ينتهي إلى الله تعالى. وأيضاً كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ولا يفوز به إلا بعضهم، فليس ذلك إلا بإعانة الحق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأيضاً قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم. الثانية: لقائل أن يقول: الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده، فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة؟ والجواب كأنه يقول: شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن. وأيضاً إن قيل: الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب. الثالثة: لا أريد بالإعانة غيرك إقتداء بالخليل صلى الله عليه وسلم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال: هل لك حاجة؟ فقال له: أما إليك فلا. قال: فاسأل الله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي، ويداه عن البطش، ولسانه إلا عن القراءة والذكر، فكما أن الله قال**{ يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم }** [الأنبياء: 69] فكذلك تقول له نار جهنم: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. الرابعة: لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك. الخامسة: " إياك نعبد " تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله " وإياك نستعين " لإزالة ذلك. السادسة: ههنا مقامان: معرفة الربوبية ومعرفة العبودية، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله**{ أوفوا بعهدي أوف بعهدكم }** [البقرة: 40] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً، وأحوال معادة تدل على أنه مالك يوم الدين، وأما معرفة العبودية فمبدؤها " إياك نعبد " وكمالها " إياك نستعين " في جميع المطالب، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله: " اهدنا " إلى آخره. وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه. السابعة: في الالتفات الوارد في السورة وجوه: منها أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله: { مالك يوم الدين }. ثم الله تعالى كأنه يقول: حمدتني وأقررت بأني إله، رب العالمين، رحمن رحيم، مالك يوم الدين، فنعم العبد أنت يا عبد. رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل " إياك نعبد ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه رباً لا يخرج شيء من ملكوته منعماً على الخلق بأنواع النعم - جلائلها ودقائقها - مالكاً للأمر كله في العاقبة، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل " إياك " يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى، وهكذا فعل الأنبياء عليهم السلام**{ ربنا ظلمنا أنفسنا }** [الأعراف: 23]**{ رب هب لي حكماً }** [الشعراء: 83]**{ رب زدني علماً }** [طه: 114]**{ ربي أرني }** [الأعراف: 143]**{ رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين }** [الأنبياء: 89] ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة. الثامنة: اعلم أن المشركين طوائف، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب. ومنهم من قال: مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية، ومنهم من قال: الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم، فيتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة. ومنهم من قال: للعالم إلهان، أحدهما خير وهو الله، والآخر شرير وهو إبليس. إذا عرفت ذلك فنقول: قد مر أن " الحمد لله " يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع " الحمد لله " " وإياك نعبد " يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأن الله أكبر من جميع المعبودين، فيقوم مقام قوله " لا إله إلا الله والله أكبر " " وإياك نستعين " يدل على قوله " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". العاشر في فوائد قوله { اهدنا الصراط المستقيم }. الأولى: سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل. وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. وأيضاً إن في كل خلق من الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان، والحق هو الوسط والصواب. فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتدياً، لكنه لا بد مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين. ففي القوة الشهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو الشجاعة محمود، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود. وبالجملة فإنه يحصل من توسيط استعمال القوة الشهوية الحياء والرفق والصبر والقناعة والورع والحرية والسخاء، ومن توابع السخاء الكرم والإيثاء والعفو والمروءة والمسامحة، ويلزم من توسط استعمال القوة الغضبية كبر النفس وعلو الهمة والثبات والحلم والسكون والتحمل والتواضع والحمية والرقة، ومن توسط استعمال القوة النطقية الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر، ويحصل من كمال التوسط في القوى الثلاث كمال العدالة ويتبعها الصداقة والألفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة والتسليم والتوكل وتعظيم المعبود الحق وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر والانقياد لأوامرهم ونواهيهم. والتقوى تكمل هذه المعاني وتتممها، ولأن القوة النطقية ذاتية للإنسان، والشهوية والغضبية حصلتا له بواسطة التعلقِ البدني، فكمال التوسط في النطقية أن يستعملها بحيث لا يمكن أزيد منها. وكمال التوسط في الأخريين أن يستعملهما بحيث لا يمكن أقل من ذلك ليفضي إلى تحصيل سعادة الدارين. وأيضاً العلم النظري يقبل الزيادة بمعنى تواصل أوقاته وقلة الفترات، وبمعنى زيادة الأدلة فليس من علم بدليل كمن علم بأدلة، فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وعلمه وقدرته، وجوده ورحمته وحكمته. وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل فكأنه يقول: عرفنا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وعلمك وقدرتك. وأيضاً قد يراد بالصراط المستقيم الاقتداء بالأنبياء، وهو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله، حتى لو أمر بذبح ولده لأطاع كالخليل، ولو أمر أن يذبح لانقاد كإسماعيل، ولو أمر بإلقاء نفسه في البحر امتثل كيونس، ولو أمر بتلمذة من هو أعلم منه بعد بلوغه أعلى منصب ائتمر كموسى مع الخضر. وعن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأيضاً كأن العبد يقول: الأحباب يدعونني إلى طريق، والأعداء إلى طريق ثانٍ، والشيطان إلى ثالث. وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء، والعقل ضعيف، والعمر قصير، والقضاء عسير، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به. حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله، فإذا أعرابي على ناقة له. فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال: إلى بيت الله. قال: كأنك مجنون، لا أرى لك مركباً ولا زاداً والسفر طويل! فقال إبراهيم: إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها. قال: وما هي؟ قال: إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى. فقال الأعرابي: سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل. وقيل: الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال**{ فبهداهم اقتده }** [الأنعام: 90]. وعن علي كرم الله وجهه: ثبتنا على الهداية كقوله**{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا }** [آل عمران: 8] فكم من عالم يزل ومهتد يضل. وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده. الثانية: إنما قبل " اهدنا " بلفظ الجمع لأن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب، ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه: إذا قلت قبل القراءة " رضي الله عنك، وعن جماعة المسلمين " فإياك وأن تنساني في قولك " وعن جماعة المسلمين " فإن ذلك أوقع عندي من قولك " رضي الله عنك " ، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل، وأما قولك " وعن المسلمين " فإنه أرجى لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي. ومن هنا ورد في السنة أن يصلي على النبي صلى الله علبه وسلم قبل كل دعاء وبعده، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب ألبتة لأنه في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة. وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: **" ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها. قالوا: يا رسول الله، ومن لنا بتلك الألسنة؟ قال: " يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك " "** وأيضاً " الحمد لله " شامل لحمد جميع الحامدين، و " إياك نعبد " لعبادة الجميع، " وإياك نستعين " لاستعانة الكل، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعاً في قوله: { صراط الذين أنعمت عليهم } والفرار من الطالحين جميعاً في قوله: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذاكان كذلك في الدنيا يرجى أن يكون كذلك في الآخرة**{ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً }** [النساء: 69]. الثالثة: الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين، والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم. وأيضاً المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضاً في الاعوجاج، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص. وأيضاً ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم. الحادي عشر في فوائد قوله { صراط الذين أنعمت عليهم }. الأولى: حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولاً على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر. ثم نقول: كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله**{ وما بكم من نعمة فمن الله }** [النحل: 53] ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضاً لأنه الخالق لتلك النعمة، وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه. والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضاً من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار. وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى:**{ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم }** [البقرة: 28] ثم عقب ذلك بقوله**{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً }** [البقرة: 29]. الثانية: هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها: قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى. والجواب أن قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يدفع ذلك، ومنها قوله**{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً }** [آل عمران: 178] والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيراً ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك. على أن نفس الإملاء أيضاً تمتيع حالي**{ قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار }** [البقرة: 126] وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن، وإنما هو كمن ناول شخصاً حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضاً وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" نعم المال الصالح للرجل الصالح "** وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم:**{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء }** [البقرة: 21 - 22] وقال:**{ وكنتم أمواتاً فأحياكم }** [البقرة: 28] كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وقال:**{ وقليل من عبادي الشكور }** [سبأ: 13]**{ ولا تجد أكثرهم شاكرين }** [الأعراف: 17] والشكر لا يكون إلا بعد النعمة. الثالثة: ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله " أنعمت عليهم "؟ قلنا: يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية. ثم إنه يخرج بقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات. وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده**{ إنك لا تسمع الموتى }** [النمل: 80]**{ وما أنت بمسمع من في القبور }** [فاطر: 22] وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه. وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر إلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب. والمؤمن لا يبقى مخلداً في النار، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام، فما الإنعام إلا بالإتمام. قيل: لو كان رعاية الأصلح على الله واجباً لم يكن ذلك إنعاماً لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاماً. قلت: النزاع لفظي لأن الأصلح لا بد أن يصدر عنه، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه. الثاني عشر في فوائد قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } الأولى: من المغضوب عليهم ومن الضالون؟ قلت: المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى. وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك. وأما المفرط فقد أقبل عليه وجاوز حد الاعتدال، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان**{ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران }** [الأنعام: 71] فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم**{ يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة }** [الأعراف: 138]**{ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }** [البقرة: 55] ولهذا قال عز من قائل**{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [الأحزاب: 69] والنصارى أفرطوا وقالوا**{ المسيح ابن الله }** [التوبة: 30]**{ إن الله ثالث ثلاثة }** [المائدة: 73] روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى "** وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود**{ وباءوا بغضب من الله }** [آل عمران: 112] وفي النصارى**{ وضلوا عن سواء السبيل }** [المائدة: 77] هذا شأن الفريقين. وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم**{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }** [البقرة: 143]**{ كنتم خير أمة أخرجت للناس }** [آل عمران: 110] وخير الأمور أوسطها. الثانية: الآية تدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالاً لقوله تعالى**{ فماذا بعد الحق إلا الضلال }** [يونس: 32] يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه. الثالثة: ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل؟ قلت: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال صلى الله عليه وسلم: **" لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا "** فقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } يدل على الرجاء، وباقي الآية يدل على الخوف، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه. الثالث عشر: في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج: المنهج الأول نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ونسبة الأصل إلى الفرع، والنور إلى الظلمة، فكل شاهد. فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل، وكل شريف فهو بالنسبة إلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل**{ ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين }** [التكوير: 20 - 21] والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر. ولا بد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة. وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله**{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله }** [البقرة: 285] واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية**{ وقالوا سمعنا وأطعنا }** [البقرة: 285] والثاني كمال العبودية وهو الالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه**{ غفرانك ربنا }** [البقرة: 285] وواحد يتعلق بالمعاد وهو الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب**{ وإليك المصير }** [البقرة: 285] ويتفرع على هذه المراتب سبع مراتب في الدعاء والتضرع أولها**{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }** [البقرة: 286] فضد النسيان هو الذكر**{ واذكر ربك إذا نسيت }** [الكهف: 24] وهذا الذكر إنما يحصل بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثانيها**{ ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا }** [البقرة: 286] ودفع الإصر والثقل يوجب { الحمد لله رب العالمين }. وثالثها:**{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به }** [البقرة: 286]. ذلك إشارة إلى كمال رحمته " الرحمن الرحيم " ورابعها**{ واعف عنا }** [البقرة: 286] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين { مالك يوم الدين }. وخامسها**{ واغفر لنا }** [البقرة: 286] لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك { إياك نعبد وإياك نستعين }. وسادسها**{ وارحمنا }** [البقرة: 286] لأنا طلبنا الهداية منك { اهدنا الصراط المستقيم } وسابعها**{ أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين }** [البقرة: 286] { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }. فهذه المراتب ذكرها محمد صلى الله عليه وسلم في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم: **" الصلاة معراج المؤمن ".** المنهج الثاني: المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة والغضب والهوى. الشهوة بهيمية، والغضب سبعية، والهوى شيطانية أرضية، ولهذا قال: فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه. قال تعالى**{ وينهىٰ عن الفحشاء }** [النحل: 90] أي الشهوة، والمنكر الغضب، والبغي الهوى، فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب ظالماً لغيره، وبالهوى لربه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم **" الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه "** ونتيجة الشهوة الحرص والبخل، ونتيجة الغضب العجب والكبر، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة. ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى:**{ ومن شر حاسد إذا حسد }** [الفلق: 5] كما ختم جوامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة في قوله**{ يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس }** [الناس: 5، 6] روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون: من هذا؟ قال: إبليس ولو كنت إلهاً ما جهلت. فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شراً مني ومنك؟ قال: نعم، الحاسد، وبالحسد وقعت فيما وقعت. ثم نقول: الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه }** [الجاثية: 23] يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا هواك. ومن عرف أنه رحمن لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن**{ الملك يومئذ الحق للرحمن }** [الفرقان: 26] ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية. وأما الفاتحة فإذا قال " الحمد لله " فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد، ومن عرف أنه { مالك يوم الدين } بعد أن عرف إنه { الرحمن الرحيم } زال غضبه، ومن قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } زال كبره بالأول وعجبه بالثاني، وإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم } اندفع عنه شيطان الهوى، وإذا قال { صراط الذين أنعمت عليهم } زال عنه كفره، وإذا قال { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } اندفعت بدعته، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة. وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها، كأنه قال: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس. المنهج الثالث: في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد " الحمد لله " إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم. " رب العالمين " يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيراً**{ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت }** [البقرة: 285]**{ الذي خلقني فهو يهدين }** [الشعراء: 78]**{ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }** [طه: 50]**{ ربكم ورب آبائكم الأولين }** [الشعراء: 26]**{ اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم }** [البقرة: 21]**{ اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق }** [العلق: 1 - 2] وهذه الحالة كما أنها في نفسها دليل على وجود الرب فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم، وذلك أن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع، وكل منها مطابق للمطلوب وموافق للغرض كما يشهد به علم تشريح الأبدان. فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم الرحمن الرحيم الذي شمل إحسانه قبل الموت وعند الموت وبعد الموت. { مالك يوم الدين } يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يقدر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء والمظلوم من الظالم، وههنا تمت معرفة الربوبية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم إن قوله " إياك نعبد " إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان: الأعمال والآثار المتفرعة على الأعمال أما الأعمال فلها ركنان: أحدهما الإتيان بالعبادة وهو قوله " إياك نعبد " والثاني علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله وهو قوله " وإياك نستعين ". وأما الآثار المتفرعة على الأعمال فهي حصول الهداية والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخره وفي قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال خلة محمودة وسنة مرضية " هم القوم لا يشقى بهم جليسهم "**{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }** [آل عمران: 31] وفي قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } إشارة إلى أن التجنب عن مرافقة أصحاب البدع والأهواء واجب. | **عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه** | | **فكل قرين بالمقارن يقتدي** | | --- | --- | --- | | **والجمر يوضع في الرماد فيخمد** | | | المنهج الرابع: قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد { بسم الله الرحمن الرحيم } يقول الله: ذكرني عبدي. وإذا قال: { الحمد لله رب العالمين } يقول الله: حمدني عبدي وإذا قال: " الرحمن الرحيم " يقول الله: عظمني عبدي. وإذا قال: { مالك يوم الدين } يقول الله: مجدني عبدي - وفي رواية فوض إلي عبدي - وإذا قال: " إياك نعبد " يقول الله: عبدني عبدي وإذا قال: " وإياك نستعين " يقول الله: توكّل عليّ عبدي - وفي رواية وإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم } يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل فقوله " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي " إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد**{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }** [الذاريات: 56]**{ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم }** [البقرة: 40] فلا جرم أنزل الله تعالى هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه العبد في الوفاء بذلك العهد وقوله " إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي " مناسب لقوله تعالى { فاذكروني أذكركم } " أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " والذكر مقام عالٍ شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً**{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً }** [الأحزاب: 41]**{ واذكر ربك في نفسك }** [الأعراف: 205]**{ تذكروا فإذا هم مبصرون }** [الأعراف: 201]**{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم }** [آل عمران: 191] ولهذا وقع الإبتداء به. وقوله " ذكرني عبدي " دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } وهذا يدل على أن الله اسم علم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقوله " إذا قال: الله رب العالمين يقول الله: حمدني عبدي " يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أول كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة:**{ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }** [البقرة: 30] وآخر كلام في الجنة**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر، فقوله " حمدني عبدي " شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه. قوله " وإذا قال: الرحمن الرحيم " " يقول الله: عظمني عبدي " يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده. ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله. وقوله " وإذا قال: مالك يوم الدين يقول الله: مجدني عبدي " أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معاداً يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف. | **أيحسب الظالم في ظلمه** | | **أهمله القادر أم أمهلا** | | --- | --- | --- | | **ما أهملوه بل لهم موعد** | | **لن يجدوا من دونه موئلا** | وقوله " وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي " معناه أن " إياك نعبد " يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله " وإياك نستعين " وقوله " وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها، وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر. فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة**{ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا }** [البقرة: 32] وقال إبراهيم عليه السلام**{ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين }** [الأنعام: 77] وقال موسى**{ رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري }** [طه: 25 - 26]. المنهج الخامس: آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضاً سبعة: القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد، فقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } بإزاء القيام، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائماً مرتفعاً. وأيضاً التسمية لبداية الأمور " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر " والقيام أيضاً أول الأعمال. وقوله { الحمد لله رب العالمين } بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحق وإلى الخلق والمنعم والنعمة، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود، وأيضاً ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله " الرحمن الرحيم " مناسب للانتصاب، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: **" إذا قال العبد: سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة "** وقوله { مالك يوم الدين } مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع. وقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و " إياك نستعين " استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية، وقوله { اهدنا الصراط المستقيم } سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع. وقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } إلخ. مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ " التحيات لله " كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن. المنهج السادس: آيات الفاتحة سبع وأعمال الصلاة المحسومة سبعة كما تقدم، ومراتب خلق الإنسان سبع**{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين }** [المؤمنون: 12 - 14] فنور آيات الفاتحة يسري إلى الأعمال السبعة، ونور الأعمال السبعة يسري إلى هذه المراتب فيحصل في القلب نور على نور، ثم ينعكس إلى وجه المؤمن " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ". المنهج السابع: إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت. هذا في عالم الحس، وأما في عالم الأرواح، فمن الشهادة إلى الغيب، ثم من الغيب إلى غيب الغيب، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين، فتخطاهما محمد صلى الله عليه وسلم فكان قاب قوسين. وقوله " أو أدنى " إشارة إلى فنائه في نفسه. والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأرواح السفلية، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون }** [الأنبياء: 19 - 20] وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه، والمقصود أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة: المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار. فليكن المصلي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً لأنه بالوادي المقدس طوى. وأيضاً عنده ملك وشيطان، ودين ودنيا، وعقل وهوى، وخير وشر، وصدق وكذب، وحق وباطل، وحلم وطيش، وقناعة وحرص، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة، اختار الصديق صحبة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى:**{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }** [التوبة: 119] ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل " الله أكبر " أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه، ثم ليقل " سبحانك اللهم وبحمدك " وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال، ثم ليقل " تبارك اسمك " إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأزل في القدم وحقيقة الأبد في البقاء، فيتجلى له نور الأزل والأبد، ثم ليقل " وتعالى جدك " إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور، ثم ليقل " ولا إله غيرك " إشارة إلى أن صفات الجلال وسمات الكمال له تعالى لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو، وههنا بكل اللسان وتدهش الألباب، ثم عد أيها المصلي إلى نفسك وحالك وقل " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض " فقولك " سبحانك اللهم وبحمدك " معراج الملائكة المقربين حيث قالوا**{ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }** [البقرة: 30] وهو أيضاً معراج محمد صلى الله عليه وسلم لأن معراجه مفتتح بقوله " سبحانك اللهم وبحمدك " وقوله " وجهت وجهي " معراج الخليل صلى الله عليه وسلم، وقولك " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي " معراج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لتدفع العجب عن نفسك، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة، وبقولك { بسم الله الرحمن الرحيم } يفتح باب الذكر، وبقولك { الحمد لله رب العالمين } يفتح باب الشكر، وبقولك " الرحمن الرحيم " يفتح باب الرجاء، وبقولك { مالك يوم الدين } يفتح باب الخوف، وبقولك { إياك نعبد وإياك نستعين } يفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك { اهدنا الصراط المستقيم } يفتح باب الدعاء والتضرع**{ ادعوني استجب لكم }** [غافر: 60] وبقولك: { صراط الذين أنعمت عليهم } الخ. يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف**{ إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض }** [الكهف: 14] بل قيام أهل القيامة**{ يوم يقوم الناس لرب العالمين }** [المطففين: 6] ثم اقرأ " سبحانك اللهم وبحمدك " ثم " وجهت وجهي " ثم " الفاتحة " وبعدها " ما تيسر لك من القرآن " واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشية عرضتها على نار خوف الجلال فلانت، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك " فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل: " سبحان ربي الأعلى " فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة... ركوع واحد وسجدتان، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات، وبالسجود الأول من عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات، وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات. فإذا تجاوزت هذه الصفات وتخلصت عن هذه الدركات، وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيت إلى عقبة جلال مدبر الأرض والسموات، فقل عند ذلك " التحيات المباركات " باللسان، و " الصلوات " بالأركان و " الطيبات " بالجنان وقوة الإيمان بالله، فيصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والريحان فقل " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " فعند ذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " فكأنه قيل لك: بم نلت هذه الكرامات؟ فقل: بقولي: " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً رسول الله " فقيل: إن محمداً الذي هداك أي شيء هديتك له صلى الله عليه وسلم؟ فقل " اللهم صل على محمد وآل محمد " ، فقيل لك: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم }** [البقرة: 129] فما جزاؤك له صلى الله عليه وسلم؟ فقل " كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين " فيقال لك: هذه الخيرات من محمد وإبراهيم أو من الله؟ فقل: بل من الحميد المجيد " إنك حميد مجيد ". ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة **" إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه "** فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى: إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاؤوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين، فقل عن اليمين وعن الشمال " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار. المنهج الثامن: أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان، فالمكان فضاء لا نهاية له، وخلاء لا غاية له، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل. فالأول والآخر صفة الزمان، والظاهر والباطن صفة المكان، وكمال هذه الأربعة " الرحمن الرحيم " فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً، ووسع الزمان أولاً وآخراً، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان، فإنه كان ولا مكان ولا زمان، فعقد المكان بالكرسي**{ وسع كرسيه السموات والأرض }** [البقرة: 255] وعقد الزمان بالعرش**{ وكان عرشه على الماء }** [هود: 7] لأن جري الزمان يشبه جري الماء، فالعلو صفة الكرسي**{ وسع كرسيه }** [البقرة: 255] والعظمة صفة العرش**{ رب العرش العظيم }** [التوبة: 129] وكمال العلو والعظمة لله**{ ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم }** [البقرة: 255] والعلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء **" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري "** ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: **" ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام "** وفي التنزيل**{ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }** [الرحمن: 27] فالمصلي يبتغي وجه الله، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب**{ توبوا إلى الله توبة نصوحاً }** [التحريم: 8] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين، ثم قم قائماً | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فأقم وجهك للدين حنيفاً }** [الروم: 30] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل " الله أكبر " أي من الكل كما مر، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم **" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "** أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت " الله أكبر " فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل " سبحانك اللهم وبحمدك " ثم قل " وجهت وجهي " ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلىالحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين، فإذا قلت { بسم الله الرحمن الرحيم } أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون، وإذا قلت { الحمد لله رب العالمين } أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] وإذا قلت { الرحمن الرحيم } أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال، وإذا قلت { مالك يوم الدين } أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال، وإذا قلت " إياك نعبد " أبصرت به عالم الشريعة، وإذا قلت " وإياك نستعين " أبصرت به عالم الطريقة، وإذا قلت { اهدنا الصراط المستقيم } أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت { صراط الذين أنعمت عليهم } أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات، وإذا قلت { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل " الله أكبر " ثم انزل من صفة الكبرياء إلى العظمة وقل " سبحان ربي العظيم " ثم انتصب ثانياً وادع لمن وقف موفقك وحمد حمدك وقل " سمع الله لمن حمده " فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم. ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل " سبحان ربي الأعلى " لأن السجود أكثر تواضعاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | روي أن لله ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل. فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة، ثم ثلاثين ألف سنة، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه: لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش. فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى. أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد، والقعدة بينهما هي الدنيا، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانياً. وأيضاً الأولى فناء الدنيا في الآخرة، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى، وأيضاً الأولى فناء الكل في أنفسها، والثانية بقاؤها ببقائه، وأيضاً الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته**{ ألا له الخلق والأمر }** [الأعراف: 54] وأيضاً الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه. وأيضاً صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد، وأيضاً ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة، وأيضاً ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة إلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية، وأيضاً الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات. ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة، وفي السجود بمرتبتين، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا. المنهج التاسع في اللطائف: عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل ربه فقال: ما جزاء من حمدك؟ فقال تعالى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته. فقال أهل التحقيق: من ههنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته**{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }** [يونس: 10] وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون، ثم قال له: تكلم فقال: الحمد لله فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك. ونقل عن آدم عليه السلام لما عطس قال: الحمد لله فأول كلام لفاتحة المحدثات الحمد، وأول كلام لخاتمة المحدثات الحمد، فلا جرم جعلها الله تعالى فاتحة كتابه. وأيضاً أول كلام الله " الحمد لله " وآخر أنبيائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأول والآخر مناسبة، فجعل " الحمد لله " أول آية من كتاب محمد رسول الله، ولما كان كذلك وضع لمحمد رسول الله من كلمة الحمد اسمان: محمد وأحمد. وعند هذا قال صلى الله عليه وسلم **" أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد "** فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال:**{ فأولئك كان سعيهم مشكوراً }** [الإسراء: 19] ورسول الله محمدهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أخرى: الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا قال **" سبقت رحمتي غضبي ".** أخرى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمداً فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين. أخرى: إن من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات، وكلها تدل على الرحمة، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى:**{ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم }** [الحجر: 49] فقوله " نبئ " إشارة إلى محمد وهو مذكور قبل العباد، والياء في قوله " عبادي " ضمير الله سبحانه. وكذا في " أني " و " أنا " و " الغفور " و " الرحيم " صفتان لله، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى الله عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة، ورحمة الرسول كثيرة**{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }** [الأنبياء: 107] ورحمة الله تعالى غير متناهية**{ ورحمتي وسعت كل شيء }** [الأعراف: 156] فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة؟!. أخرى: في الفاتحة عشرة أشياء، خمسة من صفات الربوبية: الله الرب الرحمن الرحيم المالك، وخمسة من صفات العبودية: العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله " أنعمت عليهم " وكأنه قيل " إياك نعبد " لأنك أنت الله " وإياك نستعين " يا رب اهدنا يا رحمن، وارزقنا الاستقامة يا رحيم، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك. أخرى: الإنسان مركب من خمسة أشياء: بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي. فتجلى اسم الله للجوهر الملكي فاطمأن إليه**{ ألا بذكر الله تطمئن القلوب }** [الرعد: 28] وتجلى للنفس الشيطانية باسم الرب فلان وانقاد لطاعة الديان**{ رب أعوذ بك من همزات الشياطين }** [المؤمنون: 97] وتجلى للنفس السبعية باسم الرحمن وهو مركب من القهر واللطف**{ الملك يومئذ الحق للرحمن }** [الفرقان: 26] فترك الخصومة والعدوان. وتجلى للنفس البهيمية باسم الرحيم**{ أحل لكم الطيبات }** [المائدة: 4] فترك العصيان، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد**{ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }** [غافر: 16] فدان. فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء، فلطاعة الأبدان قال: " إياك نعبد " ولطاعة النفس البهيمية قال: " وإياك نستعين " على ترك اللذات وارتكاب المنكرات، ولطاعة النفس السبعية قال: " اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا " ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال: { اهدنا الصراط المستقيم } ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال: { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أخرى: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم (يحكى) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع. وأيضاً الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها. ووجوب الحج من تجلي اسم " مالك يوم الدين " لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة. وأيضاً الحاج يكون عارياً حافياً حاسراً وهو يشبه أحوال القيامة. أخرى: الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر**{ ما زاغ البصر وما طغى }** [النجم: 17]**{ فاعتبروا يا أولي الأبصار }** [الحشر: 2] وأدب السمع**{ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }** [الزمر: 18] وأدب الذوق**{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات }** [المؤمنون: 51] وأدب الشم**{ إني لأجد ريح يوسف }** [يوسف: 94] وأدب المس**{ والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم }** [المؤمنون: 6] فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة: الله الرب الرحمن الرحيم المالك، على تأديب هذه الحواس الخمس. أخرى: الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة، فهذه أربعة، وههنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئاً سوى الله، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة، وإن طالعت نور الرحمن طلبت منه خيرات الدنيا، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة، وإن طالعت نور " مالك يوم الدين " طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها. أخرى: للتجلي ثلاث مراتب: تجلي الذات**{ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون }** [الأنعام: 91] وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب**{ الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً }** [آل عمران: 191] ويدل عليه اسم الرحمن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد**{ الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي }** [طه: 53 - 54] ويدل علي لفظ الرحيم**{ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً }** [غافر: 7]. أخرى: في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله " بسم الله " و " الحمد لله " بسم الله لبداية الأمور والحمد لله لخواتيم الأمور، " بسم الله " ذكر " والحمد لله " شكر بسم الله أستحق الرحمة رحمن الدنيا، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة. كلمتان أضيف إليهما اسمان لله " رب العالمين " " مالك يوم الدين " فالربوبية لبداية حالهم**{ ألست بربكم قالوا بلى }** [الأعراف: 172] والملك لنهاية حالهم**{ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }** [غافر: 16] وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم " الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ". المنهج العاشر: للخلق خمس أحوال: أولها: الإيجاد والتكوين والإبداع ويدل عليه اسم الله. وثانيها: التربية في مصالح الدنيا ويدل عليه اسم الرب. وثالثها: التربية في معرفة المبدأ ويدل عليها اسم الرحمن. ورابعها: في معرفة المعاد ويدل عليها اسم الرحيم كي يقدم على ما ينبغي ويحجم عما لا ينبغي. وخامسها: نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى المعاد ويدل عليه اسم " مالك يوم الدين " ثم إن العبد إذا انتفع بهذه الأسماء صار من أهل المشاهدة فقال: " إياك نعبد " لأنك أنت الله الخالق " وإياك نستعين " لأنك أنت الرب الرازق " إياك نعبد " لأنك الرحمن " وإياك نستعين " لأنك الرحيم " إياك نعبد " لأنك الملك " وإياك نستعين " لأنك المالك، " إياك نعبد " لأنا ننتقل من دار الشرور إلى دار السرور ولا بد من زاد وخير الزاد العبادة، " وإياك نستعين " لأن الذي نكتسب بقوتنا وقدرتنا لا يكفينا فإن السفر طويل والزاد قليل. ثم إذا حصل الزاد بإعانتك فالشقة شاسعة والطرق كثيرة، فلا طريق إلا أن يطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق { اهدنا الصراط المستقيم }. ثم إنه لا بد لسالك الطريق الطويل من رفيق ودليل { صراط الذين أنعمت عليهم } فالأنبياء أدلاء والصديقون والشهداء والصالحون رفقاء، غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن الحجب قسمان: نارية وهي الدنيا بما فيها، ونورية وهي ما سواها. اللهم ادفع عنا كل ما يحجب بينك وبيننا إنك رب العالمين ومالك يوم الدين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ)
الحَمْدُ: معناه الثناء الكاملُ، والألف واللام فيه لاِستغراقِ الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر؛ لأنَّ الشكر إنما يكون على فِعْلٍ جميل يسدى إِلى الشاكر، والحمد المجرَّد هو ثناء بصفات المحمود. قال: \* ص \*: وهل الحمدُ بمعنى الشكْر أو الحمدُ أَعمُّ، أو الشكر ثناءٌ على اللَّه بأفعاله، والحمد ثناء عليه بأوصافه؟ ثلاثةُ أقوال. انتهى. قال الطبريُّ: الحمدُ لِلَّهِ: ثناءٌ أثنَىٰ به على نفسه تعالَىٰ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه؛ فكأنه قال: قولوا: الحمد للَّه، وعلى هذا يجيء: قولوا: { إِيَّاكَ } ، وَ { ٱهْدِنَا }. قال: وهذا من حذف العربِ ما يدلُّ ظاهر الكلام عليه، وهو كثيرٌ. والرب؛ في اللغة: المعبودُ، والسيدُ المالكُ، والقائمُ بالأمور المُصْلِحُ لما يفسد منها، فالرب على الإِطلاق هو ربُّ الأرباب علَىٰ كل جهة، وهو اللَّه تعالَىٰ. والعَالَمُونَ: جمع عَالَمٍ، وهو كل موجود سوى اللَّه تعالَىٰ، يقال لجملته: عَالَمٌ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عَالَمٌ، عَالَمٌ، وبحسب ذلك يجمع على العَالَمِينَ، ومن حيثُ عالَمُ الزمانِ متبدِّلٌ في زمان آخر، حَسُنَ جمعها، ولفظة العالَمِ جمع لا واحد له من لفظه، وهو مأخوذ من العَلَمِ والعلامة؛ لأنه يدل على موجده؛ كذا قال الزَّجَّاج، قال أبو حَيَّان: الألف واللام في العَالَمِينَ لِلاستغراقِ، وهو جمع سلامة، مفرده عَالَمٌ، اسم جمع، وقياسه ألا يجمع، وشذَّ جمعه أيضاً جمع سلامة؛ لأنه ليس بعَلَمٍ ولا صفةٍ. \* م \*: وذهب ابنُ مالك في «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» إلى أن «عَالَمِين» اسم جمعٍ لمن يعقل، وليس جمع عالمٍ؛ لأن العَالَمَ عامٌّ، و «عالَمِينَ» خاصٌّ، قلت: وفيه نظر. انتهى. وقد تقدَّم القول في الرحمن الرحيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
قوله تعالى: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } نَعْتٌ أوْ بَدَلٌ - وقرئا منصوبين، ومَرْفُوعَيْنِ، وتَوْجِيهُ ذلك ما ذكر في: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، وتقدم الكلام على اشْتِقاقِهما في " البَسْمَلَةِ " فَأَغْنَى عن إِعَادَتِه. قوله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً، أوْ بَدَلاًَ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مُشْتَقٌّ من " المَلْك " - بفتح الميم - وهو: الشَّدُّ والرَّبْطُ، قال الشاعرُ في ذلك: [الطويل] | **49 - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا** | | **يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا** | | --- | --- | --- | ومنه: إِمْلاَكُ العَرُوسِ؛ لأنّه عَقْدٌ، ورَبْطٌ، لِلنِّكَاحِ. وقُرِىءَ: " مَالِك " بالألَفِ. قال الأَخْفَش - رحمه الله تعالى - يُقال: مَلِك بَيِّنُ المُلْكِ - بضم الميم، و " مَالِك " من " الِمَلْكِ " بفتح الميم وكسرها. ورُويَ ضمُّها - أيضاً - بهذا المعنى. وروي عن العربِ: " لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ " مُثَلَّثُ الفاء، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ: فالمفْتُوحُ: الشَّدُّ والرَّبْط. والمضْمُومُ: هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطاعَةُ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه، والمقصور: هو التّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه. وقال الرَّاغِبُ: المِلْكُ أي " بالكَسْرِ " كالجِنْسُ للملك، أَي " بالضَّم " فكُلُّ مِلْكٍ " بالكسر " ملك، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً، فعلى هذا يكُونُ بينهما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنْ المُلْكِ بالضمِ ومالِكاً مأخوذ من المِلك " بالكَسْرِ " وقيل: إنَّ الفرقَ بينهما: أَنَّ المَلِكَ: اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة، إِمَّا في نَفْسِه، بِالتمكُّنِ مِنْ زمامِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا. وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ. وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَاءَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب - رحمه الله تعالى - أنه قال: إِذَا اخْتَلفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السّبعةِ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَاباً على إعراب في القرآنِ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ، فضَّلْتُ الأَقْوَى. نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في " اليَوَاقيت ". قال أَبُو شَامَة - رحمه الله: - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، وليْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِراءَتَيْنِ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ - سبحانه وتعالى - بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ، وبهذه في رَكْعة، ذكر ذلك عند قَوْلِه تعالى: مَالِك يَوْمِ الدِّين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وَروَى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: " مَلْكِ " بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً. وقرأ الأَعْمَش، ومحمدُ بنُ السّميفع، وأَبُو عَبْد الملك قاضي الجُنْد: " مَالِكَ " بنصب الكاف على النِّداءِ. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته: يا مالك يوم الدين، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس، وقرأ عَوْن العُقَيْلِيُّ بالأَلف وَرَفْعِ الكَاف، على مَعْنَى: " هُوَ مَالِك ". وقرأ أَبُو حَيْوَة شُرَيح بنُ يَزيد: برفع الكافِ مِنْ غَيْر أَلِف. وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر " مالك " بالإمالة والإضجاع البليغ. وقرأ أَيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ: بَيْنَ الإِمَالةِ والتّفْخِيمِ، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي. وقرأ الحَسَنُ { مَلَك يَوْمَ الدِّين } على الفِعْلِ، وهو اختيارُ أَبِي حَنِيفَة - رضي الله تعالى عنه - ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة " مَالِكِ " أَنَّها أمْدَحُ؛ لعُمُومِ إضافَتِه، إِذْ يُقالُ: " مَالِكُ الجِنِّ، والإِنْسِ، والطَّيرِ " ولا يُقالُ: " مَلِك الطّيْرِ " ، وأنشدوا على ذلك: [الكامل] | **50 - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [الوُجُوهُ] لِوَجْهِهِ** | | **مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ** | | --- | --- | --- | وقالُوا: فُلاَنُ مَالِك كَذَا، لِمَنْ يَمْلِكُه، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ نحو: " مَلِكِ العَرَب، والعَجَمِ " ، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُلُّ على الزيادَةِ في المعنى، كما تقدم في " الرحمن " ولأَنَّ ثواب تَالِيها أَكثرُ من ثَوابِ تَالِي " مَلِك ". ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ " مَلِكِ " ما حكاه الفَارسِيّ، عن ابن السّرَّاجِ، عَنْ بَعْضِهم: أنه وصف [نَفْسَه] بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، بقوله: " رَبِّ العَالَمِينَ " ، فلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ " مَالِكِ "؛ لأنها تَكْرَارٌ. قال أَبُو عَليٍّ: ولا حُجَّةَ فِيه؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ، يَذْكُرُ العَامَُّ، ثُمَّ الخَاصُّ؛ نحو:**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ }** [الحشر: 24]. وقال أَبُو حَاتم: " مَالِكِ " أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ، و " مَلِكِ " أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ، والفرق بَيْنَهُمَا: أَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ، وإذا كَانَ اللهُ - تعالى - مَلِكاً كان مالكاً [أيضاً] واختاره ابنُ العَرَبيِّ. ومِنْهَا: أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للمملوكِ وغَيْرِ المَمْلُوكِ، بخلاف " مَالِكِ " فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم، ولإشْعَارِه بالكثرةِ، ولأنه تَمدَّحَ تعالى - بقوله تعالى - " مَالِكِ المُلْكِ " ، وبقوله تعالى:**{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ }** [آل عمران: 26]، ومَلِكٌ مأخوذٌ منه [كما تقدّم، ولم يتمدح بـ " مالك المِلْك " بكسر الميم الذي " مالك " مأخوذ منه]. وقال قَوْمٌ: " مَعْنَاهُمَا: واحِدٌ؛ مثلُ: فَرِهِين وفَارِهِين، وحَذِرِين وحَاذِرِين ". ويُقالُ: المَلِكِ والمالِكِ: هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود، ولا يَقْدِرُ عليه أحد غير الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وجمع " مَالِكِ ": مُلاَّك ومُلَّك، وجَمْعُ " مَلِك ": أَمْلاَك ومُلُوك. وقُرِىء: " مَلْك " بسكون اللاّم، ومنه قول الشاعر: [الوافر] | **51 - وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طوَالٍ** | | **عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا** | | --- | --- | --- | كما يُقالُ: فَخِذٌ وفَخْذٌ، وجَمْعُه على هذا: أَمْلُك ومُلُوك، قاله مَكِّيٌّ رحمه الله. و " مَلِيك " ، ومنه: الكامل | **52 - فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا** | | **قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا** | | --- | --- | --- | و " مَلَكي " بالإشْبَاعِ، وتُرْوَى عن نَافِع - رحمه الله -. إذا عُرِفَ هذا فيكونُ " مَلِك " نعتاً لله - تعالى - ظاهراً، فإنه معرفة بالإضافة. وأما " مَالِك " فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضِيّ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة فيتعرَّفُ بها، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ: { مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ } فجعل " مَلَك " فِعْلاً مَاضِياً، وإن أُرِيد به الحالُ، أو الاستقبالُ [فَيُشْكِلُ؛ لأنه: إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله، ولا يجوزُ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفَاعِلِ بمعنى الحالِ، أو الاستقبال] غَيْرُ محضةٍ، فلا يُعرف، وإذا لم يتعرّفْ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ؛ لما عرفت فيما تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً. وإِمَّا أنْ يُجعَلَ بَدَلاً، وهو ضَعيفٌ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم. والذي يَنْبَغِي أَنْ يُقالَ: إنه نعتٌ على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبرٍ؛ لأَنّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقْييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ، فكان المعنى - والله أعلم - أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ، ولاَ اسْتِقبالٍ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمه الله تعالى. وإضافَةُ " مَالِكِ " و " مَلِكِ " إلى " يَوْمِ الدِّينِ " مِنْ بابِ الاتِّساعِ؛ إذْ متعلّقُهما غيرُ اليومِ، والتقديرُ: مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ. ونظيرُ إِضَافَةِ " مَالِكٍ " إلى الظَّرْفِ - هُنَا - نَظِيرُ إِضَافَةِ " طَبّاخٍ " إلى " ساعات " في قول الشاعر: [الرجز] | **53 - رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ** | | **طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ** | | --- | --- | --- | إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ - وهو " زادَ الكَسِلْ " ، وفي الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ؛ للدلاَلةِ علَيه. ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [على ظاهِرِه] من غيرَ تَقْديرِ حَذْفٍ. ونسْبَةُ " المِلْك " و " المُلْك " إلى الزمان في حَقِّ اللهِ - تعالى - غَيْرُ مُشْكِلَةٍ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرأ: { مَلَكَ يَوْمَ الدّين } فِعْلاً ماضياً، فإن ظاهِرَهَا كونُ " يَوْمَ " مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى " اللامِ " ، لأَنَّها الأصل. ومِنْهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى " في " مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِه تبارك وتعالى:**{ بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }** [سبأ: 33] قال: المعنى " مَكْرٌ في اللَّيْلِ " إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ: إِمَّا على معنى " اللامِ " وإما على مَعْنى [مِنْ]، وكونُها بمعنى " في " غَيْرُ صَحِيحٍ. وأَمَّا قولُه تعالى: " مَكْرُ اللَّيْلِ " فلا دَلاَلَةَ فِيه؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِم، ولَيْلُهُ قَائِم؛ وقول الشاعر في ذلك البيت: [البسيط] | **54 - أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وَسِلْسِلَةٍ** | | **وَاللَّيْلُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ** | | --- | --- | --- | لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ. و " اليَوْمُ " لُغَةً: القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، أيَِّ زَمَنٍ كَان مِنْ لَيْلٍ وَنَهار؛ قال اللهُ تبارك وتعالى:**{ وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ }** [القيامة:29 و30] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار. وأما في العُرْف: فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس. وقال الرَّاغِبُ: " اليوم " يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [غُرُوبِها]. وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَومِ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعَةِ، قال تبارك وتعالى:**{ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }** [المائدة: 3]، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليوم، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمُ؛ كما يُقالُ: لَيْلَةٌ لَيْلاَءُ. ذكره القُرْطُبِيُّ رحمه الله تعالى. و " الدِّينِ " مضافٌ إِلَيه أَيْضاً، والمرادُ به - هنا - الجَزَاءُ؛ ومنه قولُ الشاعر: [الهزج] | **55 - وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا** | | **نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا** | | --- | --- | --- | أي: جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا. وقال آخَرُ في ذلك: [الكامل] | **56 - وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ** | | **وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ** | | --- | --- | --- | ومثله: [المتقارب] | **57 - إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْناهُمُ** | | **وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا** | | --- | --- | --- | ومثله [الطويل] | **58 - حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّما** | | **يُدانُ [الفَتَى] يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ** | | --- | --- | --- | وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تَعَالَى عنهما - ومُقاتِلٌ والسُُّدِّيُّ: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }: قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ؛ قال تعالى:**{ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ }** [التوبة: 36]. أي: الحسابُ المستقيمُ. وقال قَتَادَةُ: " الدِّين: الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً ". وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي: " مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، يوم لا ينفعُ فيه إلاّ الدِّين ". وقيل: الدين القَهْرُ: يُقالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: قَهَرْتُهُ فذلّ. وقيل: الدينُ الطاعَةُ؛ ومنه: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً " ، أَيْ: طَاعَةً، وله مَعَانٍ أُخَرُ: العادَةُ؛ كقولِه هذا البيت: [الطويل] | **59 - كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرثِ قَبْلَهَا** | | **وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ** | | --- | --- | --- | أَيْ: كَعَادَتِكِ. ومثله: [الوافر] | **60 - تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي** | | **أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدِينِي** | | --- | --- | --- | ودَانَ: عَصَى وأطاعَ: وذَلَّ وعَزَّ، فهو من الأضدَادِ [قاله ثعلب]. والقضاءُ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ }** [النور: 2]، أَيْ: في قَضَائِهِ وحُكْمِه. والحَالُ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال: " لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه، لأَجَبْتُكَ " ، أَيْ: على حَالَةٍ. والدَّاءُ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك: [البسيط] | **61 - يَا دِينَ قَلْبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا** | | | | --- | --- | --- | ويُقالُ: دِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً - بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر - أيْ: جَازَيْتُه. ويُسْتعارُ للملّة والشريعَةِ أيضاً؛ قال اللهُ تعالى:**{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ }** [آل عمران:83]، يَعْنِي: الاسلامَ؛ بدليلِ قَوْلِه تَعَالَى:**{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }** [آل عمران: 85]. ويُقَالُ: دِينَ فُلاَنٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ، ومنه قِيل للعبدِ: مَدِين، ولِلأَمَةِ: مَدِينَة. وقِيل: هو من دِنْتُهُ: إذا جازيته بطاعته، وجعل بعضُهم " المَدِينَة " مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِنْ شاء اللهُ تعالى. وإنما خُصَّ " يوم الدين " بالذكر مع كونِه مالِكاً للأيّام كُلِّها؛ لأنَّ الأَمْلاَكَ يومئذَ زائِلة، فلا مُلْكَ ولاَ أَمْرَ إِلاَّ لَه؛ قال الله تعالى:**{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ }** [الفرقان: 26]، وقال:**{ لِمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ }** [غافر: 16]، وقال تعالى:**{ وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ }** [الانفطار: 19]. فصل فيمن قرأ بالإدغام هنا قرأ أَبُو عَمْرو - رحمه الله تعالى: - " الرَّحِيم ملك " بإدغام المِيمِ في الميم، وكذلك يُدْغِمُ كُلَّ حَرْفَينِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَخْرج واحد، أو [كانا] قرِيبَي المَخْرج، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً، إِلاّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً، أَوْ مُنَوَّناً، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً، أَوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإِدغَامِ الكَبيرِ، وافَقه حَمْزَة من إدغام المتحركِ في قوله تعالى:**{ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ }** [النساء: 81]**{ وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَٱلتَّالِيَاتِ ذِكْراً }** [الصافات: 1 و 2 و 3]،**{ وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً }** [الذاريات: 1]. وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء، وخَلَف، والكِسَائِي [في إدغام الساكن وهو إدغام الساكن في المتحرك] إِلاَّ في الراءِ عند اللام، والدال عند الجيم، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة. فصل في كلام القدرية والجبرية قال ابنُ الخَطِيب: قالتِ القدريَّةُ: إن كان خَالِقُ أَفْعالِ العبادِ، هو الله - تعالى - امتنع القول بالثواب، والعقاب، والجزاءِ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ وعلى هَذا التقديرِ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين. وقالت الجبريةُ: لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه، لم يكن مالكاً لها، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد، ولأعمالِهم، عَلِمْنَا أَنَّهُ خالقٌ لها مقدرٌ لَهَا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ)
ولما أثبت بقوله: { الحمد لله } أنه المستحق لجميع المحامد لا لشيء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات أشار إلى أنه يستحقه أيضاً من حيث كونه رباً مالكاً منعماً فقال: { رب } وأشار بقوله: { العالمين } إلى ابتداء الخلق تنبيهاً على الاستدلالات بالمصنوع على الصانع وبالبداءة على الإعادة كما ابتدأ التوراة بذلك لذلك قال الحرالي: و { الحمد } المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه تعالى وأنه كله مدح لا يتطرق إليه ذم، فإذا اضمحل ازدواج المدح بالذم وعلم سريان المدح في الكل استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملاً معرفاً بكلمة " أل " وهي كلمة دالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله. انتهى. ولما كانت مرتبة الربوبية لا تستجمع الصلاح إلا بالرحمة اتبع ذلك بصفتي { الرحمن الرحيم } ترغبياً في لزوم حمده، وهي تتضمن تثنية تفصيل ما شمله الحمد أصلاً؛ وسيأتي سر لتكرير هاتين الصفتين في الأنعام عند**{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه }** [الأنعام: 118] عن الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى أنه لا مكرر في القرآن. ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكاً وكانت الربوبية لا تتم إلا بالمِلك المفيد للعزة المقرون بالهيبة المثمرة للبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر اتبع ذلك بقوله: { مالِك يوم الدين } ترهيباً من سطوات مجده. قال الحرالّي: واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر، ثم قال: و { يوم الدين } في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعين، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام: **" إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء "** وأيضاً فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد، كما قالوا:**{ مس آباءنا الضراء والسراء }** [الأعراف:95] ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم، وإنما هو كمال قال تعالى:**{ وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }** [الشورى:30] وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: **" الحمى من فيح جهنم، وإن شدة الحر والقر من نفسها "** وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون به، ومنهل التجهّم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم، قال عليه الصلاة والسلام: **" المرض سوط الله في الأرض يؤدب به عبادة "** وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك، وهو تعالى مَلِك ذلك كله ومالكه، سواء ادعى فيه مدح أو لم يدع، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملِك يوم الدين ومالكه مطلقاً في الدنيا والآخرة وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي لأن به رجع الأمر عوداً على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال كما قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وسيجزيهم وصفهم }** [الأنعام:193] و**{ جزاء بما كانوا يعملون }** [السجدة: 17]. [الأحقاف: 4]، [الواقعة: 24] وبه تم انتهاء الشرف العلي وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى: " مجدني عبدي " انتهى، ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة " مَلِك " وقراءة " مالك " جاءت الرواية بهما، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهرة وعرض، فلا يكون لأحد معه أمر ولا معنى للمَلِك سوى هذا، ولما لم تُفد إضافته إلى الناس هذا المعنى لم يكن خلاف في**{ ملِك الناس }** [الناس: 2]. فلما استجمع الأمر استحقاقاً وتحبيباً وترغيباً وترهيباً كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه وقصر الهمم عليه فقال عادلاً عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا مقدماً للوسيلة على طلب الحاجة لأنه أجدر بالإجابة { إياك } أي يا من هذه الصفات صفاته! { نعبد } إرشاداً لهم إلى ذلك؛ ومعنى { نعبد } كما قال الحرالي: تبلغ الغاية في أنحاء التذلل، وأعقبه بقوله مكرراً للضمير حثاً على المبالغة في طلب العون { وإياك نستعين } إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته وإلى أن ملاك الهداية بيدة: فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات، ثم دل عليه بالأفعال، ثم رقي إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماء إلى أنه الأول والآخر المحيط، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الفعال والصفات علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة فعلم العجز عن الوفاء بالحق فطلب الإعانة، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود في الصلاة والترمذي وابن ماجه في الدعاء والنسائي وهذا لفظه في التعوذ عن عائشة رضى الله عنها: " أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك " ثم أتبعه فيما زاد عن النسائي الاعتراف بالعجز في قوله: " لا أحصي ثناء عليك أنت أثنيت على نفسك " وفي آخر سورة اقرأ شرح بديع لهذا الحديث. قال الحرالي: وهذه الآيات أي هذه وما بعدها مما جاء كلام الله فيه جارياً على لسان خلقه فإن القرآن كله كلام الله لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق على اختلاف ألسنتهم وأحوالهم وترقي درجاتهم ورتب تفاضلهم مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه لقصورهم وعجزهم فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم مما لا يبلغ إليه وُسع خلقه وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلاً لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهراً منهم لطفاً بهم وإتماماً للنعمة عليهم، لأنه تعالى لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده، فإذاً ليس لهم وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي عبر عنها فيما صح عنه علية الصلاة والسلام من قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين "** ثم تلا هذه السورة؛ فجاءت الآيات الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه، فإذا تلاها العبد قبل الله منه تلاوة عبده كلامه وجعلها منه حمداً وثناء وتمجيداًَ، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه فكان ظاهرها التزام عُهَد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو ما يرجع إلى الحق، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيّته تعالى، لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها وهو مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شىء فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبداً وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية والغفلة عن النعمة بها، وفي قوله: { نعبد } بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع. انتهى. وفي الآية ندب إلى اعتقاد العجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته، فاقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال فقال: { اهدنا الصراط المستقيم } تلقيناً لأهل لطفه وتنبيهاً على محل السلوك الذي لا وصول بدونه، والهدى قال الحرالي: مرجع الضال إلى ما ضل عنه، والصراط الطريق الخطر السلوك، والآية من كلام الله تعالى على لسان العُلّية من خلقه، وجاء مكملاً بكلمة " أل " لأنه الصراط الذي لا يضل بمهتديه لإحاطته ولشمول سريانه وفقاً لشمول معنى الحمد في الوجود كله وهو الذي تشتت الآراء وتفرقت بالميل إلى واحد من جانبيه وهو الذي ينصب مثاله. وعلى حذو معناه بين ظهراني جهنم يوم الجزاء للعيان وتحفه مثل تلك الآراء خطاطيف وكلاليب، تجري أحوال الناس معها في المعاد على حسب مجراهم مع حقائقها التي ابتداء في يوم العمل، وهذا الصراط الأكمل وهو المحيط المترتب على الضلال الذي يعبر به عن حال من لا وجهة له، وهو ضلال ممدوح لأنه يكون عن سلامة الفطرة لأن من لا علم له بوجهة فحقه الوقوف عن كل وجهة وهو ضلال يستلزم هدى محيطاً منه | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ووجدك ضالاً فهدى }** [الضحى: 6] وأما من هدى وجهة ما فضلّ عن مرجعها فهو ضلال مذموم لأنه ضلال بعد هدى وهو يكون عن اعوجاج في الجبلة. انتهى. ثم أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك لن يكون إلا بإنعامه منبهاً بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق فقال: { صراط الذين أنعمت عليهم } فأشار إلى أن الاعتصام به في اتباع رسله، ولما كان سبحانه عام النعمة لكل موجود عدواً كان أو ولياً، وكان حذف المنعم به لإرادة التعميم من باب تقليل اللفظ لتكثير المعنى فكان من المعلوم أن محط السؤال بعض أهل النعمة وهم أهل الخصوصية. يعني لو قيل: اتبع طريق أهل مصر مثلاً لا أهل دمشق، علم أن المنفي غير داخل في الأول لأن شرطه أن يتبعاه متعاطفاه كما صرحوا به، بخلاف ما لو قيل: اتبع طريق أهل مصر غير الظلمة، فإنه يعلم أن الظلمة منهم، فأريد هنا التعريف بأن النعمة عامة ولو لم تكن إلا بالإيجاد، ومن المعلوم أن السلوك لا بد وأن يصادف طريق بعضهم وهم منعم عليهم فلا يفيد السؤال حينئذ، فعرف أن المسؤول إنما هو طريق أهل النعمة بصفة الرحيمية تشوقت النفوس إلى معرفتهم فميزهم ببيان أضدادهم تحذيراً منهم، فعرف أنهم قسمان: قسم أريد للشقاوة فعاند في إخلاله بالعمل فاستوجب الغضب، وقسم لم يرد للسعادة فضل من جهة إخلاله بالعلم فصار إلى العطب فقال مخوفاً بعد الترجية ليكمل الإيمان بالرجاء والخوف معرفاً بأن النعمة عامة والمراد منها ما يخص أهل الكرامة: { غير المغضوب عليهم } أي الذين تعاملهم معاملة الغضبان لمن وقع عليه غضبه، وتعرفت " غير " لتكون صفة للذين بإضافتها إلى الضد فكان مثل: الحركة غير السكون، ولما كان المقصود من " غير " النفي لأن السياق له وإنما عبر بها دون أداة استثناء دلالة على بناء الكلام بادىء بدء على إخراج المتلبس بالصفة وصوناً للكلام عن إفهام أن ما يعد أقل ودون لا { ولا الضالين } فعلم مقدار النعمة على القسم الأول وأنه لا نجاة إلا باتباعهم وأن من حاد عن سبيلهم عامداً أو مخطئاً شقي ليشمّر أولو الجد عن ساق العزم وساعد الجهد في اقتفاء آثارهم للفوز بحسن جوارهم في سيرهم وقرارهم. قال الحرالي: { المغضوب عليهم } الذين ظهر منهم المراغمة وتعمد المخالفة فيوجب ذلك الغضب من الأعلى والبغض من الأدنى. { الضالين } الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك. " أمين " كلمة عزم من الأمن، مدلولها أن المدعو مأمون منه أن يرد من دعاه لأنه لا يعجزه شيء ولا يمنعه وهي لا تصلح إلا لله لأن ما دونه لا ينفك عن عجز أو منع انتهى وهو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب وقد انعطف المنتهى على المبتدأ بمراقبة القسم الأول اسم الله فحازوا ثمرة الرحمة وخالف هذان القسمان فكانوا من حزب الشيطان فأخذتهم النقمة، وعلم أن نظم القرآن على ما هو عليه معجز، ومن ثم اشتراط في الفاتحة في الصلاة لكونها واجبة في الترتيب، فلو قدم فيها أو أخر لم تصح الصلاة وكذا لو أدرج فيها ما ليس منها للإخلال بالنظم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال الأصبهاني: فإن القرآن معجز والركن الأبين الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب. انتهى. والحاصل أنه لما رفعت تلك الصفات العلية لمخاطبها الحجب وكشفت له بسمو مجدها وعلو جدها وشرف حمدها جلائل الستر وأشرقت به رياض الكرم ونشرت له لطائف عواطفها بسط البر والنعم ثم اخترقت به مهامه العظمة والكبرياء وطوت في تيسيرها له مفاوز الجبروت والعز وأومضت له بوارق النقم من ذلك الجناب الأشم وصل إلى مقام الفناء عن الفاني وتمكن في رتبة شهود البقاء للباقي فبادر الخضوع له عن السوى حاكماً على الأغيار بما لها من ذواتها من العدم والتوى فقال: { إياك نعبد } وفي تلك الحال تحقق العجز عن توفية ذلك المقام ما له من الحق فقال: { وإياك نستعين }. فكشف له الشهود في حضرات المعبود عن طرق عديدة ومنازل سامية بعيدة ورأى أحوالاً جمة وأودية مدلهمة وبحاراً مغرقة وأنواراً هادية وأخرى محرقة، ورأى لكل أهلاً قد أسلكوا فجاء تارة حزناً وأخرى سهلاً، وعلم أن لا نجاة إلا بهدايته ولا عصمة بغير عنايته ولا سعادة إلا برحمته ولا سلامة لغير أهل نعمته؛ فلما أشرق واستنار وعرف مواقع الأسرار بالأقدار كأنه قيل له: ماذا تطلب وفي أي مذهب تذهب؟ فقال: { اهدنا الصراط المستقيم }. ولما طلب أشرف طريق سأل أحسن رفيق فقال: { صراط الذين أنعمت عليهم } ولما كانت النعمة قد تخص الدنيوية عينها واستعاذ من أولئك الذين شاهدهم في التيه سائرين وعن القصد عائرين جائرين أو حائرين فقال: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }. وقد أشير في أم الكتاب. كما قال العلامة سعد الدين مسعود ابن عمرو التفتازاني الشافعي. إلى جميع النعم فإنها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولاً وإلى إيجاد وإبقاء ثانياً في دار الفناء والبقاء، أما الإيجاد الأول فبقوله { الحمد لله رب العالمين } فإن الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية، وأما الإبقاء الأول فبقوله: { الرحمن الرحيم } أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها التى بها البقاء، وأما الإيجاد الثاني فبقوله: { مالك يوم الدين } وهو ظاهر، وأما الإبقاء الثاني فبقوله: { إياك نعبد } إلى آخرها، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم جاء التصدير بالحمد بعد الفاتحة في أربع سور أشير في كل سورة منها إلى نعمة من هذه النعم ترتيبها. انتهى، وسيأتي في أول كل سورة من الأربع ما يتعلق بها من بقية كلامه إن شاء الله تعالى، وهذا يرجع إلى أصل مدلول الحمد فإن مادته بكل ترتيب تدور على بلوغ الغاية ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضا فيلزمه الشكر وسيبين وينزل على الجزئيات في سورة النحل إن شاء الله تعالى، ثم في أول سبأ تحقيق ما قاله الناس فيه وفي النسبة بينه وبين الشكر فقد بان سر الافتتاح من حيث تصديرها بالحمد جزئياً فكلياً الذي كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه فهو أجذم؛ وتعقبه بمدح المحمود بما ذكر من أسمائه الحسنى مع اشتمالها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فهي أم القرآن لأنها له عنوان وهو كله لما تضمنته على قصرها بسط وتبيان. قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل في آخر الباب التاسع منه: ولننه هذه الأبواب بذكر القرآن ومحتواه على الكتب وجمعه وقراءته وبيانه وتنزيله وإنزاله وحكيمه ومبينه ومجيده وكريمه وعظيمه ومرجعه إلى السبع المثاني والقرآن العظيم أم القرآن ومحتواها عليه، فنذكر جميع ذلك في الباب العاشر، الباب العاشر في محل أم القرآن من القرآن ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان. اعلم أن الله سبحانه جمع نبأه العظيم كله عن شأنه العظيم في السبع المثاني أم القرآن وأم الكتاب وكنزها تحت عرشه ليظهرها في الختم عند تمام أمر الخلق وظهور بادىء الحمد بمحمد، لأنه تعالى يختم بما به بدأ ولم يظهرها قبل ذلك، لأن ظهورها يذهب وهل الخلق ويمحو كفرهم ولا يتم بناء القرآن إلا مع قائم بمشهود بيان الفعل ليتم الأمر مسمعاً ومرأى وذلك لمن يكون من خلقه كل خلق ليبين به ما من أمره كل أمر، ثم فيما بين بدء الأمر المكنون وخاتم الخلق الكامل تدرج تنَشّؤ الخلق وبدو الأمر على حسب ذلك الأمر صحفاً فصحفاً وكتاباً فكتاباً، فالصحف لما يتبدل سريعاً، والكتاب لما يثبت ويدوم أمداً، والألواح لما يقيم وقتاً. ففي التوراة أحكام الله على عباده في الدنيا بالحدود والمصائب والضراء والبأساء، وفي القرآن منها ما شاء الله وما يظهره الفقه من الحدود، ومعارف الصوفية من مؤاخذة المصائب؛ وفي الإنجيل أصول تلك الأحكام والإعلام بـأن المقصود بها ليست هي بل ما وراءها من أمر الملكوت، وفي القرآن منها ما شاء الله مما يظهره العلم والحكمة الملكوتية، وفي الزبور تطريب الخلق وجداً وهم عن أنفسهم إلى ربهم، وفي الفرآن منه ما شاء الله مما تظهره الموعظة الحسنة، ثم أنهى الأمر والخلق من جميع وجوهه، فصار قرآناً جامعاً للكل متمماً للنعمة مكملاً للدين | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ اليوم أكملت لكم دينكم }** [المائدة: 3] الآية، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وإن إلى ربك المنتهى. ووجه فوت أم القرآن للقرآن أن القرآن مقصود تنزيله التفصيل والجوامع، فيه نجوم مبثوثة غير منتظمة، واحدة إثر واحدة، والجوامع في أم القرآن منتطمة واحدة بعد واحدة إلى تمام السبع على وفاء لا مزيد فيه ولا نقص عنه؛ أظهر تعالى بما له سورة صورة تجليه من بدء الملك إلى ختم الحمد، وبما لعبده مصورة تأديه من براءته من الضلال إلى هدى الصراط المستقيم،**{ ووجدك ضالاً فهدى }** [الضحى:7] وبما بينه وبينه قيام ذات الأمر والخلق فكان ذلك هو القرآن العظيم الجامع لما حواه القرآن المطلق الذكر بما فيه من ذلك تفصيلاً من مبينه وهو ما عوينت آية مسموعة، ومن مجيده وهو ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم، يعلم ما شهد فكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه، ومن كريمه وهو ما ظهرت فيه أفانين إنعامه فيما دق وجل وخفي وبدا، ومن حكيمه وهو ما ظهر في الحكمة المشهورة تقاضيه وانتظام مكتوب خلقه على حسب تنزيل أمره؛ وما كان منه بتدريج وتقريب للأفهام ففاءت من حال إلى حال وحكم إلى حكم كان تنزيلاً، وما أهوى به من علو إلى سفل كان إنزالاً، وهو إنزال حيث لا وسائط وتنزيل حيث الوسائط؛ وبيانه حيث الإمام العامل به مظهره في أفعاله وأخلاقه كان خلقه القرآن، وقرآنه تلفيق تلاوته على حسب ما تتقاضاه النوازل. آخر آية أنزلت**{ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله }** [البقرة:281 ] قال صلى الله عليه وسلم في مضمون قوله تعالى**{ إن علينا جمعه وقرآنه }** [القيامة:17] **" اجعلوها بين آية الدين والآية التي قبلها "** لأنه ربما تقدم كيان الآية وتأخر في النظم قرآنها على ما تقدم عليها، آية**{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك }** [الأحزاب: 50 ] الآية متأخرة الكيان متقدمة القرآن على آية**{ لا يحل لك النساء من بعد }** [الأحزاب: 52] فقد يتطابق قرآن الأمر وتطوير الخلق وقد لا يتطابق والله يتولى إقامتهما؛ وأما الجمع ففي قلبه نسبة جوامعه السبع في أم القرآن إلى القرآن بمنزلة نسبة جمعه في قلبه لمحاً واحداً إلى أم القرآن**{ وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر }** [القمر:50] فهو جمع في قلبه، وقرآن على لسانه، وبيان في أخلاقه وأفعاله، وجملة في صدره، وتنزيل في تلاوته،**{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة }** [الفرقان:32] قال الله تعالى: كذلك أي كذلك أنزلناه، إلا ما هو منك بمنزلة سماء الدنيا من الكون | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة }** [الدخان:3] أي إلى سماء الدنيا**{ ونزلناه تنزيلاً }** [الإسراء:106] وعلى لسانه في أمد أيام النبوة، وقال في تفسيره: القرآن باطن وظاهره محمد صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن، فمحمد صلى الله عليه وسلم صورة باطن سورة القرآن، فالقرآن باطنه وهو ظاهره**{ نزل به الروح الأمين \* على قلبك }** [الشعراء: 194]. وقال في تفسير الفاتحة: وكانت سورة الفاتحة أمّاً للقرآن، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها، والآيات الثلاث الأخر من قوله: { اهدنا } شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله والتحيز إلى رحمة الله والانقطاع دون ذلك، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه، وكل ما يكون وصلة بين مما ظاهرهن هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصل من آية { إياك نعبد وإياك نستعين } انتهى. ومن أنفع الأمور في ذوق هذا المشرب استجلاء الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال العبد " الحمد لله رب العالمين " قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال " الرحمن الرحيم " قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: " مالك يوم الدين " قال الله: مجدني عبدي. وقال مرة: فوض إليّ عبدي، وإذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال: " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "** والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج الترمذي وابن أبي الدنيا وابن الأنباري كلاهما في كتاب المصاحف عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ { ملك يوم الدين } بغير ألف. وأخرج ابن الأنباري عن أنس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر، وعمر، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل { ملك يوم الدين } بغير ألف. وأخرج أحمد في الزهد والترمذي وابن أبي داود وابن الأنباري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، كانوا يقرأون { مالك يوم الدين } بالألف. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي داود في المصاحف من طريق سالم عن أبيه. أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، كانوا يقرأون { مالك يوم الدين }. وأخرج وكيع في تفسيره وعبد بن حميد وأبو داود وابنه عن الزهري. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، كانوا يقرأونها { مالك يوم الدين } وأوّل من قرأها ملك بغير ألف مروان. وأخرج ابن أبي داود والخطيب من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب والبراء بن عازب قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر { ملك يوم الدين }. وأخرج ابن أبي داود عن ابن شهاب. أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر وعثمان، ومعاوية، وابنه يزيد، كانوا يقرأون { مالك يوم الدين } قال ابن شهاب: وأوّل من أحدث ملك، مروان. وأخرج ابن أبي داود وابن الأنباري عن الزهري. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ { ملك يوم الدين } وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة ، والزبير، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل. وأخرج ابن أبي داود وابن الأنباري عن أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، كلهم كانوا يقرأ { ملك يوم الدين }. وأخرج ابن أبي داود وابن أبي مليكة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { مالك يوم الدين }. وأخرج ابن أبي داود وابن الأنباري والدارقطني في الأفراد وابن جميع في معجمه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ { ملك يوم الدين }. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ { مالك يوم الدين }. وأخرج الطبراني في معجمه الكبير عن ابن مسعود. أنه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { مالك يوم الدين } بالألف { غير المغضوب عليهم } خفض. واخرج وكيع والفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طرق عن عمر بن الخطاب. أنه كان يقرأ { مالك يوم الدين } بالألف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأخرج وكيع وسعيد بن منصور عن أبي قلابة، أن أبي بن كعب كان يقرأ { مالك يوم الدين }. وأخرج وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي داود عن أبي هريرة، أنه كان يقرأها { مالك يوم الدين } بالألف. وأخرج عبد بن حميد عن أبي عبيدة، أن عبد الله قرأها { مالك يوم الدين }. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود وأناس من الصحابة في قوله { مالك يوم الدين } قال: هو يوم الحساب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مالك يوم الدين } يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكماً كملكهم في الدينا. وفي قوله { يوم الدين } قال: يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم. إن خيراً فخير وأن شراً فشر، إلا من عفا عنه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله { مالك يوم الدين } قال: يوم يدين الله العباد بأعمالهم. وأخرج أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت **" شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضعه في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد علىالمنبر، فكبر وحمد الله ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمنه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين } لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزل قوّة وبلاغاً إلى حين "** قال أبو داود: حديث غريب اسناده جيد. أهل المدينة يقرأون { ملك يوم الدين } وهذا الحديث حجة لهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
(سورة فاتحة الكتاب وهي سبع آيات) معنى سورة الفاتحة الفاتحة في الأصل: أولُ ما من شأنه أن يُفتح، كالكتاب والثوب، أُطلقت عليه لكونه واسطةً في فتحِ الكل، ثم أُطلقت على أول كلِّ شيء فيه تدريجٌ بوجه من الوجوه كالكلام التدريجي حصولاً، والسطور والأوراق التدريجية قراءةً وعداً والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، أو هي مصدر بمعنى الفتح، أطلقت عليه تسميةً للمفعول باسم المصدر، إشعاراً بأصالته كأنه نفس الفتح، فإن تعلقه به بالذات، وبالباقي بواسطته، لكن لا على معنى أنه واسطة في تعلقه بالباقي ثانياً. حتى يرد أنه لا يتسنى في الخاتمة، لما أن خَتْم الشيء عبارة عن بلوغ آخره، وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأُوَل، بل على معنى أن الفتح المتعلق بالأول فتح له أولاً وبالذات، وهو بعينه فتح للمجموع بواسطته، لكونه جزءاً منه، وكذا الكلامُ في الخاتمة فإن بلوغَ آخِرِ الشيء يعرِضُ للآخر أولاً وبالذات، وللكل بواسطته، على الوجه الذي تحقَّقْتَه. والمراد بالأول ما يعُم الإضافيَّ فلا حاجة إلى الإعتذار بأن إطلاقَ الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول، والمرادُ بالكتاب هو المجموع الشخصي، لا القدر المشترك بـينه وبـين أجزائه، على ما عليه اصطلاحُ أهل الأصول، ولا ضيرَ في اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم في أوائل عهد النبوة، قبل تحصيل المجموع بنزول الكل، لما أن التسمية من جهة الله عزَّ اسمه أو من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإذن فيكفي فيها تحصُّلُهُ باعتبار تحققه في علمه عزَّ وجل أو في اللوح أو باعتبار أنه أُنزل جُملةً إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثم كان يُنزِله على النبـي صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنةٍ كما هو المشهور. والإضافة بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى مِنْ كما في خاتم فضة، لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه، لا جزئي له، ومدار التسمية كونه مبدأً للكتاب على الترتيب المعهود، لا في القراءة في الصلاة، ولا في التعليم ولا في النزول كما قيل. أما الأول فبـيِّنٌ، إذ ليس المرادُ بالكتاب القدرَ المشترك الصادقَ على ما يقرأ في الصلاة حتى تُعتبرَ في التسمية مبدئيتَها له. وأما الأخيران فلأن اعتبار المبدئية من حيث التعليمُ، أو من حيث النزولُ يستدعي مراعاةَ الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين، ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والترتيب النزولي ليسا على نسق الترتيب المعهود. - وتسمى أمَّ القرآن لكونها أصلاً ومنشأً له، إما لمبدئيتها له، وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عز وجل، والتعبُّدِ بأمره ونهيه، وبـيانِ وعدِه ووعيده، أو على جملةِ معانيه من الحِكَم النظرية، والأحكام العملية، التي هي سلوكُ الصراط المستقيم، والاطلاعُ على معارج السعداء، ومنازلِ الأشقياء، والمرادُ بالقرآن هو المراد بالكتاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | - وتسمى أمَّ الكتاب أيضاً كما يسمَّى بها اللوحُ المحفوظ، لكونِهِ أصلاً لكل الكائنات، والآياتُ الواضحةُ الدالة على معانيها - لكونها بـينةً - تُحْمل عليها المتشابهاتُ، ومناطُ التسمية ما ذُكر في أم القرآن، لا ما أورده الإمامُ البخاري في صحيحه من أنه يُبدأ بقراءتها في الصلاة، فإنه مما لا تعلق له بالتسمية كما أشير إليه، وتسمى سورةَ الكنز، لقوله عليه السلام: **" إنَّها أُنْزِلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ "** أو لِمَا ذُكِرَ في أُمِّ القُرآن، كما أنه الوجهُ في تسميتها الأساسَ، والكافية، والوافية، وتسمى سورةَ الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسئلة، لاشتمالها عليها، وسورةَ الصلاة لوجوب قراءتها فيها، وسورةَ الشفاء والشافية لقوله عليه السلام: **" هي شفاءٌ من كُلِّ داءٍ "** ، والسبع المثاني لأنها سبعُ آيات تُثَنَّى في الصلاة، أو لتكرّر نزولِها على ما رُوي أنها نزلت مرة بمكَّة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حُوِّلت القبلة، وقد صح أنها مكيةٌ لقوله تعالى:**{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي }** [الحجر، الآية 87] وهو مكي بالنص. أقوال العلماء في البسملة { بِسْمِ الله الرَّحَمنِ الرَّحَيمِ } اختلف الأئمة في شأن التسمية في أوائل السور الكريمة فقيل: إنها ليست من القرآن أصلاً، وهو قولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه ومذهبُ مالك، والمشهورُ من مذهب قدماء الحنفية، وعليه قرّاءُ المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها. وقيل: إنها آية مفردة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وهو الصحيحُ من مذهب الحنفية، وقيل: هي آية تامة من كل سورة صُدِّرت بها، وهو قولُ ابن عباس وقد نُسب إلى ابن عمر أيضاً رضي الله عنهم، وعليه يُحمل إطلاقُ عبارة ابن الجوزي في زاد المسير حيث قال: روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أنزلت مع كل سورة، وهو أيضاً مذهبُ سعيد بنِ جبـيرٍ والزُّهري وعطاءٍ وعبدِ اللّه بن المبارك، وعليه قُرَّاءُ مكَّة والكوفةِ وفقهاؤهما، وهو القولُ الجديد للشافعي رحمه الله، ولذلك يُجْهر بها عنده، فلا عبرة بما نُقِلَ عن الجصاص من أن هذا القول من الشافعي لم يسبقه إليه أحد، وقيل إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآناً في سائر السور أيضاً من غير تعرض لكونها جزأ منها أَوْ لا، ولا لكونها آية تامَّةً أَوْ لا، وهو أحدُ قولَي الشافعي على ما ذكره القرطبـي. ونقل عن الخطابـي أنه قول ابن عباس وأبـي هريرة رضي الله عنهم. وقيل إنها آية تامة في الفاتحة وبعضٌ في البواقي. وقيل بعضُ آية في الفاتحة وآية تامة في البواقي، وقيل إنها بعض آية في الكل، وقيل إنها آياتٌ من القرآن متعددة بعدد السور المُصدّرة بها من غير أن تكون جزأ منها، وهذا القول غير معزى في الكتاب إلى أحد، وهناك قول آخرُ ذكره بعض المتأخرين ولم ينسُبْه إلى أحد وهو إنها آية تامة في الفاتحة وليست بقرآن في سائر السور، ولولا اعتبارُ كونها آيةً تامةً لكان ذلك أحدَ محملَيْ ترددِ الشافعي، فإنه قد نقل عنه أنها بعض آية في الفاتحة، وأما في غيرها فقوله فيها متردد، فقيل: بـين أن يكون قرآناً أَوْ لا، وقيل: بـين أن يكون آيةً تامَّةً أَوْ لا، قال الإمام الغزالي: والصحيح من الشافعي هو التردد الثاني. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعن أحمد بنِ حنبلٍ في كونها آيةً كاملة وفي كونها من الفاتحة روايتان ذكرهما ابن الجوزي، ونقل أنه مع مالك، وغيره ممن يقول أنها ليست من القرآن. هذا والمشهور من هذه الأقاويل هي الثلاث الأُول، والاتفاقُ على إثباتها في المصاحف مع الإجماع على أن ما بـين الدفتين كلام الله عز وجل يقضي بنفي القول الأول، وثبوت القدر المشترك بـين الأخيرين من غير دلالة على خصوصية أحدهما، فإن كونها جزأ من القرآن لا يستدعي كونها جزأ من كل سورة منه، كما لا يستدعي كونها آية منفردة منه. وأما ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما " من أن مَنْ تركها فقد ترك مائة وأربعَ عشرةً آيةً من كتاب الله تعالى " وما روي عن أبـي هريرة من أنه صلى الله عليه وسلم قال: **" فاتحةُ الكتاب سبعُ آياتٍ أولاهن بسم الله الرحمٰن الرحيم "** ، وما روي عن أم سلمة من أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الفاتحة وعدَّ بسم الله الرحمٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية، وإن دل كلُ واحد منها على نفي القول الثاني فليس شيء منها نصاً في إثبات القولِ الثالث، أما الأول فلأنه لا يدل إلا على كونها آياتٍ من كتاب الله تعالى متعددةً بعدد السور المصدرة بها، لا على ما هو المطلوبُ من كونها آية تامة من كل واحدة منها، إلا أن يُلْتجأ إلى أن يقال أن كونها آيةً متعددةً بعدد السور المصدّرةِ بها من غير أن تكون جزءاً منها قولٌ لم يقل به أحد، وأما الثاني فساكت عن التعرض لحالها في بقية السور، وأما الثالثُ فناطقٌ بخلافه مع مشاركته للثاني في السكوت المذكور. والباء فيها متعلقةٌ بمضمرٍ يُنبىء عنه الفعلُ المصدَّرُ بها، كما أنها كذلك في تسمية المسافر عند الحلول والارتحال، وتسمية كل فاعل عند مباشرة الأفعال. تفسير البسملة ومعناها الإستعانةُ أو الملابسةُ تبركاً، أي باسم الله أقرأ، أو أتلو، وتقديم المعمول للإعتناء به والقصد إلى التخصيص، كما في إياك نعبد، وتقديرُ أبدأ لاقتضائه اقتصارَ التبرك على البداية مُخلّ بما هو المقصودُ، أعني شمولَ البركة للكل، وادعاءُ أن فيه امتـثالاً بالحديث الشريف من جهة اللفظ والمعنى معاً، وفي تقدير أقرأُ من جهة المعنى فقط ليس بشيء، فإن مدارَ الامتثالِ هو البدءُ بالتسمية لا تقديرُ فعله، إذ لم يقل في الحديث الكريم: كلُّ أمرٍ ذي بال لم يُقَل فيه أو لم يُضْمَر فيه أَبدأُ، وهذا إلى آخر السورة الكريمة مقولٌ على ألسنة العباد تلقيناً لهم، وإرشاداً إلى كيفية التبرك باسمه تعالى، وهدايةً إلى منهاج الحمد وسؤالِ الفضل، ولذلك سُميت السورةُ الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة، وإنما كُسرت ومن حق الحروف المفردة أن تُفتَحَ لاختصاصها بلزوم الحرفية والجر، كما كسرت لامُ الأمر، ولامُ الإضافة داخلةً على المُظْهَر للفصل بـينهما وبـين لام الابتداء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والاسم عند البصريـين من الأسماء المحذوفة الأعْجَاز. المبنية الأوائل على السكون قد أُدخلت عليها عند الابتداء همزة، لأن مِنْ دأبهم البدءَ بالمتحرِّك والوقفَ على الساكن، ويشهد له تصريفُهم على أسماء وسُمَيٌّ وسمَّيتُ، وسُميً كهُدىً لغة فيه قال: [الرجز] | **واللَّه أسماكَ سُمى مباركا** | | **آثرك اللَّهُ به إيثاركا** | | --- | --- | --- | والقلبُ بعيدٌ غير مطرد، واشتقاقه من السُمو لأنه رفعٌ للمُسمَّى وتنويهٌ له، وعند الكوفيـين من السِّمة، وأصله وَسَمَ، حذفت الواو وعُوِّضت عنها همزةُ الوصل ليقِلَّ إعلالُها، ورُدَّ عليه بأن الهمزة لم تُعهَدْ داخلةً على ما حُذف صدرُه في كلامهم، ومن لغاتهم سِمٌ وسُمٌ قال: [الرجز] | **باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ** | | | | --- | --- | --- | وإنما لم يقل باللَّهِ للفرق بـين اليمين والتيمُّن، أو لتحقيق ما هو المقصودُ بالإستعانة هٰهنا، فإنها تكون تارة بذاته تعالى. وحقيقتها طلبُ المعونة على إيقاع الفعل وإحداثه، أي إفاضةُ القدرةِ المفسرةِ عند الأصوليـين من أصحابنا بما يتمكن به العبدُ من أداء مالزِمه، المنقسمةِ إلى ممكِنة وميسِّرة، وهي المطلوبة بإياك نستعين، وتارة أخرى باسمه عز وعلا. وحقيقتها طلبُ المعونة في كون الفعل معتداً به شرعاً فإنه ما لم يُصَدَّر باسمهِ تعالى يكون بمنزلةِ المعدوم. ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعةً وجب تعيـينُ المراد بذكر الاسم، وإلا فالمتبادَرُ من قولنا بالله عند الإطلاق لا سيما عند الوصف بالرحمٰن الرحيم هي الإستعانة الأولى. إن قيل: فليُحمل الباء على التبرك وليستَغْنَ عن ذكر الاسم، لما أن التبرك لا يكون إلا به، قلنا: ذاك فرعُ كون المراد بالله هو الاسم، وهل التشاجرُ إلا فيه، فلا بد من ذكر الاسم لينقطعَ احتمالُ إرادة المسمَّى. ويتَعَينُ حمل الباء على الإستعانة الثانية أو التبرك. وإنما لم يكتب الألف لكثرة الإستعمال قالوا: وطُوِّلتِ الباءُ عوضاً عنها. (والله) أصله الإله، فحذفت همزته على غير قياس كما يُنْبِىءُ عنه وجوب الإدغام، وتعويض الألف واللام عنها، حيث لزماه وجُرِّدا من معنى التعريف، ولذلك قيل: يالله بالقطع، فإن المحذوف القياسيَّ في حكم الثابت، فلا يحتاج إلى التدارك بما ذُكِرَ من الإدغام والتعويض. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: على قياس تخفيف الهمزة، فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل، ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسمّاه عما سواه بما لا يوجد فيه من نعوت الكمال. والإله في الأصل اسمُ جنسٍ يقع على كل معبود بحقٍ أو باطل، أي مع قطع النظرِ عن وصف الحقية والبطلان، لا مع اعتبارِ أحدهما بعينه، ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصَّعِقْ. وأما الله بحذف الهمزة فعلمٌ مختصٌّ بالمعبود بالحقِّ لم يطلق على غيره أصلاً، واشتقاقه من الإلاهة والأُلوهَة، والأُلوهِية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري، على أنه اسمٌ منها بمعنى المألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب، لا على أنه صفة منها، بدليل أنه يوصف ولا يوصف به، حيث يُقال إله واحد، ولا يُقال شيء إلهٌ، كما يُقال كتاب مرقوم، ولا يقال شيء كتاب. والفرق بـينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذاتُ المبهمةُ باعتبار اتصافِها بمعنىً معيّنٍ وقيامِهِ بها. فمدلولها مركبٌ من ذاتٍ مُبهمةٍ لم يُلاحظ معها خصوصية أصلاً، ومِن معنىً معينٍ قائمٍ بها على أن مَلاك الأمرِ تلك الخصوصية، فبأيِّ ذاتٍ يقومُ ذلك المعنى يصحّ إطلاقُ الصفة عليها، كما في الأفعال. ولذلك تَعْمَلُ عملها كاسمي الفاعلِ والمفعول. والموضوع له في الاسم المذكور هو الذاتُ المعينة والمعنى الخاص، فمدلوله مركب من ذَيْنِكَ المعنيين من غيرِ رجحانٍ للمعنى على الذات كما في الصفة، ولذلك لم يعمل عملها. وقيل: اشتقاقه من أَلِه بمعنى تحير، لأنه سبحانه يحارُ في شأنه العقول والأفهام. وأما أَلَهَ كعَبَدَ وزناً ومعنىً فمشتق من الألَه المشتق من أَلِهَ بالكسر، وكذا تألَّه واستَأْلَه اشتقاق: استنوق واستحجر من الناقة والحَجَر. وقيل: من أَلِهَ إلى فلان أي سكن إليه، لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته. وقيل: من أَلِهَ إذا فزِع من أمرٍ نزل به، وآلَهَهُ غيرُه إذا أجاره، إذ العائذُ به تعالى يفزَع إليه وهو يُجيره حقيقة أو في زعمه. وقيل: أصله لاهٌ على أنه مصدر من لاهَ يَلِيهُ بمعنى احتجب وارتفع، أطلق على الفاعل مبالغة. وقيل: هو اسمُ علمٍ للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد في قولنا «لا إله إلاَّ الله». ولا يخفى أن اختصاصَ الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقُه على غيره أصلاً كافٍ في ذلك، ولا يقدَح فيه كونُ ذلك الاختصاصِ بطريق الغَلَبة بعد أن كان اسمَ جنسٍ في الأصل، وقيل: هو وصفٌ في الأصل لكنه لما غلب عليه بحيث لا يُطلق على غيره أصلاً صار كالعلم، ويردّه امتناعُ الوصف به. واعلم أن المراد بالمنَكَّر في كلمة التوحيد هو المعبودُ بالحق، فمعناها: فردَ من أفراد المعبود بالحق إلا ذلك المعبودُ بالحق. وقيل: أصلُه لاَهَا بالسريانية فعُرِّب بحذف الألف الثانية، وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبله سنة، وقيل: مطلقاً، وحذفُ ألفِه لحنٌ تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريحُ اليمين، وقد جاء لضرورة الشعر في قوله: [الوافر] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **ألا لا بارك اللَّهُ في سُهيل** | | **إذا ما اللَّهُ باركَ في الرجالِ** | | --- | --- | --- | [تفسير الرحمن الرَّحيم] و { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ } صفتان مبنيتان من رَحِمَ «بعد جعله لازماً» بمنزلة الغرائز، بنقله إلى رَحُمَ بالضم كما هو المشهور. وقد قيل: إن الرحيم ليس بصفة مشبَّهة، بل هي صيغة مبالغة، نص عليه سِيبَويه في قولهم: هو رحيمٌ فلاناً. والرحمة في اللغة رقة القلب والانعطاف، ومنه الرَّحِمُ لانعطافها على ما فيها. والمراد هٰهنا التفضل والإحسان، وإرادتهما بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسَبّبِهِ البعيد أو القريب، فإنَّ أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادىء التي هي انفعالات. والأولُ من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى، وإنما امتنع صرفُه إلحاقاً له بالأغلب في بابه من غير نظر إلى الاختصاص العارض، فإنه كما حظِر وجود فعلىٰ حُظِر وجود فعلانة، فاعتبارُه يوجب اجتماعَ الصرف وعدمَه، فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص، بأن تقاس إلى نظائرها من باب فَعِلَ يَفْعَلُ، فإذا كانت كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فَعْلى فيها، علم أن هذه الكلمة أيضاً في أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى، فتُمنع من الصرف، وفيه من المبالغة ما ليس في الرحيم ولذلك قيل: يا رحمٰن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياسِ تأخيرَه رعايةً لأسلوب الترقي إلى الأعلى، كما في قولهم فلان عالمٌ نِحْرير، وشجاعٌ باسل، وجَوَادٌ فيَّاض، لأنه باختصاصه به عز وجل صار حقيقاً بأن يكون قريناً للاسم الجليل الخاص به تعالى، ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحقُّ بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها. وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة. [تفسير الحمد لله] { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } الحمد هو: النعتُ بالجميل على الجميل، اختيارياً كان أو مبدأً له، على وجه يُشْعِرُ بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتازُ عن المدحِ، فإنَّهُ خالٍ عنها، يرشدك إلى ذلك ما ترى بـينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك: حمدته ومدحته، فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها، وأما الأولُ فتعلقه بمفعوله مُنْبىء عن معنى الإنهاء، كما في قولك: كَلَّمْتُه، فإنه مُعْرَبٌ عما تفيده لام التبليغ في قولك: قلتُ له، ونظيرُه وشَكَرْتُه وعبدتُه وخدمتُه، فإن تعلّق كلَ منها منبىء عن المعنى المذكور، وتحقيقُه: أن مفعول كلِّ فعلٍ في الحقيقة هو الحدث الصادرُ عن فاعله ولا يُتصور في كيفية تعلق الفعل به ــ أيَّ فعل كان ــ اختلافٌ أصلاً. وأما المفعولُ به الذي هو محلُّه وموقِعُه، فلما كان تعلقه به ووقوعُه عليه على أنحاءَ مختلفةٍ حسبما تقتضيه خصوصياتُ الأفعال بحسب معانيها المختلفة، فإن بعضها يقتضي أن يلابسه ملابسةً تامَّةً مؤثرة فيه كعامة الأفعال، وبعضها يستدعي أن يلابسَه أدنى ملابسة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلاً، أو بالإبتداءِ منه كالإستعانة مثلاً، اعتبر في كل نحو من أنحاءِ تعلّقِه به كيفية لائقةٌ بذلك النحو، مغايرةٌ لما اعتبر في النحْوَيْنِ الأخيرين. فنظمُ القسمِ الأول من التعلق في سلك التعلقِ بالمفعولِ الحقيقي مراعاةً لقوة الملابسة، وجَعلُ كلِّ واحدٍ من القسمين الأخيرين من قبيل التعلق بواسطة الجارّ المناسب له، فإن قولَكَ أعنتُه مشعرٌ بانتهاء الإعانةِ إليه، وقولك استعنتُه بابتدائها منه، وقد يكون لفعلٍ واحدٍ مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى، وبالآخَرِ على الثانية أو الثالثة، كما في قولك حدثني الحديث، وسألني المالَ، فإن التحديثَ مع كونه فعلاً واحداً قد تعلّقَ بك على الكيفية الثانية، وبالحديث على الأولى، وكذا السؤال فإنه فعل واحد، وقد تعلّق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى. ولا ريب في أن اختلافَ هذه الكيفيات الثلاثِ وتبايُنَها واختصاصَ كلِّ من المفاعيلِ المذكورةِ بما نُسِبَ إليه منها مما لا يُتصور فيه تردُّدٌ ولا نَكيرٌ وإن كان لا يتضحُ حقَّ الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير، وإن مدارَ ذلك لاختلاف ليس إلا اختلافَ الفعل أو اختلاف المفعول، وإذ لا اختلاف في مفعول الحمد والمدح تَعَيَّنَ أن اختلافهما في كيفيةِ التعلق، لاختلافهما في المعنى قطعاً. هذا وقد قيلَ: المدحُ مطلقٌ عن قيدِ الإختيار، يُقال: مدحتُ زيداً على حُسْنِهِ ورشاقةِ قَدِّهِ، وأيًّا ما كان فليس بـينهما ترادفٌ، بل أُخوّةٌ من جهةِ الاشتقاق الكبـير، وتناسبٌ تام في المعنى كالنصر والتأيـيد فإنهما متناسبان معنىً من غير ترادفٍ لما ترى بـينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول، وإنما مرادفُ النصر الإعانة، ومرادف التأيـيد التقوية، فتدبر. ثم إن ما ذُكِرَ من التفسير هو المشهورُ من معنى الحمد، واللائقُ بالإرادة في مقام التعظيم، وأما ما ذُكِرَ في كُتُبِ اللغةِ من معنى الرضىٰ مطلقاً كما في قوله تعالى:**{ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا }** [الإسراء، الآية: 79] وفي قولهم: لهذا الأمر عاقبةٌ حميدةٌ، وفي قول الأطباء: بُحْرَانٌ محمود، مما لا يختص بالفاعل فضلاً عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة هٰهنا استقلالاً، أو استتباعاً بحملِ الحمدِ على ما يعم المعنيـين، إذ ليس في إثباته له عز وجل فائدةٌ يُعْتَدُ بها. وأما الشكْرُ فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح، وعقدُ القلبِ على وصفِ المنعم بنعت الكمال كما قال من قال: | **أفادتكم النَّعْمَاءُ مني ثلاثة** | | **يدي ولساني والضميرَ المُحجبا** | | --- | --- | --- | فإذن هو أعمُّ منهما من جهة، وأخص من أخرى. ونقيضُهُ الكفران، ولما كان الحمد من بـين شُعَبِ الشكر أَدْخَلَ في إشاعةِ النعمةِ والاعتدادِ بشأنِها، وأدلَّ على مكانها لِما في عمل القلب من الخفاء، وفي أعمال الجوارحِ من الاحتمال، جُعِلَ الحمدُ رأسَ الشكر، ومِلاكاً لأمره في قوله عليه السلام: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" الحمدُ رأسُ الشُّكرِ، ما شكرَ الله عبدٌ لم يحمدْهُ "** وارتفاعُهُ بالابتداء، وخبرُه الظرف، وأصلُه النَصْبُ كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المُضمرة التي لا تكاد تُستعمل معها، نحو شُكراً وعجباً، كأنه قيل: نحمد الله حمداً بنون الحكاية، ليوافق ما في قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة، الآية: 5] لاتحاد الفاعل في الكل، وأما ما قيل من أنه بـيانٌ لحمدِهم له تعالى، كأنَّهُ قيل: كيف تحمَدون؟ فقيل: إياكَ نعبد فمع أنه لا حاجةَ إليه مما لا صحةَ له في نفسِهِ، فإنَّ السؤالَ المقدرَ لا بدَّ أنْ يكون بحيثُ يقتضيهِ انتظامُ الكلامِ وتنساقُ إليه الأذهانُ والأفهامُ، ولا ريبَ في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفيةِ اللائقةِ لا يَخْطُرُ ببالِ أحدٍ أن يسألَ عن كيفيتهِ على أنَّ ما قُدِرَ من السؤال غيرُ مطابقٍ للجواب، فإنه مسوقٌ لتعيـين المعبود، لا لبـيان العبادة، حتى يُتَوَهم كونُه بـياناً لحمدهم والاعتذارُ بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبـين كيفيةُ الحمد تعكيسٌ للأمرِ، وتَمَحّلٌ لتوفيق المُنَّزَل المقرَّرِ بالموهومِ المُقدّر. وبعدَ اللُّتَيا والتي إنْ فُرِضَ السؤال من جهتِهِ عز وجل فأتَتْ نُكْتَةُ الإلتفاتِ التي أجمع عليها السلف والخلف، وإن فُرِضَ من جهةِ الغيرِ يختلُ النظام لابتناءِ الجوابِ على خطابِهِ تعالى، وبهذا يتضحُ فسادَ ما قيل: إنه استئنافٌ جواباً لسؤال يقتضيه إجراءُ تلك الصفات العظامِ على الموصوف بها، فكأنه قيل: ما شأنُكم معه وكيف توجُّهكم إليه، فأجيب بحصْر العبادة والاستعانة فيه، فإن تناسِيَ جانبِ السائل بالكلية وبناءَ الجواب على خِطابه عز وعلا مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله. والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنَّهُ استئنافٌ صدرَ عن الحامد بمحضِ ملاحظةِ اتصافِهِ تعالى بما ذُكِرَ من النعوت الجليلةِ الموجبة للإقبال الكليّ عليه، من غير أن يتوسط هناك شيء آخرُ كما ستحيط به خُبرا، وإيثارُ الرفعِ على النصب الذي هو الأصلُ للإيذان بأن ثبوتَ الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مُثبت، وأن ذلك أمرٌ دائمٌ مستمرٌ لا حادثٌ متجددٌ كما تفيده قراءةُ النصب، وهو السر في كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحيةُ والسلام أحسنَ من تحيتهم له في قوله تعالى:**{ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ }** [هود، الآية 69] وتعريفُه للجنس، ومعناه الإشارةُ إلى الحقيقة من حيث هي حاضرةٌ في ذهن السامع، والمراد تخصيصُ حقيقةِ الحمدِ به تعالى المستدعي لتخصيص جميعِ أفرادِها به سبحانه على الطريق البرهاني، لكن لا بناءً على أن أفعال العبادِ مخلوقةٌ له تعالى، فتكونَ الأفرادُ الواقعة بمقابلة ما صدر عنهم من الأفعال الجميلة راجعةً إليه تعالى، بل بناءً على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها في المقام الخطابـيّ منزلةَ العدم كيفاً وكماً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد قيل: للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققُها في ضمن جميع أفرادها، حسبما يقتضيه المقام، وقرىء: الحمدُ لُلَّهِ بكسر الدال إتباعاً لها باللام، وبضم اللام إتباعاً لها بالدال، بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمةٍ واحدة، مثل المِغِيرة ومُنْحَدُرُ الجبل. [تفسير رب العالمين] { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } بالجر على أنه صفة لله، فإن إضافته حقيقيةً مفيدةٌ للتعريف على كل حال، ضرورةَ تعيُّن إرادة الاستمرار، وقرىء منصوباً على المدح، أو بما دلت عليه الجملةُ السابقة، كأنه قيل: نحمد الله ربَّ العالمين ولا مساغَ لنصبه بالحمد لقلة إعمال المصدر المُحلى باللام، وللزوم الفصل بـين العامل والمعمول بالخبر، والرب: في الأصل مصدرٌ بمعنى التربـية وهي تبليغُ الشيءِ إلى كماله شيئاً فشيئاً، وُصف به الفاعل مبالغةً كالعدل. وقيل: صفة مشبهة، من ربَّه يرُبُّه، مثل نمَّه يُنمُّه، بعد جعله لازماً بنقله إلى فعُل بالضم، كما هو المشهور، سُمّي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملِكه ويربـيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كربُّ الدار وربُّ الدابة، ومنه قوله تعالى:**{ فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا }** [يوسف، الآية 41] وقوله تعالى:**{ ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ }** [يوسف، الآية 50] وما في الصحيحين من أنه عليه السلام قال: **" لا يَقُل أحدُكم أطعِمْ ربك، وضِّىء ربَّك، ولا يَقُلْ أحدُكم ربِّـي، ولْيَقُل سَيّدي ومولاي "** فقد قيل: إن النهيَ فيه للتنزيه، وأما الأربابُ فحيث لم يمكن إطلاقُه على الله سبحانه جاز في إطلاقه الإطلاق والتقيـيد، كما في قوله تعالى:**{ أأربابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ }** [يوسف، الآية 39] الآية. و(العالم) اسمٌ لما يُعْلَم به، كالخاتَم والقالَب، غلب فيما يُعْلَم به الصانعُ تعالى من المصنوعات أي في القَدْرِ المشترك بـين أجناسها وبـين مجموعِها، فإنه كما يُطلق على كل جنسٍ جنسٌ منها في قولهم عالم الأفلاك، وعالمُ العناصر، وعالمُ النبات، وعالم الحيوان، إلى غير ذلك، يطلق على المجموع أيضاً، كما في قولنا العالم بجميع أجزائه مُحْدَث، وقيل: هو اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين وتناولُه لما سواهم بطريق الاستتباع. وقيل: أريد به الناسُ فقط، فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم من حيث اشتمالُه على نظائِر ما في العالم الكبـير من الجواهر والأعراض يُعلم بها الصانع، كما يُعلم بما في كل عالَم على حِيالِه، ولذلك أمُر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق، فقيل:**{ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }** [الذاريات، الآية 21] والأول هو الأحق الأظهر، وإيثارُ صيغة الجمع لبـيان شمول ربوبـيته تعالى لجميع الأجناس، والتعريفُ لاستغراق أفراد كلِّ منها بأسرها، إذ لو أفرد لربما تُوهِّم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي، أو استغراقُ أفرادِ جنسٍ واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد، وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نُزِّلَ العالم - وإن لم يُطلق على آحاد مدلوله - منزلة الجمع، حتى قيل: إنه جمعٌ لا واحد له من لفظه، فكما أن الجمعَ المعَرَّفَ يستغرق آحادَ مُفرَدِه وإن لم يصدُقْ عليها كما في مثل قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }** [آل عمران، الآية 134] أي كلَّ محسن، كذلك العالمُ يشملُ أفرادَ الجنسِ المسمَّى به، وإن لم يُطلق عليها، كأنها آحادُ مفردِه التقديريّ، ومن قضية هذا التنزيلِ تنزيلُ جمعِه منزلةَ جمعِ الجمع، فكما أن الأقاويلَ تتناول كلَّ واحد من آحادِ الأقوال، يتناول لفظُ العالمين كلَّ واحد من آحادِ الأجناس التي لا تكاد تُحصى. روي عن وهْب ابن منبه أنه قال: «لله تعالى ثمانيةَ عشرَ ألفَ عالَم، والدنيا عالم منها» وإنما جُمِع بالواو والنون مع اختصاصِ ذلك بصفاتِ العُقلاء وما في حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العَلَم، مع اعتبار تغليبِ العقلاء على غيرهم. واعلم أن عدم إطلاقِ اسم العالَم على كل واحد من تلك الآحادِ ليس إلا باعتبار الغلَبة والاصطلاح، وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاقِ قطعاً لتحقّق المصداقِ حتماً، فإنه كما يُستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه، وبكل جنسٍ من أجناسِه يُستدل عليه تعالى بكل جزءٍ من أجزاءِ ذلك المجموع، وبكل فردٍ من أفراد تلك الأجناس، لتحقّق الحاجةِ إلى المؤثِّر الواجب لذاته في الكُلِّ، فإنَّ كل ما ظهرَ في المظاهر - مما عزَّ وهانَ - وحضَرَ في هذه المحاضر كائناً ما كان دليلٌ لائح على الصانع المجيد، وسبـيلٌ واضح إلى عالم التوحيد، وأما شمولُ ربوبـيته عز وجل للكل فمما لا حاجة إلى بـيانه، إذ لا شيءَ مما أحدق به نطاقُ الإمكان والوجود من العُلويات والسُفليات والمجرّدات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حدّ ذاته بحيث لو فُرض انقطاعُ آثارِ التربـية عنه آناً واحداً لما استقر له القرار، ولا اطمأنت به الدار، إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار، لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس، تعالى شأنُه وتقدس، في كل زمانٍ يمضي، وكل آنٍ يمر وينقضي، من فنون الفيوضِ المتعلقةِ بذاته، ووجودِه وصفاتِه وكمالاتِه مما لا يحيطُ به فَلَكُ التعبـير ولا يعلمه إلا العليمُ الخبـير، ضرورةَ أنه كما لا يستحق شيءٌ من الممكنات بذاتِه الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً، وإنما ذلك من جناب المُبدئِ الأول عز وعلا، فكما لا يُتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي، لا يتصور بقاؤُه على الوجود ــ بعد تحققه بعِلَّته ــ ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الطارىء، لما أن الدوام من خصائص الوجودِ الواجبـي، وظاهرٌ أن ما يتوقف عليهما وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن كانت متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود، لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده وهي المعبَّر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك، إذْ لا استحالة في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية يتوقف وجودُه أو بقاؤه على ارتفاعها، أو بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها، فإبقاءُ تلك الموانِع التي لا تتناهى على العدم تربـيةٌ لذلك الشيءِ من وجوهٍ غيرِ متناهية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبالجملة فآثارُ تربـيتِه عز وجل الفائضةُ على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آنٍ من آنات الوجود غيرُ متناهية، فسبحانه ما أعظمَ شأنَه لا تلاحظه العيونُ بأنظارها، ولا تطالعُه العقولُ بأفكارها، شأنُه لا يُضاهى، وإحسانُه لا يتناهىٰ، ونحن في معرفته حائِرون، وفي إقامة مراسمِ شكرِه قاصرون، نسألك اللهم الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك، والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك، لا نُحصي ثناءً عليك لا إله إلاّ أنت، نستغفرُك ونتوب إليك. { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } صفتان لله، فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يَفيضُ على الكل بعد الخروج إلى طوْر الوجودِ من النعم، فوجهُ تأخيرِهما عن وصف الربوبـية ظاهر، وإن أريد ما يعمّ الكلَّ في الأطوار كلِّها حسبما في قوله تعالى:**{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ }** [الأعراف، الآية 156] فوجهُ الترتيب أن التربـية لا تقتضي المقارنة للرحمة، فإيرادُهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضلٌ فيها، فاعلٌ بقضية رحمتِه السابقةِ من غير وجوبٍ عليه، وبأنها واقعةٌ على أحسنِ ما يكون، والاقتصارُ على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسبُ بحال المتبرِّك المستعين باسمه الجليل، والأوفقُ لمقاصده. { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } صفةٌ رابعة له تعالى، وتأخيرُها عن الصفات الأُوَل مما لا حاجة إلى بـيان وجهِه، وقرأ أهلُ الحرمَيْن المحترمَيْن (ملِك) من المُلْك الذي هو عبارةٌ عن السلطان القاهر، والاستيلاءِ الباهر، والغلبةِ التامة، والقُدرةِ على التصرف الكليّ في أمور العامة، بالأمر والنهي، وهو الأنسبُ بمقام الإضافة إلى يوم الدين، كما في قوله تعالى:**{ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ }** [غافر، الآية 16] وقرىء (مَلْكِ) بالتخفيف و(مَلَكَ) بلفظ الماضي، (ومَالِكَ) بالنصب على المدح، أو الحال، وبالرفع منوناً ومضافاً على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف، (وملِكُ) مضافاً وبالرفع والنصب. واليومُ في العرف عبارةٌ عما بـين طلوعِ الشمس وغروبها من الزمان، وفي الشرع عما بـين طلوعِ الفجرِ الثاني وغروبِ الشمس، والمرادُ ها هنا مطلقُ الوقت. والدينُ الجزاءُ خيراً كان أو شرًّا، ومنه الثاني في المثل السائر كما تَدين تُدان، والأول في بـيت الحماسة: [الهزج] | **ولم يبقَ سوى العُدوا** | | **نِ دِنّاهم كما دانوا** | | --- | --- | --- | وأما الأول في الأول والثاني في الثاني فليس بجزاءٍ حقيقة، وإنما سُمّي به مشاكلة، أو تسميةٌ للشيء باسم مسبَّبِهِ كما سُميت إرادةُ القيام والقراءة باسمهما في قوله عز اسمه: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ }** [المائدة، الآية 6] وقوله تعالى:**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِاللَّهِ }** [النحل، الآية 98] ولعله هو السرُّ في بناء المفاعلة من الأفعال التي تقوم أسبابُها بمفعولاتها، نحو عاقبتُ اللصَّ ونظائرِه، فإن قيام السرقة التي هي سببٌ للعقوبة باللص نُزّل منزلةَ قيام المسبَّبِ به، وهي العقوبة، فصار كأنها قامت بالجانبـين، وصدَرَت عنهما، فَبُنيت صيغةُ المفاعلةِ الدالَّةِ على المشاركة بـين اثنين. وإضافةُ اليوم إليه لأدنىٰ ملابسةٍ كإضافة سائرِ الظروفِ الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزابِ وعامِ الفتح، وتخصيصُه من بـين سائرِ ما يقع فيه من القيامة والجمعِ والحسابِ لكونه أدخلَ في الترغيب والترهيب، فإن ما ذكر من القيامة وغيرِها من مبادىءِ الجزاءِ ومقدِّماته، وإضافةُ (مالك) إلى اليوم [من] إضافة اسم الفاعل إلى الظرف، على نهج الاتساعِ المبنيّ على إجرائه مُجرىٰ المفعولِ به، مع بقاء المعنى على حاله، كقولهم: يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار. أي: مالِكَ أمورِ العالمين كلِّها في يومِ الدين. وخُلوُّ إضافتِه عن إفادة التعريفِ المسوّغ لوقوعه صفةً للمعرفة إنما هو إذا أُريد به الحالُ، أو الاستقبالُ، وأما عند إرادة الاستمرارِ الثبوتيّ كما هو اللائقُ بالمقام فلا ريب في كونها إضافةً حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها في قراءة (ملك يوم الدين). ويومُ الدين وإن لم يكن مستمراً في جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعِه وبقائه أبداً أُجْرِيٍ مُجرىٰ المتحقّقِ المستمر. ويجوز أن يُراد به الماضي بهذا الاعتبار، كما تشهد به القراءةُ على صيغة الماضي، وما ذكر من إجراء الظرف مُجرى المفعولِ به إنما هو من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، حتى يلزمَ كونُ الإضافة لفظية، ألا ترى أنك تقول في: مالكُ عبدِه أمسِ إنه مضاف إلى المفعول به، على أنه كذلك معنىً، لا أنه منصوب محلاً، وتخصيصُه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله، أو لبـيان تفرّدهِ تعالى بإجراء الأمر فيه، وانقطاعِ العلائق المجازية بـين المُلاَّك والأمْلاَك حينئذٍ بالكلية، وإجراءُ هاتيك الصفاتِ الجليلةِ عليه سبحانه تعليلٌ لما سبق من اختصاص الحمدِ به تعالى، المستلزمِ لاختصاص استحقاقِه به تعالى، وتمهيدٌ لما لَحِقَ من اقتصار العبادةِ والاستعانةِ عليه، فإنَّ كلَّ واحدةٍ منها مفصِحةٌ عن وجوب ثبوتِ كلِّ واحدٍ منها له تعالى، وامتناعِ ثبوتِها لما سواه. أما الأولى والرابعةُ فظاهرٌ، لأنهما متعرِّضتان صراحةً لكونه تعالى رباً مالكاً وما سواه مربوباً مملوكاً له تعالى. وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافَه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعي أن يكون الكلُّ منعماً عليهم، فظهر أن كل واحدةٍ من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوتِ الأمورِ المذكورةِ له تعالى دلت على امتناع ثبوتِها لما عداه على الإطلاق، وهو المعنى بالاختصاص. { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. [سر تكرار الفاتحة في الصلاة] التفات من الغَيْبة إلى الخطاب، وتلوينٌ للنظم من باب إلى باب، جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام، ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام، لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب، أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كل واحد من الآخَرَيْن، كما في قوله عز وجل: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـاباً }** [فاطر، الآية 9] الآية، وقوله تعالى:**{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }** [يونس، الآية 22] إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها، ومزايا تستدعيها، ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز، وأتمَّ ظهورٍ، بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور، فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب، والإيذانَ بأن حقّ التالي - بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس، المستوجبِ للعبودية، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبـية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ - أن يترقىٰ من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس، كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بـين يديه، وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً: يا من هذه شوؤنُ ذاتهِ وصفاتهِ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة، فإن ما سواك كائناً ما كان بمعزل من استحقاق الوجود، فضلاً عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان، ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنّتُه للتبتل إليه بالكلية. و(إيا) ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ، وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيـين الخطاب، والتكلمُ والغَيبةُ لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ، وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب: إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشوابِّ، فمما لا يعول عليه. وقيل: هي الضمائر، وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة، وقيل: الضميرُ هو المجموع، وقُرِىء (إَيَّاك) بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء. [معنى العبادة والعبودية والاستعانة] والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع، ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل، والعبوديةُ أدنى منها، وقيل: العبادةُ فعلُ ما يرضَى به الله، والعبوديةُ الرضى بما فعلَ الله تعالى، والاستعانةُ طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بـيانه، وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص، كما في قوله تعالى:**{ وَإِيَّـاىَ فَٱرْهَبُونِ }** [البقرة، الآية 40] مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ به، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرَك، وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة، ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب، وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الاسم الجليل، وإن ساعدته الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضاً، وأما الاستعانةُ فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى، والاستعانة من حقوق المُستعين، ولأن العبادة واجبة حتماً، والاستعانةُ تابعةٌ للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه، وقيل: لأن تقديمَ الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول، هذا على تقدير كونِ إطلاقِ الاستعانةِ [على المفعول فيه] ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه، كما قالوا، وقد قيل: إنه لما كان المسؤولُ هو المعونةَ في العبادة والتوفيقَ لإقامة مراسِمِهما على ما ينبغي، وهو اللائقُ بشأن التنزيل، والمناسبُ لحال الحامد، فإن استعانتَه مسبوقةٌ بملاحظة فعلٍ من أفعاله، ليستعينَه تعالى في إيقاعه، ومن البـيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شؤونه تعالى، واشتغالِهِ بأداء ما تُوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء، لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه، والتوجهُ التامّ إليه، ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولاً، وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِراً، فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بـينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها، كأنه قيل: وإياك نستعين في ذلك، فإنّا غيرُ قادرين على أداء حقوقِك من غير إعانةٍ منك، فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح، وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها، وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه، ومن الملأَمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفىٰ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: الواوُ للحال، أي إياك نعبدُ مستعينين بك، وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه، وعدمِ لِياقتِه للوقوف في مواقف الكبرياءِ منفرداً، وعَرْضِ العبادة، واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلاً، وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم، وجماعةٍ هو من زُمرتهم، كما هو ديدَنُ الملوك، أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحالة العارضة له، بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك، وقُرىء (نِسْتعين) بكسر النون على لغة بني تميم. { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إفراد - لمعظم أفراد المعونة المسؤولة - بالذكر، وتعيـينٌ لما هو الأهمُ أو بـيان لها، كأنه قيل: كيف أُعينكم فقيل: اهدنا. [تعريف الهداية وأنواعها] والهدايةُ دلالةٌ بلطفٍ على ما يوصِلُ إلى البُغية، ولذلك اختصّتْ بالخير، وقوله تعالى:**{ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ ٱلْجَحِيمِ }** [الصافات، الآية 23] وارد على نهج التهكّم، والأصلُ تعديتُها بإلى واللام، كما في قوله تعالى:**{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ }** [يونس، الآية 35] فعومل معاملةَ اختارٍ في قوله تعالى:**{ وَٱخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ }** [الأعراف، الآية 155] وعليه قولُه تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت، الآية 69] وهدايةُ الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تُحصر منحصرةٌ في أجناس مترتبة، (منها) أنفسيةٌ، كإفاضة القُوى الطبـيعيةِ والحيوانية التي بها يصدُر عن المرء فاعليته الطبـيعية الحيوانية، والقوى المدرِكة، والمشاعرُ الظاهرةُ والباطنة التي بها يتمكن من إقامة مصالِحه المعاشيةِ والمعاديّة، (ومنها) آفاقيةٌ، فإما تكوينيةٌ مُعْرِبة عن الحق بلسان الحال، وهي نصبُ الأدلةِ المُودَعةِ في كل فردٍ من أفراد العالم حسبما لُوِّحَ به فيما سلف، وإما تنزيليةٌ مُفْصِحةٌ عن تفاصيل الأحكامِ النظريةِ والعمليةِ بلسان المقالِ، بإرسال الرسل، وإنزال الكتبِ المنطويةِ على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشادُ إلى مسلك الاستدلالِ بتلك الأدلة التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسية، والتنبـيهُ على مكانها، كما أشير إليه مُجملاً في قوله تعالى:**{ وَفِى ٱلأَرْضِ ءايَـاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }** [الذاريات، الآية 20و21] وفي قوله عز وعلا:**{ إِنَّ فِى ٱخْتِلافِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لآيَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ }** [يونس، الآية 6] (ومنها) الهدايةُ الخاصة وهي كشفُ الأسرارِ على قلب المُهْدَى بالوحي، أو الإلهام. ولكل مرتبةٍ من هذه المراتب صاحبٌ ينتحيها، وطالبٌ يستدعيها، والمطلوب إما زيادتُها كما في قوله تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى }** [محمد: الآية 17] وإما الثباتُ عليها كما روي عن علي وأبـي رضي الله عنهما: إهدنا ثبّتنا، ولفظ الهداية على الوجه الأخير مَجازٌ قطعاً، وأما على الأول فإن اعتُبر مفهومُ الزيادة داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازاً أيضاً، وإن اعتُبر خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائنِ كان حقيقة، لأن الهداية الزائدةَ هداية، كما أن العبادة الزائدةَ عبادة، فلا يلزم الجمعُ بـين الحقيقة والمجاز، وقُرىء أرشِدْنا، والصراطُ الجادةُ وأصلُه السين، قُلبت صاداً لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر، من سَرَط الشيء إذا ابتلعه، سُمّيت به لأنها تسترِطُ السابلةَ إذا سلكوها، كما سميت لَقْماً لأنها تلتقمهم وقد تُشَمُّ الصاد صوت الزاي تحرياً للقرب من المبدَل منه. وقد قرىء بهن جميعاً، وفُصحاهن إخلاصُ الصاد، وهي لغة قريش، وهي الثابتةُ في الإمام، وجمعه صُرُط ككتاب وكُتب، وهو كالطريق والسبـيل في التذكير والتأنيث، و(المستقيمُ) المستوي، والمراد به طريقُ الحق وهي الملة الحنيفية السمْحة المتوسطةُ بـين الإفراط والتفريط. { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدلٌ من الأول بدلَ كل، وهو في حكم تكريرِ العامل من حيث إنه المقصودُ بالنسبة، وفائدتُه التأكيدُ والتنصيصُ على أن طريق الذين أنعم الله عليهم وهم المسلمون هو العَلَمُ في الاستقامة، والمشهودُ له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهمُ عند ذكر الطريقِ المستقيم إلا إليه. وإطلاقُ الإنعامِ لقصد الشمول، فإن نِعمةَ الإسلام عنوانُ النعم كلِّها، فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها. وقيل: المراد بهم الأنبـياءُ عليهم السلام، ولعل الأظهرَ أنهم المذكورون في قوله عز قائلاً:**{ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [النساء، الآية 69] بشهادة ما قبله من قوله تعالى:**{ وَلَهَدَيْنَـاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً }** [النساء، الآية 68] وقيل: هم أصحابُ موسى وعيسى عليهما السلام قبل النسخِ والتحريفِ، وقُرىءَ صراطَ مَنْ أنعمتَ عليهم، والإنعامُ إيصالُ النعمة وهي في الأصل الحالةُ التي يستلِذُّها الإنسان، من النعمة وهي اللينُ، ثم أطلقت على ما تستلذّه النَّفسُ من طيّبات الدنيا. ونِعَمُ الله تعالى مع استحالة إحصائِها تنحصرُ أصولُها في دنيويٍ وأُخروي والأول قسمان: وهبـيّ وكسبـيّ، والوهبـي أيضاً قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه، وإمدادِه بالعقل، وما يتبعه من القُوى المدرِكة، فإنها مع كونها من قبـيل الهدايات نعمٌ جليلة في أنفسها، وجُسماني كتخليق البدن والقُوى الحالَّةِ فيه، والهيئاتِ العارضةِ له من الصّحة وسلامةِ الأعضاء، والكسبـيُّ تخليةُ النفسِ عن الرذائل، وتحليتُها بالأخلاقِ السَّنية، والملَكات البهيَّة، وتزيـينُ البدن بالهيئات المطبوعة والحِلىٰ المرضية، وحصول الجاه والمال. والثاني مغفرةُ ما فَرط منه، والرضى عنه، وتَبْوئتُه في أعلى عليـين، مع المقربـين، والمطلوبُ هو القسم الأخير، وما هو ذريعةٌ إلى نيلِه من القسم الأول، اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك العظيم، ورحمتِك الواسعة. { غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ } صفةٌ للموصول على أنه عبارةٌ عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم، وباستقامة المسْلك، ومن ضرورة هذه الشهرةِ شهرتُهم بالمغايَرَة لما أضيف إليه كلمةُ (غير) من المتصفين بضدَّي الوصفين المذكورين، أعني مطلقَ المغضوب عليهم والضالين، فاكتسبت بذلك تَعرُّفاً مصححاً لوقوعها صفةً للمعرفة كما في قولك: عليك بالحركة غيرِ السكون، وُصفوا بذلك تكملةً لما قبله وإيذاناً بأن السلامة مما ابتُلي به أولئك نعمةٌ جليلةٌ في نفسها، أي الذين جمعوا بـين النعمة المُطلقة التي هي نعمةُ الإيمان ونعمةُ السلامة من الغضب والضلال. وقيل: المرادُ بالموصول طائفةٌ من المؤمنين لا بأعيانهم، فيكون بمعنى النكرة كذي اللام إذا أريد به الجنسُ في ضمن بعضِ الأفراد لا بعينه، وهو المسمى بالمعهود الذهني، وبالمغضوب عليهم والضالين اليهودُ والنصارى، كما ورد في مسند أحمدَ والترمذي فيبقى لفظُ (غير) على إبهامه نكرةً مثل موصوفِه، وأنت خبـير بأن جعْلَ الموصول عبارةَ عما ذكر من طائفةٍ غيرِ معيَّنة مُخلٌّ ببدليةِ ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارَها كونُ صراطِ المؤمنين علَماً في الاستقامة مشهوداً له بالاستواء على الوجه الذي تحقَّقْتَه فيما سلف، ومن البـيِّن أن ذلك من حيثُ إضافتُه وانتسابُه إلى كلهم لا إلى بعضٍ مُبْهَمٍ منهم، وبهذا تبـين ألاَّ سبـيلَ إلى جعل: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بدلاً من الموصول، لما عرفت من أن شأنَ البدلِ أن يُفيدَ متبوعَهُ مزيدَ تأكيدٍ وتقرير، وفضلَ إيضاحٍ وتفسيرٍ، ولا ريب في أن قُصارىٰ أمرِ ما نحن فيه أن يكتسبَ مما أضيف إليه نوعَ تعرُّفٍ مصحِّحٍ لوقوعه صفةً للموصول، وأما استحقاقُ أن يكون مقصوداً بالنسبة مفيداً لما ذكر من الفوائد فكلاّ. وقُرىء بالنصب على الحال، والعاملُ أنعمتَ، أو على المدح، أو على الاستثناء إنْ فُسّر النعمةُ بما يعمُّ القليل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والغضبُ هيجانُ النفس لإرادة الانتقام، وعند إسنادِه إلى الله سبحانه يُراد به غايتُه بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسبّبِهِ القريبِ إنْ أريد به إرادةُ الانتقام، وعلى مسبّبِهِ البعيدِ إن أريد به نفسُ الانتقام، ويجوز حملُ الكلام على التمثيل، بأنْ تُشبَّه الهيئةُ المنتزَعةُ من سَخَطه تعالى للعصاة وإرادةُ الانتقام منهم لمعاصيهم بما يُنتَزَعُ من حال الملِك إذا غضِب على الذين عصَوْه، وأراد أن ينتقم منهم ويعاقِبَهم، وعليهم مرتفِعٌ بالمغضوب، قائم مَقامَ فاعلِه، والعدولُ عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرَى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعمِ والخيرِ إليه عز وجل، دون أضدادها، كما في قوله تعالى:**{ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }** [الشعراء، الآية 78 - 80] وقوله تعالى:**{ وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً }** [الجن، الآية 10] و«لا» مزيدةٌ لتأكيد ما أفاده «غير» من معنى النفي كأنه قيل: لا المغضوبِ عليهم ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيداً غيرُ ضاربٍ، جوازَ أنا زيداً لا ضَارِبٌ وإن امتنع أنا زيداً مثلُ ضاربٍ، والضلالُ هو العدول على الصراط السوي، وقُرىء وغيرِ الضالين، وقُرىء ولا الضأْلين، بالهمزة على لغة مَنْ جدَّ في الهرب عن التقاء الساكنين. . { أَمِينٌ } اسم فعلٍ هو: استجبْ، **" وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمِين، فقال: " افعل "** بُني على الفتح كأينَ لالتقاء الساكنين، وفيه لغتان مدُّ ألفه وقصرُها قال: [البسيط] | **[يا رب لا تسلبني حبُّها أبداً]** | | **ويرحم الله عبداً قال آمينا** | | --- | --- | --- | وقال: [الطويل] | **[تباعد مني فطحلٌ إذ سألته]** | | **أمين فزاد الله ما بـيننا بعداً** | | --- | --- | --- | عن النبـي صلى الله عليه وسلم: **" لقّنني جبريلُ آمينَ عند فراغي من قراءة فاتحةِ الكتاب، وقال: إنه كالختم على الكتاب ".** وليست من القرآن وِفاقاً، ولكن يسن ختمُ السورة الكريمة بها، والمشهورُ عن أبـي حنيفة رحمه الله أن المصلّيَ يأتي بها مخافتةً، وعنه أنه لا يأتي بها الإمامُ لأنه الداعي وعن الحسنِ مثلُه، وروَى الإخفاءَ عبدُ اللَّه بنُ مغفّل، وأنسُ بنُ مالك، عن النبـي عليه الصلاة والسلام، وعند الشافعيِّ رحمه الله يُجهر بها، لما روىٰ وائلُ بنُ حجر **" أن النبـي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين قال: " آمين " ، ورفع بها صوته "** عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبـيّ بنِ كعب: **" ألا أخبرك بسورة لم ينزِلْ في التوراة والإنجيل والقرآن مثلُها؟ قلت: بلى، يا رسول الله قال: فاتِحةُ الكتاب إنها السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيتُه "** وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: **" إن القومَ ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضياً، فيقرأ صبـيٌّ من صبـيانهم في الكتاب الحمدُ لله رب العالمين، فيسمعه الله تعالى فيرفعُ عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
بالإشراف على أسرار أوليائه والتجلى لأرواح أنبيائه والرحيم بالعطف على أنفس الخلائق برهم وفاجرهم يبسط معايشهم فى الدنيا. وقيل: الرحمن خاص الاسم خاص الفعل والرحيم عام الاسم عام الفعل. وقيل: الرحمن بالنعمة والرحيم بالعصمة. وقيل: الرحمن بالتجلى والرحيم بالتولى. وقيل: الرحمن بكشف الأنوار والرحيم لحفظ ودائع الأسرار. وقيل: الرحمن بذاته والرحيم فى نعوته وصفاته وجل الحق أن يدرك حقيقة أساميه أحد؛ لأن أسماءه بلا علة، وإنما يظهر للخلق نصيبهم من الأسامى لا حقيقة حقه فمن ظن أنه يفسر أساميه على حقيقة حقه فقد ضل ضلالاً بعيدًا؛ لأنه أظهر الأسامى للإثبات رحمة لخلقه لا إشرافًا على صفاته ونعوته قال الله تعالى**{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }** [طه: 110] وكيف يدرك شئ من صفات من الجهات لا يضمنه والسمات لا يأخذه والأوقات لا تداوله ومصنوعةٌ لا تجاوله والترجمة لا تجليه والآداب لا تؤدبه والإشارات لا تدانيه، لم تلتبس به حالٌ ولا ينازعه باك، لا الصفات أوجدته ولا الأسامى زينته، بل هو موجد كل موجود وخالق كل موصوف - جل وتعالى-. سمعت منصورًا بإسناده يقول عن جعفر قال: الرحمن الذى يرزق الخلق ظاهرًا وباطناً، فرزق الظاهر الأقوات من المأكولات والمشروبات والعوافى، والباطن العقل والمعرفة والفهم وما ركب فيه من أنواع البدائع كالسمع والبصر والشم والذوق واللمس والهمة والظن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة صفة أزلية وهي إرادة النعمة وهما اسمان موضوعان للمبالغة ولا فضل بينهما عند أهل التحقيق. وقيل الرحمن أشد مبالغة وأتم في الإفادة، وغير الحق سبحانه لا يسمى بالرحمن على الإطلاق، والرحيم ينعت به غيره، وبرحمته عرف العبد أنه الرحمن، ولولا رحمته لما عرف أحد أنه الرحمن، وإذا كانت الرحمة إرادة النعمة، أو نفس النعمة كما هي عند قوم فالنعم في أنفسها مختلفة، ومراتبها متفاوتة فنعمة هي نعمة الأشباح والظواهر، ونعمة هي نعمة الأرواح والسرائر. وعلى طريقة من فرَّق بينهما فالرحمن خاص الاسم عام المعنى، والرحيم عام الاسم خاص المعنى؛ فلأنه الرحمن رزق الجميع ما فيه راحة ظواهرهم، ولأنه الرحيم وفق المؤمنين لما به حياة سرائرهم، فالرحمن بما روَّح، والرحيم بما لوَّح؛ فالترويح بالمَبَارِّ، والتلويح بالأنوار: والرحمن بكشف تَجَلِّيه والرحيم بلطف تولِّيه، والرحمن بما أولى من الإيمان والرحيم بما أسدى من العرفان، والرحمن بما أعطى من العرفان والرحيم بما تولَّى من الغفران، بل الرحمن بما ينعم به من الغفران والرحيم بما يَمُنُّ به من الرضوان، بل الرحمن بما يكتم به والرحيم بما ينعم به من الرؤية والعيان، بل الرحمن بما يوفق، والرحيم بما تحقق، والتوفيق للمعاملات، والتحقيق للمواصلات، فالمعاملات للقاصدين، والمواصلات للواجدين، والرحمن بما يصنع لهم والرحيم بما يدفع عنهم؛ فالصنع بجميل الرعاية والدفع بحسن العناية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
وقوله تعالى { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } بالرحمن سبقت رحمته غضبه وبالرَّحيم حجب كرمه سخطه ٱلرَّحْمـٰنِ اسم القدم والرّحيم اسم البقاء وٱلرَّحْمـٰنِ اسم الحقيقة والرّحيم اسم الصفة وقيل ٱلرَّحْمـٰنِ بالإشراف على اسرار أوليائه والتجلى لارواح انبيائه وقيل الرحمن خاص الاسم خاص الفعل والرّحيم عام الاسم عام الفعل وقيل الرحمن بالنعمة والرحيم بالعصمة وقيل الرحمن بالتجلى والرّحيم بالتدلّى وقيل الرحمن بكشف الانوار والرّحيم بحفظ ودائع الاسرار وقيل الرحمن بذاته والرّحيم بنعوته وصفاته وقال سهل بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحمن رحيم وقال الواسطى الرحمانية تشوق الروح شوقاً والالهية تذوق الحق ذوقاً وقال ابراهيم الخواص من عرفَهَ بأنه الرحمنُ الرّحيم لَزِمه معرفته بالرحمة الثقة به في حياته ومماته والعطف بالرحمة على الخلائق اجمع في الدنيا بالعوافى والارزاق بالمغفرة والرحمة والغفران قال جعفر الصادق الرحمنُ العاطفُ على خلقه السَابق المقدور عليهم والمراقِبُ لهم والرحيم المتعطف لهم في امر المعاشِ والعوافى وقال الجنيد في قوله { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } الرحمة على وجهين رحمة لطفه ورحمةُ عطفه فإشارة باسمه الرّحمن الى لطفه واشارة باسمه الرَّحيم الى عطفه وقال الاستاذ الرحمنُ خاص الاسم عام المعنى والرّحيم عام الاسم خاصّ المعنى فالرحمن بما رَوَّح والرّحيم بما لَوَّحَ فالتَرويح للمباد والتلويح بالانوار والرّحمن بكشف تجليه والرّحيم بلطف توليه والرحمن بما اولى من الايمان والرّحيم بما اسرى من العرفان والرحمن بما اعطى من العرفان والرحيم بما تولّى من الغفران والرحيم بما منّ به من الرضوان والرحمن بما يكرم به من الرضوان والرحيم بما يكرم به من الرّؤية والعيان فالرحمن بما يوافق والرحيم بما يحقق فالتوفيق للمعاملات والتحقيق للمواصلات فالمعاملات للقاصدين والمواصلات للواجدين والرحمن بما يَصْنَعُ لهم والرحيم بما يدفع عنهم والصنع بجمع العناية والدفع بحسن الرعاية الى هٰهنا كلام الاستاذ امّا من اخترعى ان اسم الرحمن محل طلوع انوار العناية والرحيم محل اشراق شمس الكفاية فبالعناية تهدى اهل العرفان الى مشاهد القدم وبالكفاية يحفظ حقائق ايمانهم ابداً لوجه بقاء الديموميّة فالبرحمن تأيدهم وبالرحيم ترقّيهم وتحفظهم فالاوّل للعناية والاخر للكفاية تغمرهم بنور الازلية بين الصفتين حتى يصيروا بالرحمن مشتاقين وبالرّحيم والهِين وقال حَمِيد هل يكون من الرحمن لأهل الايمان الا الأمنَ والامان والرّؤية والعيانَ وقال سهل الرحمن على عباده بالمغفرة والرّضوان والرّحيمُ عليهم بالعوافى والارزاق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ)
{ الحمد لله ربّ العالمين } إلى آخر السورة، الحمد بالفعل ولسان الحال هو ظهور الكمالات وحصول الغايات من الأشياء إذ هي أثنية فاتحة ومدح رائعة لموليها بما يستحقه. فالموجودات كلها بخصوصياتها وخواصها، وتوجهها إلى غاياتها، وإخراج كمالاتها من حيز القوّة إلى الفعل، مسبحة، حامدة، كما قال تعالى:**{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ }** [الإسراء، الآية: 44]، فتسبيحها إياه تنزيهه عن الشريك وصفات النقص والعجز باستنادها إليه وحده، ودلالتها على وحدانيته وقدرته، وتحميدها إظهار كمالاتها المترتبة، ومظهريتها لتلك الصفات الجلالية والجمالية. وخصّ بذاته بحسب مبدئيته للكل، وحافظيته ومدبريته له التي هي معنى الربوبية للعالمين، أي لكلّ ما هو علم لله يعلم به كالخاتم لما يختم به، والقالب لما يقلب فيه، وجمع جمع السلامة لاشتماله على معنى العلم أو للتغليب، وبإزاء إفاضة الخير العامّ والخاص، اي النعمة الظاهرة كالصحة والرزق. والباطنة كالمعرفة والعلم. وباعتبار منتهائيته التي هي معنى مالكية الأشياء في يوم الدين إذ لا يجزي في الحقيقة إلا المعبود الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء بإثابة النعمة الباقية عن الفانية عند التجرّد عنها بالزهد وتجليات الأفعال عند انسلاخ العبد عن أفعاله، وتعويض صفاته عند المحو عن صفاته وإبقائه بذاته، وهبته له الوجود الحقاني عند فنائه فله تعالى مطلق الحمد وماهيته أزلاً وأبداً على حسب استحقاقه إياه بذاته باعتبار البداية والنهاية وما بينهما في مقام الجمع على ألسنة التفاصيل، فهو الحامد والمحمود تفصيلاً وجمعاً، والعابد والمعبود مبدأ ومنتهى. ولما تجلى في كلامه لعباده بصفاته شاهدوه بعظمته وبهائه، وكمال قدرته وجلاله، فخاطبوه قولاً وفعلاً بتخصيص العبادة به، وطلب المعونة منه، إذ ما رأوا معبوداً غيره، ولا حول ولا قوّة لأحد إلاّ به. فلو حضروا لكانت حركاتهم وسكناتهم كلها عبادة له وبه، فكانوا على صلاتهم دائمين داعين بلسان المحبة لمشاهدتهم جماله من كل وجه على كل وجه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ الرحمن الرحيم } فى التكرار وجوه. احدها ما سبق من ان رحمتى البسملة ذاتيتان ورحمتى الفاتحة صفاتيتان كماليتان والثانى ليعلم ان البسملة ليست من الفاتحة ولو كانت منها لما اعادهما لخلوا الإعادة عن الفائدة والثالث انه ندب العباد الى كثرة الذكر فان من علامة حب الله حب ذكر الله وفى الحديث **" من احب شيئا اكثر ذكره "** والرابع انه ذكر رب العالمين فبين ان رب العالمين هو الرحمن الذى يرزقهم فى الدنيا الرحيم، الذى يغفر لهم فى العقبى ولذلك ذكر بعده مالك يوم الدين يعنى ان الربوبية اما بالرحمانية وهى رزق الدنيا وما بالرحيمية وهى المغفرة فى المغفرة فى العقبى والخامس انه ذكر الحمد وبالحمد تنال الرحمة فان اول من حمد الله تعالى من البشر آدم عطس فقال الحمد لله واجيب للحال يرحمك ربك ولذلك خلقك فعلم خلقه الحمد وبين انهم ينالون رحمته بالحمد. والسادس ان التكرار للتعليل لان ترتيب الحمد على هذه الأوصاف امارة علية مأخذها فالرحمانية والرحيمية من جملتها لدلالتهما على انه مختار في الاحسان لا موجب وفى ذلك استيفاء اسباب استحقاق الحمد من فيض الذات برب العالمين وفيض الكمالات بالرحمن الرحيم ولا خارج عنهما فى الدنيا وفيض الاثوبة لطفا والأجزية عدلا فى الآخرة ومن هذا يفهم وجه ترتيب الاوصاف الثلاثة. والفرق بين الرحمن والرحيم اما باختصاص الحق بالاول او بعمومه او بجلائل النعم فعلى الاول هو الرحمن بما لا يصدر جنسه من العباد والرحيم بما يتصور صدوره منهم فذا كما روى عن ذى النون قدس سره وقعت ولولة فى قلبى فخرجت الى شط النيل فرأيت عقربا يعدو فتبعته فوصل الى ضفدع على الشط فركب ظهره وعبر به النيل فركبت السفينة واتبعته فنزل وعدا الى شاب نائم واذا افعى بقربه تقصده فتواثبا وتلادغا وماتا وسلم النائم – ويحكى – ان ولد الغراب اذا خرج من القشر يكون كلحم احمر ويفر الغراب منه فيجتمع عليه البعوض فليتقمه الى ان ينبت ريشه فعند ذلك تعود الام اليه ولهذا قيلا يا رازق النعاب فى عشه واما على ان الرحمن عام فقيل كيف ذلك وقلما يخلو أحد بل حالة له عن نوع بلوى قلنا الحوادث منها ما يظن انه رحمة ويكون نقمة وبالعكس قال الله تعالى**{ فعسى أن تكرهوا شيئاً }** النساء 19 الآية فالاول كما قال | **ان الشاب والفراغ والجده مفسدة للمرء أى مفسده** | | | | --- | --- | --- | وكل منها فى الظاهر نعمة والثانى كحبس الولد فى المكتب وحمله على التعليم بالضرب وكقطع اليد المتأكلة فالابله يعتبر بالظواهر والعاقل ينظر الى السرائر فما من بلية ومحنة الا وتحتها رحمة ومنحة وترك الخير الكثير للشر القليل شر كبير فالتكاليف لتطهير الارواح عن العلائق الجسدانية وخلق النار لصرف الاشرار الى اعمال الابرار وخلق الشيطان لتميز المخلصين من العباد فشأن المحقق ان يبنى على الحقائق كالخضر عليه السلام فى قصة موسى عليه السلام معه فكل ما يكره الطبع فتحته اسرار خفية وحكمة بالغة فلولا الرحمة وسبقها للغضب لم يكن وجود الكون ولما ظهر للاسم المنعم عين وإما على ان الرحمن لجلائل النعم فانما اتبعه بالرحيم لدفع توهم ان يكون طلب العبد الشيء اليسير سوء ادب كما قيل لبعضهم جئتك لحاجة يسيرة قال اطلب لها رجلا يسيرا فكأن الله يقول لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت عني ولكنى رحيم فاطلب منى حتى شراك نعلك وملح قدرك قال الشيخ السعدى قدس سره العزيز | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | **محالست اكر سربرين درنهى كه باز آيدت سدت حاجت تهى** | | | | --- | --- | --- | قال اهل الحقيقة الحضرات الكلية المختصة بالرحمن صلاة حضرة الظهور وحضرة البطون وحضرة الجمع وكل موجود فله هذه المراتب ولا يخلو عن حكمها وعلى هذه المراتب تنقسم احكام الرحمة فى السعداء والاشقياء والمتنعمين بنفوسهم دون ابدانهم كالارواح المجردة وبالعكس والجامعين بين الامرين وكذا من اهل الجنة منهم سعداء من حيث نفوسهم بعلومهم دون صورهم لكونهم لم يقدموا فى الجنة الاعمال ما يستوجبون به النعيم الصورى وان كان فنزر يسير بالنسبة الى من سواهم وعكس ذلك كالزهاد والعباد الذين لا علم لهم فان ارواحهم قليلة الحظ من النعيم الروحانى لعدم المناسب بينهم وبين الحضرات العلمية الآلهية ولهذا لم تتعلق هممهم زمان العمل بما وراء العمل بل ظنوه الغاية فوقفوا عنده واقتصروا عليه رغبة فيما وعدوا به ورهبة مما حذروا منه واما الجامعون بين النعيمين تماماً فهم الفائزون بالحظ الكامل فى العلم والعمل كالرسل عليهم الصلاة والسلام ومن كملت وراثته منهم اعنى الكمل من الاولياء قال المولى جلال الدين قدس سره | **هركبوتر مى برد در مذهبى وين كبوتر جانب بى جانبى** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
قلت: { الحمد } مبتدأ، و { الله } خبر، وأصله النصب، وقرئ به، والأصل: أحمد الله حمداً، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته، دون تجدده وحدوثه، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي: الحمد لله وإن لم تحمدوه. ولو قال أحمد الله لما أفاد هذا المعنى، وهو من المصادر التي تُنْصَب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها. والتعريف للجنس أي: للحقيقة من حيث هي، من غير قيد شيوعها، ومعناه: الإشارة إلى ما يَعْرِفه كل أحد أن الحمد ما هو. أو للاستغراق إذ الحمد في الحقيقة كُلُّه لله إذ ما من خير إلا وهو مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة. كما قال:**{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }** [النّحل: 53]، وقيل: للعهد، والمعهودُ حمدُه تعالى نَفْسَه في أزله. وقُرِئ { الحمد لله } بإتباع الدال للام، وبالعكس، تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة. ومعناه في اللغة: الثناءُ بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل، وفي العُرف: فعل يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً. والشكر في اللغة: فعل يُشعر بتعظيم المنعم، فهو مرادف للحمد العرفي، وفي العرف: صرفُ العبد جميعَ ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خُلِقَ لأجله وأعطاه إياه. وانظر شرحنا الكبير للفاتحة في النَّسَبِ التي بيناها نظماً ونثراً. و { الله } اسم مُرْتَجَلٌ جامد، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف، قال الواحدي: اسم تفرِّد به الباري - سبحانه - يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يُعرف له اشتقاق، وقال الأقْلِيشي: إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقّاً كان دليلاً على عين الذات، دون أن يُنظر فيها إلى صفة من الصفات، وليس باسمٍ مشتق من صفة، كالعالِم والحق والخالق والرازق، فالألف واللام على هذا في الله من نفس الكلمة، كالزاي من زيد، وذهب إلى هذا جماعة، واختاره الغزالي، وقال: كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف. وقيل: مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد، وقيل: من الوَلَهَان، وهو الحيرة؟ لتحيُّر العقول في شأنه. وقيل: أصله: الإلهُ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم، إلا إذا كان قبلها كسر. و { رب } نعت { لله } ، وهو في الأصل: مصدر بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثم وُصف به للمبالغة كالصوم والعدل. وقيل: هو وصفٌ من رَبِّه يَرُبُّهُ، وأصله: رَبَبَ ثم أُدغم، سُمي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى:**{ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ }** [يُوسُف: 50]. قال ابن جُزَيّ: ومعانيه أربعة: الإله والسيد والمالك والمصلح، وكلها تصلح في رب العالمين، إلا أن الأرجح في معناه، الإله لاختصاصه بالله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و { العالمين } جمع عالَم، والعالَمُ: اسم لما يُعْلَمُ به، كالخاتم لما يُختم به، والطابع لما يطبع به. غلب فيما يُعلم به الصانع. وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مُؤثِرٍ واجبٍ لذاته، تدل على وجوده، وإنما جُمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب العقلاء منهم فجُمِعَ بالياء والنون كسائر أوصافهم، فهو جمع، لا اسم جمع، خلافاً لابن مالك. وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناولُه لغيرهم على سبيل الاستتباع، وقيل: عني به هنا الناس، فإن كل واحد منهم عالَمٌ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال:**{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }** [الذّاريَات: 21]. { قلت }: وإليه يشير قول الشاعر: | **يا تَائهاً في مَهْمَهٍ عَنْ سِرِّه انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوُجُودُ بأَسْره أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بِأَسْرِه** | | | | --- | --- | --- | و { الرحمن الرحيم } اسمان بُنيا للمبالغة، من رَحِمَ، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة، رَقَّةُ القلب، وانعطافٌ يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تُؤخذ باعتبار الغايات، التي هي أفعال، دون المبادئ التي هي انفعالات، و { الرحمن } أبلغ من { الرحيم } لأن زيادةَ المبنى تدل على زيادة المعنى، كقَطَّعَ وقَطَعَ، وذلك إنما يُؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتباره الكيفية. فعلى الأول: قيل: يا رحمنَ الدنيا لأنه يَعُمُّ المؤمنَ والكافر، ورحيمَ الآخرة لأنه يختص بالمؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جِسَام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة. وإنما قدّم { الرحمن } - والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى - لتقدُّم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعَلَم من حيث إنه لا يوصف به غيره، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغُ في الرحمة غايتَها، وذلك لا يصدُق على غيره تعالى. انظر البيضاوي. وسيأتي الكلام عليهما في المعنى. و { مَلِكَ } نِعت لما قبله، قراءةُ الجماعة بغير ألف من المُلك بالضم، وقرأ عاصم والكسائي بالألف، من المِلك بالكسر، والتقدير على هذا: مالك مجيء يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين. وقراءةُ الجماعة أرجح، لثلاثة أوجه: الأول: أن الملك أعظم من مالك، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما المَلِكُ فهو سيد الناس، والثاني: قوله:**{ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ }** [الأنعَام: 73]، والثالث: أنها لا تقتضي حذفاً، والحدف خلاف الأصل. و { يوم الدين } ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع، وأُجري الظرف مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية، أي: الملك في يوم الدين، أو ملك الأمر يوم الدين، فيكون فيه حذف. وقد رُويت القراءتان - أي: القصر والمد - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد قرئ { ملك } بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قيل: ملك ومالك نكرة لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص، وكيف يُنعت به { الرحمان الرحيم } وهما معرفتان؟ قلت: إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ، وأما هذا فهو مستمر دائماً، فإضافته محضة. قاله ابن جُزَيّ. يقول الحقّ جلّ جلاله مُعلَّماً لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه: يا عبادي قولوا { الحمد لله رب العالمين } أي: الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل، فلا يستحق الحمدَ سواه، إذ لا منعم علىالحقيقة إلا الله،**{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }** [النّحل: 53]. أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله، قبل أن يُوجِدَ خلقّه، فلما أوجد خلقه قال لهم: الحمد لله، أي: احْمَدُوني بذلك المعهود في الأزل. وإنما استحق الحمد وحده لأنه { ربّ العالمين } ، وكأن سائلاً سأله: لم اختصصت بالحمد؟ فقال: لأني ربُّ العالمين، أنا أوجدتُهم برحمتي، وأمددتهم بنعمتي، فلا منعم غيري، فاستحققت الحمد وحدي، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد، فأنا ربُّ العباد، فالعوالم كلها - على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها - في قبضتي وتحت تربيتي ورعايتي. قال بعضهم: خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم، نصفها في البر ونصفها في البحر. وقال الفخرُ الرازي: رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق الواحد من سُرادقات العرش، التي عددُها: مائةُ ألف، طول كل سرادق وعرضُه - إذا قُوبلتْ به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما - يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً. وما من موضع شِبْرٍ، إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم، وله زَجَل بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر، ولا يَعلم عددّهم إلا الله تعالى:**{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }** [المدَّثِّر: 31]. هـ. وقال وَهْبُ بن مُنّبِّه: قائمُ العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء، وفي كل صحراء ستون ألف عالم، وكل عالم قَدْرُ الثقلين. فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح، من العرش إلى الفرش، كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالُها، محفوظة أشباحُها، معلومات أماكنها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان، لا لزوم عليه وإيجاب، ولذلك وصلَه بقوله: { الرحمن الرحيم } ، أي: الرحمن بنعمة الإيجاد، الرحيم بنعمة الإمداد. " نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما: نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثنى بتوالي الإمداد ". كما في الحِكَم. فاسمُه { الرحمن } يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها، واسمه { الرحيم } يقتضي تربيتَها وإمدادها. ولذلك لا يجوز إطلاق اسم { الرحمان } على أحد، ولم يَتَسَمَّ أحد به إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى، بخلاف اسمه { الرحيم } فيجوز إطلاقه على غيره تعالى لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً. أو: الرحمن في الدنيا والآخرة، والرحيم في الآخرة: لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمن بجلائل النعم والرحيم بدقائقها، فجلائل النعم مثل: نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة والهداية، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب، ودقائقُ النعم مثل: الصحة والعافية والمال الحلال، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم. ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال: { ملك يوم الدين } أي: المتصرف في عباده كيف شاء، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار.. وإنما خصّ يوم الدين - وهو يوم الجزاء - بالملكية لأن ذلك اليوم يظهرُ فيه المُلْكُ لله عيَاناً لجميع الخلق، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده، حتى يراه المؤمنون عياناً، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكَمَلَةُ من المؤمنين، ولذلك ادَّعى كثير من الجهلة الملكَ ونسبوه لأنفسهم. ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام، قال تعالى:**{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ }** [غَافر: 16]. الإشارة: لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول: من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجَّد نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ، حيث قال: | **ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ توحيدُه إياه توحيدُه ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ** | | | | --- | --- | --- | فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه: { الحمد لله رب العالمين } ، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه: أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات والأرَضين، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي. قال رجل بين يدي الجنيد: { الحمد لله } ولم يقل: { رب العالمين } ، فقال له الجنيد: كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل: وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه؟! فقال الجنيد: قُلها يا أخي فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | يقول سبحانه: **" يا مَن هو مني قريب، تَدبر سِرِّي فإنه غريب أنا المحبُ، وأنا الحبيب، وأنا القريب، وأنا المجيب، أنا الرحيم الرحمن، وأنا الملك الديّان، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بتوالي الإمداد. منِّي كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، وأنا رب العباد، أنا الملك الديَّان، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لولا جهالة أهل العناد والشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام ".** قال في الرسائل الكبرى: لا عبرة بظواهر الأشياء، وإنما العبرة بالسر المكنون، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله:**{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }** [الحَجّ: 56]، وقوله:**{ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }** [الانفِطار: 19]؟! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة. هـ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |